روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وأربعة 104 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وأربعة 104 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وأربعة

رواية غوثهم البارت المائة وأربعة

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وأربعة

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
يا مالك الأقدار يا رافع الأبرار
يا حي يا جبار يا رب … يا رب
يا رب جل جلالك
جبروتك تحنان ملكوتك رضوان
و رضاؤك احسان و كتابك القرآن
نور الهدى الريان
يا رب … يا رب جل جلالك
فلتجعل القرآن ربيع قلبي
و لتمزج الايمان بنبض حبي
أنا عبدك المتضرع يا ربي …
أنا عبدك المتضرع يا ربي
أنا طائع و بطاعتي مسعود
و سعادتي بالخالق المعبود
و عبادتي للقادر الموجود
و هدايتي بكتاب رب الجود
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
في الأصل رجل مثلي لم يستطع الكلام وصياغة التعبير،
رجلٌ مثلي قاسي القلب كما وصفوه، متحجر المشاعر كما نعتوه، متصلد العواطف كما أسموه، هل تظنينه يقدر على التعبير لكِ؟ بالطبع أخطأتي في التفكير،
لكنني لأجلك سأحاول وأفعلها، فدعيني أسرد لك القصة منذ البداية، قصة غُلامٍ صغيرٍ سُلِبَت منه طفولته ليصبح أبًا في أكثر الأوقات يحتاج هو لأبٍ، طفلٌ تحول من راكضٍ خلف بائع الحلوى المُشتهاة لآخرٍ يركض خلف لُقمة العيش وقوت اليوم ليطعم نفسه ويطعم شقيقه، رجل كان وصفه جزءًا من حروف اسمه حيث أنا “إيـهاب” ومنه الجميع يُهاب، عيشت طوال عمري قاسيًا وصلدًا وفي أيامي ما قطعتُ وعدًا، إلا!! إلا حينما مررتُ ذاك اليوم في الطريق صُدفةً ورأيتكِ أنتِ أيتها المسماة بوصفك ذاته “سـمارة” صاحبة البشرة السمراء اللامعة، فلازلت أتذكر ذاك اليوم وكأنه نُصب عيني الآن، حيث تعامدت آشعة الشمس الذهبية فوق بشرتكِ السمراء وأكتملت اللوحة بوصل الشعاع لعينيك البُنيتين وغدوت أنا الغريق فيهما، حينها كنتِ تبحثين عن الأمان وجمعتكِ الطُرقِ بالعنوان، حيثُ أنا الرجل المُهاب، وقتها قلبي لم ينبض لإمرأةٍ غير أمي، ثم أنتِ من بعدها، لتصبحين أول من تقاسمت قلبي معها، ومنذ ذلك الحين علمتُ أنكِ تستحقين أن تُقام الحروب لأجلكِ ولن يُقبل إلا الربح فيها، لأصبح رابحًا بكِ أنتِ أيتها السمراء الشرقية قاهرة الرجل المُهاب من الجميع إلا أنتِ…
<“مُحاربٌ أنا لأجل القمر، لذا تراني في السهر”>
_مش خايفة؟ طب هخوفك أنا وأقولك إن البيت فاضي ومفيش خروج منه غير برجوع أبني، ومش هسيبك غير لما يحصل اللي أنا عاوزه، لسه مش خايفة؟ أحب أقولك إني المرة الجاية هخلص عليهم لو أبني مرجعش، ها؟؟ قولتيلي بقى إنك مش خايفة صح؟ أنا هخليكِ تترعبي يا “قـمر”..
هتف” سامي” حديثه وأنهى جملته وكاد أن يقترب منها لكنه تفاجأ بباب البيت يُفتح ويطل منه آخر من توقع تواجده هنا فيما زفرت هي براحةٍ لرؤية زوجها “أيـوب” يغلق الباب ثم أقترب يقف في مواجهة الآخر هاتفًا بتهكمٍ:
_تخليها تترعب !! دا على أساس إنها متجوزة “بكار” أبـو كف رقيق وصغير ولا إيـه مش فاهم؟.
ضحكت هي بإطمئنانٍ له فيما أقترب هو يبعده عنها ثم قام بإخفاء جسدها خلف جسدهِ ودفع غريمه في صدره يُرجعه للخلف ثم هتف بنفس التهكم الممزوج بنظرات خبثٍ لامعة:
_إيدك بس كدا عنها وخليك بعيد علشان مبحبش حد يقرب من حاجة تخصني، بعدين مش عيب كدا يا أنكل؟ تجيبنا على ملا وشنا كدا؟ ومفيش حتى كوباية عصير؟ أنتَ بخيل ولا إيـه؟ تحب أوريك واجب الضيافة إزاي؟.
في تلك الحالات يصبح شخصًا غير المعروف في العموم، نسخة جديدة منه تظهر في بعض الحالات الاستثنائية ليطيح بكل الظنون نحوه عرض الحائط، ثم يضرب المثالية في مقتلٍ، نظرات جديدة في عينيه، وملامح أخرى في وجهه، والآن سيلقي أول درسٍ في تعاليم كرم الضيافة في عقر دارهم، وقد نُشبت الحرب في نظراتهما لبعضهما وأدرك “سـامي” أن الفخ المنصوب وقع هو فيه، فيما أقترب منه “أيـوب” يقف في مواجهته مُباشرةً يهتف بنبرةٍ غلفتها القسوة:
_أنا مش هلومك على غبائك، ولا هعتب عليك علشان أنتَ أقل من كدا، أنا بس جيت مخصوص علشان نظرة عينك وهي مقهورة كدا بتفرحني، برتاح نفسيًا لما بشوف الراجل اللي كان حارمني من العلاج وسايبني بتوجع قصاده واقف قدامي يتوجع هو كمان بقلة حيلته، الحقيقة أنا فرحان إن مراتي ذكية أوي وحكمت عقلها على مشاعرها، فشكرًا بجد إن لقيت مكان أفسحها فيه، كنت محتار والله.
توسعت عينا “سـامي” ذاهلًا وأنزل رأسه نحو كف “أيـوب” المُمسِك بمفتاح البيت وسأله بنبرةٍ مدهوشة لازالت تحت أثر الصدمة:
_ولا !! أنتَ دخلت هنا إزاي وإيه المفتاح اللي في إيدك دا؟.
أخفض “أيـوب” رأسه يُناظر المفتاح بين أصابعه ثم هتف بسخريةٍ بعدما طالعه من جديد يُثير استفزازه بقولهِ البارد:
_دخلت بالمفتاح، هو دا مش بيت مراتي وأخو مراتي وأبو مراتي ولا إيـه؟ يعني لازم يكون معايا مفتاح علشان في أي وقت أقدر أتحرك وأدخل هنا لما مراتي تحب تغير جو، شكلك متضايق، بجد هزعل منك، بدل ما ترحب بينا يعني؟.
أبتسمت “قَـمر” وكتمت صوت ضحكتها قبل أن تقوم بفضحها فيما مدَّ “أيـوب” ذراعه للخلف وتسلل يقربها منه تلتصق بظهرهِ وهو يقول بتحدٍ سافرٍ للآخر:
_أنا فاهم إن نيتك مكانتش خطف، هي كانت بس تهويش إنك تقدر تعمل أي حاجة بس أنا بقى مش فارق معايا، ومراتي أنا أقدر أحميها وأحافظ عليها، مش علشان أنا جامد، بس علشان أنا متوكل على الله، وواثق في رحمته وقلبي عامر بالإيمان، دا كلام أنتَ متعرفهوش علشان مُغيب، بس براحتك الباطل عمره ما أنتصر على الحق، وإلا ربنا سبحانه وتعالى مكانش خلق الجنة والنار، بس الحمدلله إنها أتخلقت علشان اللي زيك كدا، وربنا ينصرنا عليك وعلى أمثالك ومراتي في عيوني الاتنين.
في الحقيقة هو كره نفسه وكره تلك اللحظة التي جمعته بالآخر لذا استعد للرحيل ثم رفع رأسه شامخًا يهتف بنفس القوة التي يمتلكها صاحب الأرض أمام العدو الجبان:
_أنا مش النوع اللي بيعرف يسكت، بس أنا باخد حقي صح ومش بسيبه، وأنا اللي ليا عندك كتير مش هسيبه، وطالما فكرت تقرب من اللي يخصوني يبقى أنتَ كدا بدأت تحط راسك براسي وكدا أنا مش هقدر أسكت، ولآخر مرة لو فكرت تقرب من مراتي أو أبويا أو أي حد ليه علاقة بيا، أقسملك بالله ما هستخسر فيك الموت، وكدا نبقى خالصين خالص.
قبض على كف زوجته وجعلها تتقدمه في السير وهو يتبعها فيما كانت هي أسيرة في تلك اللحظة التي كُتِبَ لها أن تعيش في حلوها، فهي لازالت غير مُصدقةٍ أن من كانت تراقبه بأم عينيها وتتمنى فقط لو ينظر إليها أضحى هو نفسه من يقف في وجه العالم قبل أن يميل عليها، كانت تطالعه بتيهٍ وفخرٍ في آنٍ واحدٍ حتى خرجا سويًا من البيت وأصبحا في الخارج حينها طالعها هو بعلامات استفهامٍ في عينيه من صمتها وقد لاحظت هي ذلك فهتفت بصوتٍ مخمليٍ ناعمٍ:
_أنا مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه، ومبسوطة أوي بموقفك إن جيت معايا ومخرجتش نفسك برة المشاكل دي، وفرحانة إنك وقفت تدافع عني كدا، أنا طول عمري بخاف علشان بابا مش معايا وقبله “يـوسف” مكانش معايا، بس دلوقتي أنتَ معايا وجنبي ومعاه هو كمان، ودي أحسن حاجة، أنا كل مرة بتأكد إن القلب شافك صح.
أبتسم بعينيهِ لها ثم حرك رأسهِ يُراقب المكان الفارغ حولهما وحينها ضمها بهدوءٍ ومسح على رأسها وهو يضعها عند موضع نبضه وقد أبتسمت هي بصفاءٍ وهي تُقسم أن الأمان الموجود في العالم بأكملهِ يتواجد فقط في حضرته هو، وقد هتف هو بنبرةٍ رخيمة وقد شعر بالإنتشاء يسري في عروقه كونها آمنة نصب عينيه وبين ذراعيهِ:
_وأنا مبسوط أو بيكِ فوق ما تتخيلي، مبسوط إنك حسبتيها صح وإنك جيتي ليا علشان نكون مع بعض، وفرحان علشان مع بعض، والله العظيم أنا شقيت في الدنيا دي وكنت صابر، ودلوقتي صابر وراضي إن كان وجودك هو آخرة صبري، وأظن كدا مش مستنية أقولك إني بحبك، علشان أنا كنت مستنيكي أنتِ مش غيرك.
تورد وجهها وأنفرجت شفتاها عن بعضهما ببسمةٍ عذبة طفقت ترتسم رويدًا فوق شفتيها لتزين وجهها وقد أبتعد عنها هو وهتف بنبرةٍ ضاحكة بعدما قبض على كفها:
_يلا بقى علشان آخد أفسحك زي ما قولت أنا مبرجعش في كلمتي، وبصراحة أنا جعان أوي وعاوز آكل، تاكلي معايا؟.
ضحكت على طريقته التي تصنع فيها البراءة وسارت معه وهو يتقدمها في المسير يسحبها خلفه بهدوء حتى فتح لها باب سيارته وولجتها هي تجلس في موضعها وقد جاورها هو مُبتسمًا ثم تحرك بالسيارة براحةٍ بدت واضحةً في عينيهِ وكأنه أطمئن أخيرًا بتواجدها معه.
__________________________________
<“قد نكون في عينيكم الضعفاء، لكن لأنفسنا أعزاء”>
في كل لحظةٍ يجتمع بها يشعر وكأن الحياة أساسها هنا حيث تواجدها هي، يشعر وكأن ما فاته لم يُكتب له حتى يراها هي ويعلم أن الغاية والمقصد هُنا، وقد وقف أمام مبيت الطيور البيضاء يطمئن عليهم وعلى إطعامهم وكأنه هو الآمين عليهم، حينها أتت واحدةٌ من الحمامات البيضاء تقف فوق كتفهِ فأبتسم ذاك المُتيم وحرك رأسه نحوها يهتف بنبرةٍ رخيمة خالطها الضحك المرح:
_أنتِ جيتي منين؟ شكلك كنتِ هربانة صح؟.
أصدرت الحمامة هديلًا وهي تمد رأسها للأمام وكأنه تتحدث معه، بينما هو فأبتسم ثم مسح على رأسها وهو يتذكر اللقب الذي ألقاه عليه والده بالتبني حيث اسماه “خليل الطيور” وذلك لأن الطيور بأكملها تحبه هو وتعود لعشه هو وتأخذ موطنًا مطرحه هو، صوت صفيره ورايته البيضاء عند ظهورهما في أرجاء الحارةِ تمتليء السماء بهم مُحلقين فوق بيتهم الخشبي، يعلم عنهم العديد من الأسرار مثل حبهم لموطنهم، وقدرتهم على تمييز الأصوات، وتعارفهم على الأوجه أسرع من سرعة البشر ذاتهم، وقد قارن حاله بحالهم وجد العديد من الصفات تشترك بينه وبينهم، فكما يفهم والده البيلوجي في لغة الخيول هو ماهرٌ في لغة الطيور، وقد لاحظ صوت خطواتٍ تقترب منه فألتفت بهدوءٍ ليجد حمامة السلام الأخرى تقترب منه..
أبتسم لها بعينيهِ قبل شفتيه فأقتربت منه “آيـات” ترتدي خمارًا باللون الوردي وقد وقفت في وجههِ تبتسم له وهتفت بثباتٍ:
_أنا كنت عند “مـهرائيل” هنا بس قولت أطلع أشوف طنط وأتطمن عليها وهي صممت أجيلك هنا، قولت مش مهم مرة أجيلك أنا طالما كل مرة بتيجي أنتَ، بس متاخدش على كدا.
أقترب منها أكثر يقف في مُقابلتها وضوء القمر الساطع سقط عليهما ليُكمل اللوحة بينهما، فيما هتف هو بنبرةٍ رخيمة تائهة الصدى في وجه المليحة التي تقف أمامه:
_إمبارح حلمت بيكِ، بس كان العكس هو اللي حصل، كنتِ واقفة قصاد البحر والدنيا فاضية حواليكِ، وكنتِ لابسة خمار أبيض طويل على فستان أبيض برضه كأنك عروسة بحر أو حور عين من الجنة، أنا مشوفتكيش غير كدا، وأنا جيت ماسك ورد توليب في إيدي ووقفت قدامك سلمتهولك، وساعتها ضحكتي وبس، وأنا في الحلم كنت تايه ومش فاهم حاجة، كنت تقريبًا بدور عليكِ من وسط الكل، وصحيت مش فاهمني، بس أنا لاحظت حاجة، وسط كل اللي بيحصلي دا وحياتي اللي أتشقلبت، أنا بقيت شايفك الطريق الصح، أظن كدا دا تفسير الحلم إنك تيجيلي هنا؟!.
أخفضت رأسها بخجلٍ وهي تبتسم ثم أعادت النظر في وجهه المُحبب لقلبها وأضافت بثباتٍ بعض الشيء:
_يمكن، مين عالم غير ربنا وحده؟ أنا كمان لما أنتَ أتقدمتلي صليت استخارة علشان أحدد موقفي منك، ساعتها قولتلك إني حلمت بيك فاكر الموقف دا يا “تَـيام”؟.
ضيق عينيه لبرهةٍ يحاول تذكر الموقف ثم أومأ موافقًا ما إن تذكر الموقف فأبتسمت هي له وأضافت بنفس الصوت الهاديء وهي تقترب منه أكثر:
_ساعتها في الحلم أنتَ كنت جايلي وشاورتلي على مكان بعيد أروحه معاك، المكان دا ساعتها كان بيت كبير أوي بس أنا معرفهوش، وقدامه خيول كتيرة أوي كانت واقفة قدام البيت دا، ساعتها أنا موصفتش كل دا علشان مركزتش فيها، بس بعد كدا وبعد موقف والدك بقى فهمت إن دي كانت رؤية، وأنا جيت أقولك موافقة إننا نعيش عند باباك، أنا مش فارقلي المكان بس فارقلي صاحب المكان، وأنتَ طالما معايا أنا هكون متطمنة، إيه رأيك نروح هناك؟ باباك محتاجلك والله.
تنهد هو مُرغمًا ثم رفع كفه يحتضن شطر وجهها حتى أغمضت عينيها هي بتأثرٍ من أقترابه فوجدته يهتف بصوتٍ عميق ورخيم تغلل لها كونها مجرد فتاةٍ لم تتعامل مع الرجال الغرباء ولو بسلامٍ عابرٍ:
_وأنا علشانك موافق، بس عاوزك تعرفي حاجة مهمة وهي إني مش قلبي حجر وقاسي على أبويا ولا مكبر الموضوع بس من حقي يكون ليا قرار أتمسك بيه، وأنا بقى أختارت قراري خلاص وهو أنتِ مش غيرك، طالما معايا أنا موافق على كل حاجة خلاص، جهزي نفسك علشان نروح نشوف المكان اللي هنعيش فيه.
توسعت بمستها أكثر وتنهدت بعمقٍ بعدما حصلت على القرار الأخير منه فيما ضمها هو يتشبث بها ثم هتف بتيهٍ وهو يراقب ضوء القمر الساقط عليهما سويًا من بين السماء المفترش فيها الظلام:
_ماظنش إن ينفع يكون في حد زيك من نصيبي وأب زي “نَـعيم” عاش عمره كله مخلص ليا وينفع أزعلكم، طالما كله كدا هيرتاح أنا كمان هرتاح معاكم، والحمدلله إنها جت معايا على قد كدا، والحمدلله على رحمة ربنا بعباده رغم التقصير والذنوب والمعاصي لسه بيكرمهم، وأنا كرمني من وسع بكل حاجة، فمش هجحد النعم كلها علشان إحساس أناني جوايا، رغم إني أناني فيكِ أنتِ وعاوزك ليا بس.
أغمضت عينيها وهي تضع رأسها على كتفهِ وقد تبسمت بصفاءٍ كونها مع الحبيب الأول في حياتها، تسعى بكل طاقتها وشغفها لإسعاده وخاصةً بعدما تحدثت مع والده وأخبرته أنها ستفعل كل شيءٍ لأجل إرجاع ابنه له من جديد، وقد أتفقت مع والدته “نجلاء” التي وافقت على الحديث رغم حزنها لفراق ابنها بعيدًا عنها..
في الأسفل بشقة “نجلاء”
جلست في غرفتها تمسك صورة زوجها وهو يحمل “تَـيام” في صغرهِ وحينها نزلت عبراتها تنساب على وجنتيها وهي تقول بنبرةٍ باكية تحدثه وتشكو له فراق الحبيب الثاني من بعد فراقه هو عنها:
_الحِمل طلع تقيل أوي يا “صبري” تقيل وأنا مش قده، الزعل بينهش فيا وأنا سايباه يمشي بعيد عني، أنا بحبه أوي، بحبه بطريقة غريبة، يمكن لو كنت خلفت بجد ماكنتش هحب ابني كدا، ياريتك ما وصتني بوصية زي دي وتقلت الحمل عليا، يا بخت أبوه بيه وبحنية قلبه، وأنا هعيش العمر كله فرحانة إني ربيت راجل زي دا، أنا دلوقتي بتمنى أجيلك، أنا مش هقدر أعيش لوحدي، مش هقدر أشوفه بعيد عني وأنا ماليش حق فيه، ياريتك كنت معايا، وياريته كان من صُلبك..
ضمت الصورة وهي تبكي بمرارةٍ أوجعت فؤادها حتى جف من الرطوبةِ بسبب غزارة عبراتها المُنسابة، تعلم أن أمر فقدانه أضحى محتومًا لا شك فيه، لكن الصعوبة بأكملها تكمن في الفُراق، وكأن الأيام تشبه الكأس الدائر بين الناس، فكما عاشت هي تتمتع بقربه معها وقت حرمان والده منه، توجب عليها الآن أن تقوم بتجربة الحرمان منه عند عودته لأبيه، وقد أنىٰ القلب لوجع الفراق وصرخت الروح من عدم قدرتها على الإشتياق.
__________________________________
<“يُصنف الذكر رجلًا بما يتمتع به من شيم الرجال”>
في منطقة التجمع الخامس..
توقفت السيارة الأولى الخاصة بـ “أيـهم العطار” ويرافقه في نفس السيارة “بـيشوي” وقد جلسا فيها سويًا ينتظران قدوم الطرف الثالث حتى لمح “أيـهم” سيارة “مرسيدس” سوداء اللون تقترب منهما فترجلا من السيارة معًا حتى نزل “إيـهاب” من سيارته ووقف أمامهما يرحب بهما بطريقةٍ رسمية:
_أهلًا وسهلًا يا أستاذ “أيـهم” أهلًا يا أستاذ “بـيشوي”.
رحب به الإثنان معًا وقد هتف “أيـهم” بنبرةٍ أكثر ودية عن السابق يزيل عن التعامل بينهم الرسمية بهتافه:
_ياعم بلاش رسمية بايخة، إحنا كلنا سن واحد أهو، خلي البساط أحمدي، أنتَ “إيـهاب” عمهم وأنا عم العالم دا.
ضحك له الآخر ثم أومأ موافقًا فيما تدخل “بـيشوي” وهتف بثباتٍ يوضح له ما يتوجب عليهم فعله قبل التوجه للأعلى:
_المفروض دلوقتي هنطلع نشوفه لأن الدكتور جه يعمله تمارين علاج طبيعي، علاج فيزيائي يعني لحد ما يشد حيله شوية، لحد دلوقتي إحنا مقلقين منه، مش مُريح وخايفين يروح لأبـوه أو يكلمه، وهو مصمم يفهم إيه اللي هيحصل، علشان كدا جيبناك، لأنه لو ظهر قدام “يـوسف” الله أعلم إيه اللي ممكن يحصل بينهم.
أومأ “إيـهاب” موافقًا وقد تذكر موقف “سـامي” وكيف فضح أمره أمام شقيقه وزوجته، وكيف عاش ليلةً كاملة في ضعفٍ وخوفٍ تراوده الكوابيس المُزعجة وتحكم كفيها حول عنقه تضيق عليه الخِناق، وحينها توغلت فكرة الثأر لنفسهِ كما يتوغل العدو في الأراضي المُحتلة، خاصةٕ بعدما أخبره “نَـعيم” بمكان تواجد الآخر، وقد صعد معهما للأعلىٰ فوجد “نـادر” يستند على الطبيب و الممرض وهو يتحامل على نفسه لكي يسير على قدميهِ، وما إن رآهما تراخى جسده المشدود وسقط فوق المقعد المُتحرك وهو يرى الثلاث معًا وحينها أرتفع جانب فمه ساخرًا وهو يتشدق بقولهِ متهكمًا:
_دا أسميه تشكيل عصابي؟ معقولة أنتَ كمان هنا معاهم؟ وياترى بقى الهدف إيـه؟ أنا عارفك مقامك عالي ومبتخطيش خطوة من غير حساب ودراسة، جيت ليه يا “إيـهاب”؟ أتمنى يعني متكونش جاي تكمل عليا، لأني مش هقدر أدافع عن نفسي زي ما أنتَ شايف كدا.
تحولت نبرته إلى الوجع وهو يشير نحو قدميه وقد أقترب منه” إيـهاب” يقف بقربه وهو يُطالعه من عليائهِ وهتف بثباتٍ أمامه:
_كويس إنك عارفني، وعارف طبعي إن مبطناتحش، اللي بقوله بيحصل من غير جدال، كتر خيرنا أوي عاملين الواجب معاك، قاعد في شقة زي القصر الراجل مقعدش عيل من عياله فيها، بيتصرف عليك آكل ودكاترة وممرضين في خدمتك من غير ما تطلب حتى، كلنا زي الحاوي حواليك علشانك أنتَ رغم إن أبوك ميستاهلش حاجة من دي ولما الزمن سبق وكان عنده، أبوك داس على عيال صغيرة وطلع غله من أهاليه فيهم هما، علشان كدا أنا مُجبر تسمع كلامي، طالما عاوز تسافر وتهج وتسيبها يبقى تسمع كلامي وصدقني بكرة تعرف إن أختيارك لينا صح، لأن اللي متغطي بأبوك وصنفه عريان، والنهاردة أخر مرة هجيلك وهسألك تختار حمايتي وتقف في صفي ولا تختار عداوتي وساعتها هدوسك في سكتي؟ ومش أنا لوحدي، أديك شايف أقل صف فينا عامل إزاي، أنا وهما قدامك أهو، شايف إيـه؟.
وزع “نـادر” نظراته بينهم روحةً وجيئة يطالع وجوههم بإمعانٍ ثم هتف بثباتٍ راوغته غصة تتراقص في حنجرته كفتاةٍ لعوب:
_أنا من كل دا مش عاوز غير إني أكون في حالي وأقف على رجلي تاني وساعتها أنا همشي من غير ما أضر أي حد في حياتي، هسيبها ليكم، اللي شوفته قبل الحادثة خلاني أتأكدت إني رخيص عند الكل، يبقى ملهوش لازمة إني أكسب عداوات أنا في غِنىٰ عنها وعن الكُل، أنا مش هبيعكم ولا ومش هقول لحد كنت فين، عاوزين مني إيـه؟..
طالعوا بعضهم يتساءلون بعينيهم عن مقدار ثقتهم فيه وقد أقترب منه “إيـهاب” يُخرج من جيبه هاتفًا قديم الطُراز ثم هتف بثباتٍ وقوةٍ أمام ابن الغريم الجديد في قائمته:
_عاوزك دلوقتي تاخد التليفون دا هتلاقي رقم أبوك متسجل عليه وتقوله إنك بخير وهو مالهوش دعوة بيك تاني لحد ما تقرر تظهر، مش أكتر من كدا ولو فيه حرف خرج زيادة منك أو كلمة كدا أو كدا صدقني أنا هخلص عليك وأبعتك لأبوك متعبي في كياس.
أغمض “نـادر” عينيه بألمٍ ثم آخذ الهاتف منه وقام بإخراج الرقم حتى وصله الرد مُقتضبًا من الطرف الآخر ليجاوب هو بنفس الإقتضاب بعدما قضى على الشوق في صوتهِ:
_أنا “نـادر” حبيت أعرفك إني بخير الحمدلله وكويس، المهم متدورش عليا أنتَ وسيبني في حالي علشان مش ناوي أرجع دلوقتي خالص، سلام.
أغلق الهاتف ثم مد كفه به للآخر الذي طالعه مُستحسنًا تصرفه فيما هتف هو بنبرةٍ بها لمحة عنادٍ أو إصرارٍ خفيٍ:
_أنا عاوز حماية لأمي ولمراتي من كل حاجة حتى اللي ناويين تعملوه، أنا مش بفكر في حد تاني غيرهم، دول يكونوا كويسين وبخير ساعتها أنا معاكم، وصفوا حساباتكم مع بعض.
تدخل “بـيشوي” يجاوب بثباتٍ هو الآخر ردًا عليه:
_مبناخدش حقوقنا من ستات ولا ضُعاف، يعني أنتَ وهما خارج الحِسبة دي كلها، بعدين هو إحنا قرايب أبـوك يعني علشان نقل بأصلنا مع الستات والضُعفا؟ دي أشكال صنف أبـوك أنتَ.
زفر “نـادر” بقوةٍ ثم أرجع رأسه للخلف ناقمًا عليهم وعلى والده وعلى الجميع حتى نفسه العاجزة عن الوقوف في وجوههم، وقد أشار لهما “أيـهم” بالخروج وظل فقط المُمرض بجوارهِ حتى ولجت له ابنته “حـنين” بحبوب الدواء ووقفت جواره تهتف بنبرةٍ خافتة:
_الدوا يا أستاذ “نـادر” أتفضل.
حرك رأسه نحوها يُطالعها مُتعجبًا فيما مدت هي كفها أكثر حتى ألتقط منها الدواء وعقبه بالمياه ثم أغمض عينيه وأرجع رأسه على مسند المقعد المتحرك وقد وقفت هي ترمقه بشفقةٍ ثم جاورت والدها وهي تقول بنبرةٍ أقرب للهمس تُعلن شفقتها على ذلك القعيد:
_والله حرام عليهم، كل يوم حد فيهم ييجي كدا يقعدوا يشدوا مع بعض؟؟ وهو ساكت خالص، شكلهم ناس صعب أوي والله أعلم بيه وبحاله يابا، ربنا ينجدنا من دي دنيا.
طالعها بقلة حيلة ثم هتف ساخرًا منها:
_أنا نفسي تسكتي وتبطلي تحكمي على الناس علشان طول عمرك بتاخدي على قفاكِ ولا أفكرك؟ دا إحنا خلعنا منهم بطلوع الروح، على الله أشوفك بتقولي على حد طيب، محدش طيب غيرك أنتِ يا بنت العبيطة.
لوت فمها بسخطٍ ثم تنهدت رغمًا عنها وهي تتذكر المار عليها، لقد نجت من حياتها السابقة بأعجوبةٍ وتعافت وترممت بنفسها وأضحت على ماهي عليه اليوم، وقد حركت رأسها نحو “نـادر” وهو يجلس ضعيف القوىٰ وهزيل الفعل فوق مقعد متحركٍ في أيام شبابه وقد صمتت تمامًا عن الحديث وخرجت خلف والدها.
__________________________________
<“هي لحظات نسرقها من الوقت، لا تسرقها منَّا”>
في منطقة الزمالك..
أمام أحد المطاعم الشهيرة الحديثة أقترب “أيـوب” من السيارة بالطعام السريع ثم ولج يجلس بجوار زوجته التي ضحكت له فوجدته يناولها الطعام الخاص بها وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة وفرحة بها:
_أتفضلي يا ستي، الشيش طاووق بتاعك، وعصير البرتقان، وأدي الصوص أهو، تحبي أجيبلك مناديل بالمرة أحسن ما توقعي على نفسك؟.
خطفت منه الطعام وهي تضحك فيما ضحك هو الآخر وطالعها وهي تجلس جواره تشبه الصغار عند خروجهم في نزهة عائلية مُضطرين على الإنصات لأهلهم، وقد شرد هو فيما حدث منذ ساعات قليلة حينما لجأت إليه ليعاونها..
(منذ عدة ساعات)
بعد وصول المكالمة الهاتفية لها ومساورة الحيرة لها حينها نزلت هي تمر عليه في عملهِ ووقفت منزوية تنتظر خروج الرجال بالبضائع المُحملة حتى أنتبه هو لها وأدخلها تقف أمامه وقبل أن يسألها عن سبب مجيئها هتفت هي بتوترٍ رغمًا عنها:
_أنا جالي مكالمة تليفون من واحدة ست بتقولي إن “فـاتن” تعبانة وأديتها رقمي علشان تكلمني وأروح ألحقها، أنا مش مقتنعة أوي بس تمام، خليني معاك، ليه مثلًا تكلمني علشان أروح وهي عارفة موقفي وإني مش بحبها للآسف، ومش ناسية إنها سبب في حياة أخويا اللي أتدمرت، وإنه بعد عننا بسببها، بس أنا برضه إنسانة وعندي مشاعر تفتكر هي فعلًا تعبانة ولا دا فخ معمول؟ أنا جيتلك علشان تقولي أعمل إيـه، أروح ليها؟.
حينها ضيق جفونه بريبةٍ وسرعان ما تذكر أمر “سـامي” فمن المؤكد لن يأمن عليها بمفردها عندهم، لذا هتف مُسرعًا بعدما لاحظ حيرتها والتخبط البادي عليها وهي تقف أمامه حائرة في أمرها:
_هنروح ليها، مش هسيبك أكيد لوحدك، أنتِ ملزومة مني وحمايتك فرض عليا، يعني لوحدك دي مفروغ منها، أنا هاجي معاكِ لو لقيناها محتاجة مساعدة هنساعدها إنسانيًا مننا، لو حاجة تانية غير كدا، يبقى أنا هتصرف ساعتها، يلا؟.
أبتسمت له بإعجابٍ صريحٍ ثم هتفت بمرحٍ تغازله:
_أقسم بالله المتاحف خسرتك، عندك علم إنك مطلوب؟.
ضيق جفونه لها بحيرةٍ فهتفت يستفسر منها فيما أكملت هي بنبرةٍ ضاحكة تتابع سابق حديثها:
_علشان أنتَ عملة نادرة والله.
ضحك رغمًا عنها حينها وسحبها من كفها ورحل لكنه لم ينكر سعادته بها، وخاصةً حينما عادت من جديد تضحك وتمازحه وتغازله وقد شعر في تلك اللحظة بتولي المسئولية نحوها وخاصةً توفير الحمايةِ لها، لذا بكل إقدامٍ وشجاعةٍ تولى تلك المهمة الصعبة بعدما أوصلها للباب ووقف يملي عليها تعليماته وقد أمرها بقولهِ الصارم:
_تليفونك يبقى مفتوح علشان أسمع هو بيقولك إيه، طلعيه دلوقتي وأفتحي المكالمة علشان أكون فاهم إيه اللي بيحصل ولو هي تعبانة نجيب دكتور ليها.
حينها فتحت هي المكالمة معه ووضعت الهاتف في حقيبتها وولجت البيت بخطى وئيدة مُترددة كمن يخطو داخل حقل الألغام يحسب الخُطوات جيدًا قبل أن تُطل قدماه أي شبرٍ قد يسهم في إندلاع الإنفجار حتى ظهر العدو فجأةً وبدأت المناوشة بينهما..
(عودة لتلك اللحظة)
كانت تتناول الطعام بتركيزٍ وشهيةٍ واسعة لكونها تشاركه هو تلك اللحظات فيما ظل هو شاردًا فيها وفي براءة ملامحها التي تتحول حينما يخص الأمر أحبتها، وقد ألتقطت هي نظراته نحوها فرفعت عينيها تسأله بمزاحٍ:
_بتبصلي كدا ليه يا أسطى “أيـوب”؟.
ضحك هو على ذلك اللقب المُحبب ثم جاوبها بمرحٍ أقتبسه من ملامحها المُحببة له ولعينيه المطروفتين بها:
_فرحان بيكِ، حاسس كدا إني فخور بمراتي لدرجة مخلية راسي مرفوعة ومش هعرف أنزلها تاني، بصي هو أنا عادةً يعني قليل الكلام، بس أنا عندي استعداد أتكلم لو عاوزة تسمعيني، حاسس إني نفسي أقولك وأشاركك حاجة حصلت معايا، وبسببك النهاردة أنا تخطيتها، هتسمعيني صح؟.
أومأت له موافقةً بلهفةٍ فيما تنهد هو مُطولًا وبدأ في سرد الماضي قائلًا بصوتٍ تباينت فيه المشاعر بين الآلم والوجع وبين الراحة والتجاوز:
_لما أمي ماتت في حضني كنت صغير ويدوبك عيل لسه مش فاهم حاجة، ساعتها ماتت بالسرطان لما أنتشر في الجسم، الفترة اللي بعد دي أنا مش عاوز أفتكرها علشان غصب عني مبحبهاش، كل حاجة من بعد موت أمي تعبتني أوي، بعدها تقريبًا بشهور السرطان جالي أنا كمان، جالي في الدم وبدأ ينتشر والخلايا نشطت بسرعة كبيرة لإني نفسيًا كنت متدمر، ساعتها نسبة الشفا كانت معدومة وأتقال لبابا يبدأ يجهز لوفاتي في أي لحظة…
شهقت هي بفزعٍ وترقرق الدمع في عينيها وهي تُطالعه وهو يتألم أمامها وقد تحدى هو نفسه للتكملة وهتف بصوتٍ ازداد فيه الألم أكثر من السابق:
_ساعتها كانت الصدمة كبيرة عليه، مكانش عارف يتقبل الفكرة لحد ما ربنا أمر برحمته إن الشفا ييجي على أيد دكتور متخصص في أمراض الدم وهو ساعتها اللي قرر يعالجني بدل حالة الاستسلام دي، ساعتها خدت جرعات كيماوي بس بنسب قليلة، بدأ شعري يقع وجسمي يوجعني أكتر وأدوخ باستمرار، كنت كل يوم بدعي ربنا يرحمني وأموت علشان أخلص، خصوصًا لما كنت باخد الجُرعة وأتعب بالشكل المُجهد دا، بعدها لما بدأت أخف كان فيه علاج لازم آخده على جُرعات، في الفترة دي “سـامي” خطفني وحطني في محجر الرخام بتاع تاجر كان في السوق، في البرد والضلمة والوجع اللي بيضرب في جسمي عمره ما رأف بيا، كل يوم كان ييجي يضرب فيا شوية ويفكرني إني شعري وقع وإني هموت أكيد، وأنا للآسف كنت ضعيف وخايف لحد ما ربنا رحمني ورجعت تاني بس على المستشفى المرة دي لأن الحالة كانت صعبة، أنا عمري ما قولت وعمري ما حكيت، علشان متقلش على حد، بس أنا كنت عاوز حد قريب مني يسمعني، حد أكلمه كأني بكلم نفسي، أنا آسف إني زعلتك بس أنـ….
قبل أن يُكمل وجدها تقترب منه باكيةً وتعانقه وهي تمسح على ظهرهِ وهتفت تؤنبه بنبرةٍ باكية لأجلهِ:
_آسف إيـه بس؟ آسف ليه إنك بتشاركني وبتقولي وجعك؟ صدقني على قد زعلي علشانك بس أنا مبسوطة إنك قررت تشاركني في زعلك، وتقولي على اللي وجعك، وأنا معاك علطول وعمري ما هسيبك في الوحش قبل الحلو، دا أنا ما صدقت تتأكد إني معاك وليك وسمعاك العمر كله، قول وأنا هسمعك.
أغمض عينيهِ بسلامٍ وأخرج أنفاسه المحبوسة ثم أبتعد عنها يُطالع عينيها وهو يقول بصدقٍ نبع من مشاعره المُضاءة بوهج الحُب لها:
_مش عاوز أكتر من كدا، لو هتسمعيني أنا راضي ومبسوط أوي وكل لحظة لينا مع بعض عندي بالدنيا، وأنتِ كلك عندي بالدنيا، الحمدلله على وجود نعمة كبيرة زيك.
تورد وجهها من جديد فيما لثم هو جبينها ثم أعتدل في جلستهِ وقد صدح صوت هاتفه برقم شقيقها وحينها جاوب هو بثباتٍ مُصطنعٍ ليتفاجيء بالآخر ينفجر فيه قائلًا:
_دا أنا لسه بقول يا هادي، إحنا لحقنا؟.
جاوبه “أيـوب” بنبرةٍ ضاحكة رغمًا عنه من حنق الآخر:
_أقسم بالله ظرف طاريء، أنتَ عارفني عمري ما أخدع حد، بس أنتَ كبر عقلك كدا وخليك واثق فيا، شوية وهنيجي بس نكمل أكلنا حرام النعمة تترمي على الأرض وأنا جعان.
ما زاده إلا حُنقًا بحديثهِ وقد هتف “يـوسف” بغيظٍ منه:
_براحتك بقى، الشهر بقوا ٦ شهور، وعينك هتطرف المرة دي مني، لو أتأخرت هتبقى سنة كاملة متعلق زي ما أنتَ.
ضحكت “قـمر” بصوتٍ عالٍ ما إن استمعت لصوت شقيقها الحانق وقد وصله صوت ضحكاتها المرتفعة فهتف بتهكمٍ للآخر يلقي عليه اللوم:
_بعد الضحكة دي ٦ سنين كاملين، هات البت يالا.
أغلق في وجههِ بحنقٍ وهو يشعر بالغيرة عليها فيما ضحك “أيـوب” عليه ثم أمسك الطعام يتناول منه وشرع في قيادة السيارة لتسأله هي بحنقٍ عن سبب تحركه:
_إحنا هنمشي؟.
_أومال استنى يوصلها تأبيدة وآخدك على المعاش؟.
هكذا جاوبها ليرتفع صوت ضحكاتها على رد فعله الساخر لكنها قررت أن تستغل الوقت بصحبته وهي تتناول الطعام معه، وتشاركه الحديث المرح وقد قررت أن تخرج الطفلة الساكنة بداخلها وجعلتها تترعرع بصحبتهِ نصب عينيه وهو يضحك لها ويتفاعل مع كل ما يصدر عنها من فعلٍ أو حديثٍ.
__________________________________
<“النور قد آتىٰ وأزاح الظلام أخيرًا”>
بعد مرور يومين من الآحداث السابقة المُتصاعدة..
في منطقة نزلة السمان صباحًا وصل “يـوسف” إلى “الكافيه” الخاص به هو وولجه بحماسٍ بعض الشيء وقد وجد “نـور” هناك تُشرف على المكان فهتف بنبرةٍ ضاحكة أقرب للإمتنان لها:
_صباح الخير، عاوز أشكرك والله، الفترة دي أنا مقصر مع المكان بسبب الشغلين مع بعض، بس شكرًا يا “نـور” طول عمرك جدعة وتسندي مع أي حد.
أبتسمت هي له وهتفت بودٍ ترفع عنه الحرج:
_لأ مفيش داعي، بعدين أنا بشكرك بصراحة إنك مأمني على المكان هنا وأنا اللي محتاجاه الفترة دي علشان أخرج الطاقة السلبية اللي عندي، بعدين “سـراج” بصراحة معايا مش سايبني، أعتبرني باجي أخرج هنا ومن غير حساب.
توسعت بسمته أكثر ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة:
_مفيش أي مشاكل المكان تحت أمرك كله، المهم أنا بكرة هسافر لمدة أسبوع كدا شرم الشيخ، أنتِ هنا أكيد في المكان وكلهم معاكِ ولو فيه حاجة عاوزاها عرفي “سـراج” وهو مش هيتأخر خالص.
كادت أن تجاوبه وتتفاعل مع حديثه لكن ظهور تلك الحرباء الملونة أوقفها حتى توسعت عيناها وهي أمامه، فقد ولجت “شـهد” المكان بثباتٍ تُحسد عليه حقًا فيما لاحظ “يـوسف” ذلك فألتفت للخلف يُطالع سبب ذهول الأخرىٰ ليُصاب بصدمةٍ جلية فوق وجههِ عند رؤيته لها في مكانه وقد طالع “نـور” التي لاحظت إتهامه لها بعينيهِ وقبل أن تتحدث ولج “سـراج” المكان مهرولًا له وهتف بصوتٍ لاهثٍ:
_هي جت تسأل عنها وأنا عرفتها إنها هنا، “نـور” ملهاش دعوة بحاجة، روح أنتَ بس شوف “عـمهم” كان عاوزك ضروري روحله وهاجي وراك، يلا بس.
دفعه “سـراج” نحو الخارج وحينها ازداد الشر في عينيه والقسوة في نظراتهِ وهو يُرمق “شـهد” الغير مُبالية بنظراتٍ نارية فيما أنتظرت “نـور” إختفائه من أمامها فأندفعت تسألها بحنقٍ منها:
_أنتِ إيـه اللي جابك هنا؟ أنا مش عاوزة مشاكل يا “شـهد” جاية ليه وأنا قطعت معاكِ الكلام وكل حاجة؟ أبوس إيدك بقى حلي عني، أنا مش عاوزة مشاكل مع “يـوسف”.
هتفت “شـهد” بجمودٍ وحديثٍ توارى خلف كلماتها:
_أنا جاية أقولك بس إني محدش يعرف بحاجة من اللي حصلت علشان أنا تجاوزت وتخطيت وكأن مفيش حاجة حصلت، ولسه “نـادر” مختفي ومعرفش حاجة عنه، بس المهم أنتِ متقوليش علشان أنا مش ناوية إن حد يعرف يا “نـور” أنتِ مش بتاعة مشاكل وطول عمرك في حالك.
طالعتها “نـور” بذهولٍ وقد أنفرج فاهها بصدمةٍ حتى تدخل “سـراج” يهتف بدلًا عنها بصوتٍ مُحتدٍ وعالٍ يدافع عن خاصته:
_أحترمي نفسك يا بت، هو إيـه سكتناله دخل بحماره؟ داخلة شايفة نفسك علينا ليه؟ لو من ضهر راجل أعملي حاجة، وساعتها هطربقها على دماغ أبوكِ، وهي مش هتجيب سيرة بحاجة مش حُبًا فيكِ لا سمح الله، بس قرف من سيرتك، أصل هتروح تقول إيـه؟ أعرف واحدة زبالة سقطت ابنها من غير رحمة؟ دي تقرف إنها تعرفك أصلًا، أنا هسكت مش علشان تهديدك، بس علشان مش عاوز ليكِ أي وجود في حياة مراتي، يلا برة، ولو شوفتك هنا، هجري الخيول وراكِ لحد ما نفسك يتقطع.
تنهدت هي أخيرًا بعدما أيقنت أن هدفها تحقق وضمنت السكوت منهم بينما هو فطالع أثرها بإشمئزازٍ منها ومن تواجدها ثم ألتفت لتلك التي تنصهر خلفه من الضيق والحزن وقد هتف مُسرعًا يُطمئنها بقولهِ:
_أوعي تخافي منها، ومتعمليش حساب ليها، علشان المرة الجاية أنا مش هفكر قبل ما أتصرف ولو “يـوسف” سأل أنا هرد عليه، أوعي تعكي الدنيا، مش عاوزينها تولع، يلا تعالي أشربي حاجة وشك أصفر وشكلك متضايق.
أومأت له وجلست حيث موضع إشارته فيما تنهد هو بثقلٍ ونفخ وجنتيه وهو يتابع أثر الأخرى التي ركبت سيارتها وخرجت من المُحيط، وقد جهز هو نفسه لمجادلةٍ لا نهائية مع “يـوسف” بعدما ولجت هي لمملكته كما يزعم.
__________________________________
<“سأربحك من جديد، أنا لن أخسر في معركتي”>
في بيت “نَـعيم” بنمطقة نزلة السمان..
هذا الموسم الخاص برعاية الخيول في فترة التزاوج وقف “نَـعيم” برفقة “إسماعيل” الذي تعرج على عكازه الخشبي يسير مستندًا عليه حتى لا يُلقي بثقل حمل قدمه عليها وقد تابع عمل المُشرف الصحي وتلقى منه التعليمات حتى رحل هو وظل الاثنان معًا وقد ألتفت له “نَـعيم” يسأله بإهتمامٍ:
_طمني أنتَ كويس، أحسن دلوقتي ولا لسه؟.
أومأ له “إسماعيل” موافقًا وهتف بنبرةٍ هادئة وصادقة:
_أنا تمام أوي، بعدين يصح يعني أكون في رعاية الحج “نَـعيم” وأنِـخ؟ أبنك راجل، عدت على خير الحمدلله.
ربت على كتفهِ بفخرٍ وهتف بصوتٍ ممتليءٍ بالشجن:
_عارف إن ابني راجل وكبير وعاقل، وعارف إني ربيت صح، ومن ساعة موقفك مع أخوك خلاني أفرح بيك أوي، عارف إنه صعب عليك إنـك تتقبل حاجة زي دي، بس أخوك يتشال فوق الراس، اللي عنده أخ زي “إيـهاب” يمشي يشوط الدنيا كلها برجله من غير خوف، وبكرة تشوف بنفسك هيفضل معاك لحد ما تفرح إزاي.
تنهد “إسماعيل” وأومأ مؤكدًا وحينها صدح صوت هاتفه برقم “ضُـحى” وقد ضحك الآخر ثم أشار له أن ينصرف حتى ينل حُريته، وفي نفس اللحظة ولج له “مُـحي” ضاحكًا وقد هتف والده بضحكةٍ ساخرة:
_إيـه يا آخرة صبري؟ خير حصل إيـه؟.
هتف “مُـحي” بوجهٍ مبتسمٍ ببشاشةٍ وقد تشابهت ملامحهما كثيرًا في تلك اللحظة بشكلٍ واضحٍ:
_وربنا ظالمني، أنا راجل متقي بقالي ١٨ ساعة علشان عندي إمتحان بكرة، بس جيبتلك فكرة حلوة أوي وأنا بذاكر، قولت مش خسارة في “نَـعيم” نور عيني.
أنبثقت السخرية بشكلٍ أكبر في وجه أبيه وهو يوميء ساخرًا فيما تجاهل “مُـحي” كل ذلك وأكمل شارحًا مقصده:
_بص، دلوقتي أنا اللي يهمني أخويا، وأخويا اللي يهمه ابن عمه، وأنتَ يهمك الاتنين من بعدي طبعًا لأنك مستحيل تستغنى عني ولا عن وجودي ودا حب الذات..
ضحك أثناء حديثه وقد ضحك “نَـعيم” فأضاف هو مُكملًا ومُتابعًا حديثه:
_هنعمل كام يوم هنا كدا زي الخيم والسفاري، ونقضيها مشاوي وخيم وعمم ولو عاوزين هجيب غنم وأقلبها شبه الجزيرة العربية في البيت هنا، الهدف إن الاتنين ياخدوا على الجو والبيت ومعانا “إسماعيل” و “سـراج” يظبطوا الدنيا، بلاش الاتنين التانيين بخاف منهم، خلينا في دول بس، وساعتها يمكن ياخدوا على الجو ويعيشوا هنا وبكدا تكون متطمن عليهم، وأنا أشوف حالي الواقف دا.
تنهد والده ثم سأله بإهتمامٍ جليٍ وهو يرمقه بشكٍ:
_طب وأنتَ هتستفاد إيـه؟ أكيد ليك مصلحة.
أبتسم “مُـحي” له وسأله بسؤالٍ قاتمٍ وقاتلٍ لكليهما:
_مش يمكن عاوز أكسبك أنتَ؟.
هتفها بقلة حيلة وغُلبٍ على أمرهِ جعل “نَـعيم” يقترب منه ثم ضمه في عناقه بمودةٍ يمسح على نهاية خصلاته وهتف بنبرةٍ ضاحكة يمازحه بها:
_الله يرحمها أمـك، كانت ست عاطفتها غبية زيك كدا، ما تقول إنك عاوز تستغلني وتحضني وأنا موافق، بتلف وتدور عليا ليه؟ مش ناوي تتعلم الصراحة؟.
كاد أن يرد ويجادله، لكن دفء العناق أسكته وجعله يصمت متنعمًا فيه وقد فهم والده ذلك فظل يمسح على ظهرهِ وهو يبتسم ويتخيله مثل الخيل الجامح يثور ويجول في كل مكانٍ ثم يرضخ ويخضع أمام جرعة من الحنان عند ملمس جلده، وهذا المشاكس يكف عن جموحه عند تلقيه جُرعة من الحنين والعناق الدافيء، وقد وقف “إسماعيل” من على بعدٍ يراقبهما سويًا بسعادةٍ لأجل الاثنين..
__________________________________
<“قد يبدو أن الورود تحبكم هي الأخرى”>
في منتصف اليوم بعد بداية تشقشق الغروب..
وقف “أيـهم” يبحث بعينيهِ عن أداةٍ تساعده فيما يفعل وقد توصل أخيرًا إلى ما تسمى “مجرفةً” لعلها تعاونه في تنظيف الحديقة وقد بدأ في تنظيف أرضية الحديقة المنزلية حتى أنهى ما يتوجب عليه فعله وقد زفر بقوةٍ وجلس على الأرض على الحافة الرخامية الموجودة أسفل سور الحديقة وقد شعر بالتعب بلغ أشده وكذلك غطته الرمال وملأت وجهه، حينها أغمض عينيه وأستند برأسه على الحائط بإنهاكٍ واضحٍ وقد لفت نظره وسرق سمعه:
_بس بس..
وصله الصوت من فوقه وحينها رفع رأسه للأعلى وجد “نهال” تبتسم على جلسته بتلك الطريقة وتوسعت بسمتها أكثر وهي تسأله:
_بتعمل عندك إيه كدا؟.
ألقت السؤال وهي تشير إلى جلوسه أرضًا برأسها فيما جاوبها هو بقلة حيلة هاتفًا بنبرةٍ شبه منهكة وتهكمية:
_نضفت الجنينة علشان الست “وداد” تعبانة، وبصراحة كدا أنا طلع عين أهلي النهاردة ومحتاج أتدلع شوية.
ضحكت هي بملء صوتها وشاركها هو الضحك أيضًا وقد أعتدل واقفًا يطالع مُحياها المُبتسم ببشاشةٍ وهتف متغزلًا بها تحت ضوء القمر الساقط على وجهها الصافي:
_عارفة؟ لما رفعت راسي كدا أفتكرت أغنية ومن الشباك لأرميلك حالي، كنت سمعتها قبل كدا بس محسيتهاش، دلوقتي حسيتها أوي، ما ترميلي حالك يا عسلية وأنا هنا ما هصدق والله.
أبتسمت بخجلٍ وأخفضت رأسها تهرب من مواجهة عينيه وحينها عاد لسيرته الأولى يجلس كما كان وبدأ يدندن بنبرةٍ خافتة بنفس الأغنية فوجدها هي الأخرى تتناغم معه بنفس نغمته الهادئة:
_ومن الشباك لأرميلك حالي
ومن الشباك لأرميلك حالي
آه يا حلو يا شاغل بالي،
من كتر شوقي عليك ما بنام.
أنهيا الغناء سويًا وحينها أعتدل هو مُجددًا ثم وقف يواجهها ولثم جبينها وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما تواصلت نظراتهما:
_أرمي حالك عليا وأنا قلبي ما هيصدق.
جاهدت لكتم بسمتها وهي تُفتش عن غضبها منه لكنه هتف بنبرةٍ صادقة بعدما آسرته بعينيها اللامعتين معًا:
_بصي أوعدك إني هحاول أفهمك أنا بعمل إيـه، وهقولك مخبي عنك إيـه، وعاوزك في موضوع تاني مهم، عاوزين نروح نكشف علشان ربنا يكرمنا ونخلف، أظن الحمدلله يعني خلاص بقيتي واثقة فيا ومتأكدة إني لا يمكن أأذيكِ.
مالم يعلمه هو أنه ضغط فوق زر الخطر لديها وقد هوىٰ فؤادها أرضًا عندما فتح هذا الموضوع تحديدًا وأختاره لها، فهو من المؤكد لم يعلم مخاوفها وذكرياتها المريرة تجاه هذا الموضوع تحديدًا، لذا شحب وجهها وأختارت الصمت كردٍ عليه بعدما زاغ بصرها بعيدًا عنه تحاول التحكم في نفسها قبل أن تنطق بما يُثير غضبه.
__________________________________
<“اليوم أقوم بتوديعك، واليوم قلبي يريدك”>
في البناية التي يقطن فيها “يـوسف”..
وقف في شقته يتابع الحقيبة التي أعدتها له أمـه وشقيقته، وقد تأكد هو من كل شيءٍ ثم شكرهما بقولهِ ضاحكًا:
_ألف شكر يا “غَـالية” منك ليها، نردهالكم في العُمرة.
ضحكت عليه كلتاهما فيما صدح صوت هاتفه برقم زوجته فأبتسم هو ثم أغلق الهاتف وهتف بثباتٍ يُنافي دقاته الثائرة داخل بين أضلعه تجهيزًا لرؤيتها:
_عن إذنكم طيب في مشوار على السريع وجاي.
قبل أن تهم والدته بالسؤال فهمت حينما سحب الحقيبة التي وضعها في زاويةٍ بالغرفة وفهمت أن اللقاء يخص زوجته وحينها طالعت ابنتها التي غمزت لها بمراوغةٍ حتى ضمتها “غالية” تمسح على ظهرها وهي تضحك معها.
صعد لمكانهما المخصص حيث سطح البيت وقد سبقت هي وصنعت الشاي المزود بالنعناع لهما سويًا وقد جاورها هو في الجلوس ثم هتف بثباتٍ رغم الابتسامة المرسومة فوق شفتيه وإنبساط ملامحه العابسة:
_أنا خلاص مسافر كمان شوية، المرة دي أسبوع بس وبعرفك أهو علشان متزعليش مني، أنا ماكنتش عاوز أروح بس عاوز أشوف اسم “مصطفى الراوي” وهو بيتقال في حاجة كبيرة زي دي، صحيح مش أنا السبب بس عاوز أكون سبب، وعلى فكرة كلامك ليا شجعني أوي، خصوصًا إني شبهه دي، عمومًا أن رايح بسببك.
ضحكت له وهتفت هي بصوتٍ ودي ودافيء:
_روح وربنا يوفقك ويفرحك وتلاقي اللي نفسك فيه، أنا هتضايق شوية وممكن أفتقدك، بس هكون مبسوطة أوي إنك تفرح بحاجة زي دي تخص والدك، خلي بالك بس من نفسك وشغلك، وأبذل كل جهدك علشان متبقاش قصرت في حاجة، وصدقني وجودك هناك في حد ذاته إنتصار ليك ولوالدك، صحيح البداية كانت منهم بس الباقي كمل بيك أنتَ وبأخوك “عُـدي” خلي بالك بس من عيونك أحسن تلف كدا ولا كدا، الدنيا حر هناك يا أفندي.
ضحك على تحذيرها وفهم أنها تخص الفتيات وقد ضحكت هي بيأسٍ مرغمة أمام ضحكته الجذابة فيما رد عليها هو ببراءةٍ ضاحكة:
_وأنا عمري ما عيني كانت زايغة علشان أنا عارف إن دي مش رجولة، وخصوصًا دلوقتي بقى عندي اللي أخاف عليهم من نظرة العين، يعني برضه غصب عني مش هبص، علشان لو حد رفع عينه في اللي يخضوني هقفلها، المهم أنتِ خلي بالك من نفسك وشغلك، ولما آجي محضرلك مفاجأة حلوة، بس يا رب تتم زي ما أنا عاوز..
أومأت له موافقةً فيما أخرج هو الحقيبة من جواره وقربها منها ووضعها فوق الطاولة ثم هتف مُفسرًا بسعادةٍ تشبه سعادة الصغار:
_دي هدية علشانك، أعتبريها إعتذار مني عن اللي حصل قبل كدا وإني مشيت وأنا مش في وعيي، أنا نقيت حاجة شبه ذوقك، يا رب تعجبك وذوقي يطلع حلو.
عقدت حاجبيها وقامت بتحويل جهة الصندوق الخشبي الأبيض أمامها فوجدت به مجموعة من الأكواب أو ما تُسمى باللغةِ الدارجة “مـج”، كانت مجموعة مُتكاملة بها إثنا عشر كوبًا برسوماتٍ كرتونية عبارة عن أزواج وثُنائيات شهيرة من أفلامٍ كرتونية معروفة وقد شهقت هي بدهشةٍ وفرغ فاهها بذهولٍ، لا تصدق نفسها وهي ترى هوسها أمام عينيها، وحينها صرخت فرحًا بما تراه وقد ضحك رغمًا عنه وسألها بنبرةٍ ضاحكة:
_عجبتك الهدية؟ أنا قولت البت كبرت.
حركت رأسها نفيًا وهتفت بسعادةٍ فشلت في إحتوائها وهي ترى الصندوق أمامها يُراضي هوسها الغريب بالأكواب:
_مفيهوش غلطة، مفيهوش غلطة واحدة، أنا مبسوطة أوي أوي، كان نفسي فيهم بس كنت فكراهم مش في مصر، ربنا يفرحك زي ما فرحتني كدا.
في الحقيقة هو الآن يُحلق فوق السحاب بسبب إنجازه المُحقق لرؤيتها بكل تلك السعادة وقد ضمها له يمسح على ذراعها وهو يقول بنبرةٍ رخيمة لازال أثر فرحته عالقًا بها:
_ربنا يفرحك أنتِ، ويديكِ القوة اللي تخليني أقدر أعدي وأقف في وش الدنيا كلها بعدها آجي أشاركك كل دا، يلا خدي هديتك وأفرحي بيها وأنزلي نامي وأنا هروح أكمل تجهيز حاجتي يلا” عسولة”.
ابتسمت له وهي تفكر كيف أضحت تفضل تلك الكلمة بعدما كانت سببًا في حُنقها وضُجرها منه لكنها قررت أن ترد له فرحته لذا رفعت نفسها تُلثم وجنته بقبلةٍ خاطفة كامتنانٍ له ثم خطفت هديتها ورحلت من المكان وظل هو يتابع أثرها بعينيهِ وكأنه يشاهد طفلة صغيرة عانت من الشمس الحارقة ثم فرحت بنزول المطر وظلت تتراقص بخصلاتها المُبللةِ تشارك الزهور فرحتها بالربيع..
في الأسفل حيث غرفة “ضُـحى”..
كانت تجلس فوق الفراش تتصفح الهاتف ومواقع التواصل الإجتماعي وقد طُرِقَ الباب بواسطة شقيقها وسمحت له أن يولج فدلف هو وزفر بقوةٍ ثم جلس بقربها وهو يقول بتيهٍ:
_بقولك إيـه؟ أنا متضايق إني هسافر وهي هتكون معايا، أنا مبعرفش أتجاهلها، وهي معايا في الشركة بحسها مسئولة مني، أومال لما نكون بعيد عن الكل؟ أنتِ لو مكاني هتعملي إيه؟.
تنهدت شقيقته وهتفت بثباتٍ تقوي من موقفه:
_أنا لو مكانك هتجاهلها خالص يا “عُــدي” هخليها تشوف بعنيها إن وجودي فارق وغيابي يفرق أكتر، بلاش تبين ليها حاجة، خليك بعيد عنها أحسن وهي لو فيه حاجة ناحيتك هتحس بيك، وخصوصًا لما تفتقد وجودك، وياريت تخليها تغير أحسن، يمكن تحس على نفسها وتتحرك، الغيرة محرك قوي أوي للمشاعر، “إسماعيل” الله يباركله قالي إنه مكانش ناوي بس غار من زميلي في الشغل، بس أوعي تجيب واحدة تخليها تغير تحبها وتنسى “رهـف”.
مازحته بحديثها حتى ضحك هو لها ثم ودعها وحدثها مُطمئنًا لها وخرج من الغُرفةِ يُتمم على أشياءهِ لكن البال وبكل آسفٍ أضحىٰ مشغولًا بفتاةٍ لا تُبالي بمن يُعاني.
بعد مرور عدة ساعات…
في موقف تحرك الحافلات السياحية أوقف “أيـوب” السيارة التي تولى هو مهمة التوصيل لهما بها، وقد نزلوا منها يقفوا بقرب الحافلة المُتجهة لمدينة “شـرم الشيخ” وقد شكره “يـوسف” بقولهِ:
_ألف شكر يا “أيـوب” تعبتك معايا وسهرتك.
_لا شكر على واجب خلي بالكم من نفسكم وربنا يقويكم، ومتقلقش، هما هنا في عيني، بسرعة بس علشان ورانا تجهيزات مهمة، متنساش نفسك وتاخدها حجة، أتلحلح.
هكذا رد عليه حتى ضحك “يـوسف” و “عُـدي” أيضًا، وتم التوديع بينهما وقبل أن يبتعد “أيـوب” لاحظ “عُـدي” إقتراب سيارتها خضراء اللون منهم وقد أبتسم قبل أن تتلاشى بسمته وهو يرى شابًا يكبره بعدة أعوامٍ يقودها ثم أقترب يُلثم جبينها وهي تضحك له، حينها ألتهبت نيرانه وهو يرمقها بغضبٍ من عينيهِ المُشتعلتين وهي تضحك مع الآخر في السيارة بشكلٍ أكثر من ودي ثم ضمته بذراعيها وحينها شعر هو بمرارة الخذلان كونه يغار عليها دون أي وجه حقٍ…
في نفس التوقيت أتت سيارة أخرى يقودها “عـاصم” وتجاوره فيها زوجته وقد أنتبه لهما “يـوسف” وظهر الضيق فوق ملامحه، لكن “أيـوب” جاوره وظل يكاتفه وكأنه يحميه حتى أتت “شـهد” وترجلت من سيارتها لتكون الصدمة الكبرى من نصيب “يـوسف” الذي تجمدت نظراته وتخشبت أطرافه وكأنه غريبٌ في وكر الثعابين..
_______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى