روايات

رواية منك وإليك اهتديت الفصل العاشر 10 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل العاشر 10 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الجزء العاشر

رواية منك وإليك اهتديت البارت العاشر

رواية منك وإليك اهتديت
رواية منك وإليك اهتديت

رواية منك وإليك اهتديت الحلقة العاشرة

-أنت مدخلتش بابا مصطفى ليه؟
تساءلت في قلق امتزج بالضيق من بروده في وقت لا يحتمل فيه تصرفاته الجنونية، فرد بتساؤل مقابل والتعجب يغزو حروفه:
-مين عرفه انك هنا؟
تحاملت على نفسها وردت في هدوء:
-أنا كلمته قبل ما ادخل من تليفون واحد.
أسبلت اهدابها لحظات قبل أن ترفع بصرها وترمقه بحنق والاحمرار يغزو وجهها من جديد:
-عشان كنت مفكرة رايحة في مصيبة.
خرجت نبرتها مكتومة فابتسم لها مردفًا بهمس:
-وأنتي ينفع تروحي في مصيبة وأنا موجود.
ابتعدت ببصرها بعيدًا عنه تخفي خجلها في قولها الصارم:
-بابا مصطفى كدا هيقلق، دخله.
خصها بنظرة حانقة قبل أن يتمتم:
-مالكيش في الرومانسية.
رفعت أحد حاجبيها له في غيظ وقبل أن تتحدث قطع عليها فرصتها وسمح بدخول السيد “مصطفى”، وما هي إلا ثوان قليلة حتى دخل ووجه يعبر عن مدى قلقه وتوتره وما أن وقعت عيناه عليها بكامل صحتها حتى تنفس صاعدًا متمتمًا:
-الحمد لله، انتي كويسة يا حبيبتي.
وقبل أن تنهض اندفع نحوها يحتضنها بعناق أبوي هدأ من الارتباك المسيطر عليها، فتركت نفسها تستمتع بتلك اللحظات، بينما زيدان كان يشعر بغليان وهو يتابع عناقهما، شاعرًا بالغيرة تنخر عقله وخاصةً أنه ليس والدها بل زوج والدتها المتوفية، فقرر قطع لحظتهما بصوته الخشن والحازم:
-اتفضل حضرتك.

 

 

ابتعد “مصطفى” عن مليكة وبدأت الحياة ترسم معالمها فوق ملامحه بعد أن كانت باهتة:
-هو في حاجة حضرتك، بنتي دكتورة وكانت في شغلها…
بتر زيدان حديثه وهو يشير له بالجلوس متظاهرًا بالجدية:
-حضرتك والدها؟
-ايوا يا افندم..
أجاب “مصطفى” بتلقائية، فقرر زيدان التلاعب بأعصاب مليكة مستمتعًا بمشاعرها المشحونة بالغضب والارتباك فقال بخبث كان على علم بإثارة عصبيتها:
-بطاقتك لو سمحت.
أخرج “مصطفى” إثبات شخصيته على الفور واضعًا إياها فوق المكتب بينما كانت مليكة تتابع ما يحدث بصدمة من وقاحته المتزايدة، فتعمدت النظر إليه وتثبيت بصرها في جرأة تحمل التهديد اللاذع.
-بس أنت مش والدها…
خرجت حشرجة منها قاصدة بها جذب انتباهه، وقد نجحت في ذلك حين حول بصره نحوها متسائلاً بنبرة هادئة لطيفة أشعلت فتيل غضبها من استفزازه له باستمرار:
-اجبلك مايه؟
-لا.
قالتها بانفعال ممزوجًا بالتحذير مما يفعله، فتجاهلها عن قصد وأردف:
-نكمل شغلنا..اه..أصل أنا لازم اشوف شغلي.
تابع حديثه وهو يثبت بصره فوق مصطفى المتابع لهما بعدم فهم:
-نكمل؟
تسأل زيدان في رسمية مصطنعة، فهز مصطفى رأسه بإيجاب بينما كانت مليكة تحارب شعور يدفعها بجذب أي قطعة حديدية والصاقها بوجهه عمدًا عما يفعله بكل وقاحة، وخاصةً هي تعلم أنه يعشق التلاعب بأعصاب الأخرين وتحديدًا إن كانت هي.
**
بعد قليل..
خرجت مليكة من الغرفة هي ومصطفى ووقفا معًا يستكملان حديثهما مع زيدان المودع لهما بكل لطف اثار إعجاب مصطفى:
-احنا متشكرين جدًا لزوقك يا باشا.
-انا معملتش حاجة وان شاء الله يا دكتورة مليكة الظابط اللي ركبك البوكس دا هيتكدر متقلقيش.

 

 

رفعت حاجبيها معًا من لطفه الزائد وشعرت بمحاولته لإتمام شيء ما بداخله وبالطبع هي تجهله ولكن لم يمنعها تفكيرها في الرد عليه بطريقة ذكية جعلت الابتسامة تعلو ثغره:
-والله أنا شايفة ان المفروض اللي يتكدر هو الظابط التاني..بجد قليل الذوق بشكل مش طبيعي، حقيقي لازم توصله أن أنا مكرهتش حد في حياتي قده.
ضغط مصطفى فوق يدها بتحذير محاولاً استدراك الأمر خوفًا عليها من الوقوع في خطأ ما ولكن رد زيدان ادهشه:
-هقوله حاضر.
حمحم مصطفى محاولاً إنهاء وقفتهما تلك فقال:
-فرصة سعيدة يا باشا، يلا يا مليكة.
اومأ زيدان برأسه وتركهما يسيران باتجاه ممر الخروج، بينما كان مصطفى يسير بجانب مليكة معاتبًا إياها بهدوء:
-ليه كدا يا مليكة، الراجل كان زوق جدًا معانا.
-اه فعلاً زوق جدًا.
قالتها بانفعال خرج سهوًا منها، يبدو أن ما تمر به فاق طاقتها فلم تعد مسيطرة على أي رد فعل أبدًا لذا التزمت الصمت تمامًا في ظل إعجاب مصطفى بزيدان وقبل أن يخرجا نهائيًا أوقفهما عسكري يخبرها بضرورة عودتها لغرفة التحقيق مجددًا لاستكمال أوراق مهمة..مشددًا على وجودها وحدها، فاضطر مصطفى للجلوس بالخارج بينما دخلت مليكة للغرفة وقد بدا وجهها هادئًا أو أنها اعتادت على الوضع:
-خير يا زيدان؟
نهض من مقعده متجهًا نحوها حتى وصل أمامها مباشرةً محركًا يده في جيب سرواله وهو يمرر بصره فوق ملامحها في تروٍ أشعل أحاسيسها المحاطة بجبل جليدي تحاول حمايته كي لا ينصهر ويبقى قلبها بلا حماية في مواجهة عنفوان مشاعره وبالنهاية ستجد نفسها رهينة مستقبل مجهول تخشى معظم معالمه.
أمسك أخيرًا ببصرها الهارب دومًا منه قائلاً بنبرة هادئة:
-اللي قولتيه من شوية كان بجد؟
رمقته بنظرة مطولة تدرك تمامًا ما يحاول الابتعاد عنه والهائها بأمورٍ يعلم تمامًا أنها ليست سوى عناد نابع منها له عما فعله من قبل، فردت بنبرة صريحة حازمة وكأنها لاعب متمرس يعلم تمامًا دواخل خصمه:
-قول اللي انت عايزه من غير لف ودوران.
زفر بخفة ومن بعدها زحفت ابتسامة فوق ثغره مردفًا بنبرة حانية خرجت من أعماق قلبه:
-متزعليش، أنا كنت عايز اشوفك بس.

 

 

عادت تبحث بين وجهه ونظراته عن أي خداع تستطيع من خلاله الابتعاد عنه، ولكن كالعادة لم تجد سوى مشاعر صادقة خارجة من بركان متأجج بالعاطفة، دومًا تدرك حقيقة مشاعره وصفائه نحوها ولكن لحظة فراقهما وسرعة تخليه عنها تؤلمها كثيرًا، فقالت بجفاء:
-ماشي، في حاجة تانية ولا امشي.
كانت تظن أن نبرتها الجافة والحادة ستحطمه ولكن هي من تحطمت وتحديدًا عقب نظراته الهائمة في ملامحها، فزادت نبضات قلبها بجنون وكأنها أوشكت على كسر صدرها من شدة سعادتها لمحاولته المستمرة في استرضائها حتى من خلال التقاء عيونهما في لحظات كانت تسمح بها لعدستيها باختطاف لمحة بسيطة لتقاسيم وجهه الوسيمة تروي بها ظمأ قلبها.
-اه في حاجة تانية، مينفعش الاحضان اللي حصلت دي تتكرر.
عبست بوجهها متسائلة بعدما استطاعت السيطرة على ذاتها المنساقة خلفه:
-أحضان إيه؟
-أنا عارف ومقدر أنه أبوكي اللي رابكي، بس مهما كان بردوا دا مينفعش ولازم تعرفي أنه…
بترت حديثه بعدم فهم وكأن عقلها يخشى ما يحاول إيصاله لها، وحين ادركت ذلك منه سارعت بإسكاته في انفعال قاسٍ بينما انهمرت دموعها من مقلتيها في لحظة فقدت السيطرة عليهما، وشقت طريقًا في خديها، فظهرت بحة حزينة التصقت بصوتها الباكي وهي تقول:
-علاقتي بـ بابا مصطفى مالكش دعوة بيها نهائيًا، أنا محرومة من كل حاجة متجيش وتقف على أكتر حاجة بتحسسني بالأمان، انت مستكتر عليا أحس أني انسانة طبيعية ليها أب يخاف عليها؟
حرك رأسه بنفي يبعد عنه ذلك الاتهام، فكل ما يقصده هو تسليط الضوء على فعل ربما هي لم تدرك أنه خطأ بالإضافة إلى شعوره بالغيرة وكان ذلك أمر طبيعيًا يشعر به كلما تتحدث عن مدى حبها لزوج والدتها في السابق، ورغم مرور أعوام على فراقهما لم تتغير مشاعره نحوها بل كانت تتضخم في صمت حتى أنه كاد يظن أنه سيموت صريعًا لعشق لم يتهنى به ووصف نفسه حينها بالأحمق .
انتبه على تحركها نحو الباب، فسارع بالتقدم منها متجاهلاً شعور قوي بطبع قبلة عميقة في كفها الصغير القابض فوق مقبض الباب، فهمس باسمها كي تتوقف وبذات الوقت رفض بصره التخلي عن دموعها المتسابقة في جنون وكأنه ضغط فوق جرح غائر وهو لا يدرك، تنهد بعمق قبل أن يحاول توضيح وجهه نظره حيث أعلنت عاطفته تضامنها الصريح مع دموعها متغاضيًا عن عقله المتمسك برأيه في تنبيهها:
-مليكة أنا مقصدتش كل اللي أنتي فهمتيه، أنتي عارفة كويس…
مجددًا تصر على قطع حديثه حين قالت بإجهاد واضح في نبرتها:
-مش عايزة اعرف حاجة يا زيدان، كل اللي انا عايزاه حاليًا أمشي.

 

 

سمح لنفسه بالانسياق خلف مشاعره وقرر ملامسة يدها الموضوعة فوق المقبض، فسحبتها سريعًا بخجل استطاع اثبات نفسه وسط اجهاد تقاسيم وجهها والحزن البادي بعينيها.
سمح لها بالخروج بعدما ابتعد وأفرج أخيرًا عن قلبيهما، ورغم مرارة نهاية لقاؤهما إلا انه سعيد جدًا بالتطور الذي حدث بينهما، وبعد جدال طويل مع نفسه قرر متابعة خطة يزن فمن الواضح أنه لديه خبرة طويلة بالفعل مع النساء.
***
لا زالت نهى تتأخذ فراشها موضوعًا في الانزواء عن العالم بأجمعه بعد صدمة زلزلت كيانها..لقد تعكر صفواها التي كانت تسعى لأجله، وأصبحت تمقت عاطفتها المتمثلة فيه..حتى قلبها أصبحت لا تطيق نبضاته وتتمنى لو تصمت نهائيًا، وعندما قررت اللجوء لفكرة الانتحار مجددًا لم تجد قوى تساعدها في ذلك، فبقيت كجسد مريض يتوسط فراش لعين وسط غيمة فارقت بها روحها التي لم تتذوق طعم السعادة قط بل كانت تعيش لتتمنى حتى التمني فشلت في تحقيقه!
شعرت بدخول أحدهم للغرفة ولكنها لم تبدي أي رد فعل، حتى مع هدوء الخطوات نحوها التزمت الصمت..صمت قد تعودت عليه وأصبحت لا تطيقه لو تملك فقط صلاحية الصراخ علنًا للتنفيس عن مشاعرها حتمًا ستهدأ وتشعر حتى لو بقليل من الراحة.
اغمضت جفونها بقوة ترفض الاستماع لصوت الخادمة الحاني:
-يا ست البنات قومي كلي أي حاجة تسندك.
ألم تشعر بالملل من محاولاتها تلك؟، تسألت نهى بتعجب وقد اختلط عليها الأمر في تفسير ما تسعى إليه تلك المرأة؟ فاندفعت بجسدها المنهمك في وصلة بكاء وتشنجات متواصلة منذ ليلة أمس تهاجم مشاعر الأخرى بشراسة:
-أنتي عايزة مني إيه، انتي متخيلة ان مصدقة انك بتحبيني؟
توسعت أعين الخادمة بذعر من اتهامات متراشقة نحوها، فسارعت بالدفاع ونبرتها تتأرجح بين الحزن والشفقة:
-والله يا ست البنات بحبك وما عايزة منك أي حاجة غير أنك تبقى كويسة.
ضحكت نهى بسخرية وعدم التصديق يلوح من عينيها المنتفخة وواصلت هجومها بشراسة أكبر:
-انتي متخيلة اني مصدقة حبك دا، ليه أنتي بس اللي بتحبيني؟ ليه كلهم بيكرهوني وأنتي غيرهم؟ لازم تكوني معاهم.
أحست الخادمة أن ذلك الهجوم السافر لم يكن موجهًا نحوها اطلاقًا بل كان مصوبًا نحو نهى ذاتها….وكأنها اصبحت مرآة تواجه فيها مشاكلها مع الأخرين.

 

 

ومع استمرار صمت الخادمة وارتفاع صدر نهى وهبوطه في وتيرة سريعة بعدما فقدت القدرة على التمييز وأصبحت غير قادرة على تقبل مشاعر الحنان والحب..وكأن قلبها تعود على الصدمات، عادت نهى بوهن تستلقى للخلف، تغمض جفونها بتعب وإرهاق لازم روحها مؤخرًا، فتابعت الخادمة انكماشها في الفراش وكأن لحظة الشجاعة التي تملكتها اضمحلت بعدما نجحت في الهرب من ضعف فارض طغيانه عليها، فبدت كـ لوحة امتزجت فيها ألوان الحزن لتعبر عن أميرة ترقد في فراش الموت بعد فقدانها لحبيبها.
-يا ست هانم انتي جميلة وألف مين يتمناكي ليه تدفني نفسك مع واحد تستاهلي أحسن منه.
صمت مطبق من ناحيتها ولكن الجيد في الأمر أنها لم تعود بكامل جسدها للنوم، فقد استندت بظهرها على ظهر السرير تتابع حديث الخادمة بعيون فاقدة للشغف فاستمرت الأخرى في متابعة ما تقوله ومحاولة إظهار حسن خصال نهى بكل صدق وحب:
-انتي طيبة وبنت أصول ولو هو مش عايزك يبقى مع السلامة، والله بكرة لما تتجوزي غيره هتقعدي تضحكي على نفسك.
ابتسمت نصف ابتسامة باردة وهمست بصوت مبحوح:
-تعرفي أنا زعلانة من نفسي اوي.
عقدت الخادمة ما بين حاجبيها بتساؤل صامت، فجاءها الرد من قبل نهى الباكية بانهيار:
-مقدرتش اواجهه ….حاولت اكلمه اقوله ليه عملت فيا كدا، مقدرتش…
صمتت قليلاً عندما تحشرج صوتها واختنق بفعل اضطرابات تصيب صدرها المشحون بمشاعر الخذلان والضعف:
-خفت اسمع كلام يوجعني، نفسي اوجعه بس مش عارفة، أنا فيا إيه ناقص عشان يعمل فيا كدا؟
صرخت في أواخر حديثها فسارعت الخادمة بتهدئتها من خلال تربيتات خفيفة فوق ساقيها مردفة بحنو:
-الحب مش بإيدينا يا ست البنات، ينفع تضغطي على قلبك وتقوليله يحب مين وميحبش مين أصله مش ريموت، دي حاجة كدا ربنا بيزرعها فينا.
لم تكن الخادمة تدرك بأن واقع كلماتها كانت مجرد دفاع عن زيدان، فبساطتها جعلتها تفيض بما داخلها دون توخي الحذر من نهى المحطمة التي كانت تعاني من اضطراب نفسي فمعظم ما قالته الخادمة لم يصل بمفهومه الصحيح لنهى، وكأن عقلها يعاني من حواجز منيعة لتقبل الواقع كما هو، فما زالت تدور حول نفسها في إيجاد سبب لرفض زيدان لها.
-وليه محاولش معايا؟
– ان شالله عنه ما حاول، المهم أنتي تحاولي عشان نفسك.
مسحت نهى دموعها بطرف أصابعها وتمتمت بعتاب:
-اللي عملتيه أنتي وماما فيا كسرني، خلاني ولا قادرة اواجه ولا حتى أرمي الدبلة في وشه.

 

 

كانت مجرد كلمات خائبة تخفي خلفها ضعف شخصيتها، لم يكن ذلك السبب الحقيقي في إنهاء قصتها معه، فكان السبب يتمثل في عدم قدرتها على الوقوف أمامه ولا النظر في عينيه، حتى أنها تساءلت بحيرة متى ستستطيع دفن حبه نهائيًا؟ متى ستتخطى فكرة زواجها منه؟ هل ستصبح أسيرة لعلاقة اتسمت بالعقم؟ هل ستظل تتلقى الصدمات هنا وهناك دون مأوى يحميها من هلاك مُحتم؟ كانت مجرد أسئلة ترفض البحث عن إجابتها لعلمها بمرارة واقعها وأن الذنب يحوم حولها لتشبثها الزائد به وكأنه تعلق مرضي غير قادرة إنهائه.
انتبهت على حديث الخادمة الذي يبدو أنها تتحدث منذ فترة وتدافع عن نفسها بينما هي كانت تغرق في عمق وجدانها:
-أنا لما قولتلها الفكرة دي عشان بس نحاول ننقذك يا ست الكل، حرام شابة جميلة زيك تموت كدا وتنهي حياتها بإيدها..الحياة جميلة ونعمة كبيرة.
أثار حديث الخادمة التهكم في عيون نهى حتى أنها قالت:
-مش حاسة بأي نعمة فيها.
-لا ازاي، وصوتك الجميل اللي بسمعه دا نعمة، يا ست الكل معنى انك بتسمعي وبتاكلي وبتتكلمي وعايشة حياتك من غير مرض دا في حد ذاته نعمة.
وماذا عن ابتلاء القلب، هل جربتي قساوته من قبل؟
كانت تريد نهى البوح بذلك ولكنها اكتفت بالحمد في همس مصاحب لتنهيدة عميقة خرجت من صدرها أخيرًا وكأن هناك جزء ثقيل قد أُزيح من فوق صدرها وسمح للهواء بالدخول لصدرها المرهق من ليلة قضاها في التشنجات والانقباضات.
-انتي عارفة يا هانم، انتي عايزة إيه؟
لم تجيب نهى بل ظلت صامتة تتابع حماس الخادمة البريء دون إبداء أي اهتمام، حتى أن الأخرى شعرت قليلاً بالحرج من صمت نهى المتعمد ولكنها لم تعير لذلك اهتمامًا وتابعت بنفس نبرة الحماس:
-إيه رأيك لو تسافري معايا البلد تعيشي كدا يومين في روقان وراحة من غير حاجة تنكد عليكي، تشوفي ناس جديدة وتشغلي نفسك بحاجة غير اللي بيوجعك.
يا ليت علاجها يتمثل في تلك البساطة ولكنها تعلم مرارة ألمها جيدًا، فمن الصعب مداوة جراح تأصلت بقلبٍ أصبح مشوهًا من كثرة ندباته.
-إيه رأيك اتحايل على ست هانم واقولها تسافري يومين؟
نهضت نهى من الجهة الأخرى للفراش وتابعت بخطواتها الهادئة نحو النافذة تفتحها على مصراعيها تستنشق بعض ذرات الهواء في محاولة منها للتفكير للخروج من شرنقة آلامها، وتردد بداخلها فكرة اللجوء للسفر وكأنها هي الحل الوحيد للابتعاد عن كل ما يسبب لها الألم! محاولة ساذجة ولكنها دعوة للأمل والتمسك بالحياة والبحث عن الذات.
ارتفع رنين هاتفها فالتفتت للخلف تسأل الخادمة الجالسة فوق الفراش وبحانبها الهاتف:
-مين؟

 

 

-استاذ ابراهيم بابكي.
جذبت نفس طويل قبل أن تقول بنبرة هادئة غلب عليها الوهن:
-هاتيه واطلعي انتي.
***
في صباح اليوم التالي..
خرجت “مليكة” من غرفتها تتابع استكمال ارتدائها لحجابها ووجهها المرهق يزداد في شحوبه أكثر حيث قضت الليل بأكمله في التفكير ولم تأخذ سوى قسط بسيط انقطع بسبب حلم كانت تركض فيه خلف والدتها وحينما اختفت نهضت مليكة تتنفس بسرعة كبيرة وكأنها تعاني من أثار الركض.
شعرت بحاجتها لزيارة قبر والدتها والتحدث معها في كل ما لم تستطع البوح به، ربما تشعر حينها براحة بسيطة تستطيع من خلالها استكمال رحلة إنقاذها من وحل ماجد والذي اصبحت على بُعد مسافة قريبة منه إما تنجو دون المساس بسمعتها إما يلوث شرفها ظلم وقهر …أما زيدان فبكل الضغط الذي يمارسه عليها لم تشعر أبدًا بالخوف منه بل دومًا تتلذذ بفكرة وجوده حولها رغم أنها لا تظهر ذلك له.
تناولت وجبة الافطار مع زوج والدتها كعادتهما كل صباح ومن بعدها ودعته أمام الباب:
-زي ما قولتلك يا بابا..هروح لماما ازورها وبعدها أروح اقعد مع واحدة صاحبتي شوية.
أومأ مصطفى برأسه مبتسمًا وهو يعود بجسده نحو الطاولة:
-حطتلك فلوس في الشنطة عشان لو عايزة تشتري حاجة.
ابتسمت بامتنان وأغلقت الباب خلفها بينما اتجه مصطفى يتابع رفع الاطباق من فوق الطاولة واتمام مهمة تنظيفها بعد كل وجبة، ولكنه توقف في منتصف عمله ينظر أمامه حين غلب عليه شعور متمرد بسماع صوتها في تلك اللحظة أو الذهاب أسفل منزلها ينتظرها كعادته ليسرق منها نظرات خجولة ممزوجة بالغضب بالرغم تقدمها في السن إلا انها تملك حمرة قانية تكتسح وجهها حين تغضب أو تخجل.
زفر بتفكير وقرر اختيار أبسط الحلول وأقلهما ضررًا لها وجرب الاتصال بها وهو يعلم أنه حظه لن يحالفه أبدًا ولكنه تفاجأ بصدمة حين وجدها تجيب بنبرة حادة:
-الو..في إيه يا مصطفى بتتصل ليه؟
رباه لو تظل تكرر اسمه هكذا لن يمل أبدًا، فكان صوتها يملك نغمة خاصة بها تلازمها حين تنطق باسمه، فاندفع نحو غرفته يجذب صورها في مختلف مراحل عمرها من صندوق خشبي صغير يحرص على إخفاءه عن مليكة، ولم يكن يعلم بأن الاستماع لصوتها ورؤية صورها حفز لديه رغبة في رؤيتها وجهًا لوجه.
-نادية، ممكن أشوفك؟

 

 

اندفع بسؤالٍ لم يكن يفكر به اطلاقًا لصعوبة تحقيقه فكان أكبر احلامه سماع صوته أما رؤيتها والجلوس معها أبعد ما يكون عن تحقيقها وخاصةً وهما في ذلك السن.
-لا مش ممكن، مصطفى لازم تفوق وتراعي سننا.
أجابت بحدة أخفت خلفها سعادة ورغبة حقيقية في الامتثال له.
-وهنفضل لغاية امتى نراعي كل حاجة غير حبنا؟
خالط سؤاله الألم المعبر عن الفراق المحتوم حولهما، متى سيشفق عليه قدره ويجمعهما في بيت واحد؟ حقّا لا يعلم حتى أنه بدأ يفقد الأمل تدريجيّا..لذا وضع الهاتف على مكبر الصوت وأمسك بصورها بين قبضتيه وكأنه يوجه لها كل مشاعره المدفونة، فوصله صوتها المتأثر بذكريات الماضي وأصرت على حصر حبهما في نطاق المراهقة كي لا تفتح في جراحٍ هي أضعف من مواجهتها.
-دا كان حب مراهقة و خلاص كبرنا..
رفض حديثها وقاطعها بانفعال مدافعًا عن حبه لها:
-عمرك ما كنتي حب مراهقة أبدًا يا نادية، أنتي حب حياتي اللي بتمنى يجمعني بيها بيت واحد.
ضحكت بتهكم ظهر فيه وجع فراقهما:
-بعد إيه..كانت فين الامنية دي زمان؟
شارع في إلقاء اللوم عليها من خلال قوله:
-أنتي اللي بعدتي عنه ومتمسكتيش بيا، مشيتي ورا أهلك واتجوزتي اللي هما عايزينه مع أنك عارفة أن كنت اتمنالك الرضا ترضي بس مكنش في ايدي حاجة وقتها.
– وأنت اتجوزت بردو ونسيتني..اتجوزت حتى بعد ما عرفت أن جوزي اتوفى.
-كنت بعاقب نفسي على حبك وفاكر أن لو رجعتلك ابقى بضيع كرامتي، مكنتش عارف أن روحي اللي ضاعت.
رد في صدق وأخبرها بجزء من معاناته النفسية في محاولة تدمير كل ذكرى تعلقت بها ولكنه فشل حتى في حرق صورها بل أنه حفظها بعناية فائقة وكلما زاده الشوق لها يركض إليها في حنين.
-وفايدة الكلام دا دلوقتي؟
-فايدته نرجع زي زمان على الاقل محتاجين تعويض حتى لو بسيط عن عمرنا اللي ضاع.
أجابها بصدق نابع منه، مما جعلها تسأله في ترقب تخشى سعادة لن تدوم طويلاً طالما يوجد طرف من الممكن لن يتقبلها:
-متأكد من اللي بتقوله؟، طب وبنت مراتك هتعمل فيها ايه؟
-مليكة!…تقصدي أيه؟
هبطت يداه بالصور وغرق عقله في تصور رأيها حول زواجه..
-هي هتوافق على جوازنا يا مصطفى ولا هتسببلك مشاكل.
انبثقت الحيرة من حروفه فبدا وكأنه يقدم على حقل ألغام وهو لا يدرك حجم مصائبه.
-مفكرتش ومش عارف ان كنت اقدر اقولها على جوازي.

 

 

-يعني هنفضل رهن موافقتها؟
ساد الصمت من ناحيته فأثار تحفظها منه مما دفعها لإنهاء الاتصال سريعًا:
-سلام يا مصطفى..سلام ومتفتحش معايا موضوع الجواز تاني طالما بنت مراتك موجودة معاك.
أغلقت الاتصال وتركت مصطفى وحده يعاني من آلام فراقها ثانية بعدما شعر بموافقتها المبدئية على فكرة زواجهما حتى وإن كانا في ذلك العمر، ولأول مرة منذ أخذ عهد على نفسه بتربية مليكة يصطدم بصراع ما بين قلبه وعقله.
لم يكن مصطفى على علم بأن هناك شخص آخر يسمعه وقد تلقى صدمة جديدة لم يكن يتوقعها…

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!