روايات

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثامن عشر 18 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثامن عشر 18 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الجزء الثامن عشر

رواية منك وإليك اهتديت البارت الثامن عشر

رواية منك وإليك اهتديت
رواية منك وإليك اهتديت

رواية منك وإليك اهتديت الحلقة الثامنة عشر

-ومحكتيش ليا ليه؟
قالها زيدان وملامح وجهه صارمة، بينما كانت مليكة تخفض بصرها تخفي نظراتها عنه بحرج بعدما كذبت عليه واكتشف هو كذبتها ببساطة فالأمر كان أشبه بدلو ماء وسكب فوقها بقوة، تمسكت بالصمت كخير نجاة من تأنيبه لها ونظراته المحملة بالغضب كانت تزداد قساوة وذلك لشعوره بالضيق من صمتها الملازم لها الفترة الأخيرة فقال بنبرة غاضبة:
-ما تتكلمي هو أنا هسحب منك الكلام.
رفعت عينيها المهددة بسقوط دموعها ووجهها غاص في احمرار شديد فبدت وكأنها على وشك الانفجار، فهمست بصوت مبحوح قائلة:
-مفيش كلام تاني.
ضغط بأسنانه فوق شفتيه السفلية بقسوة مكورًا يده بقوة وكأنه يحاول التمسك بخيط التريث معها ولكنها تثير جنونه بصمتها وإصرارها على معاملته وكأنه شخص غريب عنها، بينما كانت هي تلاحظ تعبيرات وجهه المنفعلة فسمحت لحبال الصمت بالانفلات وحررت مشاعرها في كلمات كانت بدايتها مبعثرة:
-أنا بقيت عايشة في تعب اعصاب، متفكرش انه سهل عليا اعمل كدا بس دا أفضل حل ليا ولبابا مصطفى، بـ…بابا…
اطرقت لحظة تستجمع مشاعرها المبعثرة تستعيد رباطة جأشها ثم واصلت:
-بابا يستحق يعيش ويتبسط ويفرح بحياته، وجودي عقبة في حياته.
-ومحكتيش ليا ليه يمكن كان عندي حل تاني غير انك تروحي تأجري شقة وفي الأخر هتكسري فرحته بردو.
رفعت عينيها الباكية تنفي بنظراتها ما يقوله قائلة بحزن:
-أنا لما اقعد في شقة تانية ابقى كدا بكسر فرحته!، بالعكس أنا كدا بقدمله هدية انه يكمل حياته مع الانسانة اللي بيحبها، زيدان…
عاد السكوت يطرق أبوابه على طرف لسانها، فعقد ذراعيه يركز ببصره عليها يعطي لها فرصتها الكاملة في فك قيود عاطفتها لتحررها مما كانت تعاني منه، فاستكملت بضعف:
-بابا عملي كل حاجة حلوة، زمان كنت بشوف نظرات الشفقة من الجيران مكنتش بفهم ليه، دلوقتي فهمت هو دفن شبابه وحياته بسببي على الاقل اديله فرصته وويعيش مع الانسانة اللي بيحبها ليه اكون عقبة لغاية ما اتجوز واحنا اصلاً مش عارفين هنتجوز امتى؟
زفر زيدان بعدما ادرك حقيقة مشاعرها المضطربة ما بين الخوف على مستقبل زوج والدتها ولجوئها لخطوة مثل هذه ولكن يبدو أن سذاجة عقلها تمسكت بمبررات واهية غير مدركة حجم خطأ مثل هذا في حق زوج والدتها الذي ثابر بقوة في وجه كل من حاول اقناعه بتركها وحدها، وسلبه ابسط حقوقه في الاطمئنان عليها فرد بصرامة:
-بردو ليه محكتيش ليا يمكن كان عندي حل تاني؟
أجابت ببساطة ادهشته:
-وتشيل همي ليه، وبعدين هتعمل إيه مفيش حل غير اللي أنا قولته، بابا مصطفى ممكن يزعل مني بس أكيد هيفهم وجهة نظري وفي الاخر ابقى رضيت ضميري.
-الموضوع مش بالبساطة دي يا مليكة، في مية حل تاني ممكن تعمليه وفي نفس الوقت تشتري خاطر الراجل اللي تعب عشانك.
كان صوته يحمل لمحات من العتاب، فهزت كتفيها بعدم اقتناع قائلة:
-صدقني انا فكرت كتير ومفيش حلول..
بتر قولها بنبرة ساخرة وهو يقول:
-ومجاش في بالك اننا نتجوز مثلاً وكدا تبقي فرحتي الراجل وحسستيه انه ادى مهمته في الحياة ويتجوز ويعيش حياته بنفس راضية.
تعلق بصرها به بعدما القى بقوله بسلاسة زادت من ضياعها فبدت وكأنها في دوامه لا تعرف ايهما أكثر صواب، فخطوة مثل هذه كانت من المستحيلات فبعد ما عاشته من قلق حول معرفة زيدان بأمر ماجد لن تستطيع أن تقدم على مثل هذه الخطوة قبل أن تخبره..فكانت على وشك أن تهز رأسها بالرفض ولكنها فوجئت بقوله بعدما أخرج تنهيدة مثقلة:
-بعد ما وصلتك الصبح المستشفى، جالي خبر انه هيتم نقلي الاقصر، فرجعت عشان اقولك اتفاجئت بيكي بتمشي من المستشفى، استغربت ومشيت وراكي…
قطعت حديثه بقولها الشرس:
-بتجسس عليا، شاكك فيا؟
-لا طبعًا، ومتحكميش عليا الا لما تسمعي الاول، انا اتصلت بيكي بس انتي خرجتي التليفون من شنطتك ورفضتي المكالمة وكملتي في طريقك استغربت ومشيت وراكي اشوف في إيه ومالكيش حق تلومي وانتي غلطانة..
زمت شفتيها بضيق وصمتت، فلم تكن تملك أحقية الرد بعدما اقدمت على الكذب بكل ساذجة، ومع استمرار صمته سألته بحزن امتزج فيه الضعف:
-يعني هتقعد فترة كبيرة ومش هشوفك؟
-اه للأسف، قبل ما اشوفك كنت عايز اتنقل بس الموضوع اتأجل فترة، وبعدين بلغوني بالموافقة.
-ليه كنت عايز تبعد كدا؟
سألته بتعجب، فتجاهل تعجبها ورد بثبات ينافي تمامًا ما يشعر به من لغط كبير يجلجل حياته حينما حركته عاطفته واوهم نهى بخطبتهما:
-مفيش، مكنتش مبسوط فكنت عايز ابعد.
هزت رأسها بتفهم بينما هو واصل حديثه بإصرار:
-أنا شايف ان دا انسب حل هنتجوز في اسرع وقت.
-جواز أيه يا زيدان الموضوع مش بالبساطة دي، بابا مصطفى هيرفض.
ردت بارتباك، فقال هو بهدوء:
-ليه يرفض؟ انا اصلا كنت مخنوق ان هسيبك فترة كبير مش هقدر اشوفك فيها، وانتي كنتي هتسيبي البيت عشان هو يتجوز، يبقى دا انسب حل.
ابتلعت لعابها واصابها التوتر وهي تجيب:
-حتى لو بابا اقتنتع، أنا مش حاسه ان جاهزة…
رمقها بشك فرفعت يدها تمسح جبتها التي تعرقت بشكل ملحوظ مما دفعها تردف بضيق:
-متبصليش كدا، انا لسه قدامي سنة تكليف الموضوع صعب جدًا..
-دي بسيطة يا مليكة اقدر اخدك معايا في المكان اللي أنا فيه وانقلك.
توسعت عيناها حينما استمعت لكلامه، فتعلقت بعينيه وسألته بترقب:
-انت تقدر تنقلني من المستشفى دي؟
-اه طبعًا في ثواني الموضوع يخلص، هو انتي مش عارفة مخطوبة لمين؟
رمشت بأهدابها عندما انبثق شعاع الأمل من وسط ظلام فرض قيوده على حياتها، تسارعت أنفاسها وهي تفكر في الأمرولكن لم يعطيها زيدان فرصة وذلك حينما استمعت له يقول بصرامة:
-فكري يا مليكة كويس الموضوع كله في ايدك، بس موضوع ان تسكني لوحدك مرفوض.
***
وقفت نهى تواجه غضب والدها المتفاقم بعدما عاندت بشجاعة زائفة ورفضت الخروج للشيخ قاسم مما اثار غضبه وحنقه واضطر للمغادرة، وكانت اقصى ما تتخيله نهى حينها انها ستواجه عدة صفعات ونقاش عنيف ولكن لن يفعل والدها بها شيء ضد رغبتها وخاصةً بعدما علمت بنية ذلك الزواج.. مجرد زواج عرفي مقابل مبلغ مالي كبير، انفجر الاندهاش فوق ملامحها وهي تواجه والدها وسمير معًا، فلم تصدق ما تراه منهما، لقد كانا يراها مجرد سلعة وستباع دون أحقية الاعتراض من قبلها، فتشجعت قائلة:
-لا يا بابا..لا.
لم تعرف من أين أتت تلك القوة الغريبة التي ظهرت فجأة أمام والدها ولكنها جيدة فقد ظهرت للنور في أكثر وضع كانت تحتاجه بها، لتواجه طمع والدها وأخيها، وكما توقعت تلقت عدة صفعات من سمير وهو يقول:
-انتي هتسمعي كلامنا مش هنحتاج منك رأي يا بت، هتتجوزيه يعني هتتجوزيه.
ارتجفت بخوف وهي تواجه الشر المتطاير من عينيه فقالت بصراخ:
-انت بتكرهني ليه أنا اختك!
-اختي تسمع كلامي أنا وابوكي، ولا انتي يا مهزقة مستنيه زيدان يحس بيكي ويعطف عليكي بالجواز.
صرخت مجددًا تقول بانهيار:
-انا مش مستنيه حد، سيبوني في حالي.
ابعد ابراهيم ولده بهدوء غريب تملك منه، واقترب منها ممسكًا بكتفيها قائلاً بنبرة هادئة تفوح منها الشر فارتجف قلبها منه:
-يا نهى دا مجرد جواز كام شهر وخلاص، فلوس الشيخ قاسم كتيرة هتنسيكي انه كبير او انه جواز عُرفي.
حركت رأسها برفض ممزوج بالخوف، وذلك عندما تحولت نبرة والدها الهادئة لخشنة جافة:
-لازم تساعدينا نخلص من الديون اللي علينا، مهرك هيكون كبير، الشيخ قاسم هيموت عليكي وعنده استعداد يدفع دم قلبه.
ارتجفت بذعر وهي تراقب تحول ملامحه لتهديد مبطن لها ان اصرت على الرفض، فلم تقوَ على مواجهتهما حيث تبددت قوتها اثر نظرات الحقد والكره المصوبة نحوها وكأنها أصبحت عدو لهما بعدما اعلنت عصيانها..حاول سمير بمواصلة الحديث ولكن يد ابراهيم منعته حينما استمع لصوت خالد خارج الشقة فقال سريعًا:
-ادخلي الحمام اغسلي وشك يا حبيبتي..
وجه حديثه لسمير قائلاً بأمر:
-وأنت تعال ورايا الاوضة.
تحركت نهى صوب المرحاض ودخلت برعب تضع كفيها فوق رأسها تعلن ضعفها في حل تلك الكارثة، كيف ستنجو وهي تحت سيطرتهما! ممن ستطلب المساعدة والفوضى تحاوطها من كل اتجاه، لقد سئمت مما تعيشه، وخابت ظنونها مجددًا حينما فكرت أن الابتعاد عن زيدان سيعطيها قوة تستطيع من خلالها مواجهته بصلابة، لم تعرف أن المصائب ستتدفق فوق رأسها كاللعنات التي تصيب الأنسان موصومة به حتى الممات، فالأغرب أن عائلتها في حد ذاتها لعنة قاتلة وأصابتها، لقد ذاقت ويلات الخذلان منهم ولم يكتفوا بعد، فقدت انسانيتها على أيدهم وضاعت ماهيتها وسط اطماعهم، فوقعت في فلك الظلام تتلقى الخيبات دون معالجة الماضي، وأي ماضي والحاضر أسوأ والمستقبل يهدد بصورة قاسية أرعبتها عما ستعيشه ان ارضخت على ذلك الزواج.
عاد عقلها يعمل بجهد للخروج من تلك الكارثة، ولم تجد سوى والدتها هي من في يدها تنهي ذلك العبث، ولكن كيف ستصل إليها؟ ضغطت فوق رأسها وكأنها تحفزها للعمل بجهد أكثر دون لفت انتباه والدها أو اخيها وبعد عدة ثواني فتحت عينيها ببارقة أمل ثم توجهت للخارج تبحث عن خالد فاندفعت نحو غرفته بسرعة وفتحت الباب بقوة ولم تدرِ أنه كان يبدل ثيابه بأخرى مريحة بعد يوم طويل بالعمل، فشهقت بخجل واغمضت عينيها سريعًا تقول بتلعثم:
-والله ما شوفت حاجة.
انفرج فمه وهو يهبط ببصره قائلاً بتعجب ساخر:
-أنا لسه لابس البنطلون.
هزت رأسها وهي ما زالت على نفس الحالة تشير بأصابعها نحو صدره في صمت، فأدرك مقصدها قائلاً:
-يا شيخة شككتيني في نفسي، أنا قولت البنطلون نزل من الصدمة.
جذب سترته القطنية وارتدها ثم قال:
-فتحي عينك خلصت.
فتحت عينيها ومن ثم التفتت نحو غرفة والدها وجدتها لا زالت مغلقة، فتنهدت بارتياح وتقدمت للداخل تغلق الباب خلفها، ثم تابعت خطواتها نحوه تفرك يدها بتوتر جعلته أسير كل رد فعله يصدر منها فلاحظ تورم وجهها وعلامات حمراء ترتكز فوق وجنتيها، فمد أصابعه يلمس وجنتيها بغضب وهو يقول:
-هو في حد ضربك؟
ابعدت يده بخجل عنها قائلة بضعف وتوسل:
-عايزة اكلم ماما يا خالد، أنا محتاجة اكلمها ضروري.
امسك ذراعها يسألها بصوت خشن صارم:
-مين ضربك، اكيد سمير أنا هطلع…
بترت حديثه بوضعها لكفيها فوق صدره تمنعه برجاء خالطه البكاء:
-عشان خاطري اسمعني عايزة اكلم ماما ضروري، وممعيش تليفون اقدر اوصلها بيه.
زفر بضيق متجاهلاً اضطراب قاس اصاب صدره بسبب لمسة كفيها فوقه بكل أريحية متناسية ما يشعر به الآن اثر لمستها تلك، فقد انقسم داخله لنصفين نصف يتمنى استمرار كفيها فوق صدره لوقت أكبر مع نظرة عينيها المتوسلة ونصف أخر يجاهد عاطفته التي تدفعه لتقبيلها وقد بات ذلك الشعور ملح الفترة الأخيرة كلما تعامل معها، وكان ذلك في حد ذاته أشبه بالوقوف فوق حافة هاوية اما تحقيق رغبته والسقوط في بئر جنونه أو أن يكون أكثر صمودًا معها والتمسك بعقلانيته التي باتت تختفي أحيانًا في حضرتها، لذا تحرك نحو الكومود والتقط هاتفه ثم فتحه واعطاها إياها ومن بعدها جلس فوق الفراش تاركًا إياها تكتب ارقام هاتف والدتها في سرعة وكأنها على وشك الموت…عقد حاجبيه عندما ابتعدت لأخر الغرفة وهي تضع الهاتف فوق أذنها وكأنها لا تريده يسمع ما ستقوله! مجرد بلهاء فالغرفة صغيرة بقدر تجعله يسمع حتى صوت تنفسها السريع..
اما نهى فوجهت وجهها نحو الحائط بل كادت تلتصق به تستمع لرنين الهاتف بنفاذ صبر، حتى جاء أخيرًا صوت والدتها الصلب فسارعت نهى بقولها:
-الو..ماما، انتي سامعني.
-نهى! ايه يا موكوسة قافلة تليفونك ليه؟
مسحت دموعها وهي تسارع بالحديث قائلة:
-مش وقته يا ماما..بابا وسمير عايزين يجوزوني.
-اه قالولي وأنا وافقت.
صدمة أخرى وجههت لها، فأصابتها بالشلل المؤقت، فقدت بها النطق وتجمدت بها اطرافها ممن ظنت بها الملاذ ولكنها كانت كالسراب، فتابعت ميرفت بصوت محمل بالأمل والطمع:
-فلوسه كتيرة يا بت وهتساعدنا في ديون المحلات، سفرك طلع بفايدة.
ارتجف صوتها وهي تخرج من حالة الخدر التي أصابتها فقالت:
-دا راجل كبير، قد بابا..هيتجوزني عُرفي..
-وماله قد ابوكي يعني الجواز مش بالسن، وبعدين حكاية عرفي دي عشان ظروف البلد اللي انتي فيها والاوراق وكدا عادي كلها امور تتحل بشطارتك حببي الراجل فيكي وهيقلبه رسمي.
اغلقت نهى الاتصال عند هذا الحد، وتخبطت بين بالألم والصدمة والخذلان، حتى والدتها وافقت على ذلك الزواج وكأنها سلعة تريد الخلاص منها، لقد انهكت حقًا وانهارت ببكاء وهى تهبط نحو الارض تستلم بضعف، ولكن يد خالد منعتها ناظرًا لها بعمق محفزًا إياها بالتحدث، فانطلقت تقول ببكاء متقطع:
-هيجوزوني عرفي لشيخ قاسم.
تركها خالد تسقط فوق الأرضية بعدما انهارت قواها وغادر الغرفة يعلن عاصفة عاتية من الغضب، فاستمعت لشجار عنيف بينه وبين والدها وأخيها، تحاملت على نفسها وجرت قدمها تراقب الوضع المحتدم بالصالة بين ثلاثتهم.
-انتوا مجانين، ازاي تفكر تعمل كدا في بنتك يا خالي.
هز ابراهيم كتفيه بلامبالاة وابتسم ببرود:
-وماله بنتي وانا شايف دا الانسب ليها.
-قاسم عمره ما كان انسب، انت كدا بتنهي عليها.
زمجر فيه سمير بغضب:
-وانت مالك..ابوها واخوها موافقين.
اقترب منه خالد بهجوم مهددًا بضربه وذلك عندما كور قبضتيه مستعدًا لذلك:
-وهي رافضة، هتغصبوها ولا ايه؟
-لما تكون مش عارفة مصلحتها يبقى هنغصبها.
قالها ابراهيم بإصرار وضيق، فضحك خالد بسخرية والغضب يهدد بالانفجار في وجه خاله وابنه:
-مصلحتها ولا مصلحتكم.
-مالكش دعوة يا حبيبي دي أمور عائلية بينا.
ارتفع صدر خالد اثر تنفسه السريع وأصبح وجهه مسودًا من شدة غضبه، فلم يجد نفسه سوى وهو يقول بتهديد:
-وانتوا قاعدين في بيتي ومن حقي ادخل وامنع المهزلة دي.
نظر ابراهيم لسمير نظرة طويلة ومن بعدها التفت بوجهه لخالد وهو يقول بنبرة تفوح منها الحقد والقسوة:
-وماله من النهاردة هنسيب البيت، لم هدومك يا سمير انت ونهى يلا بينا.
انفلت زمام الأمور من خالد فجأة فالتفت بوجهه لنهى الظاهر منها رأسها فقط حيث كانت تختبئ خلف باب غرفته، وجد التوسل يطفو فوق ملامحها، فأدار رأسه لخاله مجددًا يقول بهدوء تعجب منه سمير الذي رمقه بشك:
-خلاص يا خالي براحتكم أنا نصحتكم كتير وفي الأخر دي بنتك.
لم تتوقع نهى رد فعله فكتمت شهقتها وامتنعت عن النظر إليه بعدما تخلى عنها هو الأخر وأصبحت هي في مهب الريح وحدها.
لم تستمع له وهو يستكمل حديثه فقد هرولت صوب المرحاض تبكي بانهيار تحت انظارهما.
-البيت بيتكم اقعدوا فيه لغاية ما تقرروا تمشوا، عم اذنكم.
انسحب خالد بهدوء فتابع ابراهيم خطواته خلفه، محاولاً ألا يحزنه كي تسير خطته وفقًا لما يريده:
-يا حبيبي متزعلش من كلامي، انت واحد مننا بس جواز نهى دا موضوع شخصي شوية وله ابعاد تانية..
قطع خالد حديثه بقوله الذي أصر على إظهار اللامبالاة فيه:
-براحتكم والموضوع ميخصنش فعلاً.
ربت ابراهيم فوق كتفه ومن ثم دخل الغرفة مغلقًا الباب خلفه، فتقدم منه سمير قائلاً بشك:
-ليه اتغير كدا؟
-ولا حاجة أنا احرجته، أصل خالد متربي وابن اصول وعنده دم، كان بيدافع عنها من باب الشهامة بس.
شرد سمير قليلاً ثم قال بعدها:
-نهايته، هنمشي نروح فين؟ عند الشيخ قاسم.
ضحك ابراهيم ساخرًا من تفكير ابنه الاحمق:
-نمشي فين يا مجنون أنت، لازم نعزز من اختك عشان قاسم يعلي من المهر شوية، وفي نفس الوقت مش عايزين شوشرة ونضمن نهى في ايدنا.
زفر سمير بحقد وهو يقول:
-نفسي اكسر عليها باب الحمام عشان تروح تستنجد بخالد الحيوانة.
-لا سيبك منها خالص، ومتضغطش عليها وفر مجهودك لموافقتها بالجواز.
اومأ سمير موافقًا على رأي والده وفي نفس الوقت يتمنى أن يكسر باب المرحاض منفذًا بها أبشع طرق الضرب كي تحاول الاستنجاد بأحد وخاصةً خالد، ولكنه اضطر للرضوخ لأمر والده تاركًا تلك المسكينة تواجه مخاوفها بالمرحاض وحدها فلم يعد أمامها سوى طريق واحد جربته من قبل وفشلت فيه ولكن لن تترك نفسها لأهوائهم ستحبط أمالهم حتى وان لجئت للموت.
***
تابعت مليكة عملها بالمشفى وحديث زيدان لم يفارق عقلها، كلما مالت نفسها للموافقة والهرب معه لمكان بعيد لا يعرفها به ماجد تعود مخاوفها تخرج من خلف قبضناها وتصارع ذاتها بأن ما تميل إليه ليس سوى جنون وسيدمر حياتها.
تنقلت بين أسِرة المرضى تتابع عملها بعقل حاضر احيانًا وأحيانًا أخرى تغرق في عمق مصائبها، ولوهلة خُيل لها صوت ماجد يتردد في الغرفة الواسعة التي كانت تضم مجموعة من المرضى، استدارت ببطء وكأنها عروس خشبي تنظر برعب جلي لمصدر الصوت وها هو قد صُدم خيالها بواقع بشع حينما وقعت عينيها عليه يشير لها بالتحرك خلفه ونبرته حازمة بقدر جعلها تتحرك خلفه بتروٍ بعدما لاحظت نظرات زملائها لها بعضهم كان يقتله الفضول والبعض الأخر يساندها بتعاطف كبير:
-ورايا يا دكتورة.
تابعت السير خلفه وقلبها يدق بخوف رهيب تمنعه من الظهور للعلن فيستغل ماجد ذلك ويصيبها في مقتل، لن تسمح له وستظل على حالة الرفض عله يصيبه الملل منها ويتركها..ولكن متى قطع اجازته وعاد وهي لا تعلم شيء منذ الصباح، فأصبح ظهوره يشبه ظهور الاشباح المخيفة..دخلت غرفة مكتبه خلفه ولكنها تركت الباب مفتوح، فأشار إليها بإغلاقه ولكنها أبت وتعمدت أن تعلن تمردها عليه مما أثار ذلك جنونه واندفع يهددها بشراسة:
-بلاش تتحديني يا مليكة احسنلك.
-عُمر الباب دا ما يتقفل علينا لوحدنا يا دكتور، قول اللي انت عايزه وخليني امشي.
خرجت نبرتها قاسية فهاجمها باستنكار:
-شاطرة يا مليكة باين ان وقت غيابي نساكي مصيبتك.
ابتلعت لعابها لعله يرطب حلقها الجاف ويهدأ من روعها، فردت بثبات تعجب منه:
-الكلام دا المفروض تقوله لنفسك، أنت اللي زورت الصور والمحادثات دي ومية الف واحد يقدر يثبت دا.
ضحك باستهجان وهو يقترب منها خافضًا نبرته:
-دا اللي عقلك المريض صورهولك، هتخرجي من المصيبة كدا يعني، طب وصورك اللي بشعرك مزورة بردو؟
اثار جنونها وأشعل فتيل الغضب لديها بضحكاته التي لم تنقطع بل استمرت وكأنه يلعب فوق أوتار تماسكها:
-دي سمعة يا حلوة، وشوشرة كبيرة اوي وفي الاخر بردوا مش هسيبك الا لما انفذ اللي انا عايزه حتى لو وصلت ان اخطفك.
زهلت وهي تتابع حديثه الذي شارف على الجنون، فردت بنفور:
-اللي في خيالك لا يمكن يحصل، من رابع المستحيلات واللي عندك اعمله، أنا مش هخاف منك.
-كذابة الخوف هياكلك والود ودي استغله في الوقت دا..
صمت للحظة يشملها بنظرات متفحصة وكأنه يحاول زعزعة هيكل تماسكها، فتابع بهمس بيشبه فحيح الافاعي:
-واللي عندي كتير اووي ومش هسيبك الا لما تكون كل حاجة براضكي.
لوت فمها بسخرية كناية على مدى استهزائها به واستدارت لتغادر فاستمعت لصوته يحلق بنبرة مرتفعة قاسية:
-حظك ان انا لسه مخلصتش اللي ورايا وهكمل اجازة صغننة خالص ومن بعدها هتلاقيني هنا كل يوم، بس صدقيني مش هسيبك وقتها والاوضة دي هتشهد على امجادنا أنا وأنتي.
ومن بعدها ضحك بتهكم بعدما ألقى بتهديده المبطن، فأصابها الغثيان من مغزى حديثه الوقح واتجهت صوب المرحاض تفرغ طاقتها بالغثيان بدلاً من الانقضاض عليه وقتله عمدًا.
رفعت وجهها تطالع نفسها بالمرآة، أحست بتشوش يضرب خلايا عقلها، فتداخلت الافكار ببعضها البعض وكأنها شبكة عنكبوتية، تسلل منها الصبر ونفذ في مواجهة ذلك الوقح الذي أصبح تهديداته أكثر وقاحة وجرأة، تعقدت الأمور أكثر فبدت كسجينة مقيدة بأغلالٍ رهن لحظة تخشاها، عودته من جديد ستساعده في الضغط عليها، سلطته بالمشفى وعلاقاته تشعرها بكم هي ضئيلة، فالمواجهة بينهما غير متكافئة، لقد كرهت موقفها الضعيف وهواجسها المخيفة، تسعى للخلاص ولكن كيف وهي لا تلمك سوى اعلان رفضها له دون الافصاح عن شيء، أغلقت عيناها ترغب في محو تلك المصائب وكأنها لم تأتي لتلك المشفى ولم تقابل ذلك الخسيس، آه طويلة اخرجتها وهى تتخيل حياتها مع زيدان دون مخاوف تعيق سعادتها معه، فقد تلخصت أبسط امانيها في الفرار من كارثة تلاحقها وتهدد بهدم أسوارها وقد تكشف ما تخشى ظهوره للعلن حتى وإن كانت مجرد ضحية فالمجتمع لم ولن يرحمها حتى وان ثابرت وواجهت، حتمًا ستصطدم بعقول بشرية ترشقها بالاتهام ترفض تصديقها، فكل ما تعانيه بصمت يصب في خوفها من “المجتمع”.
ارتفع رنين هاتفها يكسر الصمت المطبق على المكان، جذبها من عمق تفكيرها فتنفست وكأنها كانت تستسلم للغرق ولكنها جُذبت للسطح عنوة فالتقطت أنفاسها بقوة وما كان المتصل سوى زيدان..
رفعت انظارها للأمام تشرد للحظات في حديثه بالصباح وشعاع أمل زائف انبثق لها، فسارت خلفه كالمغيبة وتمسكت بطرفه علها تنهي ما يخفيها في صمت بعيدًا عن ماجد والمشفى بأكملها، وبالتأكيد باختفائها سينساها ماجد ولن تعود تزور احلامه الدنيئة.
جذبت نفس عميق تهدأ به اضطراب قلبها وارتجاف نبرتها وهي تجيب:
-إيه يا حبيبي خلصتي أبعتلك عربية تروحك.
شعور بالاطمئنان غزا روحها ودفعها لتجيب بابتسامة عميقة رغم أن عيناها كانت على آخرها بالدموع المتجمعة بها:
-زيدان.
همست باسمه بحب، فأجاب بهدوء:
-عيونه.
سكتت لبرهة تستجمع قوتها وهي تقول:
-أنا موافقة نتجوز، شوف هتقول لبابا مصطفى امتى.
استمعت لنبرته السعيدة وهو يتمتم:
-لا مش أنا اللي هقوله، عندي اللي هيقوله ويقنعه كمان.
***
شعرت نهى بحاجتها للمياه، فخرجت من الغرفة واتجهت صوب المطبخ وقبل أن تدخل توقفت تلقي بنظرة آسفة نحو غرفة خالد فقد كانت تتمنى أن يستمر في الدفاع عنها ويقنع والدها بإنهاء ذلك الزواج ولكنه تخلى عنها بكل بساطة ولم يحاول من أجلها! وقد توسمت فيه بسبب شهامته ونبله.
تابعت خطواتها نحو المبرد والتقطت كوب المياه ترتشف منه القليل ولكنها شعرت بوجوده خلفها، التفتت سريعًا فوجدته خلفها مباشرةً يمسك يدها يمنع سقوط كوب المياه أرضًا فقد يستيقظ خاله او ولده الارعن ويكشف مخططه.
-اسمعني بهدوء عشان ولاد**** دول ميصحوش.
تجاهلت سبه لعائلتها وركزت معه وهي تقترب منه أكثر كي تسمعه ولم تدرك أن المسافة بينهما أصبحت شبه منعدمة فخفق قلبه بقوة وهي ترفع بصرها كالهرة حينما تستعطف صحابها ولوهلة كاد أن يفقد اعصابه ويقترب منها يلثم شفتيها هامسًا لنفسه:
-كدا كدا رايح في داهية.
اقترب برأسه منها فسألته بقلق وعدم فهم:
-داهية إيه؟!
تراجع عما كان يريد فعله ودفنت امنيته مع باقي امنياته وهتف بحنق:
-طول ماانا ماشي وراكي هروح في داهية.
اخفضت بصرها بحرج قائلة:
-خلاص، أنا فهمت كلامك النهاردة ومش محتاجة مساعدتك..
رفع ذقنها للأعلى بطرف اصابعه فواجهت عينيه اللامعة تحت ضوء الإنارة البسيط:
-أنا مش هتخلى عنك ومش هسمح يحصل فيكي كدا أبدًا.
رمشت بأهدابها غير مصدقة:
-بجد يا خالد، هتكلم بابا تاني؟
-لا اكلم ابوكي إيه احنا نسيبنا من الادب ونبدأ في قلة الادب اهلك مش عايزين الا كدا، اسمعني كويس يا نهى واتصرفي زي ما أنا هقولك.
أومأت بحماس والأمل يشق صدرها المظلم، تتمسك بعينيه وكأنها طوق نجاة للخروج من بحر معتم أمواجه هادرة كادت أن تقتلها.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)

اترك رداً على الاء إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى