روايات

رواية منك وإليك اهتديت الفصل السادس والعشرون 26 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل السادس والعشرون 26 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الجزء السادس والعشرون

رواية منك وإليك اهتديت البارت السادس والعشرون

رواية منك وإليك اهتديت
رواية منك وإليك اهتديت

رواية منك وإليك اهتديت الحلقة السادسة والعشرون

توسعت ابتسامة مليكة مرحبة بأخ زيدان الأكبر هو وزوجته، فمدت يدها نحوهما بتلقائية ترحب بهما بأدب:
-أنا مليكة مرات زيدان، اهلاً بحضرتك.
لحظات من الصمت المطبق حلت على المكان، فقط مجرد نظرات تتراشق هنا وهناك، ولوهلة ظنت مليكة أن الصدمة جمدت اجسادهم، فلم يكن هناك أي تعبير حتى انه كان وجه سليم خالي من المشاعر اما شمس هي من أول ادركت الموقف ومدت يدها بابتسامة مهزوزة وصوت ارتجف في نبرته:
-اهلا وسهلا يا…قمر.
لا زالت عيون مليكة تتعلق بسليم تحاول فهم سبب صمته ولِمَ يعاملها بهذا الشكل، هل اخطأت في الترحيب بهما، فابتعدت خطوة للخلف وافسحت لهم المجال قائلة بصوت هادئ ينافي مشاعرها المضطربة:
-اتفضلوا.
اول من دخل هو أنس فركض نحو المطبخ ودخلت بعده شمس بقلب ينبض بعنف شديد، متمنية أن تعود لأمريكا في هذه اللحظة، ناقمة على اقناع سليم بعودتهما، بينما سليم حاول ادارك ما يحدث ولكنه فشل فظهر صوته بنبرة قاسية غليظة:
-قولتي أنتي مين؟
ابتلعت مليكة لعابها وهي تنتقل ببصرها بينه وبين شمس المتوترة وقبل أن تجيب كان صوت شمس يظهر في الأجواء وهي تقترب من زوجها تحاول تدارك الأمر قبل أن ينفجر ويثور بركان غضبه بهم:
-دي..دي مليكة مرات زيدان يا سليم..
-ايوا ما هي قالت، مراته ازاي مش فاهم يعني.
قالها بصوت مرتفع للغاية ونبرته كانت معنفة شديدة أرعبت شمس مما جعلها تصمت مشفقة على تلك المسكينة التي فتحت ثغرها للتحدث ولكنها تلعثمت في الرد ويبدو انها هي الأخرى لم تعِ ما يحدث من حولها، خرجت منال من المطبخ راكضة بسعادة بالغة وهي تستقبل سليم بالعناق الطويل مردفة:
-حمد لله على سلامتك يا حبيب قلبي.. نورتوا الدنيا كلها.
ابعدها سليم عنه قائلاً بجمود ونظرة نارية مهددة:
-مين دي؟
أصاب الارتباك وجه منال وهربت الكلمات منها، محاولة أن تستجمع قوتها في مواجهته، لِمَ هي دايمًا تظل في مواجهة غضبه والجميع يلوذ بالفرار..ولكن هيئة مليكة الخائفة جعلتها تشفق عليها فقررت أن تتعامل بحكمة وهي تقول:
-تعال نتكلم جوا.
التفتت نحو غرفتها وقبل أن تدخل ربتت فوق كتف شمس التي أومأت بتفهم، بينما هو تابع خطواته القوية خلفها منتظرًا إجابة واضحة توضح تلك المهزلة، وما ان اغلق الباب خلفهما حتى اقتربت شمس منها فثارت مليكة بتساؤل:
-هو ليه مش مقتنع ان انا مرات زيدان؟
أجابت شمس بهدوء رغم الضجيج المسيطر على ذهنها في تلك اللحظة:
-عشان ببساطة منعرفش ان زيدان اتجوز اصلاً..
-ايه؟!
همست بها في صدمة، لم تتوقع بالمرة أن يفعل بها زيدان ذلك، ولم تفهم من الأساس سبب اخفاء زواجه منها عن اخيه، ولكن صوت سليم الغاضب ظهر لها بوضوح من خلف باب الغرفة المغلق:
-دي قلة أدب ومهزلة…ايه مفيش احترام ليا ولا ايه؟!
هبطت شمس بعينيها في الارض، تخفي ملامحها المحرجة من مليكة التي كانت على وشك البكاء بسبب كلمات سليم المحملة بالإهانة لعدم تقبله فكرة زواج اخيه منها..فاستمعت لباقي حواره الجهور مع والدته بوضزح..
في الداخل كانت منال تحاول تهدئة الوضع بشتى الطرق مقتربة منه والدموع تغرق وجهها وهي ترى حالته الثائرة بهذا الشكل المقلق فقالت بخوف:
-اهدى ابوس ايدك يا سليم، كل حاجة تتحل بالتفاهم.
تحفزت ملامحه بجنون وتشنج جسده بقسوة وهو يردد بعنف:
-تفاهم ايه، ما عيالك خططوا ونفذوا ولا كأن ليهم اخ كبير قالهم مفيش جواز دلوقتي.
سارعت منال بالحديث تحاول تبرير موقفهما:
-كان في ظروف والله.
ابتسم باستهزاء والحنق يغلب على صوته:
-ظروف ايه وزفت ايه، يخليهم يعملوا كدا، أنتوا كدا بتقولولي مالكش لزمة في حياتنا.
-يتقطع لسان أي حد يقول كدا، أنا عارفة ان ليك حق تزعل وقولت ليزن…
بتر حديثها بجنون وكرر خلفها بغيظ:
-يزن..قولتيلي يزن بقى اللي فكر في دا كله.
استدار نحو الباب الغرفة يفتحه بقوة وهو يردف بنبرة شارفت على الجنون من ذلك الوقح:
-هو فين..ابنك فين؟
غادر الغرفة كالثور الهائج باحثًا عن أخيه الاصغر:
-يـــــزن…يــــزن.
فتح باب غرفته بقوة، لدرجة أن شمس ظنت أن المقبض قد خلع في يده، فوضعت يدها فوق صدرها وهي تراقب الوضع من حولها بداية من منال الباكية، ومليكة المصدومة مما يحدث..أما هو فقد دخل لغرفة يزن ولم يجد أحد فخرج وغضبه يتفاقم بجنون:
-ابنك مش موجود.
هتفت منال بنبرة باكية ضعيفة:
-كان نايم جوا والله، راح فين بس.
-ابنك هرب من الشباك لما عرف أن أنا جيت.
همست مليكة باندهاش:
-هرب!
ولكن هيئة سليم الغاضبة جذبت انتباهها وهو يغادر المنزل متوعدًا ليزن بجنون:
-أنا هوريك…هوريك يا كلب.
اندفعت شمس خلفه تحاول تهدئته ولكنه توقف في نهاية السلم المؤدي للبوابة الخارجية هاتفًا بتحذير:
-واقسم بالله لو ما دخلتي دلوقتي، انتي حرة.
توقفت الكلمات على طرف لسانها بعدما استمعت لتهديده الصريح وتراجعت عما كانت تريد فعله، أما مليكة فحاولت الاستفهام من منال عن سبب اخفائهم الزواج عن سليم ولكنها صمتت أمام انهيارها وخاصةً كلماتها التي سببت لها الألم فكانت بمثابة سكين حاد وغرز في قلبها:
-قولتلهم بلاش…محدش سمع كلامي، كنت عارفة انهم هيقعوا في بعض، أنا مبلحقش اتهني، كانت بلاش الجوازة من الاول…كانت بلاش.
ظلت تردد دون وعي لوجود مليكة أمامها، والتي شعرت بإهانة كبيرة لها، فتوجهت لغرفة زيدان في صمت تحاول الاتصال به ولكن هاتفه كان مغلق، ضاقت بها السبل للتوصل إليه، وفي ذات الوقت وجودها هنا يعني اهانتها..من الواضح عدم تقبل سليم لها وأكثر ما يؤلمها هو الندم الممزق لصوت منال معبرة عن عدم رضاها بزواج زيدان منذ البداية، قررت بعد دقائق طويلة من التفكير أن تترك المنزل لحين عودة زيدان أو اتصاله بها ليفسر عن سبب اخفائه لزواجهما فحتى الآن السبب المجهول لديها، ناهيك عن انكسار قلبها فكل شيء بداخلها كان يقطر ألمًا عما تمر به من تقلبات موجعة تهدد دومًا باستقرارها.
لم تحتاج لوقت كبير في تجهيز حقيبتها، وانتظرت حتى هدأت الاصوات في الصالة بسبب اصرار شمس على مساعدة منال للدخول لغرفتها، فتحت باب الغرفة بهدوء وتحركت في الصالة بحذر ولكنها توقفت حينما ظهر أنس أمامها يسألها ببراءة:
-رايحة فين يا طنط؟
خفضت نبرتها وهي تقول:
-رايحة اجيب حاجة حلوة وجاية.
وقبل أن يتحدث كانت تخرج من المنزل مغلقة الباب خلفها، فهز الصغير كتفيه بلامبالاة واتجه صوب المطبخ يأكل من الفطائر التي أعدتها جدته، طالما اشتاق لها طوال فترة سفره مع والده.
***
قبل قليل..
نهض يزن بكسل شديد محاولاً الاستيقاظ فقد استغرقت مدة افاقته ساعة كاملة حتى استطاع اخيرًا النهوض استعدادًا لإيصال مليكة لمنزل زوج والدتها بناء على تعليمات زيدان فهتف بغيظ:
-السواق بتاعهم على اخر الزمن.
زفر بخفة واتجه صوب المرحاض لأخذ حمامًا منعش، ولكن جذب انتباهه صوت يعرفه جيدًا فاقترب بحذر صوب الباب وفتحه ببطء ثم أخرج رأسه يلقي نظرة خاطفة ولكن توسعت عيناه بصدمة حينما وقع بصره على سليم يقف بمواجهة مليكة، فأغلق الباب سريعًا متمتمًا بتوتر:
-اوباااا..اووباااا، روحنا في داهية.
التفت حول نفسه بجنون محاولاً التفكير بشكل سليم، وفي ذات الوقت يجاهد أن يحسم موقفه ما بين الوقوف أمام عاصفة غضب سليم متحملاً نتائجها الوخيمة، أو الفرار لفترة ومن بعدها يعود متحدثًا معه بهدوء..ارتاح للحل الثاني وجذب مفاتيحه ثم فتح نافذة غرفته كما كان يفعل سابقًا حينما يقدم على اخطاء فادحة ويلوذ بالفرار منها كي لا يقابل توبيخ أخيه الاكبر، هبط من النافذة بسهولة نتيجة لطوله الفارع وقربها من الأرض ثم اتجه كاللص نحو سيارته ومن بعدها هرب نحو معرضه يحتمي به.
حاليًا هو في أمان يجلس داخل معرضه المغلق، ويتمتع بمكان هادئ بعيدًا عن جنون سليم، محاولاً الاتصال بزيدان لإخباره ولكن هاتفه مغلق في كل مرة فزفر بحنق مردفًا:
-هو دا وقته، رد قبل ما تيجي تلاقيني متعلق على باب..
لم يستكمل جملته حتى وجد باب المعرض يفتح وأحد العمال يقول:
-مفيش حد يا سلي…
قطع صوته حينما وجد يزن بثيابه البيتية يجلس فوق أريكة مخصصه لزبائن المعرض، فأشار بابتسامة وهو يفسح المجال لسليم:
-لا يزن بيه موجود.
اغتاظ يزن منه وهو يتمتم بخفوت:
-ومالك مبسوط كدا ليه؟
لم يعقب سليم سوى بكلمة واحدة موجهة للعامل:
-امشي أنت.
أومأ الرجل برأسه ثم غادر بناءًا على طلب رئيسه، وما ان اغلق الباب حتى تقدم سليم نحوه في خطوات متمهلة، فرسم يزن ملامح الاندهاش فوق وجهه وهو يقول:
-معقول سليم..يا حبيبي يا اخويا اخيرًا رجعت بالسلامة.
ثم اختصر المسافة بينهما وبادر بعناقه وقلبه ينبض بقوة وكأنه على مشارف السقوط من أعلى حافة مدببة، ابعده سليم عنه ونظراته كانت كفيلة بإخباره كم يعاني اخيه الآن من ضبط نفسه، فتراجع خطوة للخلف قائلاً بنبرة آسفة:
-حقك عليا.
استمر سليم في صمته ونظراته تحتد غير قادر على تقبل أسفه، فتابع يزن قوله محاولاً اظهار الندم به:
-ليك حق تزعل بس والله الظروف كانت اقوى مننا، أنا هقولك كل حاجة ومتأكد انك هتفهم..
بتر سليم حديثه بامتعاض شديد:
-ظروف ايه اللي تخليك تفكر في كدا أنت واخوك، انت عارف معنى اللي أنت عملته ايه؟
صمت يزن محاولاً عدم اثارة غضبه، وترك له المساحة في التعبير عن نفسه بهدوء ولكنه لم ينتظر كثيرًا وانفجر سليم بغضب في وجهه:
-ليه بتحاولوا تعملوا كل حاجة بتزعلني، ايه يا اخي مفيش أي تقدير ليا خالص.
-يا سليم الموضوع مش كدا، احنا بنقدرك بس أنت مبتحاولش تفهمنا.
ضحك سليم ضحكات متقطعة ساخرة وهو يصفق:
-اه رجعنا للنغمة بتاعت كل مرة أنت مبتحاولش تفهمنا، انت بعيد عننا، انت بتكرهنا..انت..انت..انت، الشماعة بتاعتكوا مش صح؟!
زم يزن شفتيه في ضيق محاولاً انتقاء الفاظه:
-لا مش صح، يا سليم حاول تفهم ان احنا معانا حق وانت معاك حق.
-انتوا وأنا…رجعنا لنفس المشكلة..انتوا…وأنا..مين أنا، اللي مالوش حق يزعل، اللي المفروض يتنازل ويعدي، في سبيل ان حضراتكم مش مستحملين تستنوا لما اخوكم الكبير لما يرجع ويحضر أهم لحظة معاكم، ببساطة كدا المفروض اجي واقابل مرات اخويا اللي معرفش عنها حاجة وابارك كمان واقولكم برافوا..دوسوا كمان على سليم وعاملوه كأنه واحد غريب عنكم..مش واحد اتمرمط عشان خاطركم..ايه مستكرتين ابسط حقوقي احضر فرح اخويا اكون كبيره، يا خي دا أقل تقدير ليا.
كانت كلماته حارقة تحمل ندبات الماضي واوجاع الحاضر، وعينيه تظهر كم ذاق من مرارة الخذلان المستمر منهم..فحاول يزن تهدئته مردفًا بتبرير:
-مفيش احنا وانت..كلنا واحد، انت بتلومني عشان وقفت جمب زيدان اللي هو اخويا بردو، يعني أنا في النص ما بينكم، هو مكنش قادر يتخلى عنها وأنت رافض وعايز تنفذ اللي في دماغك.
اوقفه سليم حينما أشار له بالصمت ثم تابع منهيًا حديثه :
-متكملش، الكلام مش معاك…الكلام مع اخوك اللي كان مُصر من البداية وعارف انه ممكن يخسرني.
انهى حديثه والتفت مغادرًا ولكنه توقف حينما قال يزن:
-زيدان مش هنا..شغله في الاقصر.
لم يعقب سليم عليه وتابع سيره لخارج المعرض معلنًا العصيان على الجميع..زفر يزن بقوة متمتمًا بغضب:
-ولا عمره هيديني فرصة واحدة افهمه.
اخرج هاتفه من جيب سرواله بعد أن استمع لرنين فوجد والدته تجري اتصالاً به وتوقع توبيخها تذكره كم كانت تعترض على هذه الفكرة منذ البداية، لذا رد بنبرة حادة:
-ايوا يا ماما؟!
-أنا شمس يا يزن، مليكة سابت البيت.
توسعت عيناه بصدمة مردفًا:
-ايه يعني ايه سابت البيت؟!
-اخدت الشنطة بتاعتها وانس شافها وهي ماشية.
أجابت عليه بما تعلمه، وصوت والدته الباكي مصاحبًا لصوتها وهي تقول:
-ماما بتقولك شوفها فين.
-طيب يا شمس.
أغلق الهاتف مفكرًا للحظات بهدوء بعد كم الصدمات المتساقطة فوق رأسه منذ الصباح، جذب متعلقاته وخرج نحو سيارته مقررًا البدء في رحلة البحث عن مليكة وقبل أن يتحرك بسيارته رفع هاتفه وأرسل رسالة لزيدان يخبره بها بما حدث.
***
خرجت مليكة تجر خلفها أذيال الخيبة بعدما لم تجد زوج والدتها بشقته وعلمت من إحدى الجيران أنه سافر لمدينة الاسكندرية مع زوجته لزيارة عائلتها، متعجبة من عدم معرفتها بسفره، فتصنعت مليكة النسيان وودعتها ثم غادرت البناية ولا تعلم أي جهة ستصل قدمها إليها، بدأت رحلة الشتات تتملكها والدموع كانت خير الونيس في رحلتها..خرجت للطريق الرئيسي لا تعلم وجهتها، كل ما تعلمه الآن انها وحيدة، حملت دموعها أوجاعًا تحرق روحها المجروحة تزامنًا مع نيران متوجهة تلتهم صدرها.
ارتفع رنين هاتفها، فظنت أنه زيدان ولكنه خاب ظنها ووجدت اسم شهيرة يتوسط الشاشة، فأجابت بنبرة مرتجفة:
-الو.
-ازيك يا مليكة، قولت اتصل اطمن عليكي وعلى اخبار البلد.
ابتسمت بامتنان لصفائها من وسط دموعها وقالت:
-أنا رجعت القاهرة بعدك على طول.
لاحظت شهيرة الحزن المسيطر على نبرتها فسألتها بقلق:
-انتي كويسة؟
-اه كويسة.
هتفت بصوت مبحوح اثر بكائها، فسارعت شهيرة بقولها:
-مالك يا مليكة؟
لم تتحكم في صوتها وظهر اثر البكاء فيه وهي تخبرها بحسرة:
-أنا مش كويسة..محتاجكي.
جاء رد شهيرة سريعًا وهي تقول بنبرتها القلقة:
-انتي فين يا حبيبتي وأنا اجيلك.
***
تابعت نهى أجواء الصباح من خلال نافذة المطعم المطلة على البحر مباشرةً، وابتسمت بدلال ليوم جديد تستقبله بحب في حياتها الجديدة حيث بدأت في كتابة عهد مشرق بدأت ملامحه منذ اليوم الذي قررت فيه قبول الوظيفة المعروضة عليها من قبل خالد، لن تنكر مشاعرها الخائفة في بداية الأمر ولكن بمساعدة خالد لها ووجوده وفر لها الأمان والراحة، فاندمجت معه بسهولة وشهدت على بناء المطعم وتجهيزه منذ البداية حتى الآن، بدأت في تكوين علاقات جديدة سواء مع جيرانها في المنزل الذي تقيم فيه مع خالد أو مع العاملين بالمطعم أو مع صديق خالد المقرب وشريكه “مجدي”..شخص لطيف، محب للجميع، والأهم أن وجودها متقبله بل ويرحب به وهذا ما أسعدها…
انتبهت على صوت إحدى العاملات وهي تقدم لها كوب القهوة الساخن الخاص بخالد، فهذا موعده، لم يكن مسموح لأحد التعامل مع خالد في الصباح إلا هي، حتى مجدي يعامله بحذر..فكانت تلك من إحدى مسؤولياتها..اخذته منها وشكرتها بهمس ثم توجهت للخارج حيث الطاولات المطلة على البحر مباشرة..
وضعت الكوب فوق الطاولة وهتفت بابتسامة مشرقة:
-صباح الفل.
رفع عينيه والخمول يحتل ملامحه، ثم قال باعتراض:
-دا الصباح ال١٥ يا نهى.
جلست بالقرب من مقعده قائلة بهدوء:
-وماله، وممكن بعد دقيقة يبقى ال ١٦.
هز رأسه عدة مرات واكتفى بالصمت والتلذذ بقهوته، حتى قطعت عليه لحظات الهدوء خاصته والمسؤولة عن افاقته وسألته باهتمام مبالغ فيه:
-خالد كان في واحد بيشتغل معانا اسمه أحمد، مجاش امبارح ولا النهاردة؟
حرك رأسه ناحيتها وسألها بوجوم:
-بتسألي ليه؟!
-عادي مش أنا مسؤولة عن شغلهم، فأنا لاحظت انه غايب لمدة يومين! وهو كان ولد ملتزم بصراحة.
أجابت بهدوء وصدق، فرد باقتضاب:
-معرفش هو فين؟ واللي يغيب براحته مش هيرجع تاني.
شعرت أنها أثارت غضبه فعادت تلتزم اللامبالاة في قولها:
-تمام أنا قولت ابلغك، هسيبك تشرب القهوة وانا هروح اشوف شغلي.
تابعها وهي تنهض وقبل أن تتحرك خطوة واحدة اوقفها حينما وضع ذراعه أمامها يمنعها من التحرك وبلهجة حادة قال:
-البنطلون دا قصير من تحت ليه؟
هبطت ببصرها لسروالها وقالت بهدوء:
-استايله كدا!
-واستايله مينفعش مع الطرحة اللي انتي لابسها.
قالها بأسلوب صارم، فهزت رأسها بإيجاب وغادرت بينما هو تنهد بثقل متذكرًا أمر أحمد حينما أصر على طرده رغم محاولات مجدي بإبقائه..
**
تابع مجدي حديثه بغضب في غرفة خاصة في نهاية المطعم قررا استعمالهما لمراقبة شؤون المطعم.
-نفسي افهم ليه طردت الواد.
تحرك خالد بالكرسي المتحرك يمينًا ويسارًا ببرود:
-احلى حاجة عملتها انك جبت الكرسي دا يا مجدي.
ضيق مجدي عينيه بضيق بعدما نجح خالد في استفزازه:
-أنا بتكلم على الواد اللي طردته وانت بتكلمني عن الكرسي يا خالد.
توقف خالد عن حركته وسأله ساخرًا:
-هو كان ابن اختك، زعلان على ليه؟
-يا ابني انا طلع روحي عشان نختار الاستف دا وانت عمال تتأمر وتقول دا حلو دا لا دا معرفش ايه ويوم ما ربنا يكرمنا بناس كويسة تقوم تطرد الواد.
وضع خالد يده أسفل ذقنه وهو يراقب حديث مجدي الغاضب ببرود:
-وهو جالك وعيطلك عشان ترجعه.
وضع مجدي يده فوق المكتب مستندًا عليه وهو يقول بنبرة خافتة يكشف بها حقيقة صديقه المتخفي خلف قناع البرود:
-اه جالي وطالما بتغير اوي كدا…اتجوزها واخلص.
تجاهل حديثه عن قصد وفتح الملفات التي أمامه يمرر بصره بها مغيرًا حديثه عن قصد:
-كلمت مهندس الديكور عشان اللي قولتلك عليه يرجع يظبطه؟
زفر مجدي وهو يفرك شعره من صديقه المُصر على هدم حياته من أجل معتقدات خاطئة ترسخت فيه:
-لا نسيت.
-طيب كلمت شركة الماركيتنج، تغيرلي اللي اسمه معزا!
هز مجدي رأسه نافيًا وهو يتنهد:
-لا نسيت بردو.
-ماشي يا مجدي، طيب أنا قولتلك ان السيستم فيه مشكلة حلتها!
-لا نسيت.
ضرب خالد فوق المكتب بغيظ:
-لا كدا كتير، انت واقف تحاسبني على واد طردته واللي وراك ناسي تعمله.
ابتسم مجدي باستفزاز وهو يقول:
-أنا مش قد المسئولية، شوفهم أنت يا حبيبي، رايح اشرب القهوة افوق من اللي بتعمله فيا.
تحرك مغادرًا للغرفة فاستمع لخالد الثائر بسخط:
-انا غلطان ان شاركتك يا مجدي.
القى مجدى قبلة في الهواء متمتمًا بخفوت قبل أن يغلق الباب:
-كانت شراكة مهببة.
القى خالد الملفات في وجهه فارتطمت بالباب وهو يتوعد:
-أنا همنع عنك القهوة وابقى وريني هتشرب ازاي.
استمع لضحكات مجدي المستفزة من خلف الباب فحاول التشبث ببقايا هدوئه بعدما تبعثرت بسبب ضغط مجدي المتواصل بضرورة زواجه من نهى، فقد فرض خالد حصاره عليها، مراقبًا إياها على مدار اليوم، متابعًا رودو افعالها باهتمام مبالغ فيه، ولكنه لا يريد اتخاذ خطوة جديدة بعد أن صدمته تلك المعتوهة بمكانته لديها فهو مجرد أخ! كلما يتذكر قولها يريد تهشيم رأسها بغل.
كيف أن يصبح أخ وهو يدور خلفها يسعى لفرض حمايته عليها، حتى تعاملها مع رواد المطعم والعاملين يضع له حدود صارمة وان لاحظ تطاول من قبل أي شخص تتحول طباعه من هادئة لأخرى لشرسة تشبه أمواج البحر الثائرة، ورغم عنه تذكر كيف كان ينظر لها أحد العاملين ويدعى أحمد..لم يصدر حكمه بسبب نظرة عابرة بل كان يتربص له كالذئب يراقب افعاله عن كثب وحينما لمح ابتسامته العميقة وهيام نظراته نحوها والاخرى لم تلاحظ حتى قرر انهاء عمله في المطعم وكان ذلك أبسط ردود افعاله واكثرهم رقي..وذلك عندما استغل هيامه المفرط بنهى وتحرك خلفه مباشرةً ثم همس بشر:
-روح.
استدار أحمد بذعر حينما لفحت أنفاس ساخنة جانب وجهه وصوت كالفحيح ارتطم بأذنه، وعندما رأى خالد يقف خلفه والشر ينطلق كالسهام من مقلتيه هتف بتوتر:
-في حاجة يا مستر خالد؟
أومأ خالد بتريث ثم كرر كلمته بغضب دفين:
-روح..بقولك روح.
هنا شعر بمدى خطئه فكانت من قواعد العمل الصارمة عدم التطرق لنهى بالمرة، وقد تحفز لديه شعور بمراقبتها وعندما وجدها فتاة جميلة رقيقة رق قلبه لها فركضت عينيه رغم عنه نحوها وان نظرت له يشرق يومه بسعادة، حاول تجاهل الأمر واثبات قدرته على العمل بكل مهنية ولكن الاصرار الذي لوح له من كلمات خالد الشرسة جعله يتقهقر مستسلمًا، تاركًا عمله بسبب خطأ تهاون فيه من لا يرحم:
-روح عشان تصرفي اللي جاي مش هيعجبك.
هز رأسه بالموافقة الصامتة وابتعد عن محيط خالد بتاتًا حيث شعر وكأنه في منتصف دائرة يحيطها النيران المتوجهة من كل مكان، فتراجع حفاظًا على ذاته.
**
اجفل خالد من شروده على صوت معز الموكل من قبل شركة الدعايا للعمل على مشروع يخص المطعم، رفع عينيه يرمقه بسخرية وهو يقول:
-أنا بعت ايميل وقولت مش عايزك تشتغل معايا، ايه مفيش دم.
جلس معز وهو يتظاهر بالبرود مردفًا:
-ليه بس، دا أنا أكتر واحد يفيدك في الشغل.
رسم ابتسامة مستفزة وهو يقول بوقاحة:
-شغلك مش عاجبني.
-وانا مُصر اثبت نفسي.
قالها بإصرار وعينيه تدور في المكان كله يبحث عن شخص ما، فأمسك خالد بكوب المياه محاولاً امتصاص برودة الكوب بين يده لتهدئة لهيب الغضب المتوهج داخله قبل أن ينفجر في وجه ذلك السمج.
-انت كرامتك دي لاقيها فين؟ في كيس قلبظ.
ضغط معز على نفسه وهتف بجدية وأدب:
-أنا اقدر ارد على حضرتك، بس أنا مش هعمل كدا عشان أنت عميل مهم عندنا، هقوم ادخل الحمام وبعد اذنك تكون هديت من ناحيتي.
أشار له خالد مردفًا بصوت غلب عليه الحقد:
-اتفضل يا عسل.
نهض معز سريعًا متجهًا صوب الداخل وفور اختفائه تحرك خالد خلفه مراقبًا اياه حتى أن احدهم نادى عليه يريد الاستفسار عن شيء هتف بحنق:
-اسكت أنت.
تعجب الشاب منه ومن رد فعله الهجومي ولكنه تجاهل الأمر وبدأ يبحث عن مجدي، بينما ظل خالد يتحرك في خطواته حتى وصل لمكان معز والذي كان بالقرب من المرحاض يقف مع نهى التي من الواضح توترها والخجل يغزو وجهها بوضوح فاستمع لصوته يحاول اقناعها بشيء:
-فكري كمان مرة يا أنسة نهى، مش هتخسري حاجة.
بللت طرف شفتاها برقة ثم قالت برفض للمرة الثانية:
-أنا مبفكرش في الجواز دلوقتي…
قطع جملتها متسائلاً بعدم فهم:
-ليه بس انتي جميلة ولسه صغيرة..
لم يكمل جملته بسبب قبضة خالد فوق مؤخرة رأسه بعنف:
-هو البعيد مبيفهمش، شايل دماغه وحاطط مكانها جزمة ولا ايه.
حركه خالد بقوة عدة مرات مستغلاً ضخامة جسده عنه، فسارع معز بإبعاد يده وخرج تحذيره بتلعثم:
-كدا ميصحش يا مستر خالد..
تدخلت نهى قائلة بخوف:
-سيبه يا خالد، هو هيمشي.
ابتعد اخيرًا عن يد خالد وهو يقول بنزق:
-أنا معرفش امشي ليه، هو أنا قولتلك ايه غلط، عايز اتجوزك فيها ايه دي.
قبض خالد فوق مقدمة ثيابه وجذبه نحوه بعنف مرددًا بقسوة:
-تعال جوا وانا اقولك فيها أيه!
اخفى معز الرعب بين ثنايا نظراته المصوبة نحو خالد، بينما الاخر قد جذبه خلفه باستحكام حتى دفعه داخل مخزن صغير ودخل خلفه ثم اغلق الباب تحت محاولات نهى بفتحه ولكنها استمعت لصوت خالد الجهور الناطق بكلماته النارية:
-قولتلي عايز تعمل إيه يا مسكر!
***
مرت ساعات وفشل يزن في ايجاد مليكة ولم يستطع التوصل لزيدان وكل هذا كان يمر عليه وهو بنفس ثيابه البيتية، يجوب في الطرق بلا هدف، شاعرًا أن هموم الدنيا فاقت قدرته في التحمل، لا يريد العودة للمنزل فيلتقي بسليم ويقابل رد فعل ربنا يكون اقسى واشد بالإضافة إلى ترك مليكة المنزل فجأة وفشله في ايجادها وكالعادة سيقابل اتهامات معنفة من قبل زيدان وفي كلا الحالتين هو الملام بينهما، فقرر الجلوس بالسيارة ينتظر اللاشيء…حتى رن الهاتف وتبين انه زيدان فسارع بالرد وكما توقع شن اخيه هجومه:
-يعني ايه مليكة مشيت؟!
-دا كله اللي لفت نظرك.
هتف بها يزن في تهكم، فأردف زيدان باهتياج:
-ايوا هو دا اللي لفت نظري، سليم وهتكلم معاه بعدين، لكن هي فين وازاي تسبوها تمشي وهي ملهاش حد غيري.
-اهدى يا زيدان هنحاول نلاقيها، هتروح فين يعني؟
ظل على نفس وتيرة غضبه ورد:
-معرفش، يعني مش عارفين تحافظوا عليها لغاية ما ارجع، أنا هنا بين الحياة والموت والدنيا بتولع اكتر ومعرفش هنزل امتى، أنا ناقص مصايب، واستحالة اعرف اخد اجازة، مين هيرجعها غيري.
أردف يزن بحزم:
-خلاص يا زيدان أنا هتصرف، وانت حاول تكملها وان ردت بلغني.
***
وضع مجدي يده فوق رأسه محاولاً تهدئة قبل أن ينفجر في وجه خالد المستفز الجالس بكل هدوء يرتشف من فنجان قهوته بيد واليد الأخرى يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي.
-ايه دا الحق.
قالها خالد بصدمة، فجذب انتباه مجدي وهتف بقلق:
-في ايه نزلوا خبر عن المطعم بتاعنا.
-خبر ايه؟
تساءل خالد بعدم فهم، فأجاب مجدي متخيلاً خبر يصعق بهم:
-شاهد مدير مطعم يعتدي بالضرب على موظف من شركة دعايا.
امتعض وجه خالد قائلاً:
-خيالك واسع اووي يا مجدي.
ضرب مجدي الطاولة بغيظ فجذب أنظار الجالسين من حولهم ولكنه لم يهتم وهتف بغيظ:
-امال الحق ايه غير المصيبة دي.
حول خالد الهاتف أمامه وهو يقول ببرود استفز خلايا الشر لدى مجدي:
-لغوا القايمة في مصر.
ضغط مجدي فوق اسنانه بغضب شديد ونظراته تشمل ذلك الوقح الهمجي بتهديد لاذع، وقبل أن يرد ظهر ضابط من العدم وخلفه ثلاث عساكر متوجهين نحوهما:
-استاذ خالد عايزينك.
اطرق خالد للحظات قبل أن يرفع رأسه مبتسمًا بهدوء:
-تمام.
نهض خالد تحت انظار جميع العاملين ورواد المطعم وتوجه معهم للخارج، فحاول مجدي لملمة الأمر وعقله كاد يفتك به من تلك الورطة:
-متقلقوش يا جماعة، كملوا أكلكوا.
هتف أحد الزبائن بفضول:
-هو في ايه؟
سارع مجدي بتدارك الأمر قائلاً:
-دي الشرطة مبسوطة مننا مش أكتر، متقلقوش خالص.
وأشار بيده لأحد العاملين ليقف محله بينما هو توجه خلف خالد نحو قسم الشرطة بعدما اقحمهما في ورطة لن تنتهي على خير.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى