روايات

رواية غوثهم الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثاني والثلاثون

رواية غوثهم البارت الثاني والثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثانية والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني والثلاثون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_________________
مِن بينَ خوفٍ وذلةٍ وخشوعٍ..
خفقَ القلبُ خفقةَ الحيرانِ…
سبح الكون كلهُ…سبح الكون كلهُ في خضوعٍ
إذ تجلت مهابة الرحمنِ…أبدي يُدبر الأمر
أبديٌ يُدبر الأمر فرضًا…سرمدي الجلال والسلطانِ
_”النقشبندي”
_______________________________
أين نجد الإنتصار ونحن نتلقىٰ الهزائم من أحبتنا.
وأين السُبل لمن ضل الطُرقِ وأين هي راحتنا..
أين خفقة القلب الملتاعِ بعدما غدا حيرانًا وأين نَفلُ من حيرتنا ؟؟ فـضجيج الرأس يشبه مدينة تكدست بالسكان بعدما كانت بالصفاء معروفة، ففل منها الصفاء وراحت عنا مُتعتنا…
أين الزمان وأين القلب الصافي لنا، أم أننا خسرنا الصفاء ورافقنا الهم في كل لحظاتنا…ضِعنا وضاعت الـسُبل لكننا مادام حيينا حتمًا…ستتلاقى أرواحنا وتهتف ألسنتنا أننا هُنا تواجدنا.
<“من لا يحب فرحتنا…لا نراه بِراحتنا”>
_”أيوب” !! مشوفتش “يوسف” فين ؟؟.
كان هذا قول “عُـدي” يستفسر عن مكان أخيه فحرك رأسه نفيًا ليتحرك “عُـدي” نحو الأسفل وهو يركض بحثًا عن أخيه لكنه لم يجده، بل وجد شابًا يكبره بعدة أعوامٍ يقترب منه بسكينٍ وبدت عليه الثمالة وهو يترنح بجسده فوقف “عُـدي” بثباتٍ أمامه ينتظر القادم حتى أوشك “سعد” على الاقتراب منه وقد نجح في هذا لكي يطعنه بالسكين قاصدًا إفساد فرحتهم، لم يتخيل “عُدي” أنه يفعلها أو حتى ينجح في الاقتراب منه ولو إنشًا واحدًا، وقبل أن يقوم “سعد” بطعنه في بطنه ضربه “عُدي” بذراعه وهنا جرحه بالسكين حينما رفع يده محاولًا طعن “عُـدي” الذي تفادى الضربة برمفقه.
نزف دمه وتأوه بأنينٍ مكتومٍ بينما “سعد” رفع صوته بدون وعيٍ ينادي على “يوسف” بصوتٍ ثَمِل ورافق مناداته قوله:
_يا “يوسف” !! لو راجل انزلي، تعالى وريني نفسك.
تحامل “عُـدي” على ألمه وكاد أن يقترب منه فوجد “إيهاب” يأتِ من حيث لايدري ثم مد كفه ونطق بنبرةٍ غَلِظة:
_عنك أنتَ، سيبهولي.
نظر له “عُدي” بحيرةٍ فوجد “إيهاب” يرمي سيجارته أرضًا ثم اقترب من “سعد” الذي أبتسم باستهتارٍ يُقلل من شأن الواقف أمامه وهو يقول بنبرةٍ عالية:
_أنتَ هتخوفني ؟؟ هات “يوسف” وأنا أوريه.
ابتسم “إيهاب” بخبثٍ لمعت به عيناه وهتف بنبرةٍ هادئة أشبه في وصفها لهدوء ما قبل العاصفة:
_طب ما توريني أنا كمان، علشان بحب أشوف.
حاول “سعد” فتح عينيه وهمَّ بالاقتراب منه فوجد “إيهاب” بحركةٍ خاطفة واحدة يضغط بكفه على عنقه وهتف من بين أسنانه قائلًا بغضبٍ أخذ يتفاقم عن المعقول:
_اتشاهد على روحك يا حيلة أمك.
اتسعت عينا “سعد” حتى وصلتا لمرحلة الجحوظ ولم يتخيل حجم الألم الذي ضرب جسده قبل أن يخر على الأرض راكعًا_ وعلى الرغم من تناوله للمواد المخدرة التي تغطي العقل بستار اللاوعي_ إلا أن ضغط “إيهاب” على منطقة معينة في رقبته تتصل بأعصاب الجسد بأكمله مما جعله يفقد وعيه تمامًا ويسقط أرضًا أمام “عُدي” الذي وقف مذهولًا وردد بتعجبٍ:
_إيه دا ؟؟ خلاص كدا ؟؟ وقع من طوله؟؟.
حرك “إيهاب” كتفيه ببساطةٍ وهو يقول:
_ دا أخره، المهم دراعك عامل إيه يعني؟؟.
نظر “عُـدي” لنزيف يده ثم هتف بلامبالاةٍ كاذبة تتنافى مع ألم ذراعه:
_عادي، جرح سطحي الحمد لله بس كبير شوية.
ثانية مرت أو ربما أقل بعدها اجتمع الشباب في الأسفل وركض “يوسف” تجاه “عُـدي” يتفحصه بقلقٍ بالغٍ وهو يسأله عدة أسئلة جعلت “عُـدي” يطمئنه مبتسم الوجه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أهدا والله أنا زي الفل مش مستاهلة، متقلقش نفسك.
تحرك “وليد” نحو “إيهاب” ومعه “حسن” أيضًا فقال لهما “إيهاب” بثباتٍ يستفسر منهما:
_جاهزين يا رجالة؟؟.
حرك كلاهما رأسه بموافقةٍ جعلته يبتسم بعينيه ثم أشار لهما لكي يحملانه، فيما تحدث “أيوب” بنبرةٍ جامدة:
_ماقولتلك يابن الناس تخلص بمحضر في القسم.
انتبه له “يوسف” وهتف بانفعالٍ هو الأخر:
_والقسم هيعمل إيه لواحد سكران ؟؟ والقسم هيعمل إيه لواحد عيلته مفترية زي دا وأكيد خوفًا على سمعتهم هيحاولوا مليون محاولة، لكن اللي هعمله دا الصح بعينه.
التفت بعد حديثه إلى “إيهاب” يهتف بنفس الجمود:
_”إيهاب” شوف شغلك يا “عمهم”.
حرك رأسه موافقًا والتفت إلى “وليد” الذي سبق ووضع “سعد” بالسيارة ثم اقترب ينطق بنبرةٍ هادئة أظهرت استمتاعه بما يحدث:
_كله تمام، شحنته في العربية.
رفع “إيهاب” كفه يضعه على كتف “وليد” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_شكلك كدا شقي وغاوي قلق.
غمز له الأخر بثقةٍ وهتف يزهو بنفسه ويعتز بصفاته:
_أوي يا “عمهم” لولا بس إن كل حاجة جت فجأة كان زماني بدعت.
بعد حديثه تحرك نحو السيارة التي تحركت بـ “وليد” و “حسن” و “خالد” و “إيهاب” مع بعضهم، فيما التفت “يوسف” بعد رحيلهم فوجد “ياسين” أمامه يقول بنبرةٍ جامدة هو الأخر:
_كدا مرتاح يعني لما عندت معانا كلنا؟؟.
حرك رأسه موافقًا يؤكد حديث الأخر الذي نظر إلى “أيوب” بغير تصديق، فيما تحدث هو موجهًا حديثه إلى “أيوب” قائلًا بقلة حيلة وأعصابٍ مشدودة كُليًا:
_”أيوب” اطلع خلي الستات يجهزوا نفسهم علشان شوية وهنتحرك و “إيهاب” هيرجع على الحارة تاني.
تحرك “أيوب” ومعه الشباب نحو الأعلى فيما وقف “ياسين” يتفرس بعينيه ملامح “يوسف” الذي يبدو عليه الاضطراب وكأنه طفلٌ صغيرٌ أجرم ويخشى عقاب والده_على الرغم من ثبات ملامحه_ إلا أن عينيه نطقت بخجله، لذا اندفع الأخر يسأله باهتمامٍ:
_أنا عاوز أفهم فيه إيه؟؟ وإزاي تتجوز من غير ماتقولي؟؟ وليه متوتر كدا وموتر الدنيا كلها معاك؟؟.
زفر “يوسف” مُطولًا وأخرج علبة سجائره يخرج غيظه بواحدةٍ منهم، فقلب “ياسين” عينيه بمللٍ ليجد “يوسف” ينطق بإيجازٍ غير مُباليًا أو هكذا بدا عليه:
_أنا ضايع يا “ياسين”.
لاحظ “ياسين” الضياع حقًا في نبرته وأنه لم تكن كلمة عابرة بل هو أعرب بصدقٍ عما يشعر به، فاقترب “ياسين” وسأله باهتمامٍ وقد بدل طريقته معه:
_مالك يا “يوسف” ؟؟ وإيه اللي مضيعك؟؟
لم يعلم “يوسف” بماذا يجاوبه، لكنه يحتاج إلى الحديث معه لذا تنهد بعمقٍ وهتف بنبرةٍ متهدجة وضائعة:
_ أنا جوايا اتنين مموتين بعض واحد شايفني جدع وشهم علشان اتدخلت ولحقتها وواحد تاني بيقولي أني بورط نفسي وبفرض نفسي عليها، هي مش عاوزاني أصلًا، ومش عارف السبب اللي خلاني أفكر في أني أكون معاها، بس أنا فيه حاجة جوايا ضايعة مش لاقيها، تفتكر يعني أنا ممكن أفرح من غيرك؟؟ بس هعزمك أقولك إيه ؟؟ تعالى أحضر كتب كتابي اللي العروسة مش عاوزاه؟؟.
تنهد “ياسين” رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ هادئة لكن الحزن والتأثر ظهرا بها إبان قوله:
_ولما هي مش عاوزاك أنتَ كملت ليه ؟؟ ماظنش إنك من النوع اللي ممكن يجبر حد عليه أو يفرض نفسه حتى.
رفع عينيه نحوه يهتف بحيرةٍ أكبر من السابق:
_مش عارف والله ماعارف، مش بقولك فيه حاجة ضايعة مني ؟؟ بس فيه حاجة تانية وهي أني مش عاوز حد يقرب منها، أنا شايف نفسي فيها، شايف ضعفي بيتكرر قصادي من تاني، اللي زي دي لو ضيعت نفسها بتفكيرها، أنا بعمل إيه مش فاهم، دماغي كلها كركبة مش عارف ارتاح منها، أهرب من راسي أروح فين يا “ياسين” ؟؟.
اقترب منه “ياسين” يضمه بين ذراعيه وهتف بقلة حيلة:
_سلم أمرك لربنا هو أحن وأرحم عليك من نفسك، بطل تأنبها على حاجة مالكش يد فيها وافتكر إنك عملت موقف رجولة يمكن آثاره لسه مظهرتش بس هتظهر صدقني.
ابتعد عنه “يوسف” ينظر له مبتسم الوجه بعينين صافتين وجال بخاطره أن يشكره ويمتن له ويعبر عن مدى حبه له لكنه كعادته سكت و أومأ موافقًا وأضاف بجمودٍ لم يقصده هو:
_شكرًا.
_عفوًا يابن “الراوي”.
كان هذا قول “ياسين” بسخريةٍ يرد على حديثه وفي هذه اللحظة نزلت الفتيات ويسبقهن صوت زغاريد “أسماء” و “ضحى” أيضًا وفي الخلف “عبدالقادر” و الشباب يتبعونه.
________________________________
<“ضربة قاضية، لمن لا يتعلم”>
في سيارة “إيهاب” جاوره “وليد” وفي الخلف يجلس الإثنان، فأخرج “إيهاب” علبة سجائره يرفعها وهو يقول بنبرةٍ خَشِنة كعادته دومًا:
_سجاير يا رجالة؟؟.
رد عليه “خالد” يشكره بقوله:
_تسلم يا غالي مبندخنش.
حرك رأسه موافقًا ثم أشعل سيجارته وركز بصره على الطريق أمامه فسأله “وليد” باهتمامٍ:
_هو أنتَ عارف بيته ؟؟.
أبتسم “إيهاب” بخبثٍ وهو يقول:
_عارف بيت أبوه، هروح أرميهوله هناك زي الدبيحة ودي تبقى رسالة مني ليه علشان يلم ابنه كويس ويبطل يعمل فيها راجل.
حرك “وليد” رأسه موافقًا والتفت للخلف يقول بمرحٍ:
_والله زمان يا رجالة.
بعد مرور بعض الوقت من القيادة السريعة والأحاديث الودية بين الشباب في السيارة توقفت أمام إحدى البنايات الكبيرة تحمل اسم عائلة “زُهير” وهنا نزل “إيهاب” من السيارة وخلفه الشباب فيما فتح هو حقيبة السيارة يُخرج منها “سعد” المُلقى بداخلها كما الماشية المذبوحة.
حمله الشباب على أيديهم وتقدمهم “إيهاب” حتى وصلوا لداخل بوابة البيت وتحديدًا في المدخل ورفع صوته ينادي بأعلى صوته قائلًا:
_حـــاج “جـمال” !! يا حج !!.
نزل “جمال” بتعجبٍ يركض على درجات السلم فوجده يلقي ابنه على الدرج له وهتف بنبرةٍ جامدة يهدده بصراحةٍ وبدون أن يُرمش له جفنٌ:
_ابنك لو فكر يقرب من “يوسف” أو مراته المرة الجاية هجيبه متقطع زي الدبيحة وهسلمهولك قطاعي، احمد ربنا أنه جالك حتة واحدة على بعضه.
نظر له الرجل بدهشةٍ وتحسر وهو ينظر لابنه، فأضاف “إيهاب” من جديد بنفس النبرة الغَلِظة:
_اللهم بلغت، اللهم فاشهد.
تحرك هو أولًا والشباب خلفه بعدما اتموا مهتهم على أكمل وجهٍ فيما نظر الرجل إلى ابنه بحسرةٍ أكبر، من يصدق أن هذا الطالب المتفوق الذي شارف على التخرج من كلية الشُرطة ليتبدل حاله وأصبح بهذا الوضع المُشين، ضربة في مقتلٍ أصابت روحه وسط الناس، نكس رأسه بانكسارٍ وهو يتابع ابنه الملقى أرضًا أسفل قدميه.
______________________________
<“نلنا ما وددناه ولم نعرف أنه هو !!”>
توقفت السيارات أولًا أسفل بيت “فضل” وأول سيارة كانت لـ “أيوب” و “قمر” وبعدما أوقف السيارة تنهد هو مُطولًا براحةٍ كبرى وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_الحمد لله على السلامة، عاوزك بقى ترتاحي وتصلي وتنامي وتخلي بالك من نفسك، وبكرة هكلمك إن شاء الله.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له فباغتها هو حينما راقب المكان حولهما ثم اقترب منها يقبل وجنتها مما جعلها تشهق بدهشةٍ وفرغ فاهها من حركته المباغتة فجاهد هو لكتم ضحكته وقال بقلة حيلة:
_ماهو أنا اتكروت أوي بصراحة وساكت يعني.
فتحت الباب بسرعةٍ ما إن رأت سيارة شقيقها تقترب من البيت وتصف خلف سيارتهما، فأعطاها الصندوق وهتف بلهفةٍ يوقفها:
_افتحيه النهاردة يا “قمر” ولو عجبك اللي فيه أبقي ردي عليا وعرفيني.
حركت رأسها موافقةً ودلفت لمدخل البيت فيما نزل هو من سيارته يقف مع الرجال حتى تحدث “يوسف” يوجه حديثه لوالدته بنبرةٍ منهكة:
_ماما، اطلعي مع “قمر” وخلوا بالكم من نفسكم وأنا هبات في حارة العطار، على الأقل اتطمن عليهم الليلة دي.
حركت رأسها موافقةً ونظرت لسيارته فوجدت “عـهد” بأسرتها داخل السيارة ولاحظت توترها فتنهدت رغمًا عنها بثقلٍ وهي تقول:
_ربنا يكرمكم يابني، خلي بالك منها شكلها تعبان.
أومأ له موافقًا ثم أقترب منها يقبل رأسها وسألها باهتمامٍ يرجو منها أن تناوله الجواب المُراد:
_راضية عني صح؟؟ مش زعلانة مني ؟؟.
ابتسمت له وأمسكت كفه ثم رفعته وقبلته كما كانت تفعل معه في صغره وضحكت رغمًا عنها تواري خلف الضحكات تأثرها:
_مقدرش أزعل من حبيب عيوني.
أبتسم لها بعينين دامعتين حينما أعادت ماضيه له من جديد بنفسها بحركته المفضلة ولأول مرة يجد ما يوده أمامه فارتمى عليها يعانقها وأطلق نفسًا عميقًا يرتاح به من عبء تفكيره وضجيج رأسه.
قاموا الشباب بتوديع أسرة “فضل” ومعهم “يوسف” الذي أصر على المبيت في شقته بنفس بناية “عـهد” ثم ركبوا السيارات للعودة إلى الحارة خصيصًا بعد عودة “إيهاب” بالشباب ونجاحهم في إتمام مهمتهم.
ركب “يوسف” السيارة بعدما تأكد من ركوب والدتها مع “آيات” فلاحظ “وعـد” الصغيرة تنام بين ذراعي شقيقتها وقد غاصت في ثُباتٍ عميقٍ غافلةً عن دنياها وما يصير بها، لاحظ “يوسف” ارتعاش جسدها فخلع سترته ثم التفت بجسده يدثرها بالسترة وحينها نظرت له “عـهـد” بدهشةٍ حتى بدت نظراتها حادة فقال هو بتفسيرٍ لكن نبرته خرجت هامسة حفاظًا على نوم الصغيرة:
_بتترعش وأكيد بردانة، غطيها بيه كويس.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بارتباكٍ ملحوظٍ:
_شكرًا…شكرًا يا يوسف.
اعتدل في جلسته على المقعد وهتف بنبرةٍ هادئة:
_لا شكر على واجب، بس دي أختي زي ماهي أختك، أظن يعني أنتِ مراتي واللي يخصك يخصني ولا إيه ؟؟.
لا تدري لماذا أصابتها كلماته بالقشعريرة وكأن لوقها أثره الخاص به، وحينما لاحظت نظراته الموجهة نحوها بمرآة السيارة هربت من أسر نظراته لها وتصنعت انشغالها بتدفئة الصغيرة التي توقف جسدها عن الارتجاف.
بعد مرور بعض الوقت توقفت السيارات كل سيارةٍ عند وجهتها المحددة وقد رحل الشباب مع بعضهم كل منهم بمن يخصوه، وقد تأكدوا من مرور الليلة بسلامٍ على الجميع حتى “عُـدي” الذي أتضح أن جرحه لم يكن كبيرًا بل فقط يحتاج إلى التطهير ومداواته.
دلف “عبدالقادر” بأسرته لداخل البيت ونطق بنبرةٍ رخيمة أظهرت راحته من خلال ملامحه المنبسطة:
_ربنا يسعدكم كلكم يا شباب، ومبارك عليكم ربنا يهنيكم ويسعدكم إن شاء الله، فرحانين صح؟؟.
إبتسامة صافية ظهرت على أوجه الثلاثة وخاصةً “أيهم” الذي وقف يحمل صغيره على يديه وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_حاسس كدا إني شميت نفسي يا “عبده” مش عارف ليه بس فيه إحساس راحة كدا غريب، عقبال الواد اللي على دراعي دا إن شاء الله، هانت مش فاضل كتير.
ضحكوا على سخريته فيما تنهد هو بعمقٍ ثم استأذن منهم بقوله وهو يتجه للدرج حتى يصعد لشقته:
_عن إذنكم بقى هطلع أنام علشان مش قادر وعلشان “إياد” ينام مرتاح، تصبحوا على خير عقبال الليلة الكبيرة يا رب.
تحرك نحو الأعلى بصغيره فيما ابتسم “عبدالقادر” وتنهد بثقلٍ وقال بنبرةٍ اتضح بها أسىٰ طفيف:
_ربنا يعوضك أنتَ كمان يا رب، ويرزق الواد بالعوض.
اقترب منه “أيوب” يربت على ظهره وهتف بنبرةٍ هادئة:
_إن شاء الله ربنا يفرجها ويفرحه هو كمان.
تحدثت “آيات” بنبرةٍ ضاحكة تشاكس شقيقها:
_سيبك من كل دا، قولي عملت إيه بعد كتب الكتاب؟؟.
اتسعت عيناه بذهولٍ فوجدها ترفع حاجبيها باستفسارٍ مرح كحركةٍ تلقائيةٍ جعلته يحمحم بخشونةٍ وقال بنبرةٍ جامدة مصطنعة:
_أنا رايح أصلي قيام الليل، أستغفروا ربكم وتوبوا إلى الله
ضحكت “آيات” رغمًا عنها ورفعت صوتها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة تثير غيظه:
_تقبل الله منك يا شيخنا، ها شيخنا !!.
وقف على أعتاب غرفته يهمس بتوعدٍ:
_وربي ما هسيبك، بس أفوقلك.
في مكانٍ أخرٍ تحديدًا ببيت “قمر” بدلت ثيابها ولم تنس نصيحته في الصلاة لذا قامت بتأدية ركعتي شكر لله تشكره على ما نالته وقد سبق وطلبته هي ثم جلست على الفراش بعدما خلعت إسدال الصلاة ثم تربعت في جلستها على الفراش تجلس مقابلةً للصندوق الكرتوني الأسود الذي أعطاه لها، لم تتوانى ولو ثواني في فتحه بل فعلت هذا بحماسٍ شديد وقد شهقت مرةً أخرى بعدما وقع بصرها على ما يحويه الصندوق.
وجدت بلورة زجاجية بداخلها قمرٌ لونه فضي ووجدت معها مُصحف بغلافٍ أسود ومعه كُتيب صغير لتعاليم الكثير من الأمور الدينية، ومعهم زجاجة مِسك، وأيضًا منديل عقد القران الخاص بهما ورافق هذا مظروف باللون البُني بدا قديمًا وكأنه منذ قديم الأزل، لذا خطف انظارها بسهولةٍ ورفع مقدار ضربات قلبها وهي تطالعه بعدما امسكته لتجده كتب عليه من الخارج:
_”إلى من سبقَ ورفضتُ القمر لأجلها”
ابتسمت بخجلٍ وفتحته لتجد بداخله ورقة بُنية محروقة من الأطراف جميعها والكلمات بداخلها كُتِبَت بخطٍ مُنمقٍ أقرب للخطوط العربية القديمة، ابتسمت أكثر وهي تفتح الخطاب لتجد بداخله حديثٍ أقل ما يقال عنه أنه كما الكِنز، لم تكن مجرد حروفٍ خطت بخط اليد، إنما هو حديث القلب للقلب، كلماتٌ جعلتها تحلق كما الفراشات فوق زهورٍ يافعة رحيقها جذبها من أخر المدينة، بدت كما الشتيتة تلاقت بشتيتٍ أخرٍ ليكمل كلٍ منهما الأخر بعدما كان الأمرُ مستحيلًا.
وجدت بداخله الحديث الذي كتبه لأجلها بخط يده لأجلها هي وحدها وليس لأخرى غيرها، هي من فازت به وقد ظنت أن هذا الأمر لربما يكون فقط بأحلامها، بدت وكأن الفراشات تحملها من فوق الفراش وتطوف بها في الغرفة التي لم تتسع لأجنحة طيرٍ خفيفٍ مِثلُها حيث كتب هو بصدقٍ :
_ بسم الله الرحمن الرحيم..
والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين…
في باديء الأمر أود اخباركِ أنه لم تسعفني الكلمات ولم تنصفني الحروف في لحظتي هذه، فلم أجد ما أكتبه لكِ يُعبر بفصاحةٍ عما يحمله قلبي لكم، اليوم تحديدًا لا أجد ما أكتبه وكيف أكتب وأنا لم أعرفني بل بالأحرىٰ منذ الإلتقاء بكِ لم أجدني…؟
_اليوم أكتبُ لكِ وليس أنا بـ “أيوب” ذلك الزاهد المزعوم لكن أنا أخرٌ مفتون، فتنته خُمرة عينيكِ ليصبح من بعدها أخرًا لا يعهده في نفسه من قبل …..
الآن أكتب لكِ وأنا على يقين أنكِ كل الخير، واسأل الله أن يرزق قلبكِ بكل خير، فأنا من رأيت فيكِ مالم أراه بالغير….
_جئتُ إليكِ مقتديًا بحبيبي خير الآنام “محمد” عليه أفضل الصلاة والسلام حينما علمنا الحب وعبر عن حبه قائلًا:
“خَشيْتُ على نفسي فذهبتُ إلى خديجة”
لم يذهب حينها إلى قبيلتهِ ولا عشيرتهِ اللّذان هما الأحَق…كأنّهُ أرادَ إخبارَنا فيما بعْد
“خديجة هي قبيلتي وكل أُناسي” …
_ولطالما كان هو دومًا قدوتي فالآن فقط أخبرك أنني رجلٌ حاربته قبيلته، وتعذبت منه عشيرته، الآن أتيتُ لكِ من بعد دربٍ مجهولٍ، لطريقٍ أراه بكِ المعلوم….جِئتُ إليكِ أحتمي من قسوة قبيلةٍ على غُلامٍ يتيمٍ لم يرى الرأفةَ منهم، بل وجد القسوة وما أشد منها….وفي بلاغة القول يسعني أن أصفك من بعدما وجدتكِ بأنكِ:
“خير الرُكن الدافيء، وأنتِ السكينة والمَسكن”
_الآن يَكتُبُ لكِ رجلٌ قد سبقَ ورفض الـقمر لأجل الحصول عليكِ يا “قَـمر”….
فأتمنى أن يكون مروري على قلبكِ مرور الكرام… أتمنى أن يجمعنا الدرب وتزهو لنا معًا الأيام، ألقي إليكِ ولقلبكِ مَحبتي وأتمنى له من حروب الدنيا وشرورها …أن ينعم بالسلام.
مع تحيات:
من أعطيتيه أنتِ لقبًا مُحبًا على قلبه/
الأسطى “أيوب” بتاع القُلل.
ضحكت من بين دموعها التي انهمرت على وجنتيها وكأنها تُجبر خلايا عقلها على التصديق، “أيوب” يكتب هذا لأجلها ؟؟ وفي داخله مشاعر نمت أيضًا لأجلها ؟؟ متى وكيف ولماذا والعديد والعديد من الأسئلة جعلتها تود التأكد مما تشعر هي به، السعادة تفاقمت بداخلها وأرادت أن تسمع الحديث منه هو، أن يلقيه عليها بنبرته الدافئة، لذا اندفعت تمسك الهاتف وقبل أن تطلب رقمه شعرت بالخجل من هذا الفعل، وتنهدت بعمقٍ ثم ضغطت على رقم شقيقها تهاتفه فوجدته يجاوب بسرعةٍ لم تتخيلها لذا قالت هي بلهفةٍ على الرغم من اختناق صوتها:
_”يوسف” أنتَ صاحي ؟؟.
جاوبها بقلة حيلة وهو يتمدد على الفراش بجسده وقد جفاه النوم وخاصم جفونه:
_آه يا روح قلب “يوسف” صاحية ليه ؟؟.
بكت مرةً واحدة فاعتدل منتفضًا ما إن استمع لصوت بكائها وسألها بلهفةٍ أعربت عن القلق الذي سكنه فور هذه اللحظة:
_مالك يا “قـمـر” ؟؟ أنتٌ فيه حد مزعلك طيب؟؟.
مسحت دموعها وجاوبته بصوتٍ مختنقٍ:
_لأ والله أنا فرحانة أوي بس دي أول مرة أفرح وأجي أحكيلك ألاقيك موجود، كل مرة كنت بكلمك بيني وبين نفسي، مصدقتش أني سمعت صوتك.
شقت البسمة الصافية ملامح وجهه وارتسمت على ثُغره وتنهد بارتياحٍ وهو يقول بعتابٍ طفيفٍ بعدما أشعلت لهيب قلقه ليلًا:
_الله يسامحك يا “قمر” خضتيني، بس كويس إنك كلمتيني أنا مش عارف أنام وقاعد على السرير، معندكيش حل ؟؟.
قلبت عينيها بتفكيرٍ وهتفت بسرعةٍ كبرى:
_الصلاة !! صلي وأنتَ هترتاح أكيد أنتَ قلقان صح؟؟.
لم ينكر أنها أتت بالفكرة في وقتها وأنه حقًا يشعر بقلقٍ غريبٍ يستولى عليه، ناهيك عن حيرته وتخبطه فيما يخص أمره وأمر زواجه، لذا اعتدل في جلسته وقال بنبرةٍ رخيمة:
_قلقان ومكركب من جوايا هروح أصلي زي ماقولتي وأحاول أنام بعدها، المهم أنتِ إيه اللي خلاكِ تكلميني؟؟
جاوبته براحةٍ تخللت صوتها:
_فرحانة أوي بصراحة، هقولك بكرة لما تيجي عندنا ولا خلاص ناويت تستقر عندك بقى وجه اللي خد مكاننا؟؟.
ابتسم رغمًا عنه وهتف بصدقٍ يخبرها بكل ما يشعر به:
_محدش قدر يعملها وياخد مكانكم وأنا فاكركم مش موجودين معايا، مين بقى يعملها وياخد المكان بعدما صحابه رجعوله، يلا يا بت روحي نامي ولا كلمي جوزك.
ضحكت بصوتٍ عالٍ وضحك هو الأخر ولم ينكر أن مكالمتها أتت في وقتها، صوتها يُطمئنه ومرحها وعفويتها تجعله يشعر بسعادةٍ غامرة، تنهد بعمقٍ وأغلق الهاتف معها بعدما ودعها وخرج من الفراش لكنه لاحظ صوت أقدامٍ تركض فوق غُرفته وانتبه لصوتٍ عالٍ ميزه هو حينما علم أنه صوت “مَـي” فانقبض قلبه وسقط محله لذا خرج من شقته يتجه نحو شقتها بدون تعقل أو حتى التفكير للحظةٍ واحدة.
ضرب جرس الباب بعنفٍ ففتحته له “وعـد” التي ظهر الخوف على ملامحها فسألها هو بلهفةٍ قلقة:
_فيه إيه يا “وعـد” ؟؟ ماما بتصرخ ليه؟؟.
ردت عليه بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_”عـهـد” بتصرخ وهي نايمة.
دلف لداخل الشقة بخطواتٍ أقرب للركض وقصد غرفتها تحديدًا ليجدها تهزي في نومها ووجهها يتصبب عرقًا ووالدتها تحاول ايفاقتها لكن كل المحاولات باءت بالفشل، لذا اقترب منها يسألها بقلقٍ بلغ أشده في قلبه:
_مالها ؟؟ هي عاملة كدا ليه ؟؟.
نظرت له “مَـي” وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_الكابوس الزفت دا بس من بدري مجتلهاش الحالة دي.
نظر فوجدها غارقة بين حالة الوعي واللاوعي، عيناها تجول وتفتح وتغلق، حالة غريبة يراها هو للمرةِ الأولى كما أنها تتحدث بكلماتٍ غير مفهومة فلم يكن أمامه سوى أن يقترب هو بنفسه يرفع جسدها بيديه ثم جلس بجوارها يحتويها بين ذراعيه حتى بدأ صوتها يخفت تدريجيًا بشكلٍ ملحوظٍ وغمغمت بخفوتٍ:
_بلاش…والله موافقة خلاص…موافقة.
نظر لوالدتها التي وقفت تنظر لها ببكاءٍ وقد ظن أن الحديث يخص أمر زواجهما لكنها عادت تُغمغم من جديد لكن بخوفٍ من ذلك المزعوم “سعد” الذي يلاحقها في صحوها نومها، تنهد “يوسف” وشدد ضمته لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة صادقة:
_متخافيش، أنا هنا.
حاول أن يبثها الأمان بحديثه، لذا أخفض رأسه بجوار أذنها يقول بنبرةٍ هادئة دافئة كما صدق كلماته حين يقول:
_متخافيش من حد يا “عـهد” أنا معاكِ هنا، اوعي تخافي من حد طول ما أنا موجود هنا، أنا هنا علشانك.
هتفها بصدقٍ لأول مرةٍ بصراحةٍ لنفسه قبل البقية وقد لاحظت والدتها هدوء حالتها بعد حديثه لذا وضعت دورق المياه بجواره على الكومود الخشبي ثم انسحبت من الغرفة، بينما “يوسف” صَبَّ كامل تركيزه على تلك القابعة بين ذراعيه، لم يتخيل أن يكون بقربها بهذه الطريقة، لاحظ خصلاتها السوداء لأول مرةٍ منذ وقوع بصره عليها، بدت أصغر من أعوام عمرها، وبدت وكأنها كما العروس الصغيرة، تنهد رغمًا عنه ودثر جسدها وضمها إليه يربت فوق خصلاتها السوداء بلمعةٍ سارقة للأبصار.
هدأت ثورة “عـهد” تمامًا وغاصت في ثُباتٍ عميقٍ بين ذراعيه دون أن تعرف مصدر الأمان الذي زاحم خوفها ووقف أمام خوفها بمبدأ العين بالعين، انتصر الأمان المرسول لها من جهته على خوفها لتسكن بهدوءٍ تامٍ جعله يتنهد بأريحية شديدة وعلم أن حل معضلة خوفها أن تشعر بالأمان، هل صوته سبب سكونها أم تواجده بجوارها هُنا، أم أنها تحتاج لأي عناقٍ يضمها إليه، أغمض جفونه ووضع رأسه فوق رأسها يتنهد بعمقٍ حتى زاره النوم أخيرًا بجوارها وهو يستند بظهره على الفراش وهي بين ذراعيه وقد تأكد أنه حقًا يجب أن يكون بجوارها هُنا.
_____________________________
<“كل الصُدف لا تهم، أنتَ وحدك كل المُهم”>
عاد “إيهاب” مع ذويه إلى بيت “نَـعيم” الذي جلس في انتظارهم وما إن اقتربوا منه سألهم باهتمامٍ عن الأحوال وعن سير اليوم وقد أخبروه بما حدث دون أي تفاصيلٍ كثيرة بل فقط كيف تعاملوا وكيف سار يومهم، حتى سأله “إسماعيل” بتعجبٍ لازال مُسيطرًا عليه:
_برضه مجيتش ليه يا حج ؟؟ مش كان المفروض تيجي معانا تبقى كبير “يوسف” هناك ؟؟.
جاوبه “نَـعيم” بقلة حيلة هاتفًا ثم سألهم باهتمامٍ:
_الفكرة كلها إن المعلمين وصلوا علشان ياخدوا الخيول الصغيرة النهاردة ودكتور تابع وموال مكانش ينفع اعتمد على أي حد، المهم أخوكم فرح ؟؟ ليلته عدت على خير؟؟
جاوبه “مُـحي” بنبرةٍ هادئة أنهاها بالسخريةِ:
_آه الحمد لله زي الفل وكله تمام، وأخته كمان اتجوزت وأخت جوز أخته اتخطبت هي كمان، والله خوفت اقعد شوية الاقيهم بيخطبولي أنا كمان.
ضحكوا على سخريته فيما هتفت “سمارة” بنبرةٍ جامدة وهي تتذكر ترك “إيهاب” ومغامرته دون أن يخبرها برحيله حتى تفاجئت هي بالأمر:
_حج أنا عاوزة أشهدك على عمهم.
حرك “إيهاب” رأسه نحوها بحدةٍ فوجدها تعاند وهي تقول بجرأةٍ كعادة طبعها:
_يرضيك يسيبني هناك معرفش حد والبيه يروح يضرب الجدع اللي اسمه زفت الهباب دا ؟؟ وكمان سايبني لوحدي معرفش اتفاجيء زيي زي الغريب؟؟.
احتدت نظراته أكثر فيما قال “نَـعيم” مراضيًا لها:
_لأ ميرضنيش، حقك عليا أنا، بس هو أكيد مش فاضي ولا مركز علشان ييجي يقولك.
هتفت بضجرٍ واضحٍ تهدج صوتها نتيجته:
_يا حج يعرفني، ميسبنيش تايهة من غيره، نفسي يبطل حمقة شوية، الله أعلم لو كان راح وحد هناك عمله حاجة، إيه العمل يعني ؟؟ هعيش إزاي من غيره، راجعلي رايق ومبسوط وراجع ضاربلي الراجل ؟؟ دا أنا قلبي وقع من مكانه.
تحدث “إيهاب” بنبرةٍ عالية خشنة يرد على حديثها:
_هو بمزاجي يعني ؟؟ الواد جاي وناوي على خراب الليلة وكان لازم يحصل كدا بدل ما يفضح الدنيا ويعمل مشاكل، هسيبه يخرب الدنيا ؟؟ بعدين صحاب “يوسف” كانوا معايا ورجالة ما شاء الله عليهم مقصروش، بطلي خوفك الزايد دا وبلاش تحسسيني أني عيل صغير، أنا “إيهاب الموجي”.
رفعت إصبعها وهي تقول بعنادٍ أقوىٰ منه:
_وأنا “سمارة” يعني نفسي أطول النيل نفسه يا “عمهم” حافظ على نفسك وافتكر إنها مش ليك لوحدك، أنا وأخوك وكلنا هنا بنتحامى فيك، ووجودك لو مش فارق معاك فارق معانا إحنا.
ابتسم بعينيه واقترب يهمس لها بقوله:
_فارق معاكِ أوي يعني ؟؟.
لم تقو على كتم بسمتها وهو يهمس لها بهذه النعومة فانفرجت شفتاها عن بعضهما ببسمةٍ جعلته يغمز لها وقال بعبثٍ وهو يهمس من جديد:
_لأ معلش أحب اتأكد بنفسي فارق قد إيه ؟؟.
أدارت وجهها للجهةِ الأخرى تقضم أظافرها من فرط التوتر فيما رفع ذراعه يقربها منه حينما حاوط كتفها وهتف للبقية بلطفٍ مصطنعٍ:
_طب يا حج عن إذنك مراتي سهرت كتير النهاردة وأنا ميجيليش نوم طول ما مراتي سهرانة، تصبحوا على خير.
خرج من المكان بها متجاهلًا ضحكهم عليه بينما “نَـعيم” ضرب كفيه ببعضهما وهتف بنفاذ صبرٍ:
_صبرني عليه يا رب، الصبر من عندك.
تحرك “نَـعيم” بعد حديثه وكذلك “مُـحي” أيضًا فيما جلس “إسماعيل” على المقعد يتنهد بعمقٍ وقد تذكر مرور الليلة العصيبة عليهم وللأسف داهمه القلق وارتجف كفه لكنه تغلب على نوبة الارتجاف تلك وخرج من البيت يأخذ خيله ثم امتطاه بخفةٍ وبدأ في جولة الركض بسرعةٍ كُبرىٰ لم يشعر سوى بطاقته التي تحركه وتحرك الخيل معه، يضرب بحوافره في الرمال ويصدر صهيلًا عاليًا يشق سكون الليل.
لم يشعر بنفسه سوى وهو خارج حدود البيت والاسطبل بمسافةٍ كُبرىٰ فنظر حوله يتفحص المكان ونزل من على الخيل الذي سكت هو الأخر، وجد “إسماعيل” بيتًا متهالكًا ولم يُحجم رغبته في الاقتراب منه كعادته الفضولية تجاه هذه الأشياء، لذا أقترب بخطواتٍ وئيدة نحو البيت الفارغ على الرغم من قوة حدسه أن هذا البيت ماهو إلا ستارًا لعملية تهريب الآثار، لذا قرر أن يجازف ودلف البيت ليرى أصحابه وعند دلوفه تبدل حاله ليصبح أخرًا غير نفسه.
حالة تيه سيطرت عليه وانغلقت جفونه ثم فُتِحَت بسرعةٍ كُبرى ليظهر ازدياد حجم عينيه واتساع البؤبؤين عن الطبيعي ليغطي السواد المُقلتين وكاد اللون الأبيض أن يُخفى تمامًا، كُشفَ الحجاب الموضوع بينه وبين العالم الأخر وتلقائيًا دلف لإحدى الغُرف المغلقة وعلم بطريقةٍ ما مكان الآثار الذي يبحث عنه من ضحوا واشتروا هذا المكان، وأن المقبرة التي يبحثون عنها هم تقع أسفل هذه الغرفة الصغيرة التي تعتبر كغرفة صنع الطعام.
ملامحه كانت مُخيفة إلى حد الرُعب وجسده تصلب كما قطعة الخشب التي طفت فوق سطح المياه، يتحرك بآلية شديدة حتى خرج من البيت المُظلم وفور خروجه منه وابتعاده عن البيت عدة خطوات قليلة تنفس بعمقٍ وأغمض جفونه وفتحها من جديد ينظر حوله بحيرةٍ وتيهٍ وخوفٍ ثم امتطى الخيل وعاد إلى البيت وكأن شيءٌ لم يكن.
في المعتاد لم تكون الأمور بمثل هذه البساطة لكن حظه الجيد أن الآثار الموجودة بهذا البيت لم تخضع إلى الرصد القوي الذي اعتاد هو على معرفته، بل هذه المرة مجرد قطع موجودة تحت الأرض لا تحتاج لامثاله في إخراجها بل تحتاج فقط للحفر العميق والصبر، أما المقابر الكُبرى هذه هي العائق الأكبر له.
عاد “إسماعيل” إلى البيت في هدوءٍ تامٍ بخيله ثم جلس وأخرج سيجارته ينفث هوائها وفكر قليلًا ماذا لو قرر المجازفة في هذا الشيء ؟؟ مثله يملك صفة غريبة من نوعها، شيطانه وسوس له بالمجازفة لينهر نفسه فجأةً وهو يقول لنفسه بصوتٍ عالٍ:
_لأ لأ، شكلك اتجننت، لأ أنسى يا عمنا.
ركض لداخل البيت يهرب داخل غرفته وقد تناسى تمامًا ما رآه بهذا البيت وقد حمد الله أن الموضوع لم يكن في خطورته المعتادة وأن ترسيخه في الصغر ينفعه بشيءٍ كبيرٍ حتى أنه في بعض الأحيان يعلم بوجود أشياءٍ من مجرد اقترابه من بعض الأماكن، لكنه فكر هل سيستطع الصمود أمام وساوسه أم أن شيطانه أقوى منه واقوى من صموده؟؟.
________________________________
<“احتضان الخائف واجب يلزم التنفيذ”>
صدح صوت الهاتف ينبهها لموعد الفجر في تطبيق الآذان فتململت في نومها وتحرك جفناها بعشوائيةٍ وعلى الرغم من أنها تشعر بأنها مُحاوطة بأمانٍ إلأ أنها في نفس الوقت تشعر أنها مُكبلةٌ بين ذراعيين قويين ورائحته تُغدق أنفه وكأنها تغزو حاسة الشم لديها، فتحت عينيها ليقع بصرها عليه يمسكها بين ذراعيه ويستند برأسه على رأسها، رمشت عدة مراتٍ ورفرفت بأهدابها تتأكد مما تراه حتى انتفضت من بين ذراعيه تصرخ بخوفٍ وتنادي على أمها لينتفض هو الأخر من محله فور وصول صراخها لسمعه.
ركضت “مَـي” لها من الخارج وانتفض “يوسف” يسألها باهتمامٍ عن حالتها ظنًا منه أنها داخل كابوسها:
_أنتِ كويسة ؟؟ أنا هنا متخافيش ؟؟.
انفجرت في وجهه تصرخ بغير تصديق:
_بتعمل هنا إيه؟؟ إيه اللي منيمك جنبي وبأنهي حق تدخل هنا ؟؟ إيه يا ماما ؟؟ إزاي دا يحصل؟؟.
نظرت لها والدتها بحيرةٍ ولم تعرف بماذا تجاوبها بينما هو حاول الحديث معها بنبرةٍ هادئة وهو يقول:
_أهدي واستني اتلكم علشـ…..
بتر حديثه حينما صرخت في وجهه بكلماتها:
_أهدا إيه وأفهم إيه أنتَ لسه هتبرر؟؟ أنتَ بتستغل الظروف من دلوقتي ؟؟ ماصدقت خلاص ؟؟.
اقترب منها يقول بخبثٍ متجاهلًا وقوف والدتها:
_أنا برضه اللي ماصدقت؟؟ أسألي أمك كدا عن حالتك كانت عاملة إزاي ويا حرام عمالة تصرخي ومحدش عارف يسكتك ولا يفوقك، فخليني ساكت أحسن بدل ما أتكلم و أزعلك.
حركت رأسها نحو والدتها التي حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة فنظرت له بقوةٍ أجادت التسلح بها وهي تقول بتهديدٍ له:
_أول وأخر مرة تحصل فاهم ؟؟ ياكش أولع قصاد عينيك متدخلش في حاجة تخصني، ومتنساش الحدود اللي بيننا، أي تخطي للحدود دي ممنوع وياريت نفضل فترة ارتباطنا دي مع بعض بأدب ونكتفي بصباح الخير ومساء النور.
لوت “مَـي” فمها يمنةً ويسرىٰ بتهكمٍ وقالت لنفسها بسخريةٍ:
_يلا يابنت الموكوسة، وش فقر.
رفع “يوسف” حاجبه وسألها بدون اكتراث:
_خلصتي؟؟.
رفعت حاجبيها باندهاشٍ من بروده فوجدته يقول بلامبالاةٍ:
_كلك على بعضك بكلامك الأهطل دا مدخلتوش ذمتي بجنيه، روحي يا عسولة الله يسهلك ولأخر مرة تعلي صوتك عليا.
صرخت في وجهه بغيظٍ ازداد داخلها بسببه:
_أنتَ مجنون ؟؟ بصفتك إيه بتتعامل كدا ؟؟.
اقترب المسافة الفارغة بينهما وقال بثباتٍ يمد في حركة حروفه لكي يثير استفزازها أكثر من السابق:
_جــوزك، والدنيا كلها عرفت كدا، يعني لو عقلك وزك تعمليها تاني أنا هزعلك، وساعتها مش هيفرق معايا حد.
تحدثت بتهكمٍ تسخر من طريقته:
_كل إناءٍ ينضحُ بما فيه، هستنى منك إيه يعني؟؟.
ابتسم باستفزازٍ وهتف ببرودٍ أكبر:
_طب قولي لنفسك يا عسولة بقى، كل إناءٍ ينضح بما فيه بصحيح، بس أنتِ باكبورت طفح في وشنا، روحي ربنا يعينك على نفسك.
تدخلت “مَـي” تقول بآسفٍ له وتفض العِراك الذي أوشك على الاندفاع كما حالة الحرب:
_معلش يا “يوسف” هي أعصابها تعبانة شوية ومضغوطة بسبب الفترة اللي فاتت اتمنى متزعلش منها بس هي مكانتش في وعيها ولسه مش واعية برضه.
التفتت لوالدتها بحدةٍ وهي تطالعها بتحذيرٍ جعله يقول بنبرةٍ هادئة يقدر قولها وكأن الأمر لا يهمه ومتجاهلًا ثورة غضبها:
_لأ عادي ولا يهمك أنا متعود، هي اللي محتاجة تتعود.
سألته “عـهد” بسخريةٍ وهي تقلد طريقته:
_اتعود ؟؟ اتعود على إيه إن شاء الله ؟؟.
ابتسم بخبثٍ وهو يجاوبها بمنتهى الصراحة:
_على حضني، شكل كوابيسك كتيرة أوي.
شهقت باستنكارٍ فيما تركها هو ورحل من الشقة بينما “مَـي” نظرت في أثره بدهشةٍ وهتفت بغير تصديق:
_يابن المجنونة ؟؟ دا طلع أجن منها !!.
صرخت “عهد” بغيظٍ مكتومٍ وهي تكور قبضتيها مما جعل والدتها تركض من الغرفة بأكملها خوفًا من جنون ابنتها العصبية التي أوشكت على نفاذ صبرها وطاقة تحملها.
عاد “يوسف” لشقته من جديد يبتسم وهو يتذكر ماحدث منذ قليلٍ وهيئتها وهي تصرخ أمامه بعصبيةٍ وخجلها منه، ثم تذكر وجودها بين ذراعيه ونومه هو الأخر دون أن يشعر بنفسه، هدأت رأسه من الزحام بقربها وقام بالتسليم تمامًا للأمان الغريب الذي شعر به وهي معه وفكر ألم يكن من المفترض أن تكون هي الآمنة؟؟ كيف آمن هو ونام بهذا العمق ؟؟ ارتمى على الأريكة واحتضن الوسادة بين ذراعيه ثم وضع كفيه أسفل وجنته وهو يبتسم بدون أي مبرر.
_______________________________
<“كُتِبَت علينا الحرب، أين الميدان ؟؟”>
في بيت “عبدالقادر” صباحًا التفوا حول مائدة الطعام صباحًا فهتف “عبدالقادر” بنبرةٍ هادئة يوجه الحديث لابنائه:
_عاوز واحد فيكم يخلي باله من محل “بيشوي” كام يوم كدا ويهتم بيه لحد ما يخلص ويرجع تاني، على ما أظن هو ماشي النهاردة.
تحدث “أيوب” يسأله بتعجبٍ:
_ليه هو رايح فين مقاليش على حاجة.
جاوبه “أيهم” الذي ابتلع الطعام الموجود بفمه:
_رايح المنيا هيقعد يومين تلاتة وراجع تاني.
ضيق “أيوب” مابين حاحبيه فوصلهم صوت جرس الباب فتحركت “آيات” تخطف خمارها ووضعته فوق رأسها وقد دلف “بيشوي” لهم يلقي عليهم التحية وهو يقول:
_صباح الخير، قولت أجي أسلم عليكم قبل ما أتحرك أحسن “جابر” يكون داعي عليا ولا حاجة واتقلب على الطريق.
عاتبه “عبدالقادر” بنظراته فحمحم بخشونةٍ وهتف بنبرةٍ هادئة يقول:
_آسف والله يهزر معاكم، المهم أنا هتحرك دلوقتي مفاتيح المحل أهيه ظبطوا مع بعضكم و خلي بالك يا “أيهم” الدرس النهاردة والعيال جاهزين و “وعد” كمان هتيجي معاهم، كلم بقى حج “شلبي” وأكد الميعاد، يلا عاوزين حاجة؟؟.
أوقفه “أيوب” بلهفةٍ وهو يقول:
_استنى هنا !! رايح فين يابني؟؟ منيا إيه اللي هتروحها؟؟.
تنهد مُطولًا وقال بقلة حيلة:
_جوز خالتي بيودع ولازم أروح أشوفه وأقف معاهم وأكيد محتاجين فلوس أو مساعدة هروح يومين وأرجع تاني من هتأخر، طبعًا مش محتاج أوصيكم، أنا سايب أهلي لأخواتي، عاوزين حاجة ؟؟.
بدأ في توديعهم واقترب من “أيهم” يقول بنبرةٍ خافتة:
_لو عرفت تعرفها أني مش هنا وتقولي رد فعلها تبقى خدمت أخوك خدمة العمر ياض، حاول علشاني.
ابتسم “أيهم” رغمًا عنه وأشار على عينيه الإثنين بموافقةٍ جعلت الأخر يبتسم لهم ثم قبل “إياد” ورحل من المكان للخارج يركب سيارته وقد عزم نيته على العودة من جديد بما يُريح قلبه ويوصله بما يريد، وإن كانت الحرب أقيمت ضده، فلتشهد الأرض أنه فارس المعارك لا يُحني رأسه.
تحرك “أيوب” إلى عمله بهمةٍ عالية وكيف لايحدث وقد نال مراده وحصل على القمر، سار للخارج وسط الناس يتلقى المباركات والتهنئات الحارة والدعاء له ليتقابل مع “جنة” أمام بيتها أثناء مباركة والدها له، وقفت هذه الفتاة التي لا يعلم عنها سوى اسمها وعمرها وفقط قام بتوصيلها مرةٍ أو اثنين لا أكثر، رمقته بحسرةٍ وعاتبته بنظراتها وقد فهم هو سبب هذه النظرة وقال بنبرةٍ هادئة وهو يطالع أبيها بوجهٍ مبتسمٍ:
_الله يبارك في حضرتك، عقبال الآنسة “جنة” إن شاء الله ربنا يفرح حضرتك بيها، استأذن أنا بقى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
غض بصره عنها تمامًا وتحرك من المكان متجاهلًا نظرتها وهي تطالعه بغير تصديق، وصل إلى محله بالحارة مبتسم الوجه ولازالت المباركات تنهال عليه من الجميع.
______________________________
<“سر الماضي يعود، أين الجبروت؟؟”>
في منطقة الزمالك وقف “سامي” يرتدي ملابسه تجهيزًا إلى عمله مع “عاصم” والاجتماع الضروري الذي يتوجب عليه الذهاب إليه فصدح صوت هاتفه عاليًا برقمٍ غريبٍ عليه، فتجاهله وأكمل ارتداء ملابسه وقد صدح الهاتف من جديد فزفر بمللٍ وخطف الهاتف يجاوب عليه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_ألو مين معايا ؟؟.
وصله الصوت الأخر يهتف ببرودٍ:
_مش هتعرفني بس هقولك ناوي ترجع للشغل امتى؟؟.
هتف بضجرٍ ونفاذ صبرٍ يسأل المتحدث:
_أنتَ مين يالا ؟؟ وعاوز إيه منى على الصبح؟؟.
ابتسم الأخر بخفةٍ وقال بغموضٍ أصاب الأخر في مقتلٍ:
_بلاش أقولك أنا مين، بس هقولك هتعمل إيه يا حرام لو “نَـعيم الحُصري” عرف إنك السبب في اللي حصل لابنه وأخوه؟؟.
اتسعت عينا “سامي” وتندى جبينه في الحال ليجد الهاتف أُغلِقَ في وجهه وكأن أحدهم تعمد أن يصيبه في مقتلٍ على شروق الشمس ليقف هو كما قطعة قماش بالية وقد ضرب الخوف في أوصاله وهو يفكر من يعلم بهذا غيره هو ؟؟.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى