روايات

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الأول 1 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الأول 1 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء الأول

رواية احذر من يطرق باب القلب البارت الأول

رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة الأولى

1- وحيدة هناك
تعالت الزغاريد من داخل ذاك البيت الشبه متهالك، بعمق إحدى الحارات، مؤكدة على مظاهر الفرح المتمثلة فالأنوار الملونة على واجهة المنزل، التي جعلته أشبه بفتاة قبيحة، وضعت المزيد من أدوات التجميل على بشرتها الشاحبة، في محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه من مظهرها الخارجي، ارتفعت الزغاريد من جديد، فانتفضت هي بموضعها أمام المرآة، في حجرتها الضيقة، التي بالكاد تحمل محتوياتها القليلة، تتطلع نحو وجهها البض، الذي لم تنته صديقتها من إكمال تجميله بعد، هاتفة في اضطراب عروس ليلة عقد قرانها، وبنبرة يملؤها الترقب واللهفة: خلصي بقى يا صابرين، شكل العريس وصل..
هتفت بها صابرين مؤكدة: لا لسه متقلقيش، دي شوية تفاريح من البنات، شكلهم وصلوا وبيعملوا لك جو.
كانت محقة تماما، فما أن أنهت جملتها، حتى اندفعت بعض الفتيات لداخل الغرفة، لتنطلق سلسلة أخرى من الزغاريد، وكل منهن تندفع لتحية العروس.
هتفت إحداهن في فرحة: أخيرا يا سلمى! ده إحنا قلنا مفيش أمل فالجوازة دي، خمس سنين يا مفترية!
هتفت سلمى في هيام : ولو خمسين سنة، كنت هستناه برضو، لأني بحبه.
هتفت أخرى في حنق: بلا حب بلا كلام فاضي، أهو الكلام الأهبل ده هو اللي خرب عقول البنات، وكله بينزل على مفيش فالأخر.
هتفت صابرين وهي تنظر للفتاة في حنق: بقى ده كلام يتقال لعروسة ليلة فرحها! ده انتوا بنات غم صحيح، زغرتي يا بت أنتِ وهي، وكل واحدة تحط لسانها جوه بقها لو مش هتقول كلمة عدلة.
ارتفعت الزغاريد من جديد، لتدفع صابرين بالفتيات لخارج الحجرة الضيقة التي ما كانت تساعهن، حتى يتسنى لها إنهاء عملها وتزيين العروس استعداد لاستقبال عريسها لإتمام مراسم عقد القران.
ما أن همت صابرين بوضع آخر لمسات الزينة، حتى جاء للعروس إشعار رسالة على جوالها المتواضع، فتوقفت يد صابرين عن إتمام عملها، حين مدت سلمى يدها نحو هاتفها في لهفة، مستشعرة أنها بالتأكيد من فتحي، حب عمرها وزوجها المنتظر، فضتها في لهفة، منتظرة بعض من الغزل المعبر عن اللهفة التي تتملك قلبه، حتى يحين لحظة اجتماعهما تحت سقف شقتهما بعد ساعات قلائل، تطلعت للأحرف في هوادة، في محاولة لاستيعاب معناها، وتسمرت عيناها لفترة على شاشة الجوال، ما دفع صابرين لتسألها في قلق: في حاجة يا سلمى! مالك متنحة في التليفون كده ليه!
لم تنطق سلمى بحرف، بل مدت كفها بالهاتف لصديقتها، جذبته صابرين في عجالة، لتقرأ بدورها الرسالة المرسلة، لعلها تدرك ما يجري. شهقت صابرين، وهي تخفي فمها بباطن كفها، في محاولة لإخفاء صدمتها.
لن يأتِ، لما!؟.. لقد شعر أنه تسرع في اتخاذ قرار الزواج، وأنه غير قادر فالوقت الحالي على تحمل مسئولية أسرة.
تركت صابرين الهاتف على الطاولة، واندفعت تحتضن كتفي سلمى، في محاولة بائسة للتخفيف عنها، وهي ما تزل تجلس في سكون، تتطلع لوجهها المزين بالمرأة، شاردة في عالم آخر، ترى عبر الزجاج الماثل أمامها، أحلامها تطير بعيدا، حيث اللا رجعة، تلك الأحلام التي ظلت تبنيها وتعتق الصبر بروحها، في انتظار لحظة تحقيقها، هربا من واقع مرير، وصحبة أمر، فكل ما كان في جعبتها من أمنيات، هو الاستقلال عن أخيها وزوجته سليطة اللسان، كانت تلك أمنيتها الوحيدة، والتي تبخرت أمام ناظريها الآن، كبخار يتصاعد من مرجل، مع ضياع سنوات ثمينة من عمر أثمن، والكثير من الأعصاب والدموع، وكذا مالها وشقى عمرها، الذي كانت تدفع به كل شهر، ما أن تقبض راتبها، ليد فتحي، ليسرع في تجهيز عش الزوجية، لتتخلص من كابوس البقاء في بيت أخيها، والفرار من لسان زوجته، الذي نال من كرامتها وعزة نفسها، ما يكفيها وزيادة.
سكون عجيب شمل عالمها، وأحاط بدنياها، أين ذهبت الزينة والزغاريد! لما توقف العالم كله في لحظة عن إعلان الفرحة!
علمت السبب ما أن تنبهت لمغادرة صابرين الغرفة، فيبدو أنها قامت بإبلاغ أخيها بالأمر، وهذا الصوت الجهوري القادم إليها مخترقا فقاعات شرودها، ما هو إلا صوت زوجة أخيها، والتي وصلها الخبر بالتأكيد، وها هي تعلن بكل وضوح عن غضبها العارم، بكل الطرق والألفاظ الممكنة والغير ممكنة، وأخوها يحاول تهدئتها، والتخفيف من ثورة غضبها القاهر.
ابتسمت سلمى في مرارة، وهي تسمع لصوته المستكين أمام جبروت زوجته، حتى إنه لم يفكر فيها هي، أخته، العروس المغدورة، المهانة كرامتها، والمُذل كبريائها، والمطعونة أنوثتها فالصميم، فلم يأتِ مسرعا في محاولة لاسترضائها وجبر خاطرها، وتطييب قلبها المجروح.
وصلها من جديد صوت خيرية الصداح، لكن هذه المرة أكثر وضوحا، ليزيد من قهرها، وهي تصرخ في صدمة: يعني بعد ده كله خلاص، بح! مش هتتجوز وتغور! مش كفاية العمر ده كله وهي قاعدة على قلبي، وكنت بصبر نفسي وأقول مسيرها تحل عني، واستحملنا خمس سنين خطوبة جملي، خمس سنين ونقول بكرة نخلص، ولما قلنا خلاص، تقولي العريس مش جاي، وهرب من وشها، وهتقعد في أرابيزي تاني! لا كده كتير عليا، بقولك إيه يا صبحي، يا أنا ياختك فالبيت ده النهاردة! أنا قلتها كلمة ومش هرجع فيها، ولو رحت على بيت أبويا، والله ما هتعرف ترجعني تاني ولو عملت إيه، وأنت حر بقى، عقلك فراسك، تعرف خلاصك.
انتفضت سلمى من سباتها، على يد تربت على كتفها، تنبهت فإذا بها المضيفة تسألها في لطف: من فضلك، اربطي الحزام عشان خلاص، الطيارة على وشك الهبوط.
اطاعت سلمى في اضطراب، وكفاها ترتجفتان في توتر، ما جعلها تستغرق وقت أكثر من المفترض، لتضبط حزام الأمان، متطلعة نحو النافذة أخيرا، لعلها تلمح شيئا من تلك البلاد الغريبة، التي جاءتها بحثا عن حياة أفضل، لتكون عوضا جميلا عن كل ما مر بها من شقاء، تمسكتا كفيها بيدي المقعد في ذعر، وتخشب جسدها وهي تجز على أسنانها، لحظة استشعارها لحركة الهبوط الخاطفة للطائرة، والذي تجربه للمرة الأولى.
تنهدت في راحة ما أن حطت الطائرة بسلام، وردت على ابتسامة المضيفة الودود، بابتسامة أكثر ودا، وهي تهنئها في لطف: حمد الله بالسلامة.
لتتنهد وهي تدخل لأرض المطار، منهية إجراءات الوصول كلها في سلاسة، خرجت لقاعة الاستقبال، باحثة عنه بين القادمين، لكنها لم ترقب محياه بين المنتظرين لذويهم وأحبائهم باشتياق.
تنهدت في حسرة، وهي تتجه نحو المقاعد في قاعة الانتظار الواسعة الباردة، تجر خلفها حقيبتها المتواضعة، شاردة تمنحه الأعذار المختلفة بعقلها، التي تبرر بها غيابه عن موافاتها لحظة وصولها.
ارتسمت السعادة على وجهها للحظة، منتزعة إياها من حزن شرودها، واتسعت ابتسامتها في فرحة، ما أن تعالت زغاريد بعض النساء من هنا وهناك، في لفتة رقيقة، ما أن لمحنها وهي تسير صوب المقعد، معبرات عن الفرحة لرؤيتهن عروس بثوب عرسها، في انتظار قدوم عريسها الهمام.
جلست على مقعدها بالواجهة، تتطلع لكل ذاهب وآيب، لعل وعسى يكون هو واحد منهم، في محاولة لقتل وقت الانتظار الذي يذبحها في برود، متأملة أن يحين الوقت الذي تغادر فيه هذه القاعة الباردة، إلى عشها الزوجي الدافئ.
*****************
لا يعلم أحد كم الوجع الذي يعتري روحها، وهي تحاول مواجهة العالم بعد كل ما حدث، تحاول أن تتجاهل نظرات كل من حولها، سواء الشامت منهم أو المتعاطف، كل النظرات تمزقها داخليا، وتنزع عنها ستر الثقة الوهمية التي كانت تتزرع بها في مواجهة العالم وحدها دون داعم، تحاول قضاء أكبر وقت ممكن داخل مركز التأهيل الذي تعمل به، حتى تبتعد عن البيت، وكل النظرات والكلمات المسمومة التي تذيب ثباتها الهش.
وصلت متأخرة لبيتها كعادتها الأيام الماضية، وما أن دفعت باب حجرتها حتى وجدت الحجرة في حالة يرثى لها، كل حاجياتها ملقاة هنا وهناك، بشكل عشوائي مقلوبة رأس على عقب، وسريرها الضيق فالأساس، أصبح الآن مأوى لأثنين من بنات أخيها الصغيرات، همت بالحديث معترضة على ما يحدث، لكن خيرية كانت قد لحقت بها، تعاجلها الحديث: إيه، واقفة كده ليه! لتكوني مضايقة إن بنات أخوكي هيناموا معاكي فالأوضة ولا حاجة!
هتفت سلمى معترضة: هي الأوضة فيها مكان ليا، عشان جايبة اتنين من البنات يناموا معايا، ده السرير مكفيني بالعافية أصلا، ده أنا خدت السرير الصغير وسبت الكبير لعيالك، قلت حرام بدل زنقتهم، وكمان أنتي عارفة أنا مبحبش حد ينام جنبي.
هتفت خيرية في هدوء سام : طب هنعمل إيه! العيال كتروا وكبروا والشقة ضاقت علينا، وكنت مواعدة البنات ياخدوا أوضتك بعد ما تفارقينا، أقصد تتجوزي، ومحصلش نصيب وقعدتي، واتفاجئت بالبنات لموا حاجتهم وهيلا بيلا على أوضتك، هعمل لهم إيه يعني! حقهم برضو يوسعوا على نفسهم، والصراحة كده كبروا برضو ومبقاش ينفع يناموا مع الولاد فأوضة واحدة، ولا إيه يا بتاعت التربية! مش بتقولوا كده برضو!
هتفت سلمى متنهدة في استسلام وانهاك بالغ: طب هنام أنا فين دلوقت!
هتفت خيرية مؤكدة: هيكون فين يعني! احشري نفسك وسط البنات ونامي معاهم.
وربتت على كتفها في حنق مستطردة: وتعودي على كده بقى، أصل شكل الحكاية مطولة، وأنتِ مأنسانا حبة حلوين، أصل معلش برضو متزعليش مني، مين اللي هياخد واحدة عندها ٣٥ سنة، وعريسها هرب منها يوم كتب كتابهم، ربنا يعين أخوكي ع اللي بيسمعه كل يوم وهو ف ورشته من تحت راسك، ويقويني أنا كمان على غمز ولمز النسوان، فالرايحة والجاية.
قرقرت معدتها، ما دفعها لتعتدل في جلستها، بعد أن أخذتها سنة من نوم، تطلعت نحو النافذة الزجاجية لقاعة الانتظار، لتكتشف أن المساء قد هل، وهي تجلس هنا منذ بضع ساعات، ولم يأتها أي خبر عن عريسها المزعوم، كانت تتضور جوعا، فهي من تعجلها واضطرابها لركوبها الطائرة للمرة الأولى، لم تتناول طعامها كما يجب، قبل أن تغادر بيت أخيها، كما أن الطعام الذي تناولته بالطائرة، لا يسمن ولا يغني من جوع.
تطلعت نحو هاتفها القديم الذي تحمل، ذاك الهاتف ذو الأزرار، الذي ما عاد يستعمله أحد تقريبا، وتذكرت كيف كانت مندفعة نحو باب الشقة، وهتاف أخوها المتعجل بالأسفل يوترها، لتهبط الدرج في حرص، حين استوقفتها زوجة أخيها هاتفها: خدي يا سلمى التليفون ده، وهاتي بتاعك بسرعة.
سألتها متعجلة: ليه!
أكدت خيرية: أصل صبحي مكنش عايز يقولك، بس أنا هقول وأمري لله، مع إنه كان محرج عليا.
تطلعت لها سلمى في حنق تتعجلها الافصاح: أصل الصراحة أخوكي استلف تمن تذكرة سفرك، وده مبلغ كبير علينا، فقلت تليفونك لو بعناه، أهو يسدد تمنها أو حتى جزء كبير منها، ويخفف عن اخوكي اللي فرقبته كوم اللحم ده.
همت سلمى بالرد عليها معترضة، وهي تتطلع لهاتفها العزيز، الذي ابتاعته من ادخارها لشهور طويلة من راتبها، وذلك لدواعي الدراسة والبحث، لا رغبة في رفاهية اقتناء هاتف حديث، لكن صراخ أخيها بالأسفل، والذي كان بانتظارها مع سيارة أجرة جاء بها خصيصا لإيصالها المطار، جعلها تدفع بالهاتف ليد خيرية في اضطراب، وبدورها، دفعت خيرية بكفها ذاك الهاتف العتيق، لتندفع هي مهرولة تهبط درجات السلم المتهالكة، على قدر استطاعتها.
تطلعت للهاتف اللحظة بين كفيها، وهي تجلس وحيدة بلا رفيق، لتكتشف أن الهاتف غير مشحون برصيد كافِ لإجراء أي مكالمة، بل إنه لا يحمل أي أرقام من الأساس، وبالطبع لا يمكن التواصل بواسطته عن طريق الانترنت، ما يعني أنها حبيسة ها هنا، حتى يأتي زوجها، الذي ما عادت تحمل له اعذارا لتبرر نسيانه موعد وصول طائرة زوجته، واستقبالها الاستقبال اللائق بعروس.
قرقرت معدتها من جديد، بل زمجرت، وزاد عليها الضيق الذي بدأ يشملها لنظرات المسافرين وذويهم، وهي تجلس وحيدة بثوب زفافها الأبيض، جاعلا منها محط أنظار كل ذاهب وآيب، وقد ضاقت ذرعا بالابتسامات الدبلوماسية التي تبعثها هنا وهناك، ردا على ابتساماتهم الودودة، ما دفعها لتقرر الذهاب لأقرب حمام لتبديله، فما عادت قادرة على تحمل نظرات البعض، التي بدأت تحمل الكثير من الشفقة، على العروس الوحيدة، التي ما جاء عريسها لاستقبالها بكل الشوق واللهفة المفترضة، عروس مهجورة، تجلس وحيدة منبوذة بثوب عرس بلا شريك.
***************
كانت طائرته قد حطت منذ بعض الوقت، فأنهى بعض المعاملات، وسار مغادرا في ثقة بالغة، يجر حقيبته الأنيقة خلفه، يدق حذاءه البراق برنين منتظم لخطوات واثقة، لا يلتفت لأي من كان، وكأنما الكون قد خلى من قاطنيه، تغيب نظراته الثاقبة خلف منظار شمسي أنيق، يدس كفه اليمنى بجيب بنطاله، الذي يظهر جسدا رياضيا، رغم تخطي صاحبه حاجز الخامسة والأربعين من عمره بقليل.
همست إحدى المضيفات لصديقتها المعينة حديثا، التي وجدتها تتطلع نحوه في انبهار كامل: انسي، متحلميش، كله إلا ده.
هتفت المضيفة المشدوهة بنظراتها نحوه، مجيبة في هيام، بفرنسية رشيقة: مستحيل، هخطف قلبه.
أكدت زميلتها متنهدة: يا بنتي اسمعي، ده واحد معندوش قلب من أساسه عشان تخطفيه، كتير قبلك حاولوا وفشلوا فشل ذريع، أنا قلت لك وأنتِ حرة، بضيعي وقتك ع الفاضي.
أكدت المضيفة الولهانة: كفاية إني ألفت نظره.
تطلعت نحوها زميلتها ساخرة: هو مش كنتي هتخطفي قلبه من دقيقة!
هتفت المضيفة في نزق: واتيفر، المهم إن مش هيفوت كام اسبوع، وهتلاقيه زي الخاتم في صباعي..
هتفت زميلتها ساخرة، وضحكتها ترتفع في استهانة: أدينا قاعدين وهنتفرج.
هتفت المضيفة بإنجليزية متقنة: طب بصي واتعلمي.
أخرجت من حقيبة يدها زجاجة عطر فرنسي مثير، رشت بعض من شذاها هنا وهناك، وأخرجت على عجل، شيء ما من حقيبة يدها، مهرولة، تعترض طريق ذاك الذي كان في سبيله لقاعة الوصول، هاتفة تستوقفه بنبرة رقيقة مغناجة: كابتن أيوب.
توقف ولم يستدر نحوها بعد ندائها الثاني، ما دفعها لتمد خطواتها لتقف قبالته، هامسة له بنفس النبرة المدلهة: كابتن أيوب، حمد الله بالسلامة.
هز رأسه دون أن يجيب بحرف، ملامح وجهه الصارمة، ونظرات عينيه الحادة، مختفية تماما خلف نظارته الشمسة التي لا يخلعها إلا فيما ندر، وكذا مقدمة كابه الرسمي الذي يعتليه رمز النسر المحلق.
ساد الصمت المتعمد من قبلها لبرهة، حتى قطعته بنبرة رقيقة، وهي تمد له كفها في هوادة مدروسة، مقدمة له إحدي الروايات: اتفضل، أنا قريت الرواية دي، وعجبتني جدا، ولما عرفت إن حضرتك قارئ جيد، قلت أهديها لحضرتك، وتقولي إيه رأيك في ذوقي، يا ترى هيكون لنا نفس الذوق، زي ما طلعنا زي بعض بنحب القراءة!
أنهت حديثها بابتسامة مشرقة تذيب القلوب، وسادت برهة من الصمت من قبله، قبل أن يجيب بصوت رجولي رخيم، هادئ النبرة: تمام، شكرا.
تناول الرواية وتحرك مبتعدا، وهي تتبعه بنظراتها التي لم تحد عنه حتى غاب عن ناظريها وهو في اتجاه صالة المغادرة، فتنهدت في هيام، قبل أن ترحل مبتعدة بدورها، معتقدة أنها فازت بجولتها الأولى في سبيل إخضاع قلبه العصي.
************
هدأت الحركة بصالة الوصول، ما دفعها لجر حقيبتها خلفها، والتوجه للحمام، الذي دخلته في حذر، وتنهدت في راحة، حين أدركت أنها وحيدة به، فما كانت لديها القدرة على إجابة أسئلة من أي نوع، هي نفسها لا تملك عليها أي إجابة، خلعت عنها ثوب زفافها، تتطلع له في حسرة، فلطالما حلمت أنها تخلعه عنها في وجل، تحت سقف بيتها، عشها الحبيب الذي سيجمعها أخيرا بشريك الحياة، ورفيق الرحلة، لم يكن الثوب الذي حلمت به على أي حال، هكذا عزت نفسها، فذاك الثوب الحلم كان باهظ الثمن على من هي في مثل ظروفها، لتحصل على مثله، لكنها تعتز بذاك الذي خلعته لتوها، فقد وفرت ثمنه من جمعية كانت قد اشتركت بها، على أقل تقدير، ها قد قام بدوره على الوجه الأكمل حتى هذه اللحظة، فشكرا على ما قدم لها من لحظات فرحة، كانت في حاجة إليها، لتستشعر ولو للحظات قصيرة، أنها عروس في ليلة زفافها، وأنها مرغوبة ومحبوبة بحق.
ألقت على ثوب الزفاف نظرة أخيرة، ثم دفعت به دفعا لجوف حقيبتها، تدفنه في قعرها، مودعة وهي تدرك، أنه ثوب المرة الواحدة، وأن ارتدائها له مجددا، لن يتكرر، وأن هذه الفرحة المنقوصة، لن تعود.
ارتدت بديل عنه ثوب بسيط، وغطاء رأس يماثله بساطة وضعته جانبا، ثم أغلقت الحقيبة في إحكام، وقفت أمام المرآة، لضبط حجابها، ومحاولة إزالة ما علق بصفحة وجهها من أحبار الزينة الرخيصة، التي غطت ملامحها، والتي على الرغم من امتلاء وجهها، كانت تتسم بالبراءة ما جعلها أشبه بملامح طفلة إلى حد كبير، عبثت بأدوات زينة أمها، في محاولة للتشبه بالنساء الناضجات.
كانت قسمات وجهها تحمل هما مستترا، ما دفعها كما اعتادت، لتذكير نفسها، أنها من المفترض عروس، والليلة ليلة زفافها، وعليها أن تكون أكثر اشراقا وتألقا، لذا ابتسمت لوجهها بالمرآة البلورية الفاخرة، ثم انفجرت ضاحكة ساخرة من نفسها، مقلدة أحد إعلانات كريم البشرة الباريسية، وهي تزيح بعض الأصباغ عن وجنتيها: سلمى بالبصل والثوم، وها أنت امرأة جديدة كل يوم.
وانفجرت ضاحكة من جديد، وبدأت تدندن لحنا جال على خاطرها اللحظة، حتى أنهت إزالة كل مكياجها، على قدر استطاعتها، لتكتشف أنه كان لحنا حزينا، لا يليق بلحظات الفرحة التي من المفترض الاستعداد لها، لكنها لم تتوقف عن الدندنة، بل إنها رفعت صوتها قليلا، تشدو بكلمات الأغنية في شحن:
وعصير العنب العنابي العنابي..
نقطة ورا نقطة يا عذابي يا عذابي..
مدت كفها تتحسس ملامح وجهها بكف مرتعش، وعيون دامعة، وهي ما تزال تشدو:
يكشفلي حبايبي وصحابي..
يوحدني وأنا في عز شبابي..
القلب على الحب يشابي..
والحب بعيد عن أوطانه..
بانوا.. ايوا بانوا..
تاهت في تفاصيل الوجه والعينين، وتذكرت من جديد ما كان..
فبعد مرور حوالي العامين، على خيانة وخذلان من ظنته حب العمر، واكتشافها أنه تزوج بعد أقل من شهرين من وقت ارساله رسالته الحقيرة بليلة عرسهما، تزوج بنفس الشقة، وعلى أثاث اختارت كل جزء فيه بروحها، ودفعت ثمن كل قطعة بدموع عينيها، وسهر الليالي.
دخلت خيرية عليها في اندفاع، صارخة في سعادة: عريس يا سلمى، عريس!
انتفضت نحوها متسائلة: عريس إيه!
هتفت خيرية في ود مصطنع: يا بت بقولك جايلك عريس!
هتفت سلمى ساخرة : ومين المأسوف على شبابه! أكيد واحد من بتوع الشباب شباب القلب، شاب فالسبعين من عمره!
قهقهت خيرية مؤكدة: لا سبعين إيه! ده عنده أربعين سنة، و..
هتفت سلمى مقاطعة: هااا، وأرمل ومعاه عيال عايزني أربيهم، ولا مطلق وبرضو معاه عيال، ولا مبيخلفش من أساسه، ولا إيه ظروفه بالظبط ! ما خلاص مش هيجي إلا كده.
هتفت خيرية في حنق: ما تصبري وتسمعي، لا يا ستي، متجوزش قبل كده، وسمع عنك من واحد قريبه، صاحب أخوكي صبحي، شكر له في أخلاقك وأدبك، و…
قهقهت سلمى: وأكيد مشكرش فجمالي، أصل بالخلقة دي، وهيجامل ويفهم الراجل حاجة غير الحقيقة، كده هقلق الصراحة.
ضربتها خيرية على كتفها، حتى تكف عن سخريتها مؤكدة: مفيش فايدة فلسانك ده! أهو يا ستي بكرة تشوفيه ع الموبيل ويشوفك، ويا رب المرة دي تظبط..
تطلعت نحوها سلمى في تعجب، وما ألقت بالا لكلمات خيرية السامة، التي أنهت بها حديثها، متسائلة في دهشة: أشوفه ع الموبيل!
هتفت خيرية في فخر: أيوه يا بت، ما هو مش عايش هنا، ده قاعد فالخليج، ومش قادر ياخد اجازة وينزل يخطب بنفسه، أصله مقطوع من شجرة، وعايز ونس بقى.
هتفت سلمى في استفهام: اومال هاينزل يكتب الكتاب إزاي! اوعي تقوليلي هيعلقني معاه بالسنين، زي اللي ما يتسمى فتحي!
هتفت خيرية في حنق: قُطع مطرح ما راح وقُطعت سيرته، تفي من بقك، فتحي ده إيه! لا، ده عايز يتجوز على طول، وقال هيتعرف عليكي الأول، واستئذن أخوكي يشوفك وتكلميه، ويا رب يجعل فيه النصيب.
هزت سلمى رأسها في تفهم، لا تعلم هل ما يحدث، صواب أم عليها الرفض! لكن.. هل كان لمثلها أن يعترض على فرصة ذهبية مثل هذه الماثلة أمامها! ما جعلها تمتثل لسير الأحداث، وقد كان، فبعد عدة مرات شاهدته عبر أحد تطبيقات الأنترنت، وتحدثا سويا، أشاد بثقافتها وتعليمها، وحسن خلقها، وأكد على رغبته في إتمام الزواج، وكانت اللحظة الفاصلة، عندما أعلن عدم قدرته على القدوم لعقد القران، واتفق مع أخيها على أرسال قريب له من بعيد بتوكيل لعقد القران، بالطبع كانت هناك المزيد والمزيد من الصراعات والصدامات، بينها وبين أخيها وزوجته، لرفضها هذه الطريقة في الزواج، لكنها رضخت أخيرا، بعد الضغط عليها بشكل لا يحتمل، وها هي اللحظة هنا في انتظار عريسها الغائب، ولا تعلم لم لمَ يأتِ حتى هذه اللحظة!
تنهدت في قلة حيلة، وقد أنهت مهمتها، ودفعت ببعض الماء البارد لوجهها، لعله ينعشها قليلا، نظرت نظرة أخيرة للمرآة، لكنها اشاحت بوجهها سريعا، فقد تأكدت على الأقل، أنها عادت سلمى التي تعرفها بلا أي رتوش، لتسحب حقيبتها خلفها، مغادرة الحمام، عائدة نحو موضعها الذي كانت تحتله سابقا، والذي ما أن دنت منه، حتى وجدته قد شُغل بغيرها، ما اضطرها لتفكر فالانعزال بعيدا، متخذة ذاك المقعد المتطرف هناك، مجلسا ثابتا لها، حتى إشعار آخر، جلست تسند رأسها على العمود الرخامي، لعلها ترتاح من زحام الخواطر السيئة، التي تعربد بمخلتها اللحظة، راسمة الكثير من السيناريوهات القاتمة، والتي قررت قطع استرسالها بقراءة أحد الكتب في مجال تخصصها، الذي كانت تتمنى لو استطاعت الوصول لدرجة الدكتوراه به، بعد حصولها على درجة الماجستير بشق الأنفس.
وصل أيوب لقاعة الوصول، متطلعا للرواية التي يحمل، مقلبا إياها في لا مبالاة، وقد تأكد وهو يقلب صفحاتها، أنها إحدى الروايات الرومانسية، التي تدفع بالناس ليعيشوا حياة حالمة وهمية، هربا لبعض الوقت من واقع مرير، مدركين تماما أن هذه النهايات السعيدة، لا تأتي إلا في مثل هذه القصص الساذجة.
فتح الصفحة الأولى، وقرأ بنبرة ساخرة أحد المقاطع:
” لن ينل الحب إلا من منكريه، ولا يصاب بسهم العشق إلا غافل، قف حارسا على بوابات قلبك، ولا تفتح لطارق أبدا، فجروح الروح لا تطيب، فاحذر من يطرق باب القلب”
اتسعت ابتسامته الساخرة، وهمس في استهزاء: أكيد اللي بيقرا العته ده واحد مخبول.
دفع بالكتاب من خلف ظهره، نحو سلة المهملات التي مر بها لتوه، في نفس اللحظة التي مالت هي نحو جيب حقيبتها الخارجي لتخرج كتابها، كادت أن تطلق صرخة مذعورة، لكنها لحسن الحظ، لم تخرج من الأساس، فقد استطاعت كتمانها، عندما أدركت ما الذي يحدث..
تطلعت لبرهة لذاك الكتاب الفخم، الذي أُلقي لتوه بقلب سلة المهملات التي كانت تجاورها مباشرة، بعض السنتيمترات الخاطئة، كانت لتدفع به ليسقط مباشرة على أم رأسها، لكن الله سلم.
تطلعت بحنق نحو ظهر ذاك الذي قذف بالكتاب، وكأنه لاعب كرة سلة محترف، مصيبا الهدف في سلاسة، يبتعد متبخترا بانتصاره، بزيه الرسمي ذاك، وحقيبته الأنيقة خلفه، مشفقة على الكتاب ذي الغلاف القيم، تطلعت نحو كتابها الهزيل، الذي كانت قد أخرجته بالفعل، والذي يحمل غلافا باهتا، وبقعة ما بأحد أركانه، ما دفعها لتركه جانبا بالقرب منها، تتطلع نحو غلاف الرواية الزاهي الذي جذب أنظارها، مدت كفها في تردد تتناول الكتاب، لتقرأ عنوانه في تمهل..
“احذر، من يطرق باب القلب!”
هتفت ساخرة كعادتها: إيه يا عم ما بالراحة، حصلنا الرعب، وبعدين تحذير حضرتك جه متأخر والله.
فتحت أولى الصفحات، وقرأت:
“لن ينل الحب إلا من منكريه، ولا يصاب بسهم العشق إلا غافل..
توقفت عن القراءة، تضحك في أريحية، ساخرة من نفسها كالعادة: مش بقولك جيت متأخر، هو أنا مقلتلكش! مش أنا باب قلبي خلعوه وباعوه الديانة، ياللاه يعني كان باب زويلة! أحسن .. أهو كان كل ما يتوارب حتى، يترزع فوشي حتة رزعة، ربنا ما يوريك، آه والله.
فتحت أولي الصفحات، وبدأت في قراءة المقدمة..
قال شكسبير.. لا تفتح بابا يؤذيك ولو كان الطارق شخصا تحبه..
لتهتف متنهدة: الأخ شكسبير مرة واحدة! شكلها رواية حلوة.. رماها ليه الأخ العجيب ده! ياللاه أهي طلعت من رزقنا.. خلينا نقرأ مورناش غير كده لحد ما يجي الفرج، أين أنت يا فرج!
هتفت بندائها الأخير، في نبرة مرحة، قبل أن تشرع بالقراءة، متناسية ما هي فيه، لعل الفرج بالطريق!
*****************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!