روايات

رواية نوسين الفصل التاسع 9 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الفصل التاسع 9 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الجزء التاسع

رواية نوسين البارت التاسع

رواية نوسين
رواية نوسين

رواية نوسين الحلقة التاسعة

أحست “نوسين” أنها في ساحة حرب، وأنه فجر فيها قنبلة مدوية غادرة فتتها لأشلاء، حتى ما عادت قادرة على لملمة اشلائها المُبعثرة؛ لتُعلن أنها خسرت هذه الحرب التي كانت أقصر وأقسى مما توقعت.

ابتلعت ريقها الذي صار جاف، ودون أن تنطق بحرف، كانت تتحامل على جسدها الذي أحسته مُخدر من فرط الشعور بالألم الذي فاض فيه، لتغادر تلك الشقة التي صارت فجأة خانقة لأنفاسها التي تخرج منها ببطء وصعوبة، وكأنها أنفاسها الأخيرة..

وبالفعل غادرت تحت أنظار عمر المستكينة في ظاهرها، ولكن أسفلها فقاقيع من الغضب والسخط من نفسه ولنفسه، ضرب بقدمه بقوة المنضدة التي كانت موضوعة جواره مطلقًا صرخة متحشرجة كتمها داخلها بصعوبة..

فما أصعب أن تكون بين خيارين كلاهما مُعذبين، وكلاهما من نفسك، أن تكون نفسك هي عدوك الذي يُصر على تمزيقك بين هذا وذاك، دون أن تجد الراحة في كليهما.

 

 

 

 

 

فهو قد ظن أنه بعد أن لبى ما يُمليه عليه عقله المُلبد بمرارة الماضي، سينل الراحة التي ينشدها، ولكنه أحس أن صخرة الحاضر تجثو فوق صدره كاتمة أنفاسه ودقاته.

ثم جلس على الأريكة، واضعًا رأسه بين يديه، يتنفس بصوت مسموع، هامسًا لنفسه المهتاجة من بين أنفاسه التي يلتقطها بصعوبة بصوت مسموع:

-اهدى، هو دا الصح واللي كان المفروض يحصل.

وبدأ يحاول أن يجعل السكينة تعم كيانه بعدما بُعثر تمامًا، ولكنه كان في مهمة أشقى مما يظن، ولم تستسلم السكينة لدعوته، بل كانت أبعد مما يمكن أن تطاله دواخله.

                                    ****

اليوم التالي..

كانت أصعب ليلة مرت عليه منذ فترة طويلة، ظل يحاول فيها أن يجعل نفسه تتجرع الرضا بما صار، ولكن الرضا كان كعلقم يُمرر حلقه..

 

 

 

 

 

فيما كانت نوسين تشعر بالإنهاك، بالإنهيار.. هي التي لم يستطع احدهم يومًا أن يُسربل مشاعرها به، جاء اخر وقبض عليها ثم ازهق أنفاسها بقسوة، تاركًا إياها تتلوى في قبر الحياة الذي وضعها به.

نهضت لتغسل وجهها الذي صاحبته الدموع طيلة الليلة الماضية، ولكنها ستضع حدًا لذلك؛ لن تُقيم حداد روحي على مشاعر لقيطة رفض صاحبها القبول بها، هي أقوى من ذلك، ستتخطى تلك العثرة المميتة في حياتها كما تخطت الأقسى منها.

انتبهت لرنين هاتفها الذي صدح قاطعًا الصمت من حولها، فأمسكت به مجيبة بصوت متحشرج قليلًا بسبب بكائها منذ قليل:

-ايوه يا حسن.

وحسن هذا لم يكن سوى الصبي الذي يساعدها في أعمال الورشة، جاءها صوته يُحييها بهدوء:

-ازيك يا نونا ؟

-الحمدلله بخير أنت عامل إيه؟

 

 

 

 

 

-تمام نحمده، بقولك إيه أنا كنت باخد حاجة نسيتها في الورشة ولقيت زبون بعربية شكلنا هنسترزق منها، ما تيجي؟

صمتت برهه من الزمن، تُدير حديثه بين كافة زوايا عقلها، ثم عزمت روحها الملكومة على مخالفة كل ما يريده “عمر”، وألا تجتمع به في مكانٍ واحد بعد الان، لذا ردت بحسم:

-ماشي شوية وهتلاقيني عندك يا حسن.

-تمام.

ثم أغلقت الهاتف، ونهضت بالفعل لترتدي ملابسها، وجمعت كل ما يخصها من هذه الشقة التي صارت تمثل لها اسوء مأوى يمكن أن يأويها، وغادرت بهدوء كما أتت.

قبل قليل..

حين كان “حسن” يخرج من الورشة بعد أن أخذ منها ما يريد، وجد أمامه “عم نوسين جمال” وبجواره رجلان بأجساد ضخمة، يبدو أنهما مأجوران.

وزع أنظاره بينهم ثم سأله بتوجس:

-أنت مين وعايز إيه؟

 

 

 

 

 

 

قال بنبرة مقتضبة:

-لمصلحتك بلاش تعرف أنا مين.

فأصر الاخر مستفسرًا دون فهم:

-ليه يعني أنت مين؟

-طالما مصمم تعرف، أنا أمين شرطة، فين اللي مشغلاك؟

سأله بحروف غليظة شديدة اللهجة، فانتاب الصبي الخوف وهو يسأله:

-ليه هي عملت إيه يا باشا؟

صاح فيه بعصبية:

-أنت هتتدخل في شغلي ولا إيه، ناقص تصاحبني كمان، هي فين يالا؟

هز حسن رأسه نافيًا بسرعة:

-معرفش يا باشا هي بقالها كام يوم مابتنزلش.

 

 

 

 

 

-واللي عايز يوصلها يلاقيها ازاي يعني؟

أشار نحو منزلها يجيبه مسرعًا عله يخلص من هذا البلاء:

-في بيتها اهوه قريب يا باشا.

فربت جمال على وجنته برفق وتشدق ساخرًا:

-لا نبيه ياض، ما احنا روحنا بيتها طبعًا وهي مش موجودة فيه.

هز كتفاه في قلة حيلة يحاول إقناعه:

-معرفش يا باشا أنا اللي أعرفه قولتهولك.

أضاف جمال بحروف خبيثة تعرف مجراها للوصول لمراده:

-طالما هي مش عايزه تيجي نجيبها بطريقتنا، ناخدك على القسم وهي هتيجي على طول.

إنتفض الصبي بفزع:

-وأنا مالي يا باشا دا أنا غلبان ومليش دعوة بشوف لقمة عيشي هنا بس.

تابع بتهديد مُبطن:

-يبقى تعمل اللي أقولك عليه، تتصل بيها دلوقتي وهقولك تقولها إيه، وإن غلطت في حرف غير اللي قولته آآ….

قاطعه الاخر بلهفة قلقة:

 

 

 

 

 

-لا لا يا باشا أنا هعمل اللي تقوله.

ربت على كتفه مرددًا بنبرة راضية:

-ايوه كدا جدع، افتح يلا اتصل بيها.

وها هو قد ما حقق مبتغاه، ووصلت “نوسين” للمنطقة التي تكمن بها الورشة، كانت على مشارف الشارع ورأت من مسافة ليست بكبيرة او صغيرة؛ عمها الذي كان يقف مع هذان الرجلان، مترصدين لأي ظهور لها.

إتسعت عيناها بفزع ولم تصدق أن قدرها يتحالف ضدها لهذه الدرجة، ودون أن تفكر مرتان كانت تعود للخلف مسرعة كما جاءت تنوي الهرب منه قبل أن يراها، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه وخاصةً هي؛ حيث أن عمها لمحها وهي تهرب بعينيه التي تشبه عينا الصقر، وإنطلق خلفها مسرعًا يأمر الرجلان:

-إلحقوا هاتوها قبل ما تهرب.

فهو لن يُضيع هذه الفرصة من ذهب التي جاءته، ولن يتنازل عن حقه، فوجد أن أسلم حل أن يجعلها تمضي على بضع وصولات أمانة تضمن له حقها.

واصلت الركض نحو الطريق الذي أرشدها فكرها إليه دون تردد؛ وهو منزل “عمر”، فركبت أول سيارة اجرة قابلتها وهي تقول للسائق لاهثة:

 

 

 

 

 

-اطلع على **** والنبي بسرعة ياسطا.

وبالفعل إنطلق السائق، وعلى عكس ما تمنت كان عمها مع رجاله يلاحقونها في سيارة أجرة، فأحست أنها ستلقى حتفها حتمًا اليوم على يديه.

وصلت للشارع الذي يسكن به عمر، ترجلت من السيارة راكضة، وهي تلتفت خلفها من حينٍ لاخر، حتى لم ترى السيارة التي أتت من الجهة المقابلة ولم تنتبه لها بسبب التفاتتها فاصطدمت بها بقوة ليست كبيرة ولكنها سقطت ارضًا وأحست بألم رهيب متفرق في كافة أنحاء جسدها وتحديدًا ذراعها.

في نفس الوقت، كان عمر يغادر البناية ينوي التوجه نحو منزلها والاطمئنان عليها، ولكنه فوجئ بها تركض نحو البناية، ودون مقدمات صدمتها تلك السيارة..

ما أن لمح اصطدامها بالسيارة حتى تجمدت حروفه على طرف لسانه وانحسر صوته بين حلقه فاقدًا النطق والحركة، وتيبست قدماه أرضًا شاعرًا بأنفاسه تضمحل بين جدران صدره، والخوف من فقدانها يهدد مأمنه بعدما كان يظن أنه يحصن نفسه من ألم الوقوع بحبها، ولكنه لم يحسب حساب شبح الفقدان الذي كان يطارده في الماضي عاد ليقتله من جديد، فبدت روحه خاوية كمن سُلبت الحياة منه قهرًا.

 

 

 

 

 

 

اخيرًا استطاع التحرر من أسر الصدمة، وركض نحوها بفزع حقيقي، فرق الناس الذين تجمعوا من حولها للاطمئنان عليها، وانحنى نحوها ممسكًا بها يسألها بلهفة قلب ملتاع:

-نوسين، أنتي كويسة؟

أطلقت آه متحشرجة معبرة عن ألمها:

-دراعي اتكسر وجسمي كله مش حاسه بيه، شكلي هموت.

كاد يحملها مباشرةً دون تفكير، ولكنها هزت رأسها نافية بسرعة:

-لا، أنا هقوم.

وبدأت تحاول النهوض فعلًا، متجاهلة ألم جسدها الساحق، فسمعت همهمات من بعض الواقفين:

-الحمدلله إنها جات على قد كدا، حمدلله على سلامتك يا بنتي.

-تسلموا.

 

 

 

 

 

غمغمت بصوت مكتوم وملامح ملتوية في ألم، تحت أنظار عمها الذي كان يراقب ما يحدث بتأهب، أمسكها عمر من ساعديها في حنو ليساعدها فمالت بنصف جسدها رغمًا عنها تستند عليه.

                                 ****

بعد فترة..

عادت مع “عمر” لمنزلها بعد أن ذهب معها للطبيب، ولم يكن بها شيء خطير، سوى بعض الكدمات المتفرقة في جسدها، وكسر في ذراعها الذي تشعر بثقل فيه بسبب الجبيرة فوقه..

وانتبه عمر بالطبع لعمها الذي لم يتخلَ عن عناده بالرغم مما حدث، وإصراره على المجيء خلفهما، لذا أدخل نوسين لمنزلها، ثم خرج لعمها أمام الباب قبل أن يفكر في الدخول، مانعًا إياه بجسده..

فرفع جمال حاجبه الأيسر مستنكرًا:

-إيه هتمنعني أدخل بيت بنت اخويا ولا إيه؟

-دلوقتي افتكرت إنها بنت أخوك، وعايز تدخلها بالاتنين اللي وراك دول؟ مش خايف على نفسك حتى بعد المحضر؟

 

 

 

 

 

قالها عمر مشيرًا برأسه نحو الرجلان من خلفه، فاعترض جمال بتبجح:

-أنا ماكنتش هعملها حاجة، كنت هخليها تمضي على وصولات تضمن حقي بس.

انفعل عمر ولكنه جاهد للحفاظ على انخفاض نبرته وهو يستطرد:

-حقك مش عندها، بس عشان تريح وتستريح، أنت عايز فلوسك صح؟ ولا عاجبك شغل البلطجة اللي بتعمله دا؟

أكد بصوت أجش:

-أكيد عايز فلوسي.

تفوه عمر معلنًا ما قد قرره سابقًا وحافظ عليه اسفل بساط الكتمان:

-فلوسك عندي أنا هجمعهالك واديهالك قريب.

سأله باستنكار مغموس بتبجح لا يُصدَق:

-بصفتك إيه؟

 

 

 

 

 

قال عمر من بين أسنانه بخفوت حاد كطرف سكين:

-وأنت مالك؟ مش أنت عايز فلوسك، خدها وملكش دعوة، اعتبرني فاعل خير بخلص البت الغلبانة من شرك.

لوى شفتاه متهكمًا:

-فاعل خير! هعمل نفسي مصدق.

أشار له عمر نحو السلم، وأضاف بنبرة غليظة:

-اتفضل يلا وخد الدولابين اللي وراك دول لو خلصت كلامك.

رمقه شزرًا قبل أن يشير للرجلان بالمغادرة ويغادر بالفعل على مضض، فهو لا يهمه نوسين ولا أي شيء خاص بها، لا يهمه سوى امواله.

كاد عمر يدخل لمنزل نوسين من جديد، فوجدها أمامه قرب الباب، تقابله بملامح متصلبة كتمثال مسلوب الروح وكأنها تخبره بصمت أنه من صنع يديه.

قطعت الصمت بصوتها الخاوي:

 

 

 

 

 

 

-مين اللي كان هنا؟ عمي؟

اومأ برأسه متنهدًا يختصر كل ما حدث في جملة قصيرة مُلغمة بالغموض:

-اه وأنا مشيته خلاص.

انتابها قليل من التعجب، ولكنها لم ترد أن تفتح مجال للحديث بينهما مرة اخرى؛ ربما يظنها تتعمد ذلك، وهو اخر ما تريده حاليًا.

أعربت عن تفكيرها بنغمة صوت صلدة بها شيء من الاستنكار:

-وأنت مامشيتش وراه ليه؟

تلفظ بعينين متسعتين رسمتا الصدمة المصطنعة ببراعة:

-أنتي بتطرديني يا برقوقة؟

أكدت دون تردد بلامبالاة:

-اه، شكر الله سعيكم لحد كدا.

 

 

 

 

 

تنهد عمر بصوت مسموع مقررًا أن يُفصح عما يضج به صدره:

-كان لازم أطمن عليكي الأول.

أطلقت ضحكة قصيرة ساخرة مسلوبة المرح، قبل أن تتشدق:

-ودا من أمتى ان شاء الله؟ ولا ليكون واحد تاني هو اللي قالي أنتي مشاعرك مرفوضة بالنسبالي.

-ايوه أنا، بس دا قبل ما أتحط في اختبار حقيقي لـ إني أخسرك، لما العربية خبطتك وتخيلت ولو لثانية إني خسرتك، حسيت إني لا مستحيل أقدر أخسرك، لو خسرتك هتدمر.

فاضت من كلماته مشاعره المُعذبة بسطوة الكتمان، ولكن لم يقابلها سوى ملامح رخامية صلبة وعينان ميتتان تخبراه بجمود:

-متأخر اوي، اطلع برا.

 

 

 

 

 

اقترب منها خطوة محاولًا إقناعها بعينيه التي ضاقت حتى بزغ التوسل منهما:

-أنتي لازم تفهميني وتقدري الصراع اللي كنت فيه، صراع ما بين وفائي لمراتي اللي ماكنتش أتخيل إني أحب غيرها، وحبي ليكي اللي كان مسيطر عليا وكنت مخنوق إني ماقدرتش أحجم مشاعري دي، وكمان جه موضوع الست دي وكذبك عليا فـ كملت.

هزت كتفاها ببساطة:

-اديك ارتحت من الصراع دا، اتفضل يلا لو سمحت.

هز رأسه نافيًا وراح يسرد لها عن مشاعره التي عكسها تيار عناده فارتدت لصدره كأشواك حادة إنغرزت بصدره فجعلته ينزف ببطء بعد أن فعلها ورفض مشاعرها:

-كنت مفكر إني هرتاح، بس مارتحتش، كنت هتقهر، ولو كلامي وجعك قيراط فـ وجعني ٢٤ قيراط.

عقدت ذراعيها معًا وأنبأته بسماجة مقصودة:

 

 

 

 

 

-اسفة، مشاعرك مرفوضة، وبعدين يمكن دا تأنيب ضمير عادي من الانسان اللي جواك، او ممكن تكون اتعودت على وجودي مش أكتر.

نفى على الفور:

-لأ مش تأنيب ضمير ولا مجرد تعود.

كانت نظراتها ثابتة بنفس الجمود الصامت، ونبضة ضعيفة أسفل ذاك الجمود تترقب اعترافه بقلبٍ خائن يتلهف لمَن أدماه، وحين لم ينطق على الفور دفعته بقوة تجاه الخارج، حتى وقف أمام الباب، وقبل أن تُغلقه بوجهه كان يضع قدمه ليمنعها، وأدخل رأسه ليسترسل بشقاوة:

-استني بس، هقولك حاجة مهمة.

زفرت مقلبة عينيها في ملل ظاهري:

-ياريت تنجز وتراعي إني واحدة لسه متدغدغة ومحتاجة أرتاح.

غامت عيناه بعبث وهو يتابع بكلمات تراقص المكر بينهما:

-جمعي أول حروف من الحيوانات دي ( بقرة – حصان – بقرة – كلب ).

 

 

 

 

 

تجمعت الكلمة بعقلها لتصبح بمثابة مياه جاءت لتُزهر أرض قلبها القاحلة بعد قحطٍ ظنته سيكون طويل الأمد، وأصبحت دقاتها في حالة هرج ومرج، دون أن تقدر على كبح تأثيرها عليها، ولكنها على الأقل حافظت على ضبابية ذلك التأثير عن عينيه، ودفعته مسرعة مغلقة الباب في وجهه، فسمعت ضحكاته الرجولية تعلو، فحتى وإن جاهدت لتنكر ذلك ولكن قلبه يُنبئه أن صاحبه “قلبها” يهتاج مُهللًا، قبل أن يواصل بنبرة صبيانية:

-براحتك، مسيرك هتجيلي برجليكي لحد عندي يا برقوقة.

ثم تنهد وهو يغادر على مضض، وبقايا ضحكاته لازالت عالقة بفمه، راضيًا داخله أن يرمم بصبره كبريائها المجروح رغم رفضها الذي يعلمه لن يكون قصير او عارض مؤقت.

                                   ****

بعد اسبوع…

تعافت نوسين نوعًا ما من الكدمات التي أصابت جسدها، ولكن ذراعها لا زالت تعاني منه ومن ألمه، ولكنها قررت أن تنزل لورشتها تشرف على بعض الأعمال التي ستوكل “حسن” بها؛ الذي ما أن رأها حتى سارع يبرر لها ويقسم أنه لم يكن يعلم أنه عمها وظنه أمين شرطة بالفعل، وراعت هي خوفه الطبيعي بسبب سنه الصغير ولم ترد أن تحمله فوق طاقته، فأخبرته أن لا بأس، وأنه مر على خير.

 

 

 

 

 

 

وحين كانت جالسة على كرسي خشبي أمام الورشة بعد أن أصابها الملل والاختناق من المكوث بالمنزل لانها لم تعتاد ذلك ابدًا..

رأت أمامها عمها “جمال” الذي صار يجعل النفور يحتشد داخلها ما أن تراه، دون أدنى مجهود منه، فنهضت بتأهب تسأله:

-يا ترى جاي ليه المرادي؟

-لما الفلوس بتجري في ايديكي والحالة كويسة اهي وبعتاهم مع الواد اللي مش عارفله صفة في حياتك دا، امال تعبتيني وتعبتي نفسك ليه وعملتي مشاكل!

هتف مستنكرًا وهو يرمقها بنظرات متفحصة، فأنكرت نوسين بتلقائية:

-أنا مابعتش حاجة مع حد.

لوى شفتاه في استهزاء:

-هنبدأ اهو نستعبط، متخافيش ياختي مش طمعان فيكي في حاجة زيادة أنا كنت عايز حقي وخدته وخلاص.

استفسرت بنفاذ صبر:

 

 

 

 

 

-طب طالما خدته جايلي ليه؟

تكلم غارزًا سكين الاتهام بقلبها الذي ينتفض قهرًا:

-عشان بس اعرفك إنك كدابة وكنتي عايزه تاكلي حقي زي أبوكي، بس على مين ما أنا خدتهم من عنيكي غصب عنك.

إلتوت شفتاها بضحكة قصيرة تفوح بخيبة الأمل:

-مش خدتهم خلاص؟ روح اصرفهم على عيالك عشان ماتجوعهمش عشاني.

رماها بنظرات مزدردة تنطق باستحقار من الأولى أن يكون من نصيبه هو، وكاد يغادر لولا أن أوقفته بقوله الذي ظنت لوهله سيؤثر بالحجر القابع بين ضلوعه:

-ياريت تنسى إن ليك بنت اخ.

 

 

 

 

 

ولكن رباط الدم بينهما لم يكن بالقوة الكافية ليؤثر فيه، حتى أنها ظنت أنه وهمي وليس حقيقي؛ إذ أنه رد بتعجرفٍ قاسٍ:

-أنا مش عايز أشوف خلقتك اصلًا ولا يشرفني إن يكون ليا بنت أخ ماشية على حل شعرها وعمالة تعرف دا وتعرف دا ومش لاقية حد يلمها.

تغلبت على القهر المصحوب بالدموع الذي كاد يطفر من عينيها، وأكملت بلامبالاة ظاهرية:

-أديك قولت مش لاقية حد يلمها، هنعمل إيه بقا، أصل اللي كان لاممني مات.

لم ينطق بشيء اخر وغادر تاركًا إياها تتهاوى على الكرسي من جديد، تتجرع طعم اليُتم والقهر مع كل تصرف جلف يصدر عنه.

                                   ****

قررت “نوسين” أن تذهب لـ “عمر” الذي ظن نفسه وليّ عليها ليتصرف في شؤونها برؤيته الخاصة، ودون أن يخبرها أيضًا، وقد إنتفخ كبريائها المخدوش بالغضب العاصف، مقررة أن تفجره فيه.

 

 

 

 

 

وبالفعل وصلت أمام باب شقته فطرقته، فتح لها بعد قليل، شاملًا إياها بنظرة مستذئبة ذات مغزى جعلتها تندفع بالقول:

-أنا مش جايالك عشان سواد عيونك.

فشاكسها وهو يُحرك حاجبيه معًا:

-أنا عيني زرقا مش سوده.

للحظة غرقت في عينيه التي لطالما كانت نقطة ضعفها منذ أن رأته، وأحستها صافية من غيوم الماضي التي كانت مُلبدة بها، وكأنها اُزيحت عنه أخيرًا، سامحة للمعة متوهجة مميزة أن تضيف بهجة وجمالًا لعينيه.

ولكنها استعادت جمودها سريعًا وسخرت منه:

-هاها دمك يلطش.

أصر على مداعبتها بشقاوة يبدو أنه كان يخفيها أسفل جناح الجمود واللامبالاة:

-كدابة هتموتي وتضحكي.

هزت رأسها نافية بإصرار وجدية زائفة:

-ماحصلش، وبعدين أنا جايالك عشان حاجة مهمة.

أشار لها بهدوء:

-طب ادخلي نتكلم.

ولكنها أجابت دون تردد بعنفوان:

-ابدًا، أنا حالفة ما أدخل لك بيت تاني.

-ممكن تصومي تلات ايام عادي.

أردف، لتؤكد بغل:

-ولا ربع ساعة حتى عشانك.

 

 

 

 

 

عقد ما بين حاجبيه مواصلًا بنبرة تراجيدية بعينين ضيقتين لامعتين:

-قلبك قسي أوي يا نونو.

لوت شفتيها باشمئزاز من اللقب، وقصت عليه الماضي القريب بنظرة تعبر عن مغزى يعلمه جيدًا:

-نونو ! الله يرحم كنت بتقول المصيبة راحت المصيبة جات.

اقترب منها بوجهه قليلًا مرددًا بعبث لذيذ يحمل عبق العاطفة التي تنهمر دون توقف منذ أن هد جسر الكتمان الذي كان عائق لها:

-احلى مصيبة حصلتلي في حياتي.

قالت بعصبية خفيفة تهرب بها من تأثير كل ذلك على قلبها المسكين:

-بقولك إيه، ماتسبليش بعنيك الزرقا دي وسيبني أقول الكلمتين أنا ملصماهم في عقلي بالعافية.

حثها مستمتعًا بذلك الحوار المشاكس:

-اتفضلي؟

 

 

 

 

 

عادت للهجتها الباردة الدبلوماسية:

-فلوسك اللي إدتها لعمي هديهالك على أقساط، أنا ماقبلش شفقة من حد.

نهرها برفق، وتشبث المكر بأواخر حروفه:

-شفقة إيه يا عبيطة، وبعدين أنا عندي طريقة أحلى للسداد.

سألته بفضول:

-طريقة إيه؟

فغمزها بطرف عينيه الشقية مرددًا:

-اتجوزيني.

  يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نوسين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى