روايات

رواية غوثهم الفصل المائة 100 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة 100 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة

رواية غوثهم البارت المائة

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة

“الفصل الخامس عشر_الجزء الثاني”
|مجزرة حارة العطار|
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
“وهَممتُ أن أشكو الهموم لصاحبي
فذكرتُ أنك من وريدي أقربُ
عبدٌ أنا والحُزن يَعصرُ خافقي
ضمد جِراحي إنّني لك أهربُ!
أركض وأسير وأضل السُبل
ثم أعلم أني لكَ مقربٌ.
_”مقتبس”
__________________________________
مُذهلة أنتِ كما كُل ما يُدهش المرء ويفاجئه،
غريبة مثل حبات المطر حينما تظهر بعد شمسٍ حارقة، ورُبما بريئة كطفلةٍ ظلت تتراقص أسفل الأمطار وهي تتمايل بثقل خصلاتها المُبللة، وفي الأغلب سارقة كما صوت “فيروز” حينما يتهادى إلى السمعِ من على بُعدٍ، وقد تكونين قريبة مثل إقتراب الأوردةِ من الفؤاد، ورُبما بعيدة مثل بُعد القمر في السماء عن العِباد، أنتِ السلام وأنتِ الحرب، أنا التائه وأنتِ الدرب، أنتِ يا كريمة يا من أكرمتي الغريب بوصالك، ثم تعاليتي عليه بدلالك، دعيني أذكرك بحديثك وألقي عليكِ خطابك،
اليوم قررت أن أنفض غُبار الخصومة العالقة بيننا،
وأتمتع بكل لحظةٍ معكِ كما كُنا في سابق عهدنا،
نسهر سويًا ونراقب القمر حتى تظهر الضُحى،
ونراقب الظلام حتى يظهر النور، نهرب من قسوة الدنيا في جنة الأيام، ونأخذ من حلوها النهال، ثم أعطيكِ زهرة أسميتها فُلة، ونجلس بجوار النيل ونتابع سماره، ثم نطمئن سويًا بذكر الله، ونتلو سويًا لبعضنا ما يُطمئنا من آيات.
<“وما خفىٰ كان أعظم، ونحن الخافون”>
في حارة العطار قُبيل الظهر..
كان “عبدالقادر” جالسًا في وكالته ينتظر ضيفه حتى وصل له بعد مرور دقائق والذي لم يكن سوىٰ “نَـعيم” الذي جلس أمامه وهتف بنبرةٍ هادئة من بعد الترحيب ببعضهما:
_أنا جيت علشان الموضوع اللي أنتَ عارفه، الدنيا في البيت بايظة عندي وأنا بقيت قلقان عليهم كلهم، اللي يطول “إسـماعيل” النهاردة بكرة يطول غيره، وأنا كلهم في رقبتي وهتسأل عنهم قدام ربنا، علشان كدا أنا بحط أيدي في إيدك.
ابتسم له “عبدالقادر” وحرك رأسه موافقًا وقد ولج لهما “أيـهم” في هذه اللحظة يُلقي عليهما التحية ثم هتف بثباتٍ يليق بشخصه الوقور ذي الطابع الدبلوماسي:
_أنا جيت أهو، يلا علشان منتأخرش؟.
أومأ له الإثنان في آنٍ واحدٍ ثم تحركا خلف بعضهما نحو السيارة التي تولى “أيـهم” قيادتها للخروج من حارة “العـطار” نحو المنطقة المُرادة، وقد قطع هو الطريق ذرعًا ومنصاعًا في آنٍ واحدٍ لوالده، وبعد مرور فترة من القيادة أوقف السيارة في منطقة التجمع ثم التفت برأسهِ للخلف يهتف بهدوءٍ:
_المكان هنا، إحنا وصلنا خلاص.
أنهى جملته ثم نزل من السيارة وأنتظر نزول الاثنين ثم دلفوا البناية الراقية مع بعضهم يتجهون نحو الطابق الأول في إحدى بنايات “عبدالقادر” بهذه المنطقة ثم قام “أيـهم” بالطرق فوق الباب حتى فتحته له ساكنة الشقة وهي “فـاتن” التي ما إن رأتهم تنفست بعمقٍ، فيما سألها “عبدالقادر” بفتورٍ قبل الدخول:
_”نـادر” ابنك كويس؟.
ازدردت لُعابها وهتفت بثباتٍ واهٍ أمامهم:
_جوة ولسه مفاقش، بس الدكتور طمني، أتفضلوا.
ألقت حديثها وهي تشير لهم بالدخول نحو الشقة وقد دلفوا سويًا خلف بعضهم ولأول مرة يتم هذا اللقاء بينهم جميعًا، وكأنه لقاءٌ يشبه ما يُسمى لقاء السحاب، وها هي السحاب تجتمع مع بعضها من الشرق والغرب، ولجت هي خلفهم تمسك رسغها بكفها الآخر، فيما التفت لها “نَـعيم” وهتف بثباتٍ وشموخٍ:
_إحنا سمعنا كلامك أهو، طلبتي المساعدة ونفذنا كل حاجة بينا، بس لو فكرتي ترجعي عن اللي بينا أنا هقلب الدنيا، ومش هرحم حد، وزي ما اتفاقنا ابنك في الحفظ والصون، علشان أنا مباخدش حقي من ضعيف أو أعزل، بس ابن الغازية بتاعك دا حسابه تقيل أوي، وأنا مش بتاع قانون، أنا ليا القانون بتاعي، بمشي عليه وبمشي الكل عليه.
تنهدت “فـاتن” بثقلٍ ثم هتفت بإقتضابٍ كونها لازالت في نظرهما بنفس النظرة الدونية:
_وأنا لو مش واثقة فيكم ماكنتش جيت ليكم من الأول، كنت سكت زي كل مرة وسلمت نفسي للأيام، بس توصل إنهم يفكروا إن الحياة متنفعش للاتنين مع بعض دي تبقى كارثة، أظن أنا جيت وطلبت منكم المساعدة علشان عارفة إن حتى لو محدش فيكم طايقني، بس خاطر “مصطفى” كبير عندكم، شكرًا إنكم شايلينه، بس أهم حاجة محدش فيهم يعرف مكان ابني، والأهم محدش يقرب من “يـوسف”.
تدخل “عبدالقادر” يوجه حديثه لها بإنفعالٍ كتمه في قلبه وما صدق أن الفرصة سنحت له أخيرًا:
_محدش هيقدر يقرب منهم، ابنك هنا في حمايتنا، وابننا هناك تحت عنينا، أنتِ بس لازم تخلي بالك، ولو على ابنك أتطمني عليه وقللي مجيتك هنا لحد ما نفهمهم إنك هتروحي عند “يـوسف” وتسيبي البيت ليهم، صدقيني يا “فاتن” أنا دي آخر مرة هثق فيكِ، قبل كدا كل حاجة ضاعت مننا وبوظتي الدنيا بسبب قرار واحد غبي خدتيه وهو إنك تتجوزي ***** اللي أنتِ على ذمته دا، بسببه العداوة زادت بين الأخوات، وأمك زادت أفترا، وأنتِ زاد ضعفك، ومش بس كدا؟ دا مد الغل والسواد للعيال الصغيرة وخلاهم ياكلوا في بعض، بس خلاص لقى اللي يقفله في وشه، أما الكلب “عاصم” فدا أنا ماليش غير حق “يـوسف” و “قـمر” عنده، وهاخده منه، علشان وعدي للمرحوم، وأنتِ في حمايتي لأجل القرابة اللي بينا، مش ناسي إن أمي للأسف كانت بتحبك ومراتي كانت بتعتبرك أختها.
كانت تتصنع الثبات أمامه حتى ذكرها هو بما مضىٰ وبأحبتها المُفارقين للحياةِ ووقتها ترقرق الدمع في عينيها واستوطنت الغِصة في حلقها وتألم فؤادها، وقد قررت العدول عن البكاء ثم هتفت بصوتٍ رسمت فيه الثبات الكاذب:
_وأنا شايلة فضلك فوق راسي ومش ناسية، بس هو “نـادر” هيفوق إمتى؟ أنا مستنياه من الصبح يفوق، ومش عارفة أعمل إيـه.
تدخل تلك المرة “أيـهم” يجاوبها بقوله الذي أغدقه بالطمأنينة لكي يُريح قلبها:
_متقلقيش، امبارح الدكتور قالي إنه هياخد وقت لحد ما يفوق تمامًا، متنسيش إن حالته صعبة برضه ولسه محتاج علاج طبيعي وكان لازم أخلي بالي وأنا بنقله هنا، مش عاوزك تقلقي الدكتور هييجي دلوقتي أنا متفق معاه وفيه ممرضة هتيجي تخلي بالها منه.
حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة حتى تحرك قلبها حينما تهادى صوت ابنها إلى سمعها يُهمهم مُناديًا أو رُبما متأوهًا وحينها ركضت هي نحو الداخل بلهفةٍ وقد لحقها “أيـهم” الذي مال على الآخر يُسانده ثم هتف يؤازره بقولهِ:
_بالراحة، الحركة غلط عليك، بالراحة.
سانده حتى اعتدل الآخر بنصف جسده ولازال تائهًا عن العالم حوله وهو يُتابع المكان بعدستيه وقد وجد أمـه بين الغُرباء فتعلقت أنظاره بها على الفور يحرك رأسه وكأنه يسألها عن سبب التواجد هنا ولازال التيه مُسيطرًا عليه فأقتربت هي منه تضمه وتمسد على ظهره هاتفةً بعاطفةٍ أموية:
_ متقلقش يا حبيبي أنتَ بخير، وفي أمان، وأنا معاك هنا أهو مش هسيبك، بس لازم الفترة دي نحط إيدنا في إيد بعض، علشان سلامتك قبل أي حاجة، أنا مش هضرك أنا المرة دي قتيلة علشانك، ولو روحي فدا سلامتك مش عاوزاها، المهم أنتَ عندي.
أربكته بحديثها وقد حرك عينيه يتجول في ملامح الواقفين وهو يشعر بالغرابة من الموقف ومن أمـه التي لم يعرف سبب حديثها، تلك الشاكية الباكية دومًا تقف هنا وسط الرجال وتتولى مهمة الدفاع عنه؟ موقفها الغريب هو أكثر ما أصابه بالتشتت وقد آثر الصمت لعله يفهم ما يدور حوله بدلًا من دور المُغفل الذي يلعبه وسطهم وقد لفت نظره صوت “أيـهم” مُشيرًا إلى قدوم الطبيب له لكي يزداد دور المُغفل وسطهم.
__________________________________
<“هي كلمة تنشأ في القلب، يخشى العقل سماعها”>
في مقر المشفى تم تَتَبُع الكاميرات كاملةً والتحقيق مع طاقم العمل بأكملهِ ودخول الوسيط بينهم نظرًا للمكانة الإجتماعية التي تحظى بها عائلة “الراوي” وامتداد علاقتهم نالوا الإهتمام الكامل حتى من زميل “رهـف” المُدعى “شريف” وقد خرج لها بإحباطٍ من غرفة مراقبة الكاميرات وهتف بقلة حيلة:
_للأسف مفيش أي أثر ليه، واضح إن الشخص دا شاطر أو قدر يوصل لعلاقات كتيرة هنا، بدليل إن كان فيه إجتماع طواريء هنا وساعتها هو استغل الظروف، وأكيد ليه علاقات كتيرة هنا، بس أنا مش هقدر أباشر أي حاجة بشكل رسمي لأن مفيش أي دليل ولحد دلوقتي الأرجح إنه خرج بإرادته.
أنفعل “سامي” في وجههِ بنبرةٍ أقرب للصراخ قائلًا:
_ابني عاجز عن الحركة لسه مبيتحركش كويس غير بمساعدة، يبقى إزاي خرج من هنا؟ ابني فيه حد خطفه وأنا مش هسكت، الإهمال دا كله هيتحاسب عليه ومحدش هيفلت منها، إن شاء الله حتى لو هطربقها على دماغكم، بس ابني هيظهر ومش هسكت.
أقترب “عاصم” منه يُهدئه بقولهِ وهو يحول بينه وبين المتحدث ثم أبعده عن الجميع ودلف به لغرفة المكتب الداخلية فيما تنهد “شـريف” بثقلٍ حتى وجد “رهـف” تقترب منه وهي تعتذر بقولها:
_أنا آسفة جدًا يا “شـريف” بجد أنا معرفش إنه هينفعل كدا بس أنا أصلًا جاية هنا علشان طنط “فـاتن” وعلشان خوفها على ابنها، ومش ناسية موقفك دا.
ابتسم لها ثم أقترب خطوة منها وهو يقول بودٍ لها بعدما تجاوز نصف المسافة القاطعة بينهما:
_متقوليش كدا يا “رهـف” أنا بتمنى أساعدك وتحت أمرك في أي وقت، بعدين دا شغلي وياما شوفت حاجات من دي كتير وأكيد هو معذور، دا كأن المستشفى كلها متأمرة على خطف ابنه، المهم أنتِ متضايقيش وعاوزك تثقي إني تحت أمرك وفي الخدمة طول الوقت.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له بتوترٍ وقد أشاحت بعينيها بعيدًا عنه فهي تعلم أن مشاعره تجاهها لم تُوضع في إطار المعرفة السطحية بل يود أكثر من ذلك وسرعان ما بحثت بعينيها عن “عُـدي” دون أن تدري سبب فعلها فوجدته يقف على مقربةٍ منها يتابعها بنظراتهِ التي من الظاهر أنها لم تغفل عنها، وما إن تلاقت النظرات شعرت هي بالأمان وكأنها غريبة تسير مُشردة في الضائعة بعدما ضلت السُبل حتى وجدت أحد القُرباء وحينها تشبثت به تستمد منه الأمان، وقد أتى هو يقف بجوارهما وهتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_لو خلصتي يلا علشان الشغل؟ مفيش حد هناك غير “مادلين” وللأسف مضطرين نمشي.
أومأت له موافقةً بعدما أنتبهت له فيما راقبها الآخر وهتف متدخلًا في الحديث بعدما طالع ساعة معصمه:
_طب أنا مضطر أنا كمان أمشي علشان ورايا مواعيد مهمة بس أكيد هنتقابل تاني وأتمنى طبعًا تكلميني في أي وقت براحتك، عن إذنكم يا جماعة ومبسوط أوي بالفرصة دي.
راقبه “عُــدي” بنظراتهِ وهو يتفرسه بملامحهِ الجامدة وقد انسحب الآخر من أمامهما بعدما شملها بنظرةٍ واحدة جعلتها تزداد خجلًا وتوترًا منه وبعد مرور ثوانٍ عابرة تبعته هي و “عُــدي” نحو الخارج حيث وقوف سيارتها وجلست بداخلها وجاورها الآخر الذي ظهر الضيق على ملامحهِ وما إن شرعت في قيادة السيارة باغتها بسؤالهِ الذي ربما توقعته هي:
_هو “شـريف” دا ليكِ علاقة بيه؟ أقصد يعني على صلة جامدة بينكم مع بعض؟ أصل شايفه متعشم أوي كدا كأنه ابن خالتك مثلًا، ونظراته مش مُريحة خالص، أنا راجل وفاهم.
لم تفهم هي هل سؤاله مجرد كلمات عابرة أم إتهامٍ يُلقيه عليها أم هو فضول يَعُج في رأسهِ؟ لم تفهم السبب لكنها قررت تولي الدفاع عن نفسها بمرافعةٍ هادئة:
_هو فعلًا يعتبر ابن خالتي، مامته تبقى بنت خالة ماما وأنا وهو كنا في مدرسة واحدة بس الفرق إنه أكبر مني بكام سنة، وغير كدا يعني كنا مع بعض في تدريب النادي، وبعدين مالها نظراته يعني؟ عادي أنتَ بس شكلك مش طايقه.
رفع أحد حاجبيه وهو يسألها بتهكمٍ كردٍ عليها:
_أنا؟ مش هطيقه ليه يعني؟ كل الحكاية بس إني مستغربه وطريقته مش ألطف حاجة، علشان كدا بسألك هو فيه بينك وبينه حاجة؟.
تنهدت هي مُرغمة على ذلك وهتفت بثباتٍ حاولت أن تتصف به أمامه وهي تصارحه بقولها:
_مفيش من ناحيتي أي حاجة، بس هو للأسف فيه وأنا مش عاوزة أو بمعنى أصح مش مناسب ليا، علشان كدا هو بيحاول وأنا آخر مرة قولتله إن الموضوع دا مقفول بالنسبة ليا، وعامةً يعني طالما متخطاش حدوده معايا خلاص، وعلى فكرة أنا مش بتواصل معاه خالص والله، هو بس النهاردة لما طنط “فـاتن” كلمتني وهي بتعيط أضطريت إني أكلمه.
حسنًا هي تُبرر له ولا تعلم لما فعلت ذلك، رُبما هناك صوتٌ آمرها بذلك وطلب منها أن تُبريء نفسها في عينيهِ وتنفي التهمة عن كاهلها، بينما هو تنفس أخيرًا حينما استمع لها، وكأن الأمر لديه أصبح في قمة الخطورة وتعدى مجرد الإعجاب الشخصي بفتاةٍ عملية ترسم الطابع الدبلوماسي على نفسها ببراعة ليصبح استوطانًا لوطنٍ لم تطأه قدماه من قبل، بل وبكل آسفٍ هناك من يحتله، مدينة عاتية مُحصنة أضعاف عدته وعتاده لكنه لازال خائفًا من الإفصاح عما بداخلهِ وكأنه يتمسك بمقولة القليل منك كالكثير من كل شيءٍ.
__________________________________
<“الرابح هو من يختار نفسه في كل مرةٍ”>
في “الكافيه الخاص بسراج”..
جلس في مكتبهِ ومعه “چـودي” التي جلست تتابع شاشة التلفاز بكامل إهتمامها لا تدري ما يدور حولها من عُقدٍ وأفعالٍ غريبة، بل العالم لها في قمة البساطة يتلخص في مشاهدة فيلمها المُفضل برفقة وجبتها المُحببة ثم عناقٍ دافيءٍ من خالها وهكذا ينتهي العالم في عينيها، على عكس ذلك الذي يجلس على مقعدٍ أشبه بالجمر المُلتهب وهو يفكر في أمر تلك المتهورة التي وبكل آسفٍ يُحبها، وظل جالسًا في إنتظارها يخرج غضبه في تبغ غليونه بشراهةٍ حتى وجدها تدخل مكتبه وهي تطالعه بخزيٍ وإنكسارٍ وهي تجلس على المقعد أمامه وما إن تلاقت عينيها الحزينتين بعينيه اللائمتين هتفت بصوتٍ مُحشرجٍ:
_هقولك إيه اللي حصل، إمبارح هي بعتتلي وهي بتعيط جامد وقالتلي الموضوع حياة أو موت وأنا أفتكرت إنها ممكن تكون اتخانقت مع أهل “نـادر” وأضطرت تسيب البيت ليهم، حطيت مليون إحتمال إلا اللي حصل دا وهي….
توقفت عن الحديث حينما بتر البكاء التكملة منها فتحرك هو من مقعده يجلس في مواجهتها ومد يده لها بكوبٍ من المياه حتى أرتشفته هي في جُرعةٍ واحدة فيما طالبها هو بتريثٍ:
_واحدة واحدة يا “نـور” وعرفيني حصل إيـه.
أومأت له موافقةً بعدما هدأت قليلًا عن السابق ثم سحبت نفسًا عميقًا وبدأت في سرد الموقف الحادث أمسًا وهي تتذكر ما حدث وكأنه مرسومٌ أمام عينيها.
(بعد مرور منتصف الليل أمسًا)
وصلتها رسائل الأخرى تُطالبها بالقدوم إليها وهي تبكي وحينها قررت هي أن تذهب إليها لعلها تفهم سبب بكائها وحُزنها بتلك الطريقة وقد ذهبت إلى الموقع المُرسل لها في وقتٍ قياسي ثم صعدت للعيادة المنشودة التي أخبرتها بها “شـهد” فوجدتها في مرحلة الإفاقة من المادة المُخدرة بعدما أرشدتها إليها المُمرضة وقد عاونتها هي في الخروج وإرتداء ثيابها ثم أنزلتها برفقة العاملين بالمكان وهي لا تعلم أي شيءٍ قد يكون حدث، فيما تحدثت “شـهد” أخيرًا بنبرةٍ واهنة وهي تشعر بالآلم يضرب منطقة خصرها وظهرها:
_وديني شقتي يا “نـور”.
أومأت الأخرى لها ثم قادت سيارتها نحو المكان فيما استسلمت الثانية لسلطة النوم الذي ملأ رأسها وأتعبها وقد تغاضت “نـور” عن كل ذلك حتى تصل بالأخرى لبيتها سالمةً، كمن ينتشل غريقًا من وسط المياه ويخرجه لبرِّ الأمان على الشاطيء، وقد وصلت بها بعد مرور ما يقرب الساعتين إلى شقتها وقد أيقظتها وأنزلتها من السيارةِ وهي تحمل عنها ثُقِل جسدها وهي تُساندها حتى وصلت بها للشقة الخاصة بها.
وضعتها على فراشها بداخل غرفتها ثم جلست بجوارها على الفراش حتى تحدثت “شـهد” أخيرًا تُلقي عليها عبارات الإمتنان قائلةً بنبرةٍ أقرب للهمسِ:
_شكرًا يا “نـور” عارفة إن مفيش غيرك يقف في صفي، أنا مترددتش لحظة واحدة إني أكلمك، وكنت عارفة إنك مستحيل تتخلي عني، شكرًا يا “نـور”.
رفعت “نـور” عينيها لها تُطالعها بخوفٍ وتوترٍ ظهرا في عينيها ثم هتفت تستفسر منها بقولها خائفةً:
_”شـهد”!! أنا لحد دلوقتي بقول أكيد دا محصلش وأنتِ معملتيش كدا، بس علشان خاطري كدبيني وكدبي قلبي، أنتِ مأجهضتيش نفسك صح؟.
كانت تأمل في الحصول على الجواب المُراد الذي يُطفيء نيران قلقها لكن الأخرى قضت على كل أمالها بل بخرتها تمامًا حينما نكست رأسها للأسفل وهي تبكي بحرقةٍ وكأنها أدركت لتوها فداحة جُرمها وجنايتها على روحٍ بريئة مثل هذه فصرخت في وجهها “نـور” وهي تبكي بقولها صارخةً بكل كلمات القهر:
_أنتِ لـيـه كـدا؟ ليه أنانية وقلبك قاسي مش بتشوفي غير نفسك وبس؟ تقتلي ابنك؟ حتة منك ربنا كرمك بيها جالك قلب تقتليه؟ إزاي فكرتي فيها أصلًا؟ إزاي لثواني بس مفكرتيش فيه، إزاي قليك مارقش علشانه وحسيتي بحاجة ناحيته؟ يا شيخة دا أي بنت فينا لو عندها عروسة لعبة بتفضل تشيلها وتحتضنها كأنها بنتها، وأهي حتة بلاستيك مبتحسش بحاجة، أنتِ إيه؟ إزاي عملتي كدا؟ فكرتي في إيــه عـلشان تعملي كـــدا!!!
سألتها بصراخٍ أقرب للهيسترية وقد ازداد بكاء الأخرى ونحيبها حتى مدت كفها وكادت أن تمسك يد الأخرى فدفعتها بعيدًا عنها وكأن هناك حية لمستها ثم انتفضت من الجلوس بجوارها وهي تقول بصراخٍ:
_أوعــي، أوعي تفكري تلمسيني، أنا مستحيل أأمنلك تاني، أنتِ واحدة مجرمة وقتلتي ابنك، أجهضتي نفسك علشان مش شايفة غير نفسك وبس، حتى في الوقت اللي جوزك تعبان ومحتاج حاجة تفرحه وتحوش عنه أنتِ برضه أنانية، دلوقتي بس عرفت إن ربنا بيحب “يـوسف” علشان هو ميستاهلش واحدة زيك بالقرف دا، و إن “نـادر” ضحية ليكِ ولعيلته، أنا قرفت منك.
رمت كلمته وأولتها ظهرها تسحب حقيبتها بعنفٍ ثم أعتدلت واقفةً تهتف بجمودٍ بعدما حاولت أحتواء نوبة بكائها لكنها لم تلتفت لها:
_أنا هعمل بأصلي وأكلم مامتك أقولها إنك تعبانة، ومش هجيب سيرة حاجة تانية عن الموضوع، والنهاردة أخر يوم بيني وبينك، وعلى فكرة “يـوسف” أيام ما كنت بسهر وأسافر وأخرج مع الشلة القديمة وكنت مش سائلة في حد ولا حتى بابا، قالي إني عندي نعمة غيري بيتمناها ويتمنى يشوفها حتى في أحلامه، لو مقدرتهاش هتضيع مني ولو ضاعت مش هتيجي تاني لو عيطتي عليها بدل الدموع دم، أظن أنتِ ربنا كرمك بنعمة وأنتِ رمتيها، بكرة تتمني ضُفر النعمة دي ومش هتشوفيها، ويارب متشوفيهاش بقساوة قلبك دي.
ألقت الحديث ثم خرجت من الغرفة تاركة الأخرى خلفها تبكي بصوتٍ عالٍ ثم أمسكت المزهرية الزُجاجية وألقتها أرضًا تفرغ بذلك طاقتها وقد وصل الصوت إلى “نـور” لكنها آثرت الرحيل وعدم الإلتفات خلفها نظرًا لأن الأخرى لن تستحق حتى ولو طرفة عينٍ لأجلها.
(عودة لتلك اللحظة)
سردت له الموقف إجمالًا وتفصيلًا وقد تفاعل معها هو بكل جوارحهِ وملامحه ورغمًا عنه تلاشى غضبه منها وتبخر تمامًا وهي تبكي أمامه وتخبره عن حجم الآلم الذي عاشته بالأمسِ منذ علمها بفعل الأخرى، وقد سحب المحارم الورقية وتهور وقام بمسح عبراتها المُنسابة رغم علمه أن ما يفعله ليس صوابًا لكنه أنصاع لتلك الرغبة المُلحة بداخلهِ حتى أغمضت هي عينيها وهتفت بصوتٍ مُحشرجٍ باكٍ:
_أنا مش عارفة أعمل إيـه؟ خايفة وحاسة بذنب غريب، كأني أنا اللي قتلته، صدقني أنا حاسة إني وحشة أوي وكان ممكن أعمل حاجات كتير ألحقه بيها، ياريتني ما نزلت أجيبها وكنت سيبتها ياكش تموت، زي ما عملت كدا من غير حتى ما تحس بأي ندم.
نزلت عبراتها تنساب من جديد فتنهد “سـراج” مُطولًا ثم عاد بظهره للخلف يهتف بقلة حيلة:
_أنتِ مالكيش ذنب، هو ابنك أنتِ ولا ابنها هي، هي حتى مقالتش ليكِ علشان تقدري توقفيها، أنتِ اتفاجئتي باللي حصل، بس عارفة؟ تبقي مُهزأة لو كلمتيها تاني، دي واحدة نزلت بيبي وأجهضته بإرادتها، الحاجة اللي فيه ناس بتتمناها من ربنا علشان قلبها يرق تضيعها كدا؟ دا “إيـهاب” اللي مبيرحمش حد وبتتهزله شنبات بمجرد ما اسمه يحضر، من ساعة خبر حمل “سـمارة” وهو عامل زي العيل اللي أبوه جابله لعبة فرحان بيها، فرحته حلوة أوي، وإهتمامه وإحساسه وحنيته غريبة، خلاني أسأل نفسي لما هو كدا قبل ما يشوفه أومال لما ييجي بقى هيحصل إيـه؟ هي اللي جاحدة وقلبها حجر متستاهلش.
هزت رأسها موافقةً تؤكد مصداقية حديثه وقد ابتسم هو لها بعينيهِ قبل شفتيهِ ثم حرك رأسه مومئًا وكأنه يخبرها أنه معها حتى وجد “چـودي” تترك جلستها ثم أقتربت منهما تجلس على فخذي “نـور” ثم هتفت تستفسر منها بنبرةٍ طفولية قائلةً:
_أنا سيبتك تتكلمي معاه براحتك أهو، وماجيتش علشان أنتِ بتعيطي، لو هو مزعلك تعالي قولي لجدو “نَـعيم” أو “عـمهم” هو بيخاف منهم، بس والله “سـراج” طيب خالص حتى بصي عملي ضفيرة حلوة إزاي؟.
أشارت لخصلاتها التي قام هو بتشكيلها كما تُحب حيث يصنع جديلتين من مقدمة رأسها ثم يضمهما سويًا في جديلةٍ واحدة، وقد مسحت الأخرى على خصلاتها ضاحكةً ثم هتفت بتهكنٍ وهي تطالع الآخر:
_دا على كدا شاطر أوي، بكرة نشوف بقى.
فهم مقصدها فضحك رغمًا عنه ثم شرد فيها بعدما عادت للحديث مع الصغيرة متمنيًا من قلبه أن يقف العالم هنا ويتخذ من هذه اللحظة حياةً تغدو مَقرًا هنيًا لهم بدلًا من التراهات الخارجية خاصةً إذا كانت المسألة وقتية وليس إلا، لكنه يأمل أيضًا أن يكون اسمها هو ذاته وجودها، نورٌ ظهر له من وسط نفقٍ مُظلمٍ لكي يبعث في نفسه الأمل من جديد، والغبي فقط هو من يترك شعاع النور ويتمسك بخيوط الظلام.
__________________________________
<“فيكَ الدنيا والعالم أنطوىٰ، فيك كوكبي وما أحتوىٰ”>
القلوب رغم كبرها تبقى كما الصغار في تعلقها،
حيث تتشبث بلحظاتها السعيدة ثم تظل تُكررها لتصبح تلك هي الأمل الوحيد لها، أملٌ وُجِدَ فقط في الذكريات المارة ليكون في مواجهة كل اللحظات المُرة..
في بيت “نَـعيم” وبعد مرور عدة ساعات قضتها “ضُـحى” مع أهل البيت بجوار خليل القلب لاحظت هي تحسن حالته تدريجيًا وسطهم وعودة الضحكة لوجهه، كما لاحظت نظراته لها بين الفنية والأخرى وكأنه يتأكد من تواجدها معه وأنها لم تكن مجرد خيالات وهمية، وفي كل مرةٍ تقع عيناه عليها يحتويها بين الجفون كمان يقفز في حُفرةٍ مُظلمة وهو يلوح بكلا كفيه لخيطٍ من النور ظهر من الشق الصغير، وقد ظلت هي معه تجلس برفقة “سـمارة” التي نزلت تقوم بدورها في رعاية من وضعته في مكانة أخيها.
وقد أخبرتهم “تَـحية” بأمر الطعام الذي قامت هي بتحضيره وقد خرج الجميع ورافق “يـوسف” أخته “ضُـحى” للخارج حتى تتناول الطعام فيما فرغت الغرفة على “إسـماعيل” لوهلةٍ عابرة فقط قبل أن يدخل “إيـهاب” حاملًا الطعام لشقيقه الذي حرك عينيه نحوه وقد أنتفض قلبه حينما لمحه ولمح ما يمسكه، فيما أقترب منه الآخر وجلس بقربهِ وهو يقول بنبرةٍ أقرب للمزاح:
_أنا قولت أأكلك الأول وأتطمن إنك تمام قبل ما آكل علشان بصراحة أنا جعان وماليش نفس، مش فاهم إزاي بس تمام، كُل أنتَ يلا.
لم ينطق الآخر ولم يعقب أو يُعلق ردًا عليه بل آثر الصمت وهو يرى شقيقه يمسك الملعقة يُطعمه الحساء الدافيء داخل فمهِ ثم قام بتقطيع الدجاج وناوله له في فمهِ ثم ناوله الدواء، كان يعامله كما لو كان صغيرًا لازال يتعلم تناول الطعام، من يصدق أن هذا الذي جعل غرفة السجن بأكملها تُقدم له فروض الولاء والطاعة يجلس ويُطعم شقيقه بكل ذلك الحنو؟ أندمج فيما يفعل من إطعامٍ لصغيره كما يزعم هو، على عكس “إسـماعيل” الذي شرد منه وهو يطالعه في ذكرىٰ بعيدة تقارب هذه في صغرهما..
حينها كان مريضًا في البيت بعدما داهمه الإعياء وأصابته الحُمىٰ من بعد وفاة أمـه ونظرًا لعدم الإهتمام به كان أكثر عرضة للتعبِ والمرض ووقتها قام شقيقه بإحتضانه على الفراش وقام بعمل الكمادات الطِبية ماسحًا بها على رأسهِ ووجههِ وحينها تشبث به “إسـماعيل” وجسده ينتفض من الحرارة التي أصابت جسده، على الرغم من وجود والدهما إلا أن من قام بالدور وأجاد الإمتثال به هو ذاك الطفل الصغير الذي أختار شقيقه وآثره على حياته.
خرج “إسماعيل” من رحلة ماضيه على صوت شقيقه المُمسك بالملعقةِ ثم هتف بنبرةٍ رخيمة يجذب أنظاره إليه حتى عاد له بكامل تركيزه وتناول الطعام من شقيقه الذي ابتسم وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_الشوربة والرز دول كانوا أسرع حاجة أمك تسكتني بيها لما كنت بشتغل زمان في ورشة الحدادة، كنت أطلع أجعر في ودنها زي الماجور وهي كانت تسخنلي الرز والشوربة تأكلني وأنزل تاني ألاقيك بتتشعبط في الحديد، أنزلك وأدخل الحديد جوة والأكل يتهضم، وأجوع تاني، بس كنت بصبر علشان ناكل مع بعض.
حدثه شقيقه عن الذكريات المتناقضة فيما ترقرق الدمع في عيني “إسماعيل” وهتف بنبرةٍ مُختنقة من البكاء الذي داهمه:
_”مـيكي” قالي على اللي حصل منك علشان ترجعلي حقي، أنا ماكنتش عاوزك تحط نفسك في وش الخطر، صدقني أنا كفاية عليا أنتَ معايا من كل الدنيا، طول عمرك في ضهري وكتفك بكتفي ولو فيا خير بتعريفة واحدة بس فدا بكرم ربنا عليا إنك أبويا، الفرق بينا صحيح سنتين بس طول عمري بحسهم ٢٠ سنة، أنا ساند نفسي بيك، لو كان ليا خاطر عندك بلاش تأذي نفسك.
ضمه “إيـهاب” بأحد ذراعيه حتى أصبحت رأس الآخر تتوسد صدره ثم هتف بصدقٍ يقطع وعدًا لأجلهِ:
_علشان غلاوتك اللي عمري ما قليت بيها وعلشان وجودك اللي بعتبره أكبر نعمة في حياتي أنا هوعدك إني مش هعمل حاجة تاني، بس طول ما الحوار يخصني، إنما اللي يقرب منك أنا هدوس عليه ومش هرحمه، ودي تقفل الحوار عندها، دي حرب يا “إسماعيل”، حرب على بلد كاملة بتاريخها وحظك الأسود إنك مركز في الحرب دي، بس الخيل الحُـر مبينخش قصاد الخيال الجبان ويوم ما يجيب آخره بيضربه في ضلوعه يكسرها، وأنا ناوي بعد كدا للجبان اللي يقرب من أرضي هكسر ضلوعه لحد ما يبطل يتنفس.
ابتسم الآخر بقلة حيلة وأغمض عينيه مُستسلمًا للنوم في عناقهِ وقد أقتبس الأمان منه ومن تواجده بجوارهِ وللأسف بدأ مفعول الدواء يسري في جسدهِ ليسيطر عليه وقد أنتظر أخوه بقربه ثم أبعده برفقٍ ووضعه على الفراش ثم دثره جيدًا بعدما أطمئن عليه ثم أغلق الأضواء وخرج من الغرفة فوجد “ضُـحى” في وجههِ والقلق بدا واضحًا على وجهها فطمئنها هو بقولهِ:
_بقى كويس متقلقيش نفسك، عاوزك بس الفترة دي لو ينفع إنك تخلي بالك منه ودا هيفرق مع نفسيته، وعلى فكرة أنا ماكنتش بطيقك وحاسك رافعة مناخيرك عليه، أنا آسف يعني طلعت ظالمك وطلعتي بنت أصول، تشكري يا عروسة.
رفعت أحد حاجبيها ترمقه بسخطٍ ثم هتفت بسخريةٍ ردًا عليه وهي تقلد طريقته والغريب أنها لم تخشى ما فعلته:
_يعني أنا اللي كنت قبلاك يعني؟ بصراحة كنت مقلقة منك وفكراك مخليه تابع ليك علشان تفرض سيطرتك عليه وتاكل حقه في الدنيا، بس طلعت برضه ظلماك وشايفة إنك بتعتبره ابنك مش بس أخوك، يعني مش هتاكل حقه ولا حاجة وتاكل أي حد علشانه.
مازحته بحديثها لكي تشاكسه فيما تحكم هو في ضحكته ثم أمسك رسغه بكفهِ الآخر وهتف بثباتٍ خالطته الضحكة المكتومة:
_يمين بالله لو فيه حاجة هاكلها يبقى في موقف تاني لو حد غيرك كنت هاكلك قلم على وشك قلم!! بس لولا إنك ست وبقيتي مننا سماح، وهفتح صفحة جديدة معاكِ يا مرات الغالي، فيما بعد إن شاء الله.
_قصدك قريب أوي إن شاء الله.
عدلت حديثه بجملتها فيما رفع هو حاجبيه بذهولٍ منها ومن صدمته في طريقتها وكأنها تتحداه، وقد ضحك هو ساخرًا وعلم أن بائس مثل شقيقه يحتاج لهذه التي تشبه شعلة الحياة، تناقضه في كل شيءٍ وتُكمله في كل شيءٍ، لكنه لم ينكر أنه أطمئن على شقيقه مع تلك المُهرة المشاغبة التي تتدلل على فارسها ورغم ذلك تُكن له كل الوفاء.
__________________________________
<“تم كشف الحقائق، عليك أن تختار الفرق”>
أدى الطبيب مهمته في الكشف على “نـادر” وإعطائه الأدوية المتناسبة مع صحتهِ وحالته وقد رحل بعدما أتت الممرضة التي ستتولى مهمة رعايته والإهتمام به وأعطاها هو التعليمات الخاصة بحركتهِ تلك الفترة حتى يخضع لجلسات العلاج الطبيعي أو ربما يتم استبداله بالعلاج الفيزيائي على حسب تطور الحالة.
وقد جلس “نـادر” في إنتظار التبريرات والفهم لما يدور حوله حتى ألتفوا حوله بأكملهم فسألهم هو مندفعًا بفارغ صبرهِ وتحمله لكل ما يصير من أمورٍ مُغايرة لواقعه:
_أظن على الأقل من حقي أفهم، أنا هنا بعمل إيه؟ وليه مش في المستشفى ومين أنتم؟ إيه اللي بيحصلي دا؟ حد يرحمني ويقولي أي حاجة، ومين الدكاترة والممرضين دول؟ يا إما أقسم بالله أمشي، مش هيفرق معايا حالتي أو زفت بس أكيد مش هفضل تايه كدا.
ازداد إنفعاله أكثر فيما هتف “أيـهم” بنبرةٍ جامدة يوقفه من التهور أكثر في الحديث:
_أهدا وأبلع ريقك، أنا محدش بيعلي صوته عليا، زعلان أوي إنك هنا في الأمان؟ لو عاوز ترجع لمكانك أنا معنديش أي مانع، بس ساعتها بقى يا حلو أنتَ هتضيع، لأنك مش أكتر من لعبة عندهم، فبالراحة هنفهمك وتختار مصلحتك ولا مصلحة اللي خلفك، ممكن تسكت بقى؟.
أندفع “نـادر” يسأله بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_أنت بالذات مين أصلًا؟ عمال تتكلم وتؤمر وأنا معرفكش، لو أنتَ ليك حاجة عندي خلصني وخدها وسيبني في حالي وصدقني أنا مش في نيتي أذى لأي حد، أنا كنت هموت في ثواني ومعرفش رجعت للحياة تاني إزاي.
تدخلت “فاتن” تهتف بثباتٍ حاولت الإتصاف به أمام ابنها خشيةً من تهورهِ ورفضه حديثها لكنها قررت وصدقت قرارها:
_أنا هقولك، دا “أيـهم” يبقى ابن خالك “عبدالقادر”، ويعتبر خالك لأنه ابن خالتي بس للأسف العلاقات بينا مقطوعة من بدري، ودا الحج “نَـعيم” أظن أنتَ عارفه وعارف دوره إيه في حياة “يـوسف” اللي متعرفوش بقى إن أنا لجأت ليهم يساعدوني بعدما اتأكدت إن أبوك مصمم يضيعك، ويضيع معاك “يـوسف” بقى كل همه يخليكم تاكلوا بعض، مش عاوز يفهم إنكم أخوات، ومسيركم لبعض، بس هو غلاوي وأسود، مبيحبش حد، أصله الغجري معشش جواه، مبيحبوش حد وملهمش أصل، علشان كدا جيبتك هنا وهما متأخروش عن مساعدتي وهقولك ليه لجأت ليهم.
هتفت جملتها المحتدة ثم بدأت في سرد أسبابها ولجؤها لهما لكي يقفا معها في صفها وصف ابنها وبالطبع لم يكن غير زوجها هو الوحيد المتسبب في ذلك، وقد قصت عليهم الموقف التالي بقولها..
(منذ أقل من شهرٍ)
كانت في المشفى بغرفة ابنها قبل أن يفيق من غيبوبته وهي تبكي بجوارهِ وتمسح على رأسهِ فوجدت زوجها يدخل الغرفة ثم استند بكلا كفيه على مسند الفراش الحديدي ثم هتف مُتشدقًا بنزقٍ أشبه بالسخريةِ:
_فارق معاكِ أوي؟ علشان كدا ضيعتي حقه وخرجتي “يـوسف” منها؟ بتفرطي في حق ابنك وبتدي التاني قوة تخليه يقف في وشنا؟ مين ليه مصلحة من اللي حصل غيره يا “فـاتن” مين هيستفاد إن “نـادر” يموت غير “يـوسف” علشان يقش كل حاجة طبعًا بعدما الدور ييجي علينا أنا وعمه، ويخلص القديم والجديد، بس أقسم بالله أنا ممكن آخد روحه لو فكر إنه ممكن ياخد أكتر من اللي خده، مش بعد الشقا والغُلب دا كله ييجي ابن “مُصطفى” وياخد كله على الجاهز.
حديثه أخرج الغِل والحقد الدفين من قلبه وعيناه نطقت كذلك بنفس النظرات المحقونة بالسم الحاقد، وقد استشفت هي نظراته واستنبطت نبرته ووقفت في مواجهته مذهولة كمن تقف أمام شيطانٍ كُشِفَت عنه الستائر وحينها هتفت مدهوشةً بأثر صدمتها:
_أنتَ غلاوي أوي، إيه يا أخي شيطان؟ أنتَ أكتر واحد عارف إن دي فلوس “مُصطفى” وحق أمـه وأهلها، مش حقنا، مش بتاعنا، لا أنتَ ولا “عـاصم” ولا أمي ليكم في الحق دا، أنتَ من الأساس مشرد مالكش أصل، يبقى إزاي بتاخد حاجة مش بتاعتك وتنسبها لنفسك وتحارب كمان علشانها؟ الحق دا حق “يـوسف” والبيت بيته والأرض أرضه، وهيرجعوله من تاني، زي ما أمه رجعت وأخته رجعت حقه هيرجع، وأقولك على الكبيرة؟ “نـادر” ابني هيتحامى في ضهر أخوه وسيرة خاله، وهعمل اللي عيشت طول عمري بحاول أعمله وأنتَ واقفلي في وشي، هيرجعوا أخوات تاني ويقفوا في وشك هما الاتنين.
تلبستها القوة التي لم تعلم مصدرها وهي تتحداه حتى أقترب منها يمسك مرفقها وهو يضغط عليها بقوته الفارضة بسيطرتهِ كمن يملك الأرض بما فوقها:
_دي نجوم السما أقربلك، الاتنين دول مينفعش بينهم قرابة، علشان كلنا نعيش عيشتنا دي كان لازم يكرهوا بعض، لازم يتفرق بينهم، تفتكري “نـادر” أتجوز “شـهد” ليه؟ علشان فهمناه إن البيه التاني حاول يعتدي عليها، وساعتها ابنك قرر يتجوزها ويحميها منه، وهي طلعت ناصحة عرفت ومثلت الدور صح، والتاني أتكسر منهم، تفتكري لو هما بيحبوا بعض كان زماني قدرت أفصل بينهم؟ كان زمان مباديء “مُصطفى” الساكنة جوة ابنه دمرت كل حاجة، بس أنا واقفلك، وهقولك نصيحة، موت واحد من الاتنين أهون عندي من إنهم يقفوا في صف بعض يا “فـاتن” وطبعًا عارفة مين اللي ممكن في ثواني أخلص منه، يبقى خلي الدنيا تمشي وكُلي عيش، طبعي يا “فـاتن”، طبعي دا العالم كله بيطبع.
حينها علمت أنها تقف في مواجهة رجلٍ أشبه برجال الكهف، رجلٌ يرجع أصله إلى أقوام البربر ذوات الطابع الهمجي المتوحش وعند خروجهم من كهفهم يتقابلون مع البشر ثم ينهشون فيهم بمخالبهم الطويلة والأهم في مبدأهم تطبيق السيادة والحصول على المصلحة الشخصية، وكأنهم يطبقون مبدأ أنا ونفسي وذاتي ثم الطوفان.
(عودة لتلك اللحظة)
قامت بسرد الموقف كاملًا له أمام البقية ثم أخبرته عن إلتحادها فيهما كونهما لازالوا مقاومين لغريمهم، وقد تفاجأ “نـادر” بالحديث ومما يقال وكيف تلاعب به والده وأستغله أشر الاستغلال في تحقيق أهدافه الشخصية دون مراعاة مشاعره، وقد أضافت هي من جديد تُكمل حديثها بقلة حيلة:
_الحج “نَـعيم” ابنه للأسف كان مخطوف من وهو عيل ابن شهور، والمصيبة إن أبـوك هو اللي كان خاطفه، ولسه راجعله مكملش شهرين، أسأله أهو عندك، و”عبدالقادر” ابنه “أيـوب” أتخطف وهو صغير وكان بين الحيا والموت وبرضه أبوك اللي خطفه، وكل دا عرفته من تليفونه اللي كله رسايل تهديد بماضيه الأسود، علشان كدا كان لازم ألحقك من الطوفان، كان لازم أنجدك من شر أبـوك، ها؟ لسه ناوي ترجع تاني ترمي نفسك في ناره؟ أظن أنتَ قبل اللي حصلك شوفته بيعاملك إزاي لمجرد بس إنك رفضت شوية أوامر منه، قدامك فرصة تختار، بس صدقني أنا دوست على قلبي علشانك، موت نفسي ودوست عليا بس علشان أجيبك هنا وأحافظ عليك، ودا أكبر دليل إني بحبك ومعنديش أغلى منك في حياتي.
تلاقت عيناه بعينيها وقرأ الحُب في نظراتها المتوسلةِ له وقد وزع نظراته بينهم جميعًا ولأول مرةٍ طوال حياته يُخير بتلك الخيارات الصعبة، وكأنك أتيت بمحاربٍ ووضعته في معركةٍ ثم تركت له حرية الإنضمام لأيًا من الضفتين، وهو يجهل أيهما أكثر حمايةً له، لكنه قرر تلك المرة أن يستمع لصوت القلب الذي مال نحو أمـه وأومأ لها موافقًا بقلة حيلة جعلتهم يبتسمون له وقد بدأ التحالف بينهم ومن ثم هتف “نَـعيم” بثباتٍ:
_أختارت صح، وأنا بقدر اللي يختار صح، دلوقتي أنتَ هتفضل هنا تحت عنينا، وأبـوك لازم يتربى قبل ما يموت أو يتسجن، لازم أحرق قلبه وألففه حوالين نفسه، وأنتَ برة حسبتنا، وعلى فكرة أنتَ هنا علشان أبوك ليه عداوات كتيرة أوي يوم ما هيفكروا يخلصوا منها هتبقى أنتَ التمن، وأظن الحادثة بتاعتك دي أكبر دليل، يبقى تكمل الطريق للآخر صح.
__________________________________
<“قلب الإنسان يُجمل شكله، ويُضيء ملامحه”>
طوال اليوم والعمل يقع على عاتقهِ بمفردهِ بسبب غياب والده وشقيقه الأكبر عنه أضطر هو لمتابعة العمل بكافة شئونه وخاصةً مع غياب “تَـيام” المسئول عن المخازن كانت الأمور في غاية صعوبتها عليه، لكنه كعادته وفق بين كل شيءٍ وأهمهم المسجد والعبادات الملتزم بها، وقد وصل للبيت بتعبٍ بلغ أشده عليه وجلس على الأريكة في حديقة بيته يتذكر أمر زوجته التي لم تسنح له الفرص حتى يُهاتفها أو حتى يتواصل معها وقبل أن يبدأ في محادثتها وصلت “نـهال” له تسأله بقلقٍ على زوجها:
_معلش يا “أيـوب” متعرفش فين “أيـهم”؟ بكلمه تليفونه مقفول وإمبارح رجع وأنا نايمة والصبح خرجت قبله، هو فيه حاجة طيب؟ دي مش عوايده هو وعمو.
لاحظ هو توترها وإضطراب صوتها فهتف بثباتٍ يُطمئنها بقوله:
_متقلقيش، هما قالولي إن عمارة من عمارات التجمع فيها مشكلة وهما بيحلوها، الحاجات دي عادةً بتاخد وقت أصلًا، فأطمني، خصوصًا إن” أيـهم” الشغل عنده مفيهوش هزار، لو محتاجة حاجة تقدري تعرفيني وأنا بإذن الله هجيبها ليكِ.
حركت رأسها نفيًا ثم شكرته وتحركت بإحباطٍ من المكان وهي تخشى أن تخبره بمخاوفها، كيف تصارحه أن قلبها يُنذرها أنه هناك خطر يحاوطه؟ كيف تخبره أنها منذ الأمس لم تراه لكن قلبها يراه؟ شعور غريب تملكها وهي تتحرك نحو غرفة “آيـات” تجلس معها برفقة “مهرائيل” التي شعرت بالضيق من أمر انتقال رفيقتها وأبدت اعتراضها قائلةً بسخطٍ:
_أنا من الأول ماكنتش مرتحاله أبو عيون القطط دا، يعني إيه مش هنسكن مع بعض؟ أفهم منها إيـه دي؟ هتروحي تسكني بعيد عني؟ دا أنا موافقة على الجواز علشان هنكون جنب بعض، ليه بتضربوني في وشي كدا؟ أتصرفي يا “آيـات”.
زفرت الأخرى بثقلٍ مرغمة على ذلك ثم هتفت بتهكمٍ ردًا على حديث الأخرى:
_وهو أنا في ايدي إيـه أعمله؟ صدقيني أنا أصلًا مبسوطة يمكن دا يقرب المسافات بين “تَـيام” وباباه، وبعدين الشقة اللي هنا مش هنسيبها برضه، هتفضل بتاعتنا، وأول فترة بس هنقضيها هناك علشان عمو يتعود علينا، وبعدها هنيجي هنا، وهنقسم الأسبوع بين هناك وهنا، بعدين أنتِ بتتلككي؟ هتجيبيها فيا أنا يعني؟ يا بتاعة صابون المواعين أنتِ؟.
تضرج وجه “مهرائيل” بالخجل بعدما فهمت مقصد رفيقتها وقد ضحكت “نِـهال” عليها هي الأخرى لتصرخ فيهما “مهرائيل” لكي يتوقفوا عن المزاح بعدما أفشت لهما عن سرها لكي تتقابل مع “بيشوي” الذي ألح عليها بذلك، وعلى النقيض استمر صوت الضحكات منهما لتضحك هى الأخرى أخيرًا بخجلٍ سيطر عليها ودفق الدماء لوجهها.
في الخارج تحديدًا بالحديقة..
تحرك “أيـوب” في الحديقة وسط الزرع والزهور وقد ألتقط مجموعة أزهار باللون الزهري الأقرب للون السماوي وحينها تذكرها وابتسم وكأنهم يشبهونها هي لذا أخرج هاتفه يلتقط الصورة ثم قام بإرسالها لزوجته يغازلها كاتبًا برفقة الصورة:
_”اليوم مررتُ بجوار الزهور أتفقدها،
وفي حقيقة الأمر كنتُ أبحثُ عنكِ أنتِ بينهم،
فوجدتهم جميعًا يشبهونكِ وكأنكِ أنتِ مِنهم”
أرسل الرسالة وتأكد من وصولها ثم رافقها بأخرىٰ صوتية منه لكن رغمًا عنه بدا صوته مُنهكًا ومُتعبًا:
_أنا آسف إني أنشغلت عنك النهاردة بس اليوم كان صعب أوي، وأنا يدوبك في نصه بس وعد مني ليكِ يوم كامل مني بتاعك أنتِ وبس، أشوفك على خير يا صبر “أيـوب”.
وصلتها الرسائل ورآتها وظهر له ذلك لكنه ابتسم أكثر حينما وصله الرد منها في رسالةٍ صوتية مفداها:
_فداك كل حاجة أنا بخير ويهمني إنك بخير، وللأسف كنت مشغولة طول اليوم بنروق الشقة بما إن “يـوسف” نزل بس كل شوية أتخيلك قدامي وساعتها أدعيلك زي ما علمتني، مخبيش عليك أنتَ مش غايب عن بالي أصلًا، أنا بنساك وأنا أصلًا مش فاكرة غيرك.
أرتفعت نبضات قلبه الذي هلل بحديثها وفي تللك اللحظة بغض المسافات والبُعد والحياة الواقفة بينهما، ففي مثل هذه اللحظات أقرب دواء لُعجاف أيامه هو الجلوس بقربها والتمتع برؤية مُحياها البريء وبسمتها الصافية، تلك التي تطالعه ببراءةٍ ثم تُضمد جراحه بضحكةٍ تجعله في حالة رضا واستغناءٍ عن العالم بأكملهِ، بالطبع لأن العالم بالنسبةِ له فيها هي.
___________________________________________
<“كارثة على مشارف القدوم تدخل وأمنعها”>
في بيت “الراوي” بمنطقة الزمالك..
عادت للبيت “فـاتن” التي ظهر عليها التعب وقد واجهها “سـامي” الذي أندفع بحميتهِ نحوها بعدما فشل في التوصل لابنه ثم هتف بنبرةٍ جامدة وهو يسد الطريق في وجهها:
_كنتِ فين؟ إحنا في المصيبة دي وابنك غايب وأنتِ فين من الصبح يا ست هانم؟ خلاص أتجذبتي ولا عقلك خف وطار منك؟.
دفعته بعيدًا عن طريقها وهتفت بجمودٍ في وجهه هي الأخرى بعدما ازداد خوفها من كشفهِ لأمرها:
_كنت بدور على ابني، بشوفه راح فين ووجع قلبي عليه، لفيت عليه وسألت زمايله القدام، روحت حتى سألت عند شقته، مش لقياه، ومش هبطل أدور عليه، مع إني عارفة إنك السبب، وأي حاجة هتحصل لابنك هتبقى بسبب عمايلك أنتَ، علشان قذارتك وقرفك ملهمش حدود، ولازم تطول اللي حواليك بس ابني لأ.
أقترب منها من جديد ثم همس لها بصوتٍ هامس بث الرعب بداخلها حينما حدثها بتلك الطريقة ورسم هذه النظرة في عينيه المُرعبتين:
_مفيش حاجة هتمس ابني، وأنا عارف مين اللي ليه مصلحة يأذيني في ابني، بس أوعدك إن ابني بعيال أخوكِ الاتنين، هقلبها على دماغهم كلهم، وابني هيرجع تاني ليا، وهخليه هو بنفسه يولع النار في الكل، وياويله اللي هيطلع ليه يد في الليلة دي كلها، والنهاردة أنا هاخد حق ابني، وهتشوفي بنفسك.
دفعها من وجهه ثم تخطاها وتحرك صوب الأعلى فيما وقفت هي تنظر في أثره بخوفٍ ثم أنزوت بنفسها تجلس على الأريكة وهي تحاول فهم حديثه بينما هو في الأعلى أخرج هاتفه وأجرى مكالمة بمثابة أبواب النار التي فتحها شيطانٌ مثله حينما هتف بنبرةٍ جامدة لمن يحدثه:
_”أيـوب” و “يـوسف” الاتنين الليلة دي، وعاوزها تبقى مجزرة في حارة “العطار” مفيش واحد فيهم تقومله قومة من بعدها، اللي حصل في ابني يترد أضعاف فيهم.
أغلق الهاتف ثم رماه بطول ذراعهِ وأرتمى على الأريكة يهز قدميه بإنفعالٍ أهوجٍ والنيران مُضرمة بداخلهِ، فكرة أنهم يتلاعبون بابنه جعلته يعمى عن الرؤية ويعجز عن إبصار الحقيقة والآن تزداد الأمور سوءًا، وهو يستغل كل مقوماته أسوأ الاستغلال كما أعتاد.
في حارة “العطار”..
وصل “يـوسف” برفقة “ضُـحى” عند البناية ثم أشار لها أن تصعد للأعلى حتى يتحدث مع “مُـنذر” الذي ركب دراجته البخارية وأتى خلفهما، وقد نزل له “يـوسف” ووقف بجوارهِ يهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا مش عاوزك تفهمني غلط، بس مكانش ينفع تمشي والحج مش هناك، بيحبك أوي والله، ليه مش عاوز تستغل حبه دا وتقرب منه، دا إحنا الغُرب مشميناش نفسنا غير على إيديه هو، أسمع مني وروح أقعد معاه، محدش هيحبك قده.
ابتسم الآخر ساخرًا له وهتف بتهكمٍ آلمه هو ذات نفسه:
_قصدك محدش هيحبني غيره، أنا مش غبي وعارف اللي فيها، أنا مبعرفش أقف في مكان رافضني يا “يـوسف” يمكن يكون دا مكاني وليا حق فيه زي ما الحج بيقول، بس أنا هبقى غبي وبجح لو فكرت أطلب حاجة، أنا عملت اللي عليا ودلوقتي بحاول ألحق كام يوم في هدوء أجرب حياة الناس الطبيعية قبل ما أخلع، مش برضه بيقولوا من قتل يُقتل، يبقى ليه أمسك في أمل كداب؟.
ناظره “يـوسف” بتعجبٍ وحرك رأسه بغير فهمٍ يستدل منه على حديثه فتنهد الآخر حينما أدرك أنه أفصح زيادةً عن الحد المعقول وهتف بنبرةٍ هادئة حينما لمح “أيـوب” يقترب منهما:
_فُكك مني يا “يـوسف” وشوف الراجل الطاهر دا.
أنتبه “يـوسف” لقدوم الآخر وتلقائيًا ابتسم له حتى أتى وألقى عليهما التحية ووقف بقربهما يطمئن عليهما وعلى “إسماعيل” وبعد مرور دقائق قليلة أتى صوت صرخات عالية وضربات مُفاجئة لم يتوقعها أيًا منهم ثم ركض العديد من الرجال بالأسلحةِ نحو الثلاثة الذين وقفوا مع بعضهم وتمت محاصرتهم في المنتصف، ثلاثة يختلفون عن بعضهم مثل إختلاف الحضارات بمختلف طباقاتها ومجتمعها، أو ربما حصار يشبه حصار الروم للدول العربية، وقد وقفوا في ظهر بعضهم والبقية ينظرون لهم حتى سألهما “أيـوب” ساخرًا:
_جاهزين ولا نخليها وقت تاني؟.
أتاه الرد من “يـوسف” الذي راقبهم بعينيهِ فجاوب ساخرًا:
_حد يقول للرزق لأ؟ دا الكيف بيذل.
إذا كان إنفعالهم كارثة، فهدوئهم أم الكوارث بذاتها، فالخوف دومًا من البحر في هدوئه أكبر من المخاوف في اهتياجه، والآن نحن على مشارف رؤية مجزرةٍ، ستكتب وتخلد في صفحات التاريخ باسم مجزرة حارة العطار.
______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى