روايات

رواية غوثهم الفصل الثالث عشر 13 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثالث عشر 13 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء الثالث عشر

رواية غوثهم البارت الثالث عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثالثة عشر

إلهي رجعتُ بذلِّ افتقاري .. بخوفي بضعفي بدمع انكسـاري.
رجعتُ أبوء إليك بسرّي ….وأنـت الــعليــمُ بكــــل السِّــرارِ.
رجعتُ لأشكو ذنوبَ الليالي ….وأشكو إليك ذنوبَ النــهـارِ.
_مقتبس.
____________________
ربما كان الأمر لكم عاديًا لكنه قلبي الذي تألم، ربما كانت حياتي لكم مثل اللُعبة لكنكم دمرتوها حينما ضغطوا عليها بكامل قوتكم، توقعت نفسي معكم كما الطير فوجدتني مكبل مثل الأسير، يؤسفني لنفسي خيانة العهد، فلا ودٍ لكم ولا وفاء بالوعد.
تلك الصدمة التي تشل حركة جسدك تجعلك مُكبل الأطراف كمن يود الطير بجناحين مَكسورين، تجعلك ترفرف بأهدابك لتتأكد إن كانت الرؤية حقيقة أم أنها مجرد أوهام، هكذا وقف “أيوب” أمام أبيه يطالعه بنظراتٍ مُتفرسة ثم سأله من جديد بدهشةٍ لازالت واضحة على ملامحه:
_بتقول مين ؟؟ الست “غالية” أخت أستاذ “فضل” ؟؟ ازاي ؟؟ يعني اللي كان هنا الصبح دا يبقى أخو “قمر” ؟؟
أكد “عبدالقادر” هذا بنظراته مومئًا من خلال حركة عينيه فسأله”أيوب” مندفعًا:
_طب ليه ؟؟ مقولتلوش ليه ؟؟ واحد زي دا جاي ميت علشان أمه وأخته، ليه يا حج ؟؟
كان حديثه مُعاتبًا وكأنه يلوم والده، فأرجع “عبدالقادر” ظهره للخلف ثم هتف بعدما تنفس بعمقٍ:
_علشان دا واحد متهور وباين شيطانه في عينيه، أقوله على مكانهم فيروح ليهم يعرف اللي حصل بالظبط، واللي أمه شافته بسببهم، يروح يضيع نفسه عليهم؟؟ أنا مش هخبيهم عنه، بس لازم يكون قصادي هنا، دول امانة في رقبتي هيسألني عليها “مصطفى الراوي” قدام ربنا، مقدرش يابني اضيع إبنه.
تنهد “أيوب” بعمقٍ بعدما تفهم حديث والده ورغبته في عدم الإفصاح ثم هتف بثباتٍ وهو يُطرق بإصبعه على الطاولة:
_بس هيعرف، لازم يعرف علشان باين عليه موجوع، رغم أني معرفش الحكاية ومش دا اللي يخصني، بس الوضع دا مش هيطول يا بابا، اسألني أنا عن اللي محتاج حضن أمه.
أطلق “عبدالقادر” نفسًا عميقًا ثم سأله بثباتٍ يواري خلفه خبثه فيما فهمه واستدله:
_لو أنتَ في فـ غرضك حاجة، أو حتى عاوز حاجة تعالى قولي دوغري علطول، أظن أنا أكتر واحد ممكن يسمعك وينفذلك طلبك.
رغم تعجب “أيوب” من حديث والده إلا أنه تصنع جهله بالأمر ثم حرك كتفيه يهتف بلامبالاةٍ سرعان ما تحول إلى سؤالٍ في اهتمام ٍ جليٍ:
_لأ مفيش أي حاجة عاوزها، بس عاوز أعرف حياة الراجل اللي كان هنا دا، ممكن يكون دا حصل فعلًا؟؟ عيلته عملوا كدا فيه وفي والدته ؟؟ وليه ؟؟.
تنهد “عبدالقادر” ثم قال بنبرةٍ غلفها الحزن:
_آه…وعملوا الأسوأ من كدا بكتير كمان، عمه لما عرف اللي حصل وإن أخوه في المستشفى ومات، أول حاجة عملها أنه كلم المحامي، ساعتها قاله إن اخوه كاتب كل حاجة لابنه “يوسف” ومرات أخوه ساعتها اللي هي “غالية” كانت بين الحياة والموت، خلص ورق أخوه وخده من المستشفى ودفنه وكل دا “يوسف” كان معاهم علشان المشوار بتاعهم مراحش معاهم فيه وفِضل عند عمته، “فضل” ساعتها انشغل بأخته اللي بين الحيا والموت و “قمر” كانت عندهم بعد اسبوعين فاقت “غالية” من الغيبوبة على ضياع كل حاجة منها، بيتها وجوزها وابنها، مفضلش ليها غير “قمر” فضلت زي المجانين تلف في الشوارع وراحت لكل أملاك عيلة “الراوي” كلها كانت اتباعت وملهمش اثر، فضلت ببنتها شهر شايلاها على أيدها وتلف الشوارع زي اللي بيطلبوا صدقة، لحد ما الراجل طردهم من البيت اللي كان متأجر قانون قديم، واترموا في الشارع.
اتسعت عيناه وكأنه يسمع أسطورة قديمة تُحكى للأطفال حتى يخلدون لنومهم، لكن هل تلك الحكايات خرجت للواقع أم أن الواقع امتلأ بما يشابه ذلك ؟؟ أضاف “عبدالقادر” من جديد بأسىٰ:
_للأسف كل حاجة عندهم راحت خالص، “فضل” ضاق بيه الحال وجالي هنا رغم أني حاولت كتير اساعدهم بس هما رفضوا دا، في الفترة دي كنت مشغول بموت “رقية” الله يرحمها، اتكسرت بجد، صاحب عمري وأغلى واحدة ليا راحوا مني، كان كل همي أنتَ واخواتك وعلاجك بعد اللي حصل، لما جالي هنا عرضت عليهم البيت اللي هما فيه و هو أجر ورشة أنا اتوسطله عند صاحبها، بس هي فضلت تنزل تدور وتسأل لحد أخر حاجة عرفتها أنهم مشيوا وسابوا مصر كلها، خلصوا الورق ازاي معرفش، هربوا بالورث إزاي معرفش، عملوا كدا دا امتى وازاي برضه معرفش، لكن اللي اعرفه إن “مصطفى” كان معاه حق يوصيني على مراته وعياله، فضلت معاهم لحد دلوقتي وفي نفس الوقت بدور على “يوسف” بس خلاص يأست حتى هما نفسهم وعيشنا على أمل أنه يرجع في أي لحظة لأمه، بس رجع متأخر أوي…
أخرج زفيرًا مُطولًا فيما أضاف “أيوب” بنبرةٍ احتلها الحزن:
_لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أكيد فيه حكمة من ورا كل دا، ربنا مبيعملش حاجة وحشة لحد، أكيد اللي حصل دا صرف عنهم شر أكبر من كدا، بس مين يفهم، إحنا بشر ولينا حق نزعل ونتقهر والحمد لله إننا مأجورين على حزننا وعلى كل آه يأنِ بها الإنسان.
سأله “عبدالقادر” باهتمامٍ محاولًا اقتباس الهدوء والرضا بالقضاء منه:
_تفتكر فيه حد ممكن يقبل بكل دا ؟؟ صعب يابني.
رفع “أيوب” عينيه له يهتف بنبرةٍ هادئة:
سيدنا عمر بن الخظاب قال: (لو عُرِضَت الأقدار على الإنسان لاختار القدر الذي اختاره الله له)
جُملة جميلة ومُطمئنة لأبعد الحدود، كل إنسان فينا واخد رزقه كامل وحتى في الابتلاءات ربنا بيدّينا على قد طاقتنا وتحمّلنا مهما حسينا إن الحِمل زيادة علينا ومش قادرين.
طبع الإنسان إنه دايمًا عايز أحسن حاجة وبيألَف النعمة مع إنه لو بص حواليه هيلاقي إنه أحسن من غيره بمراحل وعنده نعم كتير جدًا في حياته مش حاسس بقيمتها وكان بيطلبها قبل كده..
لو في حاجة نتمناها طول العمر هيكون الرضا،
الرضا بقضاء الله في المَنع قبل العطاء، أكيد اللي حصل دا كان خير ليهم كلهم، يمكن دا يكون سبب أنهم عايشين أصلًا كان ممكن يموتوا كلهم في الحادثة دي وهما فعلًا ياخده حقهم، اللي حصل دا أجل، وحقه هيرجع قريب.
تنهد “عبدالقادر” وثبت عينيه على ملامح إبنه، الذي تنحنح يُجلي حنجرته ثم سأل والده بترقبٍ:
_أنا لو طلبت منك حاجة تنفذهالي؟؟
أبتسم له “عبدالقادر” وهو يهتف بحبٍ وصدقٍ:
_أؤمر يا حبيب أبوك، لو طلبت القمر أجبهولك.
رفع “أيوب” حاجبه بتشككٍ ثم مال على والده يهتف بثباتٍ:
_بس أنا مش عاوز القمر…أنا عاوز “قـمـر”.
اتسعت ابتسامة “عبدالقادر” ثم حرك رأسه موافقًا بحركاتٍ رتيبة جعلت “أيوب” يطالعه مُتعجبًا ليهتف “عبدالقادر” بنبرةٍ ضاحكة:
_لو فاكر أبوك عبيط، ابقى اتعلم بقى مني، ولا إيه ياسطى “أيوب” بتاع القُلل.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه فيما أشار له “عبدالقادر” حتى اقترب منه “أيوب” يقبل رأسه ثم نطق بحبٍ:
_ربنا يباركلنا فيك يا حج.
________________________
كانت تجلس فوق سطح البيت كعادتها تمسك في يدها كوب شاي بورق النعناع الأخضر وهي تتدندن كعادتها وتبتسم بحماسٍ مع نسمات الهواء التي تداعب وجهها وحجاب رأسها المُرتخي فوق خصلاتها السوداء فرفعت صوتها وهي تتدندن بالغناء لتجد صوته يحتل صفاء تلك اللحظة بفظاظته المعتادة ناطقًا اسمها بنبرةٍ خشنة يهتف:
_”عـــهــد” ؟؟
التفت فور سماعها لاسمها يُنطق بتلك الطريقة الجامدة لتجده مقتربًا منها يُلقي في وجهها زجاجة مياه اصطدمت بوجهها على الفور لتصرخ في الحال صرخاتٍ مدوية وهي تحاول وضع كفيها على وجهها وهي تصرخ بقولها وهو يقف مُتشفيًا بها بعدما نفذ تهديده لها ورمقها بضحكةٍ خبيثة وهي تقول:
_لأ…..بــلاش….بـــلاش علشان خاطري بـــــلاش.
هكذا انتفضت من الفِراش وهي تصرخ بتلك الكلمات التي كانت تهزي بها في نومها لتجد قلبها ترتفع ضرباته حتى ظنت أنه أوشك على الخروج من موضعه بألمٍ جعل ضلوعها تؤلمها هي الأخرىٰ فنزلت دموعها على الفور من ذلك الكابوس الذي يراودها في كل يومٍ لتقوم من نومها وتقضي ليلها باكيةً، حاولت عدة مراتٍ لإنهاء تلك الكوابيس لكن بدون جدوى الأمر تخطى كل الحدود الممكن تحملها.
دلفت والدتها الغرفة بكوب المياه وهي تقول بحزنٍ ويأسٍ عليها:
_امسكي يا “عـهـد” أشربي يا حبيبتي.
اخذت منها كوب المياه بأنامل مرتجفة لاحظتها والدتها فعاونتها في ارتشاف المياه وبكفها الأخر ربتت على ظهرها حتى أنهت ابنتها ارتشاف الكوب على جُرعةٍ واحدة ثم تنفست بعمقٍ وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_قلبي بيوجعني أوي يا ماما، مبقتيش قادرة أتحمل كل دا خلاص، نفسي أنام مرة واحدة متطمنة، أخرتها إيه ؟؟ أرجعله طيب ؟؟
هتفت والدتها بحدة في وجهها:
_لأ، مستحيل دا يحصل، أنا هروح للحج “عبدالقادر” وأقوله يشوف حَــل معاه، فضل مرة يِزن واتكلم في حقك لحد ما اتخطبتيله، طلع قليل الأصل معندهوش دم، يولع هو والناس كلهم، بس مش دا اللي تربطي حظك بيه في الأخر يا “عـهد”، ربك يفرجها إن شاء الله.
حركت رأسها موافقةً ثم هتفت بصوتٍ مختنقٍ:
_يا رب…ريحني من اللي أنا فيه دا بقى.
“عهد محفوظ”
فتاةٌ في العام الخامس والعشرين من عمرها، تعيش في حارة العطار مع والدتها و شقيقتها الصغرى صاحبة الثمان أعوام وقد توفى والدها بعد ميلاد شقيقتها بعامٍ واحدٍ، فحملت هي مسئولية أسرتها ورفض أي معاونات خارجية.
_بشرتها حنطية صافية متوسطة اللون، حاجبيها سوداويين منمقين أهدابها سوداء كثيفة فوق مقلتيها، عيناها سوداء اللون لامعة خاصةّ حينما تبتسم، وجهها مستدير وفي وجنتيها غمازتين، هادئة…. حزينة….بائسة، قوية ومعاندة، أهم ما تملكه في حياتها أفراد أسرتها، طويلة القامة حيث يصل طولها غالبًا إلى ١٧٠ سـم وأكثر، جسدها يتناسب مع طولها، مما جعلها مطمع في أعين الكثيرين.
خرجت من فراشها ثم جلست في شرفة غرفتها تتنفس الصعداء وتفرك كفيها ببعضهما تبعث لنفسها الأمان حتى ركضت لها شقيقتها الصغرى وهي تقول بنبرةٍ ناعسة:
_محدش فيكم نايم جنبي ليه ؟؟ خوفت لوحدي.
ردت عليها والدتها بقلة حيلة:
_ما تنامي لوحدك يا “وعد” هو أنتِ صغيرة يعني؟؟.
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت من شقيقتها تقول بنبرةٍ غلفها النوم والنعاس:
_طب ألعبي في شعري لحد ما أنام، علشان مش هعرف أنام تاني يا “عهد” يلا.
نفخت أختها بقلة حيلة ثم ربتت على خصلات رأسها فيما دست الأخرى نفسها بين ذراعيها لتنام قريرة العين بين ذراعي شقيقتها التي تعطيها الأمان دومًا وهي في أشد الحاجة لو لذرةٍ منه.
__________________________
“في منطقة نزلة السمان”
جلس الشباب برفقة “نَـعـيم” في فناء البيت الرملي و “إيهاب” يقوم بعمل الشاي على نيران الأخشاب فيما ظل “يوسف” شاردًا ينظر أمامه وكأنه في مكانٍ أخر غيرهم، لاحظه “إسماعيل” فسأله بنبرةٍ عالية يجذب انتباهه:
_يابا !! روحت فين يا أخينا ؟؟ إحنا معاك أهو.
انتبه له “يوسف” فحرك رأسه نحوه دون أن ينبث بكلمةٍ واحدة، فقط التزم الصمت فسأله “إيهاب” تلك المرة وهو يسكب الشاي في الاكواب الزجاجية:
_مالك بس يا عمنا ؟؟ حد داسلك على طرف ؟؟.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ وردد متهكمًا بوجعٍ:
_حد ؟؟ دي لدنيا كلها دايسة عليا يا “عمهم”، ناقص مين تاني ميجيش عليا ؟؟ ناقص مين تاني مدبحش في يوسف وقطع في روحه ؟؟ طب هما مفكروش فيا ؟؟ مفكروش يدوروا عليا طيب ؟؟ معقول تكون نسيت إن عندها إبن ؟؟
كان يسأل بوجعٍ وكأن عقله عاد للعمل من جديد ينبهه بتلك الحقائق التي حاول التغاضي عن تواجدها، فتفاجأ بـ “نَـعيم” يقول بنبرةٍ جامدة يردعه عن السير وراء تفكيره:
_لو هتفضل تفكر كدا تبقى حمار وظالم، بتحكم منين أنهم مدوروش عليك ؟؟ ها ؟؟ عرفت منين إنها نسيتك؟؟ مفيش أهالي بتنسى عيالها، حتى لو الزمن هدا النار دي بس بتفضل قايدة، أوعى تظلمهم من قبل ما تروح وتعرف كل حاجة عنهم، فاهم ؟؟
تدخل “مُـحي” يسأل بتعجبٍ:
_جماعة بجد أنتم مصدقين الحوار دا ؟؟! يعني هو فيه ناس كدا أصلًا ؟؟ دول في الأفلام بس، الحوار دا ورا حوار تاني أكيد و شكل “يوسف” هيلبس لبسة معتبرة.
تدخل “إسماعيل” يقول بتهكمٍ حينما تذكر قصته هو الأخر والغدر الذي ناله من والده:
_شوف مين بيتكلم، نسيت إن عمك خد أخوك وحرق قلب الحج على ابنه ؟؟ ولسه لحد دلوقتي متأكدين مات ولا لأ ؟؟ الافلام دي بتمثل الواقع اللي إحنا عايشينه، بدليل أني قدامك أهو أبويا رماني في مقبرة علشان اجيبله آثار ولما خاف طلع يجري من غير حتى ما يفكر فيا، عمل زي اللي رمى ابنه في الطوفان.
اعتلى الضيق ملامح “نَـعيم” حينما تذكر ذلك، فيما نطق “إيهاب” بنبرةٍ جامدة يغير مجرى الحديث:
_خلاص بقى منك ليه، اقفلوا على السيرة الهباب دي، ربنا يجحمهم كلهم في ساعة واحدة، وأنتَ ياض يا “يوسف” روح أقعد عند الراجل دا وخليك هناك، لحد ما ترجع أهلك من عنده، ومتفضلش تفكر بقى هي كانت عاوزاك ولا لأ، لاقيها ومالكش دعوة باللي جاي.
حرك رأسه موافقًا ثم هبَّ واقفًا فسأله “إسماعيل” بتعجبٍ:
_رايح فين ؟؟ مش المفروض إنك قاعد هنا ؟؟
رد عليه بثباتٍ وإصرارٍ:
_رايح الزمالك، لازم أكون هناك بكرة الصبح قبل ما “فاتن” تقولهم حاجة ولا يبان عليها، خصوصًا إن “مادلين” شافتنا، سلام.
قبل أن يتحرك أوقفه “نَـعيم” بقوله مُحذرًا:
_مش عاوز منك تهور ولا جنان، مفهوم ؟؟ وياريت تفتح الزفت اللي معاك دا، مش هقول تاني، بلاش تخليهم ينجحوا في أنهم يحرقوا دمك.
هتف بسخريةٍ لاذعة بعدما أبتسم بوجعٍ:
_ياريتها بتيجي على حرقة الدم، دول حارقين روحي كلها واللي مصبرني أني مستني روحي ترجعلي علشان لو موت أو حتى اتسجنت، ابقى شوفتهم قبلها.
رحل بعد حديثه فنظر “نَـعيم” في أثره بقلقٍ ثم قال بخوفٍ:
_الواد دا هيضيع نفسه، لازم يقفله حد كبير.
انسحب “مُـحي” خلف “يوسف” وقبل أن يوقف سيارته أوقفه بقوله:
_”يوسف” ؟؟
التفت له الأخر بنظراتٍ غير عابئةٍ به، فأضاف هو بتلجلجٍ:
_ أنا عاوز اشكرك علشان مقولتش لأبويا على حاجة، وأسف يعني على كلمة بكرهك دي، أنا أكيد مش بكرهك يعني، بس بتعصب منك.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ ثم هتف بنبرةٍ خافتة:
_عارف، بس عاوزك تعقل شوية، المشي ورا الستات آخرته سودا والجري في الكباريهات أنيل، عاوز تعك براحتك، بس واحدة واحدة مش خبط لزق كدا.
رد عليه “مُـحي” بقلة حيلة وكأنه مغلوبٌ على أمرهِ:
_ما هما حلوين بصراحة ويستاهلوا الجري وراهم.
أيده “يوسف” بقوله الخبيث:
_معاك حق، هما حلوين فعلًا، خصوصًا اللي عينهم سودا.
ارتفع صوت ضحكة “مُـحي” فربت “يوسف” على كتفه ثم نطق بثباتٍ بعدما عادت جِديته من جديد:
_ خلي بالك من أبوك وسيبك من عرق الوساخة بتاع عمك، أسمع مني، اللي يجاور “نَـعيم الحُصري” راسه تترفع لفوق، متبقاش ابنه وجايبه الأرض.
زفر بقوةٍ وقال موجزًا بما لا تحمله نيته من الأساس:
_هحاول….بس صعب.
ولج “يوسف” سيارته وهو يبتسم بسخريةٍ ثم قال يمازحه بقوله:
_مَع السـلامة يا مُـوهي.
ضحك الأخر بيأسٍ ثم رفع كفه يفرك خصلاته وهو يتابع رحيل سيارة “يوسف” من أمامه حتى أخرج زفيرًا قويًا ثم أخرج هاتفه يجاوب على الاتصال الذي حضره وهو يقول بتعجبٍ ما إن رأى اسم المتصلة “حبيبي ٣٤”:
_يخربيت أمك، كان اسمك إيه أنتِ، حاسس أني فاكرك.
ألحت الفتاة بالاتصال، فجاوب هو بمرحٍ:
_قلب مُحي من جوة، وحشتيني.
في الداخل تحرك “نَـعيم” من المكان وخلفه “إسماعيل” فلاحظت “سمارة” جلوس زوجها بمفردها أمام النيران وهو يشرب الشاي وشارد الذهنِ، لذا نزلت من شقتها له ثم جلست بجواره وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_سرحان في إيه يا سي “إيهاب” ؟؟
انتبه لها فرفع عينيه وابتسم حينما لاحظ نظرتها المُشككة له، ففرد كفيه أمامها وهو يقول مُستسلمًا:
_هيكون في إيه يعني ؟؟ في الدنيا يا “عمنا”
لوت فمها بتبرمٍ وهتفت ساخطةً عليه تحدث نفسها:
_شوف ياختي بدل ما يقولي فيكي، كابسني علطول.
لاحظ هو همهمتها لنفسها، فسألها بنبرةٍ جامدة:
_بتبرطمي تقولي إيه ؟؟
تنهدت بضجرٍ ثم قررت فتحه في الموضوع بقولها:
_بقولك إيه يا سي “إيهاب” ؟؟ ما تخرج “فتحي” من جوة وخليه يمشي خلاص، هو خد أدبه وكفاية لحد كدا.
عند ذكرها اسم غريمه هتف بها بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ مالك بيه إن شاء الله ؟؟ اسمه ميجيش على لسانك تاني، وياريت تطلعي برة الحوار دا، مَـفهوم ؟؟.
رفع صوته حتى أجفل جسدها من صوته العالي، فيما سألها هو من جديد بعدما انتبه لها:
_بِــت !! أنتِ دخلتيله جوة ؟؟ لمحك أصلًا ؟؟
على الرغم من الرعب الذي دب أوصالها إلا أنها تسلحت بالجمود تهتف بقوةٍ لا تعلم مصدرها:
_أيوا يا أخويا دخلتله أومال أشفي غليلي منه ازاي ؟؟.
ردد خلفها مستنكرًا:
_تشفي غليلك منه ؟؟ إزاي ؟؟
جاوبته برأسٍ مرفوعٍ وتشفي ظهر في أحرفها:
_يعني طول عمره هو وأمه منشفين ريقي وذليني، وأخرتها مشمتش فيه وهو مذلول قدامي ؟؟ دا أنا نفسي أروح أذل أمه دي وأكيد فيها بس وأنتَ معايا، كانت علطول تقولي هشغلك خدامة في البيوت وأخليه يتجوزك ويتجوز عليكي، كانت فكراني بزعل علشان ابنها، متعرفش أني كنت بزعل على السجادة.
عقد “إيهاب” ما بين حاجبيه وردد باستنكارٍ جديد:
_سجادة ؟؟ سجادة إيه ؟؟
اندفعت في وجهه تقول كما كتلة الهواء الصادمة:
_يا أخويا ماهو لو كنت دبحتها السجادة كانت هتتوسخ بدمها، ودي دمها كله سم وزفت على دماغها.
رفع كفيه يشدد قبضتهما وهو يقول بيأسٍ منها:
_أنا غطيت صوابعي العشرة في الشَق منك خلاص، بت ؟؟ لو سيرته جت على لسانك تاني ولا حتى فكرتي إنك تخليه يلمحك أنا هقفل عليكي في الشقة يا “سمارة”.
مالت عليه تصدمه بكتفها في كتفه وهي تقول بدلالٍ وإغراءٍ كعادتها عليه:
_ وماله بس متبقاش تتأخر عليا يا سي “إيهاب”.
أشار لها برأسه نحو بنايتهما يهتف بثباتٍ:
_خشي نامي يا “سمارة” وعدي ليلتك بدل ما أخلي الخيل كله يجري وراكي وأظن فاكرة شكلك كان عامل إزاي.
رمقته بغيظٍ ثم اعتدلت في جلستها، فيما قال هو بنبرةٍ حاول جعلها جامدة:
_وبكرة هنروح الإباجية سوا أنا وأنتِ بس قبلها في مشوار مهم لازم نروحه، ماشي ؟؟
نظرت له بتعجبٍ وهي تسأل نفسها عن سبب ذهابه فيما نظر هو أمامه بشرودٍ وهو يفكر في الغد.
_________________________
وصل “يوسف” إلى منطقة الزمالك في عتمة الليل الذي أسدل ستائره فوجد “عاصم” جالسًا على الأريكة بجوار أباجورة الإضاءة الخافتة، فابتسم بسخريةٍ وتشدق بنزقٍ:
_يعيني ؟؟ بقيت يتيم الأم وقاعد زعلان بترثي المرحومة؟؟
رد عليه “عاصم” بثباتٍ بعدما حرك رأسه نحوه:
_كلنا أموات ولاد أموات ودا عمرها.
تصنع “يوسف” الحزن وهو يقول:
_لأ لأ….تصدق اتأثرت ؟؟ لما إحنا أموات ولاد أموات معملتش للحظة دي ليه ؟؟ ولا فاكر إن ماما هتوصي عليك؟؟ أصلك واخد على الواسطة، بس هناك بقى مفيش واسطة فيه حقوق بترجع لأصحابها.
ابتسم له “عاصم” باستفزازٍ ثم هتف بنبرةٍ متعالية:
_بقيت مؤمن خلاص ؟؟ اتفضل أطلع أوضتك ومتوجعش دماغي، مش برضه جاي علشان تنام هنا ؟؟ زي الفار وهو راجع مصيدته من تاني علشان عارف إنه ملهوش غيرها تحميه.
ازداد الأخر شموخًا وثقةٍ في نفسه واقترب منه يقول بهيبةٍ لم تليق بأخرٍ سواه بعدما رفع كفه يربت على كتف عمه:
_لما تفتكرني فار في المصيدة، مترجعش تتفاجيء بيا وأنا خيل في وسط الميدان.
أبتسم “عاصم” و ظهر التحدث السافر بينهما في نظراتهما لبعضهما وهو يقول ساخرًا منه:
_كل كلامك بقى عن الخيول خلاص ؟؟ كلوا دماغك ؟؟
حرك رأسه موافقًا ونطق بتهكمٍ:
_والله أحسن من اللي كلوا حقي، مش دا حقي برضه؟؟
ازدادت سخرية الأخر في نظراته وهتف مُستخفًا به ومقللًا من شأنه:
_فين حقك دا يا حبيبي ؟؟ كنت عاوزني اسلمك كل حاجة وأنتَ صايع وضايع كدا ؟؟ علشان تضيع تعب أبويا واخويا، دا بعيد عن أحلامك ومتنساش إن العين متعلاش عن الحاجب.
هتف “يوسف” بشرٍ وهو يرى جحود الأخر له وكأنه نكرة تعيش وسطهم:
_بس محسوبك بقى مفيش عين تترفع فيه ولا حاجب يعلى عليه، العين اللي تترفع فيا بقفلها، والحاجب اللي يترفع عليا بشيله خالص، وادينا موجودين نشوف نفس مين فينا أطول بقى.
التفت بعد حديثه يغادر مكانه فوصله حديث عمه قائلًا:
_نَفسي يا “يوسف” أنتَ ملكش طاقة تقف قصادي وأظن أنتَ عارف حصل إيه قبل كدا لما فكرت تعارضني، وقدام الناس كلها أنتَ مجنون ومتستحقش تتأمن على حاجة من دي كلها.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ وهتف بدون حتى ما يلتفت له وكأنه بذلك يخبره أنه لن يستحق حتى الاهتمام به:
_أيوا صح أنا مجنون ومستاهلش، بس ابن الرقاصة يستاهل، ابقى خلي بالك أحسن تلاقيه داخل مرة يرمي عليك النُقطة، ولا يطبلك.
صعد الدرجات بثباتٍ ليتواجه مع غريمه الثاني “نادر” فتلقائيًا زفر بعمقٍ، فيما نطق الأخر بنزقٍ:
_جيت هنا ليه؟؟ هو كل شوية نلاقيك طالع زي اللهو الخفي كدا ؟؟ الواحد مش عارف ياخد راحته خالص من غير ما تسد نفسه ؟؟
تحرك “يوسف” من أمامه قاصدًا تجاهله، فسأله الأخر بنبرةٍ مغتاظة من تجاهله له:
_مش بكلمك أنا ؟؟ ما ترد ولا معندكش حاجة ترد بيها؟؟
التفت له “يوسف” يقول بضحكةٍ سمجة نجح في رسمها على ملامح وجهه:
_لأ عندي، بس أنا راجل صاحب مبدأ وشايف إنك متستاهلش أخالف مبادئي علشانك.
رد الأخر عليه بتهكمٍ:
_وهي إيه بقى مبادئك دي إن شاء الله ؟؟
توسعت ضحكته أكثر وهو يقول ببرودٍ ثلجي اثار أعصاب الأخر:
_الـرد عـلى الـسـفيه؛ بيـفخـم ويعـلي فـيـه.
احتقن وجه “نادر” بدماء الغيظ التي تدفقت إلى وجهه لذا هتف بتحديٍ له:
_طب كويس انك عرفتني، بدل ما أحرق معاك كتير.
عاد “يوسف” خطوةً للخلف يهتف بنفاذ صبرٍ:
_ولا !! أنتَ مش كنت بتحب ستك ؟؟ مروحتش معاها ليه ؟؟ أهو تريح شوية بدل ما أنتَ شغال فرك كدا وكلت دماغنا، رَيح….ها رَيح وابلع ريقك شوية.
استأنف صعوده على الدرج ليجد أمامه “مادلين” أعلى الدرج تستند على الدرابزين، فتصنع الجمود وهو يقول بصوتٍ عالٍ:
_كويس إنك صاحية، ابقي خدي جوزك اديله شوية حنية علشان حرام بقى يتيم الأم، وأسأليني عن حال يتيم الأم دا.
جاهدت تكتم ضحكتها أمامه بسبب طريقته فيما غمز هو لها ثم توجه نحو غرفته يضحك رغمًا عنه بدون سببٍ محدد.
_______________________
في اليوم الموالي لذلك وخاصةً في نهار هذا اليوم.
جلس “عبدالقادر” بجواره “تَـيام” يدون كلٌ منهما الخامات وبياناتها الموجودة، والناقص من الموارد، وعلى الأريكة المقابلة لهما جلس كلٌ مِن “بيشوي” و “أيهم” يدون الحسابات.
انتهوا مما يقومون به، فقال “عبدالقادر” مُستحسنًا فعل “تَـيام” وهو يثني عليه:
_عاش يا واد، ولا غلطة زي كل مرة، واضح إن روحك المعنوية عليت أوي يا بن “صبري”
ضحك الإثنان على الجهة الأخرى فيما تصنع الأخر البراءة بقوله:
_والله يا حج أنا كلي همي مصلحتكم، بعدين الحمد لله يعني أنا بتقن العمل طول عمري، بس ماحدش كان واخد باله من دا.
هتف “عبدالقادر” ساخرًا:
_يا ولا ؟؟ ماشي خليني ماشي وراك.
اندفع “تـيام” يسأله بدون تعقل:
_أجي اتقدم إمتى ؟؟ العروسة موافقة وأنا موافق وأمي موافقة و “إياد” موافق ليه العطلة ؟؟
تدخل “بيشوي” يهتف بتهكمٍ:
_أنتَ معندكش وسط يالا ؟؟ يا مفيش كلام خالص يا زن وإلحاح ؟؟.
رد “عبدالقادر” بنبرةٍ هادئة:
_تعالى الجُمعة الجاية اتقدم ليها، حلو كدا ؟؟
سأله بضيقٍ أنهاه بالسخريةِ:
_وليه مش الجمعة دي ؟؟ عندكم صيانة ؟؟
ضحك “عبدالقادر” رغمًا عنه فيما نطق “أيهم” بقلة حيلة:
_اقسم بالله ما فيه حاجة عاوزة صيانة غير عقلك.
تنهد “تَـيام” ثم نطق بلهفةٍ:
_بقولك يا حج، مش ناسي أي حاجة في البيت؟؟ دوا….ساندوتشات…كوباية عصير؟؟
هتف “عبدالقادر” بإصرارٍ:
_تصدق يالا ؟؟ لو فيه حاجة نسيتها بجد تبقى أني اربيك من بعد موت أبوك، امشي يالا روح المخزن راجع الحاجة هناك.
تحرك “تَـيام” من أمامهم وهم يضحكون عليه، فيما نطق “أيهم” بقوله على عُجالةٍ:
_طب هتحرك أنا علشان الواد “إياد” في البيت مستنيني علشان أخرجه وبعدها نرجع البيت أضرب “أيوب” عاوزين حاجة مني ؟؟
أوقفه والده بقوله:
_لأ استنى الأول عاوزك تروح للحج “شلبي” مستني حد من عندنا علشان عاوز نقلة رخام و رمل، روح شوفه وتعالى تاني خرج ابنك.
هتف “أيهم” بضجرٍ وقد استاء من هذا الوضع:
_يا حج بقولك هخرج الواد مستنيني، ولو مشيت من غيره هيزعل، مش كان كلامك أني أفرحه مخليهوش يزعل.
رد عليه بثباتٍ يتكيء على كلماته:
_خده معاك خلص المشوار واتفق بعدها خرجه يلا بقى الراجل مستني وقولتله هبعتلك ابني الكبير.
تنفس “أيهم” بعمقٍ ثم سأله بسخريةٍ:
_ومبعتش ابنك الصغير ليه ؟؟
رد عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_علشان هيروح يتقدم النهاردة.
نظر كلاهما للأخر ونطقا في آنٍ واحدٍ:
_إيه ؟؟ “أيوب” هيخطب؟؟ مين ؟؟
أرجع ظهره للخلف يقول بثقةٍ:
_هيخطب “قمر” بنت أخت “فضل”
________________________
في منزل “عبدالقادر” ارتدى “إياد” ثيابه بعدما عاونته “آيات” التي قالت بوجهٍ مبتسمٍ تسأله:
_قولنا بنعمل إيه لما نلبس حاجة جديدة؟؟
أبتسم لها وهو يهتف بمرحٍ:
_اقسملك بالله نسيت.
ضحكت على رد فعله الغريب الذي يتنافى مع قوله ثم قالت بنبرةٍ هادئة ولازالت مبتسمة الوجه:
_من دعاء لبس الثوب الجديد:
(اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)
حرك رأسه موافقًا ثم ردده معها بتقطعٍ حتى أنهى الدعاء فحدثته هي بنبرةٍ هادئة:
_عاوزاك تفرح برة مع بابا وتلعب وترجع مبسوط علشان للأسف بكرة “أيوب” هيسمعلك القرآن.
شهق بقوةٍ وهو يردد بخوفٍ:
_يا مصيبتك السودا يا “إياد”، هينفخني.
سألته هي بدهشةٍ:
_هو أنتَ محفظتش ؟؟ حرام عليك.
رد هو بتلجلجٍ عليها يبرر موقفه:
_ماهو بصراحة أنا مش عارف أكون زيك أنتِ و “أيوب” عاوز أكون زي بابا، راجل رايق والله، حبيبي دا.
صفعته على وجهه بخفةٍ وهي تقول من بين أسنانها:
_يا أخي بقى تعبتني أنتَ وأبوك، يلا علشان متتأخرش.
ركض من أمامها بسرعةٍ كبرىٰ فيما ضحكت هي عليه حتى صدح صوت هاتفها في يدها بمكالمة فيديو عبر موقع التواصل الاجتماعي “مازنجر” فعقدت مابين حاجبيها وشهقت شهقةً جامدة حينما وجدت المتصل هو “تَـيام”.
على الجهة الأخرى لوى فمه يمنةً ويسرى ثم تسرع وضغط على زر المكالمة الصوتية لتتخذ قرارها وترد عليه حتى تهينه فوجدته ينهرها بقوله بطريقةٍ تمثيلية:
_معلش بقى كدا مينفعش، الواحد يبقى بيراقب اكونتات الناس كدا في أمان الله يلاقي نفسه بيتصل فيديو ؟؟ احنا فين هنا ؟؟ مش ممكن.
ضحكت رغمًا عنها ثم تصنعت الجمود وهي تقول:
_حصل خير، ودا يعلمك متعملش حاجة غلط تاني وتراقب أكونتات الناس، خصوصًا أنه مش عليه أي حاجة تفيدك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أغلقت في وجهه بدون إنتظارٍ منها له ليردد هو بسخريةٍ:
_مؤدبة أوي ومحتاجة مجهود مني كبير.
_____________________
ركب “إياد” بجوار والده السيارة وقبل أن يتحدث بحماسٍ أوقفه والده يحذره بقوله:
_قبل بس ما تتكلم وأرجع اكسر فرحتك، هنروح مشوار سوا على السريع كدا، عشراية وهنرجع، بعدها بقى نروح زيطة بارك بتاعتك دي.
رد عليه مُصححًا بنبرةٍ ضاحكة:
_اسمها Zoom Bark، مش زيطة هي.
رفع “أيهم” حاجبه يسأله بترقبٍ:
_قصدك إيه يالا ؟؟.
حرك كتفيه ببساطةٍ وهو يقول بجديةٍ مُصطنعة:
_اللي فهمته، أنا مجيبتش حاجة من عندي.
حرك رأسه موافقًا ثم أدار محرك السيارة ثم قام بتشغيل الموسيقى في السيارة وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_هيص يالا، أوعى عمك وعمتك يعرفوا ؟؟.
حرك رأسه موافقًا وهو يضحك رغمًا عنه فيما ضحك “أيهم” وهو يردد لنفسه:
_هما يصلحوا وأنا أبوظ، بس فدايا.
بعد مرور بعض الوقت أوقف سيارته أمام وجهته التي قرر الذهاب لها، فسأله ابنه متعجبًا:
_بابا، احنا جينا هنا قبل كدا ؟؟ حاسس كدا.
رد عليه بتعجبٍ من حديثه:
_ممكن يكون مع جدك مثلًا، بس المكان دا هادي أوي، ماظنش أني حضرت هنا قبل كدا، بس يلا تعالى.
نزل معه “إياد” ثم أمسك كفه فيما توجه “أيهم” إلى المحل الخاص بصديق والده، فوجد المحل فارغًا منه وقبل أن ينادي على “شلبي” أتت له فتاةٌ تسأله بنبرةٍ جامدة من الداخل:
_نـعم ؟؟ أنتَ مين ؟؟
تعجب من طريقتها ورد عليها بتهكمٍ:
_أكيد مش جايين نسرقكم يعني، فين الحج؟؟
قبل أن تجاوبه وصلهم صوت والدها من مدخل البيت المجاور لهم وهو يقول بنبرةٍ عالية منفعلة:
_يا أخي منك لله كانت جوازة الشؤم و الندامة، مش كنا خلصنا خلاص ؟؟ جاي تعيده تاني ليه بقى ؟؟.
عقد “أيهم” ما بين حاجبيه مستنكرًا وكذلك الصغير فيما زفرت الفتاة بقوةٍ حتى نزل والدها ودلف المحل وهو يقول بنبرةٍ عالية دون أن يلحظ وقوف “أيهم” بصغيره على أعتاب المحل:
_اسمعي يا “نهال” أنا خلاص فاض بيا، عِدتك وخلصت من بدري، الواد دا لو حضر تاني عندنا أنا هجيب كرشه، نسب يعر وخلصنا منه خلاص.
تحدث الشاب من خلفه بتهكمٍ:
_كل دا علشان بقولك عاوز مصاريف علاج بنتك اللي دفعتها علشان تخلف ؟؟ مراتي دلوقتي أولى بيها، بنتك خلاص خرجت برة ذمتي، ومبقتيش لزماني.
شعرت بجرح كرامتها فاندفعت نحوه بجم غضبها وصفعته على وجهه بغير هوادة أو حتى أي تلميحٍ ظهر منها، ليضع كفه على وجهه وينطق من بين أسنانه بغيظٍ مكتومٍ اوشك على افراغه في وجهها:
_بتمدي ايدك عليا ؟؟ طب مترجعيش تزعلي بقى.
رفع كفه وهم أن يرد لها الصفعة وهي ترفع رأسها أمامه لتجد كف أحدهم يحول دون ذلك وهو يضغط على يده ناطقًا بسخريةٍ:
_لأ كدا عيب أوي، مفيش راجل بيمد أيده على ست، ولا أنتَ حيوان بقى ؟؟ بتاكل زي الحمير في البرسيم ؟؟
هتف باندفاعٍ في وجهه يسأله:
_أنتَ مالك ؟؟ مين أنتَ وبتدخل ليه ؟؟
هتف “أيهم” بثقةٍ وهو يضغط على رسغه:
_أنا الجن الأزرق يا حبيبي، وانكشح من هنا بدل ما أعلمك الأدب أنا، يلا ياض من هنا.
اقتربت “نهال” تضربه في كتفه وهي تقول بصوتٍ عالٍ:
_خلي عندك دم وامشي بقى، مفيش عندك كرامة خالص كدا؟؟ ليك عين يا بِجح تيجي هنا ؟؟ غور روح لأمك اللي جوزتك يلا، خليها تيجي تجيبلك حقك مني.
دفعته إلى الخارج وهي تصرخ في وجهه ليخرج هو من المكان نهائيًا ويرحل من أمامهم، فارتمت على الأريكة الجلدية تبكي بطاقةٍ نفذت منها، فتحرك نحوها “إياد” يربت على كتفها وهو يقول بحزنٍ لأجلها:
_متعيطيش، مش هو مشي؟؟ خايفة منه؟؟
رفعت رأسها تطالعه بعينين دامعتين فأخرج منديلًا ورقيًا من جيب بنطاله يمد كفه لها وبدلًا من هدوءها ازداد البكاء من جديد حينما تذكرت حرمانها من نعمةٍ كهذه وهي طعم الأمومة، وكأن “إياد” أصاب الهدف حتى اجهشت في البكاء أمامهم، وقد لاحظها “أيهم” فاقترب من وقوف والدها يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا أسف لو جيت في وقت مش مناسب، أنا “أيـهم” ابن “عبدالقادر العطار”، هستأذن حضرتك أجيلك وقت تاني تكون المدام ارتاحت شوية، تؤمرني بحاجة؟؟
شعر الرجل بالخجل منه ومن والده فهتف بضياعٍ وتشوشٍ:
_أنا أسف يابني….بس زي ما أنتَ شايف كدا.
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم نطق بصوتٍ رخيمٍ:
_مفيش مشاكل متقلقش، ربنا يعديها على خير ولو احتاجت حاجة أنا موجود بإذن الله، اعتبرني ابنك.
حرك رأسه موافقًا بامتنانٍ ونظراتٍ تنطق بالتقدير، ليقول هو من جديد:
_بالنسبة للي حضرتك عاوزه أنا موجود وهاجي مرة تانية هنا نتفق على كل حاجة، تؤمر بحاجة تانية ؟؟
رد عليه الرجل بتقديرٍ وامتنانٍ، فتحرك “أيهم” لابنه يمسك يده وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_يلا يا “إياد” علشان منتأخرش.
تحرك معه الصغير خطوةً ثم عاد من جديد يضع المنديل الورقي أمامها وهو يقول:
_متزعليش.
حركت رأسها نحوه بسرعةٍ فعاد لوالده يمسك يده ثم لوح لها بكفه وهو يسير بجوار “أيهم” لكن عيناه كانت تنظر لها بشفقةٍ فيما تعلقت نظراتها به وهو يسير بجوار والده تتمنى الحصول على صغيرٍ مثله يربت بحنوٍ على قلبها المتألم.
لاحظ والدها نظراتها نحو الصغير فتنهد بقلة حيلة ثم هتف بحزنٍ ويأسٍ:
_اللهم أني لا أسألك رد القضاء لكني أسألك اللُطف فيه.
______________________
في ورشة “فضل” كان يضع قناع الوجه الحديدي على وجهه وهو يقوم بعمله في إحدى البوابات الحديدية التي يقوم هو بلحم أضلعها مع بعضها، رفع القناع الحديدي من على وجهه ليجد “أيوب” أمامه مُبتسمًا، فابتسم هو الأخر ثم رحب به مُهللًا بقوله:
_يا ألف أهلًا وسهلًا، المكان نور، اتفضل.
دلف “أيوب” معه وهو يقول بودٍ:
_المكان منور علطول بصحابه يا أستاذ “فضل”.
جلس “فضل” مُبتسمًا ثم جلس مقابلًا له “أيوب” فتحدث الأخر بمرحٍ:
_قولي بقى تشرب إيه ؟؟ اللي تؤمر بيه موجود.
رد عليه بأدبٍ:
_الأمر لله وحده، أنا كنت جاي اطمن حد اتعرض تاني ليكم ؟؟ وخصوصًا الآنسة “قمر” من بعد خطوبتها.
ضحك “فضل” وهو يقول بقلة حيلة:
_خطوبتها ؟؟ الله يكرمك يابني، بس للأسف محصلش نصيب، “قمر” رفضت العريس وقالت مش مستعدة دلوقتي.
انفلجت شفتاه ببسمةٍ صافية جعلت صدره يرتاح من قبضته المُشددة وهو يقول بارتخاءٍ:
_طب حيث كدا بقى اسمحلي أني أطلب منك إيد الآنسة “قـمـر” ودا شرف ليا طبعًا أتمنى إن حضرتك تتكرم وتوافق.
أبتسم “فضل” باتساعٍ وهو يقول بلهفةٍ:
_وهو أنا عمري كله هلاقي زيك فين تاني؟؟ دا أنتَ خيرة الشباب كلهم، بس الأول أعرف رأيها هي، وأرد عليك، حكم دي دماغها ناشفة أوي ومش عاوزة تتجوز.
رد عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_إن شاء الله أنا متعشم خير واتمنى ربنا يجمع بين قلوبنا في مودة ورحمة وأكيد طبعًا حضرتك عارفني.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم له فيما تنهد “فضل” وهو يحاول إخفاء فرحته ولهفته بذلك العرض المُغري لابنة أخته، فأين ستحصل على زوجٍ مثل هذا ؟؟ كل من هم حوله يتمنون زوجًا مثله لفتياتهم.
_______________________
في منطقة الزمالك.
نزل “يوسف” بحقيبة ملابسه على الدرج يرتدي قميصًا باللون الأسود من خامة الجينز وأسفله بنطال من اللون الزيتي والحذاء الرياضي باللون الأبيض، بدا كعادته دومًا وسيمًا، لاحظته “شهد” التي كانت تجلس بمفردها، فسألته بتعجبٍ:
_أنتَ مسافر ؟؟.
حرك رأسه نحوها يقول بسخريةٍ:
_مش معقول كل شوية هقولك نفس الجملة، بس هغيرها وأقولك شيء ميخصكيش إنك تعرفيه.
اقتربت منه المسافة المتبقية تقول بلهفةٍ:
_كل مرة تكلمني كدا وكأني واقفة ليك بالسكينة، مش راضي حتى تسمعني، مش عاوز تديني فرصة واحدة، أكيد باينلك أني مش مبسوطة واني بحس بالذنب كل يوم، وأنتَ فاكرني فرحانة هنا.
ترك حقيبته وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_أنا لا شايفك مبسوطة ولا شايفك زعلانة، أنا مش شايفك أصلًا في العموم، مصممة تدي نفسك حق مش بتاعك.
رفعت صوتها في وجهه تقول ببكاءٍ:
_علشان ندمت، ضيعتك وعرفت دا متأخر وحتى الكلام بينا أنتَ قطعته، مرة واحدة كل حاجة اتهدت فوق دماغي، وأنا كل اللي فكرت فيه ساعتها إن أي طريق هيجمعنا سوا حد فينا هيتأذي، عمو قالي إنه ممكن يخلينا نسيب بعض بالغصب وساعتها….
بترت حديثها حينما أوقفها بنبرةٍ عالية:
_وساعتها إيه ؟؟ ها ؟ هيضيع منك كل حاجة صح؟؟ بيت وعربية وشقة وفلوس، كل دول في كفة و”يوسف” في كفة، بس يا حرام هو كفته خفيفة، معهوش ولسه هيقسط، فوقي، أنا ميتضحكش عليا بكلمتين، وكويس إني عرفتك وعرفت أني محبتكيش، وقولتلك وهقولهالك تاني، بكرة تشوفي اللي أنا هحبها هعاملها إزاي.
سألته باندفاعٍ تُرضي غرور أنوثتها:
_مش هتعرف، صدقني مش هتعرف تحب غيري، اللي بينا كان كتير ومش أي حد يقدر في يوم وليلة يملاه.
أبتسم بسخريةٍ ثم قال بوقاحةٍ:
_العيب مش عليكِ، العيب عليا أنا علشان كنت مستني منك تسلكي وكوكب الأرض كله بيدور حوالين نفسه.
رفعت عينيها الباكيتين له فسحبها هو من كفها نحو المرأة الموجودة في ردهة البيت قائلًا بجمودٍ وقسوةٍ:
_ بصي كدا على نفسك، شايفة إيه ؟؟ أقولك أنا ؟؟ واحدة طماعة وأنانية و كدابة، معرفتش تصون عشرة ولا عيش وملح، واحدة لما لقت الدنيا هتقلب راحت أمنت نفسها، زيك زي الخيل الهجين طول مالاقي لقمته قصاده ممكن يحني نفسه لأي حد، إنما أنا خيل أصيل مولفش مع هجين أبدًا، وانتَ و الأصل متعرفوش بعض.
تركها بعدما رمقها من أعلاها لأسفل بازدراءٍ ثم عاد يمسك حقيبته وهو يهددها بقوله:
_لو سكتك جت على سكتي تاني أنا هدوسك واحترمي جوزك شوية، صحيح لايقين على بعض.
خرج من البيت فيما جلست هي على المقعد ببكاءٍ تمسك وجهها بكفيها معًا تُخبيء دموعها وتداري انهيارها.
خرج من البيت فوجد “عاصم” يصف سيارته أمامه ثم نزل يسأله بسخريةٍ:
_خير ؟؟ زهقت وقررت تغادرنا الحمد لله؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم نطق باستفزازٍ:
_آه، مؤقتًا كدا علشان بصراحة اتخنقت منكم.
أبتسم “عاصم” بخفةٍ ثم قرر تجاهله لينطق الأخر بما ألجمه محله قائلًا:
_قولي بصحيح، هو إحنا ليه سافرنا بعد وفاة أبويا برة مصر قعدنا سنة ورجعنا ؟؟ عينك كانت على مرات أغا هناك ولا إيه ؟؟
التفت له “عاصم” يسأله بثباتٍ حاول التسلح به:
_وهو أنتَ إيه اللي فكرك يعني ؟؟
حرك كتفيه يجاوب على سؤاله:
_عادي يعني….بسأل.
زفر بقوةٍ ثم جاوبه بإيجازٍ:
_علشان “فاتن” تعبت فترة وأنتَ للأسف كان لازم تغير جو علشان كدا سافرنا ورجعنا تاني بعد اللي حصل.
حرك رأسه موافقًا يتصنع الاقتناع بما سمعه، فأمعن “عاصم” نظراته له ثم تحرك للداخل من جديد فأوقفه “يوسف” مرةً أخرى بسؤالٍ أصعب:
_طب قبر أمي فين ؟؟ يعني بما إن أهلها صمموا ياخدوا جثتها يدفونها عندهم، اروحله إزاي ؟؟
زفر “عاصم” بقوةٍ ثم عاد له من جديد يقول بنبرةٍ جامدة:
_قولتلك معرفش، هي عند أهلها في الشرقية.
_فين في الشرقية ؟؟ يهمني أعرف يمكن أروح اقرأ لها الفاتحة.
رد “عاصم” متهربًا بقوله:
_معرفش أبوك كان جايبها منين، ربنا يجمعكم سوا قريب.
رد عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_قبلنا يا رب إن شاء الله.
سأله “عاصم” بضجرٍ من تلك المحادثة الفارغة:
_بقولك إيه ؟؟ أنتَ رايق كدا ورايح فين؟؟
ابتسم له بعبثٍ وهتف بمراوغةٍ له:
_ابقى اسـأل أمـك بقى إن شاء الله.
رحل من أمامه فيما قرر الأخر الإنسحاب من أمامه قبل أن تزداد هزيمته أمامه من جديد خصيصًا وهو يسحقه بالحرب الكلامية وكأنه يجمع الردود في سالف الوقت لكي يقوى على مجابهتهم.
_______________________
جلس “بيشوي” في محله يمسك هاتفه في يده يتصفحه، فوجد “أيهم” ينشر صورةً برفقة “إياد” وكتب فوقها شرحًا توضيحيًا بمزاحٍ:
_سرحت فيك ساعات، فيك مني كتير حاجات… منيلة بستين نيلة فوق دماغنا.
كتب “بيشوي” تعليقًا وهو يضحك:
_عمل إيه حبيب عمه ؟؟ براحته.
كتب له الأخر بتفسيرٍ:
_لأ أبدًا اتشقط مني وقام يلعب مع البت اللي مركز معاها.
سأله “بيشوي” في التعليقات بعدما توسعت ضحكته:
_وأنتَ كنت فين ؟؟
رد عليه “أيهم” في التعليقات:
_كنت مركز مع أمها.
ارتفع صوت ضحكات “بيشوي” فتدخل “تَـيام” يُشير إلى “أيوب” في التعليقات وهو يقول ببراءةٍ:
_شوفت أنا راجل محترم إزاي ؟؟ ربنا يهدي والله.
رد عليه “أيهم” بسخريةٍ:
_متربي أوي أوي، لدرجة إنك بتصلي بينا الجمعة مرتين.
تابع “بيشوي” التعليقات وقبل أن يتدخل وجد “جابر” يهتف بنبرةٍ جامدة:
_مساء الخير، عاوزك.
أغلق “بيشوي” هاتفه ثم أشار له بالجلوس قائلًا:
_اتفضل أقعد، مكانك يا حمايا.
تجاهل “جابر” كلمته هذه عن قصدٍ ثم جلس يقول بعدما دلف لصلب الموضوع مباشرةً:
_مُسعد فين ؟؟ وفلوسي لسه معاه ؟؟
أرجع “بيشوي” ظهره للخلف ثم هتف بنبرةٍ هادئة يستمتع بخضوع الأخر أمامه:
_قولتلك عندي جوة ومش هكدب يعني، وحقك معايا كمان.
سأله يإبجازٍ:
_فين ؟؟ هو وحقي؟
رد عليه مُبتسمًا يحدثه ببرودٍ ثلجي:
_موجودين، بس عاوزك تعرف حاجة مهمة، أنا جيبته مش علشان خاطر عيونك ولا حُبًا فيك.
سأله بسخطٍ:
_اومال ليه إن شاء الله ؟؟
رد عليه بنفس البرود وقد توسعت بسمته:
_علشان خاطر عيون بنتك، عارفهم؟؟ شجر الزيتون.
وقف “جابر” يقول بنبرةٍ جامدة:
_احلم براحتك بس أنا قولت لأ يعني لأ، أبوك زمان بدا عليا “عبدالقادر” وراح يشاركه، قولتله أنا أبدى منه مرضاش.
تحدث “بيشوي” بوقاحةٍ:
_جو الفتنة الطائفية بتاعتك دي مش هينفع، كل واحد بيدور على مصلحته، وأنتَ عارف إن مصلحته كانت مع الحج، غير كدا هما صحاب يا سيدي، مالك أنتَ ؟؟
رد عليه بسخريةٍ:
_كبروا سوا وسابوني صغير في السوق هنا.
أبتسم له “بيشوي” وهو يقول:
_بصراحة تستاهلها دي.
زفر “جابر” في وجهه ثم تحرك من المكان، فرفع “بيشوي” صوته قائلًا:
_طب وحقك يا حمايا ؟؟ أكمل عليه المهر؟؟؟
____________________
وصل “يوسف” لمحل “عبدالقادر” بعدما أوقف سيارته على مقدمة الشارع من الجهة الأخرى، ثم توجه نحوه مباشرةً بعدما عرف الطريق عن ظهر قلب، ليدخل بثباتٍ يقول:
_مساء الخير يا حج ؟؟ فاكرني ؟؟
أبتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة و واثقة:
_كنت عارف إنك جاي بس متأخر ساعتين عن توقعي.
رد عليه بسخريةٍ لاذعة تخلو من الأدب خاصةً وهو يعلم أنه يخفي عنه مكان والدته:
_المحور كان واقف، أصل الجاموسة والدة.
حرك رأسه موافقًا ثم اعتدل واقفًا يسحب مفاتيحه وهو يقول بنفس الطريقة:
_لأ وماله، تتربى في عزك يا حبيبي، اتفضل معايا.
سأله بجمودٍ:
_على فين إن شاء الله ؟؟
جاوبه “عبدالقادر” بثباتٍ:
_على شقتك، أنا كنت متأكد إنك هتيجي علشان كدا جهزتهالك، يلا ولا مش ناوي تكمل الطريق ؟؟
رفع “يوسف” رأسه بشموخٍ يقول باتكاءٍ على أحرف كلماته:
_أنا الطريق نفسه يا حج، مش مجرد عابر معدي عليه.
حرك رأسه موافقًا ثم أشار له يتبعه، فلحقه الأخر وهو ينظر في أثره بنظراتٍ مُتفرسة بعدما امتاز “عبدالقادر” عليه في الغموض وبدا أمامه لغزًا يصعب حل عُقَد بدايته.
كانت البناية في مقدمة الشارع بجوار سيارته المصفوفة، فيما دلف “عبدالقادر” البناية ولحقه “يوسف” لداخل المصعد، وكل ذلك و “يوسف” يلتزم الصمت والأخر يراقبه.
بعد مرور أقل من دقيقة زمنية توقف المصعد في الطابق ما قبل الأخير ففتحه “عبدالقادر” ثم خرج منه وخرج “يوسف” خلفه ينتظر منه فتح الشقة حتى قام بفتحها مشيرًا له بأدبٍ و ودٍ:
_اتفضل يابني نورت بيتك.
دلف “يوسف” الشقة فوجدها تخالف توقعاته، حيث وجد ارضيتها رخامية واضاءتها حديثة واثاثها أيضًا حديد وحديث، جدرانها مزيج بين اللونين البُني و البيج، والإضاءة البرتقالية و الثُريا الفخمة المُضاءة في ردهة الشقة.
تحدث “عبدالقادر” من خلفه بقوله:
_دي شقة مفروشة كنت وقولت يمكن حد من ولادي ينقل هنا، بس أنتَ متتخيرش عنهم، اتمنى تعجبك.
هتف “يوسف” مستفسرًا يتجاهل عن عمدٍ حديثه:
_ايجارها كام الشقة دي ؟؟
أبتسم “عبدالقادر” وقد توقع سؤال هكذا، لذا رد عليه:
_من غير فلوس خالص علشان عيونك، “مصطفى” طول عمره أخويا وعمره ما قصر معايا، أنتَ كدا بتشتمني.
تنهد “يوسف” بعمقٍ فأضاف “عبدالقادر” من جديد:
_بعديك بدورين هتلاقي روف جاهز وفيه زرع ونور وقعدته حلوة، ابقى اطلع مشي رجلك فيه وهتلاقي مفتاحه معاك.
التفت يغادر الشقة فأوقفه “يوسف” بقوله:
_متشكر يا حج، إن شاء الله اظبط أموري وهرد كل جمايلك.
حرك رأسه موافقًا ثم غادره وهو يبتسم بيأسٍ فيما وقف “يوسف” في المنتصف يتابع المكان بعينيه.
_____________________
جلس “أيوب” في المسجد كعادته وتلك المرة بأملٍ عاد له خاصةً بعد تلك الخطوة التي أخذها في اتجاه “قمر” لعل طرقهم تتقابل وتتوحد بينهما السُـبل.
جلس يستند على العمود الرخامي في المسجد ثم رفع صوته بأنشودةٍ دينية يحبها هو كثيرًا ويشعر بكلماتها لذا يرددها عن ظهر قلبٍ:
إلهي رجعتُ بذلِّ افتقاري *** بخوفي بضعفي بدمع انكساري
رجعتُ أبوء إليك بسرّي *** وأنت العليمُ بكل السِّرارِ
رجعتُ لأشكو ذنوبَ الليالي *** وأشكو إليك ذنوبَ النهارِ
أحثّ خطايَ فراراً وخوفاً ***ومنك ولكنْ إليك فراري
أنا من عثرتُ مراراً بدربي ***ومَن لي سواك يُقيلُ عِثاري ؟
ومن لي سواك ليغفرَ ذنبي ***ويقبلَ يارب مني اعتذاري ؟
ومن لي سواك يُفرّجُ كربي ***ويشفي فؤادي ويُطفىءُ ناري؟
ومن لي سواك يُقوّمُ دربي؟ *** يُسدّد خلف الرسول مَساري
فأنت الرحيمُُ ، وأنت الكريمُُ *** وحُكمك يارب في الكون جارِ
أنهى الأنشودة بصوته بعدما اندمج في التغني بها وقد لامست كلماتها قلبه لذا تنهد بعمقٍ ثم مسح وجهه وقرر العودة إلى منزله قبل المجيء إلى هنا من جديد قبيل أذان الفجر.
خرج من المسجد ثم أغلقه بهدوءٍ والتفت ينزل درجاته الرخامية حتى وصل نهايتها ففاجئه أحدهم يرتدي ملابس رسمية وهو يقول بنبرةٍ هادئة ثابتة:
_اتفضل معانا يا شيخ “أيوب”.
حرك “أيوب” رأسه لليسار قليلًا فوجد سيارة بيضاء اللون “ميكروباص” تقف بجوار المسجد، فابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_عيون الشيخ “أيوب” طب تصدق كنت ناوي أجيلكم، قولي “عطية” باشا لسه في الخدمة ؟؟
أشار له الضابط بالتقدم، فحرك رأسه وهو يقول:
_يبقى نقلوه….يا صبر “أيوب”.
تحرك نحو السيارة وهو يعلم إلى أين سيتجه لكنه قرر الثبات كعادته ليرى نهاية الطريق أين هي.
_______________________
أنهى “يوسف” تفحص الشقة التي شعر فيها براحةٍ نفسية ثم ولج الغرفة الكبيرة يضع بها حقيبة ملابسه وقام بتغييريها إلى أخرى بيتية مريحة عبارة عن بنطال قطني رمادي اللون وسترة قطنية سوداء اللون ثم قرر الصعود إلى الروف كما أخبره “عبدالقادر”.
صعده بهدوءٍ تدخل قلبه ليحل محل القلق وكأن تلك الجلسة احتلت مكان خوفه وتربعت في قلبه، لم يدري لماذا ابتسم وهو يقف أسفل تلك الإضاءة و الزرع الأخضر المحاوط له ورائحة النعناع الأخضر التي ضربت أنفه حينما مر الهواء بجوار أنفه.
وجد مقعدًا في منتصف المكان فجلس عليه ثم أخرج هاتفه يضعه بجواره وأخرج ميدالية مفاتيحه وسيارته ليراقب القمر الموضوع بها وهو يقول بنبرةٍ موجوعة وصوتٍ خنقه البكاء:
_ياترى شكلك بقى عامل إزاي ؟؟ وياترى عارفة إنك ليكي أخ ولا زيي كنت فاكرك مش موجودة، يا رب تكوني بتحبيني، علشان والله العظيم أنا بحبك اوي، وعاوزك.
فتح هاتفه حينما وجد دموعه على مشارف النزول والغصة المريرة علقت بحلقه كما الأشواك الملتهبة، فرفع صوت الأغنية التي تجعله يبكي دومًا وكأنها تعبر عن حالته ثم وضع السماعات داخل أذنه وارجع رأسه للخلف:
_واقف مصدوم في مرايتي حبايبي ليه قتلوني؟… في حكايتي بحاول اخبي دموعي….حتى اللي كانوا يوم جنبي جرحوا قلبي وقتلوني وكانوا مبسوطين بدموعي…..وأنا بس إيه كان ذنبي ابص جنبي ألاقي اللي مني كارهني وبيخنوني….وبيخونوني….. الدنيا ياما علمتني إن حواليا أشخاص كتير مستنية وقوعي…. بقوم من نومي مفزوع….دايمًا بكون المخدوع…. بحاول أهرب من قلبي على خدي تنزل الدموع….بسأل نفسي أنا ابقى مين….تايه طول عمري وحزين…. بكرة هتدور السنين وهعرفكم أنا ابقى مين.
سمح لدموعه تعلن نفسها فيكفيه الصمود حتى الآن، تنهد بعمقٍ وقبل أن يحرك رأسه أو حتى يعتدل في جلسته وجد كف أحدهم يحاوط عنقه وهناك شيءٌ معدني لامس عنقه ومعه صوتٌ بنبرةٍ جامدة يقول:
_اتشاهد على روحك.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى