روايات

رواية لولا التتيم الفصل الأول 1 بقلم ناهد خالد

رواية لولا التتيم الفصل الأول 1 بقلم ناهد خالد

رواية لولا التتيم الجزء الأول

رواية لولا التتيم البارت الأول

رواية لولا التتيم الحلقة الأولى

رفعت إناء الحساء الساخن من فوق النار دون أن تنتبه لامتلائه وهذا لشرود عقلها في تلك الضيفة الغير محببة تمامًا لقلبها والتي أتت اليوم, فكل تفكيرها ينحسر في شيء واحد وهو ردة فعل زوجها حين يراها بعد غياب ثلاث سنوات, وطريقة التعامل بينهما, شهقت بفزع حين لمس الحساء الساخن جلد كفها حين مال الإناء منها قليلاً دون أن تنتبه… وضعته سريعًا فوق الرخامة الطويلة وركضت لصنوبر الماء تفتحه لتضع كفها أسفله كي تحميهِ من أي حرق قد يصيبه فيكفي ما سيصيب قلبها في الأيام المقبلة والتي ستستمر لثلاث وهي مدة بقاء تلك الضيفة هنا.. عادت بذاكرتها لذلك اليوم الذي تقدم فيهِ “يوسف” لخطبتها… هي “صفية” مجرد فتاة رأتها والدته بمحض الصدفة وأعجبتها لتتقصص عنها وتعلم أنها تسكن على بعد شارعين منهم بل وولدها صديق لشقيق الفتاة وحينها حدثت “يوسف” في أمرها ورغم رفضه في البداية إلا أنه مع إصرار والدته وضياع فرصته مع من اختارها قلبه وافق وتقدم لخطبتها, ورغم اعتراض والدي “صفية” لفرق العمر بينهما والذي يصل ثمانِ سنوات ولصغر سن “صفية” حينها فلم تكن قد بلغت التاسعة عشر بعد, ولكن أمام موافقتها وإصرارها اضطروا للرضوخ لرغبتها, كانت حينها لا تسعها الفرحة, لا تصدق أن من تمنته منذُ كانت بعمر الخامسة عشر تقدم حقًا لخطبتها.. دومًا كانت تراه حلمًا بعيد

 

المنال فهي كانت تراه مرات معدودة حين يأتِ لشقيقها “علي” فكان من نفس عمره وأصدقاء دراسة, ورغم هذا لم يرتاد أيًا منهما بيت الآخر إلا قليلاً, ولكنها كانت مرات كافية لتلك المراهقة أن تقع بغرام الأخير… ولكن كانت ضربتها الأولى التي أصابت قلبها حين جلس معها “يوسف” لأول مرة حين تقدم لها وحينها صارحها بكل جدية ناويًا وضع النقاط فوق الأحرف:
– أنا عارف إن الوضع غريب وفجأة من مجرد صاحب لأخوكِ الكبير لواحد متقدم عشان يخطبك, وعارف كمان إنك لسه صغيرة على الجواز عمومًا, بس دي حاجات واضحة قدامك ومش محتاج إني أفكرك بيها, واعتقد إنها لو كانت فارقة معاكِ مكنش زماني قاعد هنا وبطلب ايدك, لإن علي بلغني إن في موافقة مبدأيه منكوا.
فركت كفيها بتوتر بالغ وهي تخفض رأسها خجلاً وقلقًا من أن يكتشف مخزون المشاعر الذي لديها تجاهه, فأكمل هو بنفس الجدية:
– لكن يحقلك تعرفي حاجة لو أنا مقولتهاش عمرك ما هتعرفيها, بس أنا مش حابب أخدعك, أو أجبرك على وضع معين, من حقك تعرفي ووقتها يكون ليكِ حرية الاختيار.
وهنا رفعت رأسها بقلق بدأ يغزوها لتنظر لعيناه لأول مرة بحياتها فسحرتها تلك الزرقة القاتمة بهما, لكنها حاولت توجيه انتباها لحديثه حين أكمل:
– أنا كان ليَّ علاقة سابقة..

 

كانت على علم بهذا سابقًا فقد استمعت ذات مرة لحديث شقيقها معه عبر الهاتف وهو يخبره أن ينسى هذا الحب الذي لا يجلب له سوى المتاعب, فقاطعته بصوتٍ خافتٍ:
– عادي.. قصدي يعني ده وارد, يعني وارد تكون حبيت قبل كده ومحصلش نصيب.
هز رأسه وهو يقول:
– ايوه بس الي عاوز اقولهولك إن… يعني أنتِ أكيد فاهمه إن الحب مش بإيدنا ومحدش يقدر يتحكم في قلبه يحب مين ويكره مين صح؟
قطبت حاجبيها بضيق فما له يحدثها وكأنها طفلة لا تفقه في الحب شيئًا؟ ربما هي بالفعل لم تخوض تجربة كهذه ولكنها تقرأ عنه كثيرًا, وشعورها تجاهه رسخ في ذهنها ما تقرأه:
– ايوه فاهمه, ليه حساك بتكلم طفلة؟
مسد بكفه على مؤخرة عنقه بحرج من ردها, فهتف موضحًا:
– مش قصدي, بس أصل الموضوع معقد شوية.. الحكاية مش إني كنت بحب واحدة ومحصلش نصيب.. المشكلة إني تقريبًا

 

بحبها من ساعة ما عرفت يعني ايه حب, بحبها بقالي 10 سنين, وللأسف مش عارف اتخلص من حبها رغم إنها اتخطبت وهتتجوز كمان شهر, أنا كان ممكن مقولكيش بس حسيت إني هبقى بخدعك.. أنا آسف لو كنت صدمتك بكلامي, بس ليكِ كل الحق إنك ترفضيني بعد الي قولته.
تحاملت على ألم قلبها وتلك النبضات القاسية التي شذت عن نبضاتها الطبيعية, وافتر ثغرها عن ابتسامة ساخرة تسأله:
– وأنتَ جيت بقى تقولي عشان ارفض ويبقى الرفض من عندي أنا مش كده؟
أجابها بصدق:
– لأ, أنا بقولك عشان اخلص ضميري, بس مش عشان ترفضي أنا لو ده الي في دماغي مكنتش جيت أصلاً محدش هيجبرني اعمل حاجة مش عاوزها.
– وأنتَ عاوزني؟
رددتها بتساؤل متلهف وقد بدأت الدموع تغزو عينيها والتي لم تستطع كبحها أكثر حين أجابها بتنهيدة:
– والدتي شيفاكِ مناسبة… وأنا كمان شايفك كده, يعني أنا اعرف عيلتك كويس وواثق في أخلاقك واحترامك.. فليه لأ؟
مجرد مناسبة؟ هل هذا كل ما في الأمر.. بعدها لم تستطع البقاء أمامه أكثر فانتفضت واقفة وركضت لغرفتها دون حديث آخر… وحينها ظن هو أنها أعطته الإجابة ألا وهي الرفض لكنه صُدم حين أخبره شقيقها بعد عدة أيام أنها قد وافقت على طلبه.. وعنها فقد قضت تلك الأيام في نزاع بين رأي عقلها وما يريده عقلها, كانت تعلم أنها تخوض حربًا ستهلكها وتستنزف

 

طاقتها ونفسيتها لكنها خاضتها فكيف لها أن تلومه الآن؟
انتبهت على رنين جرس الباب فأغلقت صنوبر الماء وأخذت منشفة تضعها على كفها وهي تتجه للخارج لترى الطارق..
فتحت الباب لتتسمر محلها وهي تراها.. “شيرين” ابنة خالة “يوسف” تلك الفتاة التي مازالت تسيطر على قلب زوجها, رغم أنه لم يخبرها صراحةً بهوية الفتاة كي لا تكن لها الضغينة, لكن “شيرين” نفسها من فعلت يوم زفاف الأولى وهي تخبرها بكل برود أنها لن تستطيع جعله ينسها, حينها تحدتها ودافعت عن حقها بهِ تخبرها أنه لن يتذكر فتاة تدعى “شيرين” من الأساس, ولكن هل تعترف الآن بفشلها وهزيمتها؟ طالعتها بصمت وهي ترى تغيرها قليلاً فيبدو أن سفرها مع زوجها لتركيا قد أجدى ثماره فها هي ثيابها بدت أكثر تناسقًا وأناقة حتى شعرها أصبح أطول من ذي قبل حتى كاد يصل لنهاية ظهرها بلونه البني الفاتح, وعيناها البنية التي أحاطتها بكحل أسود جعلها أكثر جرأة تطالعها بتفحص هي الأخرى, لن تنكر أنها تمتلك جملاً يكفي لجذب عيون الرجال لها خاصًة بثيابها التي تلائم جسدها تمامًا وتكشف القليل من ساقيها وذراعيها, فتبدو كفتنة تجذب الرجال لها حتى وإن كان قديسًا.
“صفية” تمتلك عيبًا خطيرًا في شخصيتها ألا وهو انعدام الثقة بالنفس حتى تكاد ترى أي شخص بالعالم أجمل منها.
غلت مراجل الغيرة بقلب “شيرين” وهي ترى الثياب التي ترتديها “صفية” هل ما زالت ترتدي مثل هذه الثياب؟ لقد ظنت أنها سترى امرأة أنهكها المنزل وأعماله ترتدي ثياب تفوح منها رائحة طهي الطعام وتعقد عصبة فوق رأسها تبين إرهاقها وتركض هنا وهناك خلف طفلها.. لكن العكس تمامًا ما رأته.. ترتدي قميصًا ورديًا أنيقًا يعلوه روبًا طويلاً تغلقه بإحكام ومن الواضح أنها ارتدته فقط لتفتح الباب, وشعرها مرتب بعناية ورغم قصره إلا أنه يليق بها كثيرًا فبالكاد يتعدى أذنيها, وهناك رائحة جميلة

 

تنبعث من الداخل لا تعلم هل هي رائحتها الخاصة أم رائحة المنزل عمومًا, ورغم عدم وضعها لأي مستحضرات تجميل إلا أنها بدت جميلة بشكل زاد من إشعال النيران بداخلها.
– ازيك يا صفية؟
ردت “صفية” باختناق كفيل أن يصيبها بمجرد رؤية غريمتها:
– بخير, ازيك أنتِ؟
– هتسبيني على الباب؟
تنحت بضيق وهي تردد:
– اتفضلي.
دلفت للداخل بخطوات بطيئة تتفحص المنزل المرتب بشكل مريح للنفس, جلست على أحد الكراسي وهي تقول:
– ايه ده شكل يوسف مش هنا, أنا فكرته هنا وأنتِ مقولتيش له إني تحت فقولت أطلع أنا اسلم عليه.
ضغطت على أعصابها وهي تتجه للكراسي المقابل لها وجلست وهي تقول:
– ومش هقوله ليه, هو بس لسه مجاش؟
التمعت عيناها بغضبٍ مستترٍ وهي تقول:
– تعرفي إني كان زماني مكانك, لولا بس غبائي وتسرعي, يوسف كان عنده استعداد يخلص الخلاف الي كان بينا, بس أنا

 

الي استعجلت ووافقت على جوزي.. يلا نصيب.
وهل بعد كل ما قالته تنهيهِ بكلمة “نصيب”؟ زفرت أنفاسها الحارقة وهي تحدقها بشر:
– ومادام عارفة إنه نصيب بتلكي في الي فات ليه؟
تجاهلت حديثها وهي تهتف بينما توقفت عيناها على صورة يوسف المعلقة على الحائط وهو يحتضن زوجته وطفله:
– تعرفي إن يوسف كان بيحبني أوي, وكان بيعمل ايه حاجة عشان بس يسعدني, ومكنش بيبطل يعترفلي بحبه ده.
ضغطت بكفها على يد الكرسي تحاول عبثًا التحكم في أعصابها قبل أن تقول بنبرة حاولت جعلها عادية:
_ ومين قالك إني معرفش إن جوزي كان بيحبك!، انا عارفه وأنتِ مصدمتنيش لما قولتيلي يوم الفرح زي ما توقعتِ عشان هو قايلي من اول ما جه يتقدملي.
وللمرة الثانيه تتجاهل حديثها وهي تكمل بمغزى:
_ وياترى تعرفي انه لسه بيحبني ؟
ابتسمت لها باقتضاب وهي تضغط على نفسها كي تتحكم بأعصابها وقالت :
_ ليه هو قالك انه لسه بيحبك؟!، اصل طول الوقت بيقولي انه بيحبني ولو كان بيحبك مكنش قالها لي.
ابتسمت لها بسخرية تسألها :
_ وأنتِ مصدقاه؟!

 

جلست تضع قدم فوق الآخرى وهي تردد بسخرية :
_ جوزي وابو ابني.. مصدقوش ليه!.
طالعتها بأعين واثقة قائلة:
_ بصي يا صفية.. من غير دليل أنا وأنتِ عارفين كويس اوي إن يوسف لسه بيحبني ومحدش دخل قلبه غيري.. وأنا متأكده إنك واثقة من ده… يلا همشي انا باي يا حبي.
انهت حديثها خارجة من الشقة بأكملها دون كلمة اخرى..
ضغطت على شفتيها بقوة تمنع عبارتها المتجمعة في عينيها من السقوط.. وبكل أسف حديث غريمتها صحيح.. وبنفس الأسف حديثها هي مجرد كذب.. منذ متى وقد اخبرها يوسف بحبه لها!؟، متى حدث هذا سوى في أحلامها!… حتى كذبتها لم تكون قوية أمام غريمتها التي انهت الحديث بانتصارها.
” لقد ارهقني حبك يا يوسف!”.. جملة تتردد في عقلها بعد كل موقف يذكرها بأنها ليست مالكة قلبه.. وبالفعل لقد ارهقه حبها حتى أصبح ينال منها الكثير… ولا تعلم لمتى ستتحمل!.
—————————-
مرر كفه على وجنتها بحب وهو يتأملها أثناء نومها منذ وقت مضى ولم يمل, ولن يفعل, فمعها هي بالأخص يمر يومه وكأنه ساعة, ارتسمت ابتسامة فوق ثغره حين تنهدت أثناء نومها تحرك رأسها للجهة الأخرى وابتعدت بجسدها عن كفه الذي بدى يزعجها, اقترب بجسده من جسدها مرة أخرى كي يستطع ملامسة وجهها, ولكنه استعاض بشفتيهِ عن كفه فأخذ يقبل وجهها قبلات متفرقة حتى استمع لزفرة حانقة خرجت منها وتبعها غمغمتها بضيق:

 

– بس يا بدر بقى عاوزه انام.
توقف عما يفعله ليهتف بمرح:
– أنتِ تاخدي جايزة نوبل في النوم.. تعرفي إنك نايمة بقالك 10 ساعات.
فتحت عيناها الزيتونية وهي تضيقها لانزعاجها من الضوء وهمست بحنق:
– بتعدهم عليَّ يا بدر!؟
اقترب بوجهه منها مرةً أخرى وهو يسير بأنفه على وجنتها بعبث قائلاً:
– طبعًا مش بياخدك مني, أنا حاسس إن النوم ده ضرتي.
ابتسمت مرغمة على حديثة, ورفعت ذراعيها تحيط جسده وهي تغمغم بدلال:
– بص يا حبيبي أنا بحبك آه, بس بحب النوم أكتر منك بصراحة.
تفاجأت بهِ يدفن وجهه في عنقها وهو يجيبها بهمس:
– مش مهم, المهم إنك بتحبيني.
وقعت عيناها على ساعة الحائط المقابلة لها لتهتف باستغراب:
– أنتَ مش رايح الشغل؟
أراح جسده على جسدها ولم يتحرك من موضعه السابق فخرج صوته خافتًا وهو يردد:
– لسه بدري.

 

قطبت حاجبيها مستغربة:
– حبيبي الساعة 9 بدري ايه؟
وفي اللحظة التالية كانت تصرخ فزِعة حين انتفض مبتعدًا وهو يبرطم بسأم:
– ادي الي بيجيلي منك, عندي اجتماع مهم هيروح عليَّ يخربيت معرفتك.
طالعته بفاهٍ فاغرٍ وهو يخرج ثيابه بسرعة من الخزانة ويركض هنا وهناك ليجهز أوراقه, فلم تستطع منع لسانها من التمرد وهي تقول:
– وأنا مالي! حد قالك تقعد تتأملني وأنا نايمة وتعدي ميعاد شغلك؟
التقط المنشفة ليدلف للحمام وهو يجيبها بنزقٍ:
– أنا صاحي 7 متخيلتش إن عدى ساعتين.
نفضت خصلاتها البنية للخلف وهي تردد بزهوٍ مغرورٍ:
– مش ذنبي إن الوقت معايا بيعدي بسرعة, بس ليك حق يعني متحسش بالوقت وأنتَ بتتأمل جمالي.
– طب اتلمي عشان مش طايقك دلوقتِ.

 

رددها وهو يغلق باب الحمام بقوة أثارت ضحكاتها, فهذه ليست المرة الأولى لهذا السناريو البائس لتأخره عن عمله بسببها وهو لا يتعظ.. نهضت تعدل قميص نومها قبل أن تتجه لأغراضه لترتبها بعناية لحين خروجه من الحمام, ضحكت بخفوت وهي تراهن على عبثه بعد أن يخرج وتضييعه للوقت معها, فمن يراه وهو متعجلاً ما إن يدرك الوقت لا يراه بعد أن يخرج من الحمام ويراها ترتب أشياءه وكأنه ينسى كل شيء مرةً أخرى..
شعرت بهِ يقترب منها ليحيطها بذراعه من الخلف مستندًا بذقنه على كتفها يردد:
– ايه الغزال الي بيجهزلي حاجتي ده؟
هزت رأسها بيأسٍ منهُ:
– مفيش فايدة فيك, يا حبيبي أنتَ متأخر!
تجاهل حديثها وهو ينظر لِمَ ترتديه وردد بدهشة مصطنعة أثارت ضحكتها:
– ايه القميص الأزرق الجاحد ده! أزرق؟ متيجي اتأكد هو أزرق فعلاً ولا كحلي.
لكزته بذراعها في صدره تبعده عنها لتستدير له وهي تردد بضحك:
– بطل قلة أدب بقى على أساس إنك كنت نايم بره البيت امبارح! أول مره تشوفه! .. يلا عشان لو اترفدت من شغلك مش هيبقى ليَّ ذنب.
وضعت بذلته الرمادية فوق الفراش تجاورها ساعته وأوراقه التي أعدها من الأمس وهاتفه ومفاتيح سيارته فهي خير من يعلم “بدر” فإن لم تضع له الأشياء متجاورة سينسى نصف اغراضه ويذهب.
تركته مترجلة للأسفل كي تعد له الإفطار فالخادمة لا تأتي إلا بعد العاشرة كما طلبت هي منها, لا تحبذ أن تأتي و”بدر” في المنزل فحددت موعد عملها من العاشرة صباحًا للخامسة عصرًا تنهي فيهِ جميع أعمالها قبل أن تذهب ويأتِ زوجها في تمام السابعة مساءً.

 

هبط الدرج وهو يعدل من رابطة عنقه فرأها وهي تخرج من المطبخ تضع عدة أطباق على طاولة الطعام القريبة ليقترب منها مقبلاً وجنتها وهو يقول بامتنان:
– تسلم ايدك يا غزالة قلبي.
ابتسمت له بحبٍ مرددة:
– تسلملي يا حبيبي يلا افطر عشان تلحق شغلك.
جلسا لتناول الإفطار سويًا لتهتف هي بعد دقيقة تقريبًا:
– صحيح يا بدر أنا هخرج النهاردة مع نانسي.
امتعضت ملامحه وتوقف عن مضغ الطعام وهو يستمع لاسم صديقتها التي لا يحب علاقتها بها أبدًا لكنها لا تستمع له وتبتعد عنها:
– نانسي آه… رايحين فين؟
رفعت كتفيها بجهل:
– عادي.. زهقانه فكلمتها ننزل, ممكن نعمل شوبينج, ممكن نروح النادي.. لسه مش محددين.
صمت لثواني ثم قال بتفكير:
– يعني أنتِ نازله معاها عشان زهقانة.
اومأت برأسها وهي تضع قطعة من الجبن الرومي على قطعة خبز وتضعها بفمه حين لاحظت توقفه عن تناول الطعام, مضغ ما في فمه وهو يفكر في شيئًا ما وما إن انتهى حتى هتف لها بابتسامة بسيطة مقترحًا:

 

– ايه رأيك مادام زهقانة ارجع بدري النهاردة ونتغدى بره سوا, وممكن ندخل سينما كمان.
التفت له سريعًا وعيناها متسعة بحماسٍ ورددت بعدم تصديق:
– هندخل سينما! يعني هندخل الفيلم الأجنبي الجديد الي قولتلك عليه؟
رفع حاجبه بتلاعب قائلاً:
– أنا قلت ممكن.
– بدر!
رددتها بتحذيرٍ وهي تطالعه بجدية, فاتسعت ابتسامته يقول باستسلام:
– خلاص يا ستي هندخل الفيلم الي نفسك فيه… معرفش ايه سر غرامك بالسينما بس ماشي.
نهضت من مكانها تعانقه بذراعيها وهي تقبل وجنته مرددة بسعادة:
– روح قلبي أنتَ.
بادلها عناقها مبتسمًا بحبٍ, وما إن جلست حتى سمعته يقول:
– مفيش داعي بقى لخروجك مع نانسي, كلميها واعتذريلها.
اختفت الابتسامة من فوق وجهها وتركت الطعام من يدها وهي توجه نظراتها المتهمة له بينما رددت باستخفاف:
– نانسي! قولتلي.

 

نظر لها عاقدًا حاجبيهِ من تغيرها المفاجئ وهو يلتقط كوب الشاي:
– في ايه؟
ضغطت على أسنانها بغيظ حارق وهي تحدثه بملامح جامدة غير مبشرة بالآتي:
– بقى أنتَ هتخرجني عشان مخرجش مع نانسي مش عشان حابب تخرج معايا مش كده.. أنتَ امتى هتفهم إن نانسي صاحبتي ومش من حقك تحجم علاقتي بيها زي ما أنا مبتدخلش في علاقتك بناصر صاحبك رغم إني مبطقوش بس عمري ما ممنعتك تروح معاه مكان ولا قولتلك تقطع علاقتك بيه زي ما أنتَ بتعمل معايا.
وضع كوب الشاي الساخن فوق الطاولة بقوة مصدرًا صوتًا بهِ قبل أن يهتف بعصبية:
– مهو مش كل ما سيرة صاحبتك تيجي تنتهي بمشكلة.. ثم إن ناصر مش صاحبي بس ده جاري ومتربين سوا.. بعدين افتكر إني بطلت اقولك ابعدي عنها.
عقبت على حديثه بعصبية هي الأخرى:
– بس مبطلتش تبين اعتراضك على وجودها في حياتي زي دلوقتي كده.
زفر بقوة وهو ينهض ملتقطًا مفاتيحه وهاتفه:
– أنا همشي قبل ما الخناقة تقوم, وزي ما قولتلك اعتذريلها عن الخروج عشان مش موافق وإن كان على الزهق فأنا هخرجك.
أنهى حديثه وخرج تاركًا إياها جالسة مكانها تستشيط من الغيظ, ظلت لقليل من الوقت تحاول تمالك أعصابها وتفكر فيما حدث

 

منذ قليل, فلم تشعر بذاتها إلا وهي ترفع هاتفها لتحدث صديقتها مؤكدة على موعدهما سويًا… وما إن انتهت حتى القت الهاتف فوق الطاولة وهي تردد بغضبٍ:
– عِند بعِند بقى.. عشان تبطل تتحكم في حياتي.
“ولم تنجح علاقة كان العِند طرفًا فيها”
————————————–
في اللحظة التي تدرك فيها أنك خسرت تكن هذه أصعب لحظات حياتك, ينتهي عندها الأمل ويتسرب إليك اليأس, يُوصم القلب بالحزن, وتتلون العينان بالحسرة على ما آلت إليهِ الأمور… وضع آخر حقيبة في سيارته من الخلف وأغلق بابها ثم نظر للواقفة أمامه وردد بنبرة متألمة:
– متأكدة إنك مش ناسية حاجة؟
ابتلعت ريقها وهي تشيح بعينيها الدامعة بعيًدا عنه:
– لأ.
هز رأسه باختناق قبل أن يدور حول السيارة يستقل مقعدة خلف السائق, واستقلت هي المقعد المجاور له, تحرك بسيارته ولم ينطق أحدهم بحرف واحد حتى وصل لمنزلها وما كادت أن تترجل حتى شعرت بكفه يمسك ذراعها, سرت قشعريرة غريبة بجسدها جراء لمسته فأغمضت عيناها تتحكم في مشاعرها التي ما زالت تخونها وتذهب له, ونظرت تجاهه لتجده ينظر

 

أمامه وكأنه لا يمسك ذراعها! كادت أن تخبره أن يتركها لكنها وجدته يتحدث بصوتٍ مختنقٍ:
– أنا مش هطلقك يا ريهام.
قطبت حاجبيها بدهشة وعدم فهم, فقد وافق على طلبها قبل أن يخبرها أن تنهض لتجمع أغراضها ليصلها لمنزل والدتها!
– بس أنتَ وافقت!!
نظر لها هذه المرة وهو يردد بتوضيحٍ:
– وافقت على البعد, مش على الطلاق… احنا فعلاً محتاجين نبعد, أنتِ بالذات محتاجة فرصة تحددي فيها موقفك, ويمكن البعد يخليكِ تتقبليني شوية ونفورك مني يقل, يمكن تكتشفي إنك لسه بتحبيني.. يمكن تقدري تغفري, ولو محصلش وقتها…
صمت ولم يستطع تخيل أن يصل بهما الأمر في النهاية إلى الطلاق, فترك جملته معلقة وأنهى حديثه زافرًا بألم:
– وقتها نبقى نشوف.
نظر لعيناها لثواني بصمتٍ مطبقٍ حتى أشاحت هي بنظرها توترًا من تسلط عيناه عليها, لكنها صُدمت حين شعرت بهِ يقترب حتى طبع قبلة مطولة على جبهتها من الجانب قبل أن يبتعد دون حديث مترجلاً من السيارة ليخرج حقائبها..
فرت دمعة من عيناها وهي تستشعر أن قبلته هذه هي قبلة الوداع لعلاقتهما, تتخبط هي بين مشاعرها فأحيانًا تكن نافرة من علاقتها معه غير متقبلة الاستمرار في زواجها منهُ, وأحيانًا تشعر أن مشاعرها القديمة تراودها, تلك التي كانت تذوب عشقًا بهِ.
أنتهى من وضع حقائبها بداخل شقتها وما إن قرر الذهاب حتى استمع لوالدتها تنادي باسمه فوقف أمامها بصمت ومازال لا

 

يستطيع التعامل معها خزيًا مما فعله سابقًا سواء بحق “ريهام” أو شقيقتها.
– أنتَ عارف موقفي منك, وإني لسه مش متقبلاك جوز لبنتي بعد الي عملته, بس برضو هي بنتي وكنت بتمنى إنها تكمل معاك وتكون سعيدة في حياتها… لو تحب بنتي بجد مش هتيأس إنك تعرف تصلح الي بينكوا… واعتبره تكفير عن ذنبك زمان.
رغم أن نصف حديثها ذم بهِ إلا أنه ابتسم لها بامتنان لرغبتها في عودة علاقته ب”ريهام” وأن تستمر علاقتهما, وبشكل ما بعثت له بصيص أمل يحتاجه بشدة الآن.
——————————
استمعت لصوت فتح باب الشقة تلاها صراخ صغيرها مرحبًا بأبيه, فخرجت من الغرفة تستقبله بابتسامة واسعة كأنها لم تكن تبكي منذُ ساعات, اقتربت منهُ تردد بهدوء:
– حمداً لله على السلامة يا يوسف.
أنزل صغيره الذي يُعد نسخة منهُ في جميع ملامحه واقترب منها يسألها بقلقٍ:
– مالك يا صفية في ايه؟
أردفت بكذب:
– مفيش, مالي؟
طالعها بعدم تصديق وهو يقول:
– أول مرة متجريش عليَّ تحضنيني وأول مرة تقوليلي يوسف! مبتقوليهاش إلا لو متخانقين أو زعلانة مني أو تعبانة!

 

أدركت خطأها فيبدو أن حديثها مع تلك الفتاة قد وضع حاجزًا خفيًا بداخلها رغم أنها لم تقل شيئًا جديدًا هي فقط أحيت حقائق مُره في نفس صاحبتنا, اقتربت تعانقه بحبٍ وهي تخرص أي صوتٍ أخر يصدح بداخلها ورددت بهدوء:
– سوري يا جو بس أنا فعلاً حاسة إني تعبانة شوية النهاردة.
ابتعد عنها قليلاً يسألها بقلق طاف عيناه:
– مالك يا صفصف تعبانة في ايه؟
هزت رأسها له تطمأنه:
– مفيش يا حبيبي أنتَ عارف القولون بيتعبني كتير وشادد عليَّ النهاردة زيادة.
– طب خدتي الدوا؟
أومأت إيجابًا وقالت:
– متشغلش بالك هبقى كويسة.
ألقى نظرة خاطفة على طفله الذي ذهب لركنه الخاص بالألعاب, وعاد ينظر لها مقتربًا المسافة الفاصلة بينهما ليحتضن وجهها بكفيهِ مرددًا بمرح طفيف:
– يا سلام لو مكنتش هشغل بالي بيكِ هشغل بالي بمين بقى؟ بعدين ده أنا حتى كنت لسه هأكد عليكِ تنيمي يونس بدري النهاردة.
تخضبت وجنتيها بالحمرة خجلاً وهي تبتعد عنه قليلاً:
– روح غير هدومك وخد شاور على ما أحط الأكل.

 

أنهت حديثها مبتعدة من أمامه فافتر ثغره عن ابتسامة متعجبة من حالها, لا يعلم إلى متى ستظل تتعامل معه بخجل وكأنهما تزوجا بالأمس القريب.. رغم مرور خمس سنوات وشهران على زواجهما, لكن الحقيقة أن خجلها هذا يزيد رغبته في التودد إليها والتقرب منها أكثر.
منذ وضعت الطعام وهي تراقبه بطرف عيناها لا تدري أي توقيت مناسب لبدأ الحديث, لكنها قررت التحدث أخيرًا حين قارب على الانتهاء من طعامه, هدأت نبضاتها المتسارعة وأنفاسها الثقيلة قبل أن تهتف بابتسامة جاهدت لصنعها:
– صحيح يا يوسف نسيت أقولك, تخيل مين جه النهاردة؟
سألها باستفهام وهو يكمل طعامه:
– جه فين؟
– هنا, عند والدتك بالأدق.
رماها بنظرة سريعة وهو يسألها:
– حد مهم؟
أجابته بداخلها “رد فعلك الي هيحدد إن كان مهم ولا لأ”
نطق لسانها تقول:
– يعني.. بس هو حد غايب بقاله كتير.

 

– قولي على طول مبحبش التشويق ده.
سلطت نظراتها عليهِ تراقبه باهتمام بالغ كأنها ستدلف لعقله, وقالت ببطء مميت لقلبها وهي تنتظر ردة فعله:
– شيرين بنت خالتك.
توقفت ملعقة الطعام التي كانت ممتلئة بالحساء وكاد يرفعها لفمه, ولكن ما إن سمع ما نطقت بهِ زوجته حتى تصلب جسده لثانية واحدة قبل أن تهتز يده لينسكب ما بها من حساءٍ فوق الطاولة.. كل هذا وعيناها تراقبه كما يراقب الصقر فريسته..!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لولا التتيم)

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى