روايات

رواية أغصان الزيتون الفصل التاسع والأربعون 49 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الفصل التاسع والأربعون 49 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الجزء التاسع والأربعون

رواية أغصان الزيتون البارت التاسع والأربعون

رواية أغصان الزيتون
رواية أغصان الزيتون

رواية أغصان الزيتون الحلقة التاسعة والأربعون

“لم يصدق بعد إنني لا أترك خلفي ثأرًا، رُبما كان يحتاج لدليل!.”
_____________________________________
تفحص “راغب” كل الصور والمقاطع المُصورة التي التقطتها ابنة عمه “سُلاف” له بالمقهى عبر هاتف والدهِ، مما سبب له بعض التذمر وهو يتطلع إليهم بنظرات خاطفة، ثم هتف بـ :
– وهي مخافتش حد يشوفها وهي بتصورنا!.. ده جنان؟.
ترك “نضال” كوب الشاي خاصته جانبًا، ثم تسائل بفضول :
– انت عايز إيه من بنت صلاح يا راغب؟؟.. ده السؤال اللي بسببه إحنا هنا دلوقتي، ولولا اللي حصل في بيت القرشي كان زمان سُلاف بتسألك بنفسها.
ناول “راغب” الهاتف لوالدهِ و :
– مش فارقه كتير يا نضال، المهم إنها معايا.
كان جوابًا كافيًا لإشعال ثورتهِ، خاصة مع علمهِ بالأمور التي تجري من خلف ظهرهِ :
– لأ تفرق، انت مش لوحدك.. وكان لازم تعرفنا حاجه زي دي.
تنهد “مصطفى” وهو يعاتب ولدهِ :
– إحنا متفقناش إننا ندخل البت دي في مواضيعنا يا راغب!.. ليه اتصرفت من دماغك يابني.
لم يجيب “راغب” على أيًا من تلك الأسئلة الموجهه إليه، فقط نهض واقفًا عن جلسته محاولًا الهروب من حصار أسئلتهم :
– مش لازم أنفذ كل اللي اتفقنا عليه يا بابا.
هبّ “نضال” واقفًا، وسأله بتشككٍ :
– انت حبيت بنت القرشي ولا إيه يا راغب؟؟.
نفى “راغب” عن نفسه شئ گهذا نفيًا صادقًا :
– حب إيه اللي بتكلم عنه!.. أنا مش بحب حد يا نضال.
فـ حكم “نضال” بما يملي عليه ضميره اليقظ :
– يبقى تبعد عنها.
قطب “راغب” جبينه بفضول اعتراه و :
– ولو بحبها!! ؟.
كان الجواب جاهزًا حاضرًا في ذهن “نضال” :
– هتنسى الموضوع ده لحد ما نلم كل اللي لينا ونخلص الليلة دي، بعدها لو هي عايزاك دي حاجه ترجعلها.
تأفف “راغب” وهو يوليه ظهره، وعاد يجلس من جديد وقد سئم تلك المثالية المرفوضة بالنسبة إليه :
– انت فلقتني يا نضال بقيمك ومبادئك دي!.. إحنا مش في حصة تربية يا بني.. فوق شويه، إحنا بنحارب عشان بناخد حقنا، وفي الحرب كل أنواع الضرب مشروعة.
لم يتفق “مصطفى” مع ولدهِ وعارض ذلك بتشددٍ :
– لأ يا راغب، لأ يابني.. إلا الولايا، احنا حقنا عند صلاح وابنه وبس.
لم يروق ذلك لـ “راغب” كثيرًا، خاصة وأن “حمزة” لا شأن له بكل ما حدث في الماضي، ورغم ذلك قد حكم عليه “مصطفى” بـ نفس حكم والده :
– لو على الحق يبقى حمزة بعيد هو كمان، حقنا عند صلاح وبس يا حج.. إنما انت اخترت تحرق صلاح بعياله، يبقى محدش يلوم عليا.
أراد “نضال” إقناعة بالرفض الجماعي من الكل على ذلك الأمر، فـ أثقل حديثه بذكر “سُلاف” أيضًا :
– سُلاف مش هتسكت على الكلام ده يا راغب، انت مشوفتش كانت عامله إزاي لما اكتشفت الوضع ده.
نفخ “راغب” بإنزعاج شديد، وبرر اختياره لـ “يسرا” تحديدًا :
– انتوا مش فاهمين حاجه!.. يسرا دي نن عين أخوها، ميستحملش عليها الهوا الطاير، هو ده الكارت اللي هيكسر صلاح وإبنه مش حاجه تانية.
– انت ناوي على إيه يابني؟؟.
كانت تعابيره الماكرة تدّعي البراءة المصطنعة، وهو يجيب بكل أريحية :
– ولا حاجه، يسرا هتبقى واحدة مننا.. يعني حرم راغب زيـِّان.
**************************************
انفرد بنفسه في غرفة كان قد أعدّها بديلًا لغرفة المكتب، وأغلق الباب منعًا للغوغاء التي أصدرتها زوجتهِ وإصرارها المستميت على محاسبته، حتى إنها كادت تكسر الباب من قسوة ضرباتها عليه وهي تصيح وتصرخ :
– أفتح يا صـلاح!.. كلمني زي ما بكلمك، إزاي تعمل فينا عمله زي دي؟؟.
لم يُجيبها أو يعيرها اهتمامًا، وهذا كان دافعًا لاستثارة أعصابها أكثر وأكثر، خاصة وأن “يسرا” لم تبدي أي ردّة فعل، حتى إنها لم تهتم بما حدث على الإطلاق. هبطت “أسما” الدرجتين اللاتي تفصلن بين الغرف وبين البهو الفسيح، لترى ابنتها جالسة بأريحية تامة وكأن شيئًا لم يكن، رمقتها بنظراتٍ حانقة، ومشت في إتجاهها وهي تهتف بـ :
– طبعًا ولا على بالك!.. مش دي اللي اختارتيها تدافع عنك وترفعلك القضية!!.. شايفة عملتها السودة!.
تنهدت “يسرا” وهي تُبعد أنظارها عن والدتها، وأردفت بـ :
– أنا ماليش دعوة بحوارتكم دي، بعد كده مش هفكر غير في مصلحتي.
لم تكن صدمة عادية، بل گالصفعة التي ضُربت بقوةٍ غاشمة، حملقت “أسما” على إثرها لحظاتٍ قبل أن تهتف بشئ من الخفوت :
– إيه اللي بتقوليه ده يا بنت؟؟.. انتي أكيد اتجننتي!.
نهضت “يسرا” عن جلستها، وقد ضافت ذرعًا من فرط تجسيد دور الإبنة المثالية، في حين إنها لا تجد لذلك مقابل من أهلها الذين يسعون لإنهاء ما بقى من سنوات شبابها بتعنتّهم الفكري، لذا قررت أن تمتهن الأنانية، وألا تكترث بما يحدث لهم جِراء أسباب لا أحد يعلم عنها شيئًا، وألا تخسر “سُلاف”، تلك التي بغت بقوّتها كل آل القُرشي ووضعتهم في موضعٍ يستحقونه. نظرت “يسرا” لوالدتها بنظرة حزينة، بعد خذلانها اليوم خذلانًا محزنًا :
– بعد موقفكم معايا النهاردة أنا مش هاخد صف غير صف نفسي، حتى لو اتعاونت فـ ده مع عدوة عيلتي.
سحبت حقيبتها الضخمة ومشت بإتجاه الردهه، حيث غرفتها الجديدة التي تم فرشها وتجهيزها لإستقبالها، بدون أن تحس بأدنى ندم. أغلقت الباب من خلفها، واستخدمت هاتفها للإتصال بـ “سُلاف”، والتي أجابت عليها في الحال :
– ألو.. أيوة يا سُلاف.. لأ لأ مش متصلة عشان ألومك على أي حاجه، أنا بتصل عشان أبلغك إني عند موقفي.. وانتي هتفضلي المحامية بتاعتي مهما حصل، اللي بينك وبينهم أنا مش هتدخل فيه.
—جانب آخر—
الوسط من حوله كان فوضويًا متبعثرًا، كافة الأوراق والمستندات والكتب والمراجع.. الكثير من الحوائج الهامة التي احتفظ بها لسنواتٍ طويلة. بدأ “صلاح” يضع كل شئ في مكانه الصحيح بتركيز شديد، من أجل التفرغ لما هو أهم بالمرحلة القادمة. تناول العديد من الملفات القديمة لينتقي لها مكانًا، فـ وقع أغلبهم وتناثرت أوراقهم، سبّ سبةٍ خافتة وهو يلملم بعجالة، حتى لمح تلك الورقة التي قرأ عليها بوضوح أسم “إسـماعيل زيـِّان”، انتابه الفضول لقراءة الورقة، فإذا بها عقد الشراكة القديم بينهم، تأفف وهو يدسه بالملف، وغمغم بـ :
– مش وقته خالص!.
وتابع ما يقوم به من مهامٍ دون ذرة تفكير أو تردد، دون حتى اكتـراث، دون أن يولّي اعتبارًا لإشارة قد تكون إلهية…
****************************************
كان صباحًا غائمًا، خاصة عليه، ورغم ذلك لم يتوانى في الترتيب من أجل اصطيادها. وضع النادل كوب القهوة بالحليب الفرنسية الطازجة أمامه وانصرف، حينما كان “راغب” يشرع في إشعال سيجارة أمامه وهو يردف بـ :
– اللي بتقوله ده مش سهل يا حمزة!.. إحنا مشكلتنا مش مين الراجل اللي هيلبس الليلة معاها، إنت محتاج وضع تلبس.
كانت حركاته متوترة شيئًا ما، حتى إنه ارتشف من قهوته دون انتظارها كي تبرد قليلًا، فـ أصيب لسانهِ بحرقٍ طفيف تجاوزه في نفس اللحظة، ثم هتف بـ :
– عارف، عشان كده بدور على البدايل لحد ما أنفذ.. الموضوع ده هياخد وقت وأنا مش مستحمل.
فـ بادر “راغب” بحل قد يُرضيه :
– لو عايزني أدبر واحد من حبايبنا عشان يشاغلها ممكن أتصرفلك.
رفض “حمزة” ذلك الحل طويل الأمد وقد وجد بديلًا :
– لأ، أنا هثبت عليها الخيانة الزوجية وإنها غير أهل لتربية الولد، وأسحب منها وصايته الأول.
اختنق “حمزة” من رائحة الدخان الخانقة، فـ تجهمت تعابيره وهو يهتف بـ :
– وبعدين معاك يا راغب!.. ١٠٠ مرة أقولك مش بحب الزفت ده!.
دهس “راغب” سيجارته و :
– طب أهدا.. اللي بتقوله ده مش حل، عشان احنا جربنا ناخد منها الولد والنتيجة انت فاكرها كويس!.
انبثقت شاشة المكالمة الواردة على هاتفه دون أي جلبة، فـ نهض عن جلسته وسحب هاتفه ليخرج به و :
– ثواني.
بقى “راغب” في مكانه، وعقلهِ گالترس الدائب، يعمل في كدٍ للوصول إلى خبايا نواياه دون أن يثير شكوكهِ، إلى أن وردته مكالمة هاتفية جعلته يرتبك، ونظر من حوله قبل أن يجيب بخفوت :
– أيوة يا حببتي.. حاضر هجيلك بس أصبري عليا، أنا مع أخوكي هخلص وأكلمك، حاضر حاضر.. سلام.
أغلق المكالمة و تنهد وهو ينظر بـ إتجاه “حمزة” الذي مازال بالخارج، وعلى ما يبدو أن المكالمة هامة وحارّة جدًا، عاد “راغب” ينظر أمامه وغمغم بـ :
– أنا عارف إن التفاحة استوت، بس أمتى ييجي اليوم واقطف!.
****************************************
وصل “حمزة” للمنزل ليجده فارغًا، حتى الخادم “عطا” قد انصرف مع” أسما” لخدمتها، فـ صعد لغرفتهِ لتبديل ثيابهِ كي يغادر من جديد. نزع ثيابه العلوية بالكامل، ووقف ينتقي بديلًا عنها حينما رنّ هاتفه، فـ تناوله ليجيب عليه بعجالة :
– أيوة يا أبو زيد.. أيوة جايلك بس انت فين؟.
قذف “زيدان” بعُقب سيجارته من نافذة السيارة وهو يقول :
– أنا قدام مكتب ست الأستاذة، كان عندي وردية كده وبخلصها.
قطب “حمزة” جبينه مذهولًا، وكأنه استصعب استيعاب ما رواه “زيدان”:
– وردية إيه وأستاذة مين؟؟.
– الأستاذة مراتك، أقصد وردية مراقبة يعني.. أصلي قسمت الورديات عليا أنا والرجالة.
كلما تحدث “زيدان” كلما تضاعف ذهول “حمزة” واستغرابه، مما دفعه لترك الثياب جانبًا وقد بدأ ينفعل بشكلٍ ملحوظ :
– رجالة مين!؟.. انت عمال تفاجئني وتنقطني بالكلام ليه؟؟.. مين قال إني عايز معاك حد يا جدع انت؟!.
تفهم “زيدان” مغزى قلقهِ من تفتت للخصوصية وتبعثر سرية الموضوع، فـ ضمن له الحفاظ على التكتم الشديد، واتخاذ كافة التدابير والإجراءات التي بدورها لن ينكشف أمرهم :
– متقلقش ياأبو البشوات دول أضمنهم برقبتي، ماانا لمؤاخذة مقدرش أتحرك هنا لوحدي لازم اسسمنت (assistant) معايا.
تأفف “حمزة” بسخطٍ شديد و :
– بس بس، متكلمش لغات تاني خالص، إذا كان العربي بتاعك في ذمة الله أمال اللغة هتبقى عاملة إزاي!.
استمع “حمزة” لصوت أبواق في الخارج، فـ ركض نحو الشرفة ونظر للأسفل، لـ يتفاجأ بـ “سُلاف” تترجل عن سيارتها وتترك المفتاح لأحد رجال الأمان قبل أن تدخل، فـ حدق قليلًا وما زال الهاتف على أذنه، ليسخر من “زيدان” قائلًا :
– واضح إنك متابعها كويس، الأستاذة داخله البيت قدام عنيا أهي.. وردية إيه وزفت إيه؟.
انتفض “زيدان” في جلسته، ونظر للسيارة المصفوفة أسفل العقار وبداخلها يجلس “عِبيد”، وصاح بـ عصبية :
– إزاي ده ؟؟.. عليا النعمة العربية والواد اللي سحباه وراها في كل حتة قدامي أهم.
ضحك “حمزة” هازئًا و :
– يعني قفشتك واديتك على قفاك!.. لأ جدع أوي.. أنا جايلك.
وأغلق الهاتف في وجهه بعدما تعبأ داخله بالغضب الشديد، متعجلًا في ارتداء ملابسهِ للخروج من هنا، غير راغبًا في رؤيتها أو حتى الإحتكاك بها، إلى أن قطعت هي خلوتهِ، واقتحمت الغرفة دون سابق إنذار. تجاهل النظر إليها، وتابع ما يقوم به حينما قالت هي :
– انت خارج يا بيبي ولا إيه؟.
لم يجيبها، والتفت ينظر صوبها وهو يسأل :
– الولد فين؟!.. بقاله يومين مش في البيت؟.
كانت هادئة رزينة، وهي تجيبه بـ :
– متشغلش بالك بـ زين هو كويس، أنا بس مش فاضية اليومين دول عشان كده سيباه مع nanny بتاعته.
ضحك ساخرًا وهو يبعد أنظاره عنها و :
– أم علي بقت nanny!.
سحب مفاتيح سيارته وشقّ الطريق نحو الخروج، فـ لم تعترض طريقه وهي تقول بصوت مسموع :
– متتأخرش عليا.
غابت ابتسامتها السمجة عن وجهها، وهي تراه يبرح المنزل كله، واستعانت بهاتفها لإجراء مكالمة تليفونية، باديًا عليها الإرتباك المتعصب:
– انت فين؟.. عايزة أشوفك ضروري.. لأ مش هينفع تتأجل أكتر من كده.
****************************************
كان يتناول الشطيرة بنهمٍ، وهو ينظر من حوله يمينًا ويسارًا، منتظرًا حضور “حمزة” إليه، حتى رآه يصفّ سيارته ويضئ له كشافات السيارة الأمامية، فـ أسرع يعدو إليه حتى استقر بجواره وهو يقول :
– أحلى حاجه في بلدكم الأكل، رغم إنه حراق أوي في الأسعار بس ما علينا.
نفخ “حمزة” منزعجًا و :
– مش قولتلك شكلك جاي رحلة!.
ترك “زيدان” الطعام والتفت في جلسته ليكون مواجهًا له، حينما سأله “حمزة” :
– إيه خلاك تراقبها؟.
– البت دي وراها مصيبة كبيرة، لو عرفناها يبقى قطعنا نص المشوار.
تغضن جبينه وقد شعر ببوادر فشله في التوصل لأي شئ يفيده بأمر المصنع :
– معنى كده إنك ملقيتش حاجه من ورا المصنع اللي عرفتك سكته!.
– ولا الهوا.. حتى ملهوش صاحب معروف.. بس عرفتلك حاجه أنقح (أقوى).. اللي عنده السر كله.
بتلهفٍ سأله :
– مين؟؟.
– أبوك ولا مؤاخذة.
لم يندهش كثيرًا، فـ علاقة الأمر بوالدهِ بينة بوضوح الشمس ولا يمكنه إنكارها، خاصة بعدما حصلت “سُلاف” على المنزل بتلك الطريقة المخيفة. شرد “حمزة” للحظات، وعلق على الفراغ بعيناه وهو يفكر مليًا في الأمر، حتى استطرد “زيدان” :
– أبوك كان يعرف أبو البت دي.. يعني عنده قرار الموضوع.
– عرفت ازاي؟.
– دي شغلتي ياأبو البشوات.. أصل أنا دورت على تاريخ اللي اسمه إسماعيل زيان ده، واللي وصلتله لحد دلوقتي إنه من معارف أبوك الله يكرمه يارب.. يعني الإجابة في حجرنا واحنا مش دارين.
أخرج” زيدان” هاتفه البدائي القديم من جيب بنطاله، ثم هتف بـ :
– ده رقم الواد اللي مراقب الأستاذة، ياكش يكون وصل لحاجه ويبيض وشي.
وأجاب عليه :
– ها عملت إيه؟.. وبعدين.. ينصر دينك يا ولا..
—عودة بالوقت للسابق—
صفّ “عِبيد” سيارته في الجراچ الخاص بالمطعم الضخم، فـ ترجلت منها “سُلاف” ودخلت بإتجاه المدخل الخلفي، ظل مراقبها ينتظر خروجها، لكنها لم تظهر حتى الآن؛ لكنه لمح أمرًا مريبًا جعله يرتاب. سيدة منتقبة متلحفة بالسواد، تتحدث إلى “عِبيد” وتأخذ منه شيئًا، ثم انصرفت نحو إحدى السيارات المصفوفة، وبدأت تستقلها وتتحرك بها. تفهم المراقب على الفور وكشف أمرها، فـ غمغم بـ :
– آه يا بنت الحرام!.. كل ده وانتي بتستهبلينا!.
ولم ينتظر دقيقة واحدة حتى يخرج من خلفها ويتابع مراقبتها بعد أن تبين له كيفية تضليلها لهم طوال اليومين الماضيين…
ظل متربصًا بها باحترافية شديدة، دون إثارة أي شكوك لديها، خاصة وإنهم كانوا أكثر من سيارة، فـ اختلط عليها الأمر ولم تنتبه له. انتظرت “سُلاف” بسيارتها لوقتٍ طويل أمام مُجمع مقاهي شهير بمنطقة راقية هادئة، حتى خرج “راغب” من ذلك المكان وهو ينظر من حولهِ بتوترٍ، فـ ترجلت “سُلاف” عن سيارتها بدون أن تغطي وجهها المكشوف، حينما كان “راغب” يردف بإنفعالٍ متشنج :
– اللي بتعمليه ده غلط يا سُلاف!!.. بقالنا سنين بنحارب عشان منظهرش مع بعض في أي مكان، ودلوقتي بتغامري بكل حاجه عشان خاطر حاجه تافهه زي دي؟؟.
كانت صارمة للغاية، حازمة وجادة وهي تقول :
– أركب يا راغب عشان نعرف نتكلم.
تأفف “راغب” وهو يرفض تسلطها الأرعن ذلك :
– قولتلك مش هينفع هنا، لما تيجي الفرصة هقابلك عند بابا.
فلم تأبه بما قاله و :
– قولتلك أركب ياراغب، أنا مش هتحرك من هنا من غيرك.. كل اللي انت بتعمله إنك بتضيع وقتنا.
– سُـلاف آ….
– يـلا يا راغـب.
اضطر في بالأخير للإنصياع إليها، فهو على دراية تامة بـ ابنة عمهِ وطباعها الغليظة في الإصرار، لذلك ركب معها سيارتها لإنهاء ذلك الجدل الناشب حول علاقته الغير شرعية بـ “يسرا” تحديدًا، والقضاء على بصيلات الأمر قضاء تام.
—عودة للوقت الحالي—
سرد “زيدان” كل ذلك على مسامعه سريعًا، وكأن الدماء قد جرت جريان النهر في عروقهِ، وانتفضت طاقة من الأدرينالين بجسده وهو يقول :
– خليه يقولك هما فين بسرعة.
– ليه؟؟.
بدأ “حمزة” يقود سيارته وهو يقول :
– هنروح لهم، مش بتقول معاها واحد غريب في عربيتها؟؟.. يعني الليلادي أكيد هنوصل لحاجه.
وتحرك بالفعل وفي حشاه شيئًا متيقنًا من إنه سيصل اليوم لأمر قد يغير مسار قضيتهِ معها، وإنه قد يقضي على ذلك الغموض الذي يغلف معالم حياتهم بالكامل منذ ظهور “سُلاف” فيها، لا سيما علمه بشأن والده، الوحيد الذي يملك مفتاح الباب المغلق لـ “سُلاف” والذي بيده تحرير رقبة ولده من ذلك الطوق الذي يكبلهُ.
****************************************
أنهت “يسرا” طعامها وشراب الفواكه الذي تفضله، فـ مسحت على شفتيها وهي تتحدث لصديقتها :
– أنا بفكر أقوم أروح، حاسه إني مش مظبوطة وممكن مقدرش آجي معاكي يا ليلى.
تركت صديقتها كأس الماء وهي تقول :
– ليه حاسه بأيه؟؟.
قبل أن تجيب “يسرا” كان زوجها يقتحم مجلسهم بهدوء، وسحب مقعدًا اعتلاه بجلوسه وهو يهتف بـ هدوء :
– مساء الخير يا يسرا، عايز أتكلم معاكي شوية.
تفاجئت “يسرا” من تواجده هنا، وبحزم كانت تقول :
– نتكلم في إيه؟؟ أنا خلاص قولت كل حاجه يا حاتم.. وبعدين انت مراقبني ولا إيه؟؟.
حمحمت” ليلى” بتحرجٍ وهي تنهض عن الطاولة و :
– طب أنا هروح الـ toilet عقبال ما تخلصوا كلامكم.
وسحبت حقيبتها كي تنصرف من أمامهم، حينما برر “حاتم” تواجده هنا بـ :
– متقلقيش أنا هقولك كلمتين وأمشي.. بس عايز أعرف إيه خلاكي تختفي بالشكل المريب ده؟؟.
بدأ الدوّار الشديد يتمكن من رأسها، وآلام قوية تجتاح رأسها للحد الذي يُصعب تحمله، فـ فركت ناصيتها وهي تهتف بـ :
– أنا مش عايزة أتكلم معاك في حاجه.. آه.
أمسكت حقيبتها بصعوبة، وكادت تنهض لولا تشوش رؤيتها و :
– إيه اللي بيحصلي ده!.
نهض “حاتم” عن مجلسه واصطنع اهتمامه لحالة الإعياء الواضحة التي ظهرت عليها و :
– مالك يا حببتي؟؟.. إنتي كويسة!.
تدخلت إحدى السيدات المتواجدات بسؤاله :
– في حاجه ياأستاذ؟؟.. أقدر اساعدك في حاجه!.
فـ برر “حاتم” موقفه قائلًا :
– لأ شكرًا ، مراتي بس مرهقة شوية.
ساعدها على النهوض لكنها كانت خاملة للغاية، مما استرعى إنتباه أحدهم وتشكك في الوضع، لذلك تدخل قائلًا :
– هو حضرتك تقرب لها!!.
أستعان “حاتم” بصورة زفافهم عبر هاتفه، للتأكيد على صدق علاقتهم ببعضهم البعض :
– دي مراتي.
تحرج الآخر من سؤاله و :
– آسف.. سلامتها ألف سلامة.
أشار “حاتم” للنادل بعدما بدأت “يسرا” تفقد وعيها تمامًا و :
– آ… من فضلك، ممكن تساعدني وتجيب حاجه الهانم.
– أوامرك يا فندم.
ترك “حاتم” مبلغ مالي نظير مديونية المطعم، ثم انحنى ليحملها بين ذراعيه حملًا، وبدأ يخرج بها من هنا نهائيًا حينما رأته “ليلى”، فـ تشوش تفكيرها فيما يجب عليها فعله في هذه اللحظة!.. خاصة وإنها على علم بكل مجريات الأمور الأخيرة بينهم، وذلك ما بعث في نفسها القلق أكثر حول ما يسعى إليه “حاتم”.
***********************************
– اللي عملتيه كان كارثة بكل المقاييس، انتي بتعرضي نفسك للخطر، إحنا خلاص قربنا ننهي جزء كبير من خطتنا يا سُلاف.
– خطتنا مكنش فيها يسرا يا راغب.
– أي حاجه فيها مصلحة لينا مش هتردد إني أعملها.
– بإنـك تـلعب بمشاعر البنت وتحطمها؟؟؟
– مش مصدق مين اللي بيكلم!!.. إنتي اللي بتقولي كده يا سُلاف!.. مش انا اللي كنت معارض جوازك من حمزة وقولتي ساعتها المصلحة تحكم!.. مش انا اللي قولت مش هتدخلي حياة ابن القرشي بالشكل الو×× ده وتشوهي سمعتك وقولتي أهم حاجه نوصل!.
كانت تقود قيادة جنونية وهي على الطريق الهادئ، منخرطة في الحديث معه وكل منهم في أوج اندماجهِ بما يقول :
– انت هتبعد عن يسرا وتنسى الموضوع ده نهائي يا راغب.
– مش هيحصل.
– أنا همنعك بأي طريقة، حتى لو كلفني الأمر إني أكشف نفسي لحمزة وكمان أحطك في خطر، حمزة لو عرف إن صاحبه بيضربه بأخته انت أكتر واحد عارف هيعمل إيه.
لم يصدق “راغب” تهديد “سُلاف” له، ومن أجل من؟، من أجل ابنة العدو اللدود الذي يسعون لإنهائه منذ سنين. انفتحت عيناه عن آخرها، وذُهل من صيغة تهديدها الخطير :
– شكلك مش في وعيك وبدأتي تخرفي.
نفت “سُلاف” ذلك عن نفسها و :
– لأ أنا عاقلة جدًا، ومش هقبل إن البريئة الوحيدة في العيلة القـ ××ة دي تتأذي بأي شكل.
هدر فيها “راغب” بصياحٍ مجنون :
– مين قالك هأذيـها!!.. يسرا هتبقى مراتي يا سُلاف.
– مراتـك وانت مــبتحـبهـاش؟؟.
– مش لازم أحــبـها؛ لكن لازم أكسر مناخـير صلاح وأجيبه راكع لينا كُلنا.
توقفت “سُلاف” بسيارتها جانبًا، على ناصية ذلك الشارع النائي، وترجل كل منهم والحرارة بينهم قد ارتفعت لذروتها :
– أبعد عنها وأنا هجيب صلاح وابنه الأرض، عشان خاطري يا راغب.
حاول التغلب على حالة العصبية التي تمكنت منه، وطوق بيديهِ ذراعيها وهو يقول بهدوء :
– أهدي يا سُلاف، أهدي وخلي عندك ثقة فيا.. لو في حد لازم يتخاف عليه فـ ده انتي.. حمزة تفكيره كله إزاي يهدك وياخد منك ابنه، لدرجة فكر يلبسك قضية زنا.
جحظت عيناها بذهول؛ لكنها سرعان ما استوعبت الأمر ولم تطيل في ذهولها :
– وانا هستغرب ليه!.. ما هو ده حمزة بنجاسته!.. لكن نجوم السما أقرب له.
– بالظبط.. اليوم اللي حمزة هيمسك فيه بسوء هو اليوم اللي هننكشف فيه كلنا.. عشان محدش فينا هيقبل تتعرضي لشكة دبوس منه.. فاهمه.
ومسح على شعرها في الأخير وهو يتابع :
– لازم ناخد تدابيرنا كويس.
لمحت بسهولة تلك السيارة التي تقترب بسرعة مخيفة، وكأن حدسها قد أنبأها إنه هو، هو الذي وصل إليها وتخطى كل تداعيات الأمان التي اتخذتها. انقبض قلبها، وارتجف بين أضلعها وهي تدفع “راغب” لكي يستقل مقعد القائد في السيارة :
– أركب بسرعة، بــســرعة حمزة ورانا.
فـ صاح فيها “راغب” وهو يردعها عن دفعه :
– مش هسيبك لقمة ليه يا سُــلاف، لو قدرنا نتكشف هـ نتكشف.
رفضت “سُلاف” التضحية بكل شئ في لحظة طائشة، ومازالت تدفعه بكل قوتها :
– انت الوحيد اللي مينفعش يتكشف يا راغب.. أرجـوك، أمشي ومتبصش وراك مهما حصـل أرجــوك.
كان قد رآهم بالفعل، ولمح تلك الحميمية المقربة بينهم وهي تدفعه ليستقل السيارة، جنّ جنونه بعدما أحس بـ إن طرف الخيط ينفرط منه گالرمان، إن فقد ذلك الرجل الذي تتهافت “سُلاف” على إصرافه منه هنا. أوقف سيارته فجأة، وأخرج سلاحهِ من (تابلوه) السيارة بعدما سكن التهور كل مداركه، في حين فشل “زيدان” في منعه من اصطحاب السلاح معه :
– استنى بس يا بـاشــا، يا بـاشـا السـلاح يـطول.
– أخـــرس خــالص.. متتــحـركـش ولا تيـجي ورايـا.
ركض “حمزة” ساعيًا الوصول إليهم، ولمّا أيقن إنه سيفقد أثر ذلك الرجل هتف بصياحٍ :
– أســـتنـى عندك لـو راجـل!.
بدأ “راغب” يرضخ لرغبة “سُلاف” وكاد يركب سيارته، فـ أطلق “حمزة” رصاصتين لا يعلم أينما كان مجراهم، في اللحظة التي دفعت فيها “سُلاف” ابن عمها للمغادرة، بعد أن أغلقت المرآة الجانبية لئلا يرى أيًا منهم الآخر :
– بسرعة.. أمشــي يـلا.
رصاصة ثالثة، لم يدري “حمزة” أيهما أصاب بها، بعدما غشيت عيناه تمامًا ولم يعد يرى أي شئ؛ لكنهُ كان متعمدًا إصابة الهدف تمامًا. فلت ذلك اللعين بهروبهِ قائدًا السيارة مجرد سماع صوت السلاح، ولم يكتشف هويته بعد، ليكتشف بعدها إنه أصاب “سُلاف” برصاصته الثالثة التي اخترقت عظامها، لتصدح صرخةٍ منها أعقبها سقوطٍ على الأرض، لم يتوقف عن الركض من خلف السيارة التي تهرع تاركًا “سُلاف” خلفه، وقد انعدمت كل الحلول الطبيعية من رأسه في تلك اللحظة الحاسمة، حتى إنه أطلق رصاصتين على السيارة مبتغيًا بذلك إيقافه؛ لكن “راغب” قد عبر بنفسه وفرّ هاربًا كما أوصته “سُلاف”، وبدون أن يعلم حتى ما الذي يجري في الخلف.
نهج “حمزة” غير قادر على التحكم بأنفاسه الشبه منقطعة، حينها تذكر إنها سقطت أرضًا متأثرة بإحدى رصاصاتهِ، فـ عاد إدراجه وهو يتنفس بصعوبة بالغة، وفمه ممتلئًا بالسباب النابي :
– آه يا ولاد الـ ××××× ده انتوا عصابة!.
ازدرد ريقه وهو يركض نحوها، كانت مرتمية على الأرض فاقدة الوعي تمامًا، حتى لم تستجيب بأي استجابة لندائه :
– سُــلاف!.
انحنى عليها وهي منبطحة أرضًا على بطنها، ترك سلاحه جانبًا ورفعها قليلًا عن الأرض، فـ غرقت يداه بالدماء الدافئة التي استشعر سيلانها منها :
– سُــلاف ؟؟؟
أدار جسدها لتكون في مواجهتهِ، فـ طالهُ سهم الغدر الأخير منها، وتفاجأ بطعنة السكين تُصيب بطنهِ إصابة قاتلة بدون تردد. فتحت عيناها بغتة، والتقطت أنفاسها بصعوبة شديدة في محاولة بائسة للنطق بكلمة واحدة، وهي ترى عيناه الجاحظتين تنظران إليها في ذهول :
– قـ… قولتلك، أنا مش.. بـ سيب حـقي يا.. ابن القـ.. آ آ ـرشي.
وسحبت السكين من بطنه بعدما تخدرت كل حواسه، خفق قلبهِ وارتجفت جفونهِ، سدد كل منهم نظرة أخيرة للآخر، قبل أن تسقط السكين من يد “سُلاف” وتستسلم استسلامًا أخيرًا. وقعت من بين ذراعيهِ المرتجفين على الأرض، ومازالت صدمتهِ غالبة على شعور الوجع المميت الذي يحسه والدماء تنهمر من بطنهِ، تشوشت أنظارهِ، وتسربت من جسدهِ برودةٍ متعرقة وهو يفقد توازنه بالكامل، ليسقط بالكامل جوارها وعيناه مازالت تلتقط مشاهد أخيرة لرميتها المجاورة له، قبل أن تُطبق جفونه تمامًا هو الآخر، لكي يغيبوا معًا عن الواقع و………….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى