روايات

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الجزء الثاني والثلاثون

رواية منك وإليك اهتديت البارت الثاني والثلاثون

رواية منك وإليك اهتديت
رواية منك وإليك اهتديت

رواية منك وإليك اهتديت الحلقة الثانية والثلاثون

في اليوم التالي”صباحًا”…
رفعت نهى أنظارها المتوترة تراقب رد فعل سليم على ما قالته…لقد خطت الصدمة خيوطها فوق وجهه مما تطلبه منه، وبحركة خاطفة اخترقت نظراتها المرتبكة زجاج المحل ووقعت على خالد الذي كان يقف مستندًا على سيارته ينتظر بالخارج بناءًا على طلبها رغم اعتراضه الشديد على كل ما تفعله ولكنها تملك أحقية ما تريد، لذا ترك لها حرية القرار كاملاً واجبر نفسه على عدم التدخل، أرسلت له رسالة ممتنة صغيرة قبل أن تعود ببصرها لسليم الجالس أمامها يتأملها بصمت فقررت أن تكسر الصدمة التي القتاها عليه بقولها الهادئ.
-أنا عارفة انك مستغرب من اللي بطلبه، بس…
صمتت للحظة قبل أن تطرق رأسها بحزن:
-فوضت امري في اهلي لله، ومكنتش اتمنى اتجوز من غير ما حد يعرف..ليك حق انك ترفض انك تبقى وكيلي ومقدرة كمان انك بتكرهني…
قاطعها بنبرة خشنة:
-معملتيش فيا حاجة عشان اكرهك، اللي بيني وبين امك يخصنا، أكيد مش هدخلك فيه!
همست بامتنان:
-شكرًا.
لم يخفى عليه تغييرها الجذري، لقد اختلفت كليًا بين نهى السابقة الحالمة بكل ما يخص أخيه المهزوزة عاطفيًا ونفسيًا، وبين تلك التي تجلس امامه تمتلك مقدار من القوة يجعلها ثابتة..بارعة في اخفاء توترها منه، مدركة لِمَ يدور حولها والسبب بالتأكيد في ذلك..من يقف خلف الزجاج يكاد يخترقه بجنون للاطمئنان عليها، يبدو من وقفته أن صبره قد نفذ..فعاد ببصره اليها يحدجها بقوة وهو يشير برأسه بخفة ناحية خالد:
-امك عارفة انك هتتجوزيه؟
هزت رأسها بنفي، وأخذت نفس عميق قبل أن تقول بنبرة بائسة:
-لا متعرفش حاجة عني.
-أكيد عارفة ان لو الخبر دا وصلها هيقهرها…على حسب معلوماتي انك مبطقش ابن عمتك..دا بعيد طبعًا ان هكون وكيلك ودا احتمال يموتها مش يقهرها بس.
ترقرقت عينيها بالدموع وحملت نظراتها بؤس العالم كله وهي تقول بنبرة مهزوزة ضعيفة:
-هي اللي وصلتني لكدا…
سكتت للحظات تستجمع فيهم قواها قبل أن تخبره بكل ما حل بها بداية من خطة والدتها مع زيدان حتى سفرها للخارج وأمر زواجها من الشيخ القطري، لم يتفاجأ سليم كثيرًا، فتلك هي عمته تحمل طمع العالم كله بداخلها… اشفق قليلاً لِمَ عانته، فقال بابتسامة ساخرة:
-دا المتوقع منهم…بس متلوميش على زيدان يا نهى.
انسابت الدموع فوق وجنتيها بينما نظراتها شعت بالخيبة:
-هو كان بيحاول يفهمك بطريقته انك مجرد اخت، يمكن كانت حادة عليكي شوية بس مينفعش نحاسب اللي قدامنا على ضعفنا.
عقدت حاجبيها بعدم فهم، فاستكمل برزانة وهدوء وهو يقدم لها منديلاً ورقيًا:
-انتحارك مكنش هو السبب فيه، انتي اللي عقلك مقدرش يتصور حياتك من غيره، وان كان هو اتفق مع امك فكان عشان ينقذك..
تحدثت باندفاع:
-بس…
قاطعها بحزم:
-قولتلك متحاسبيش حد على ضعفك، المشكلة انك مكنتيش فاهمة مشاعرك صح وقتها.
وقبل أن تتحدث القى على خالد نظرة جانبية وبنبرة تحوي الغموض أردف:
-لكن دلوقتي انتي فاهمة صح ولا لا؟ هي دي النقطة الاهم.
قالت بصوت شديد البحة بينما توهجت وجنتيها باحمرار الخجل الطفيف، وبمشاعر صادقة لم تتذوقها من قبل، وبعاطفة جياشة قالت:
-متخافش.
كان ردها هادئ مثير للأعصاب، فقرر عرض مساعدته عليها وخاصةً بعدما علم بقصتها كاملة:
-نهى..لو انتي فاكرة انك بجوازك من قريبك بتهربي من جوازك من الشيخ القطري…ياريت متعمليش كدا، تعالي عندنا وانتي عارفة كويس هقدر اقف في وش امك.
سارعت بقولها والخجل يكسو فوق تقاسيم وجهها:
-لا..أنا عمري ما افكر اعمل كدا، أنا عايزة ابقى مع …خالد.
همست اسمه بنعومة شديدة ووجنتيها تغرق في لونهما الاحمر أكثر، فابتسم سليم وهز رأسه بتفهم وهو يقول:
-انا كدا اتاكدت انك فهمتي مشاعرك صح.
اخفت نظراتها عنه ولكنها سمعت نبرته الجسورة تخبرها:
-أنا طبعًا موافق ابقى وكيلك، ومبسوط انك قدرتي تاخدي قرار بعيد عن اهلك..واعتبرينا أنا وزيدان ويزن في ضهرك على طول، هتزعلي لو جبته شاهد على كتب الكتاب.
خطفت نظرة مرتبكة نحو خالد قبل ان تنظر لسليم بعدم فهم لطلبه الأخير، ولكنه اوضح كلامه بنبرة حازمة:
-حاليًا اللي فات دا هنعتبره طيش شباب، انتي دلوقتي هتتجوزي انسان انتي اخترتيه، وزيدان كمان
صمت للحظة قبل أن يصر على اخبارها بمثل هذا الخبر ليقطع كل طرق الشك داخله:
-زيدان كمان متجوز حاليًا.
توقع صدمة تتألف فوق وجهها، ولكن كانت ملامحها باهتة اقرب لساخرة، لقد مرت بالكثير فذلك الخبر لم يحرك فيها شعره واحدة، وكأن عقلها تعود على الصدمات، أخيرًا ادركت أن تلك المشاعر السخيفة التي كانت تحملها لزيدان ليست سوى احتياج تبحث عنه لتحققه وقد اقنعها عقلها الباطن بذلك، بالإضافة أنها أخيرًا تذوقت حلاوة الحب على يد خالد، لذا زواج زيدان من عدمه لم يعنيها اي شيء..ولكنها معترفة أن كرامتها عانت من ضربة جديدة سددت بها، معترفة بداخلها أنها السبب في ذلك حينما اقحمت نفسها في دائرة حب زائفة واقتنعت أنها الخلاص….ولكن حمدًا لله هي نجحت في الخروج من تلك القوقعة لعالم اقل ما يقال عنه أنه فريد بما يضمه من مشاعر متبادلة مع خالد.
شمخت برأسها وهي تقول بابتسامة صغيرة واكتفت بعدم التعقيب على ذلك الخبر:
-اناديلك خالد عشان تتفق معاه.
هز رأسه موافقًا، فأشارت بالفعل لخالد الذي دخل بخطوات متمهلة واثقة..وانتظر تقوم هي بتعريفهما..وبعد ان انتهت أشار سليم لأحد العاملين:
-خد أنسة نهى..وخليها تنقي طقم هدية لخطوبتها.
شعر بزمجرة خفيفة من قبل خالد فابتسم باستفزاز:
-أنا قولت هدية..هديتنا احنا ليها، اما شبكتك دي ليها كلام تاني.
تحركت نهى مع الشاب وتركت خالد يجلس مكانها أمام سليم بهيبته التي أثارت في نفسه القلق ولكنه اظهر عكس ذلك حينما تحدث معه بجدية في أمور الزواج وقد طغت على نبرته الحزم والخشونة فلاحظ نظرة اعجاب من قبل سليم، مقررًا استغلال ذلك وأنهى حديثه بقوله:
-يا ريت نكتب الكتاب النهاردة عشان سايب مطعمي في مرسى مطروح.
-هتكتب الكتاب كدا من غير حفلة صغيرة..
محركًا بصره نحو نهى وهو يقول بتهكم:
-دي بنت في النهاية ومن حقها تفرح.
خالد لم يكن بشخص سهل أبدًا وقد نجح في فهم مقصد سليم فقال بمراوغة:
-لو في حاجة انت عايز تعملها ياريت تعرفني بيها، مبحبش اكون زي الاطرش في الزفة.
لمعت عيني سليم بالغموض، فقال بنبرة ساخرة:
-عرفت ان ميرفت بتحبك خالص.
هز رأسه بتفهم وضحكة ساخرة طغت على صوته:
-المحبة ما بينا متبادلة.
انزل سليم ساقه من فوق الاخرى وتحدث بجدية وصوت يغمره الانتقام:
-واظن انها هتفرح لما تحضر الحفلة دي.
وبصوت يضمر بالاستهجان قال خالد:
-ولما تلاقيك وكيلها…هتفرح اكتر.
مد سليم يده يصافح خالد وهو يتمتم:
-حلو..اتفقنا، خد عروستك جهزلها الفستان وانا عليا مكان الحفلة وهتفق مع المأذون.
كاد يعترض بشدة ولكن سليم اوقفه بحسم:
-انت مش هتقدر تعمل كل حاجة لغاية الساعة ١٠ لازم حد يساعدك وبعدين عليك مهمة انك تجيب ميرفت لغاية الحفلة بطريقتك بس بعد كتب الكتاب عشان متبوظش حاجة.
زفر خالد انفاسه متمتمًا بإعجاب:
-اتفقنا…الساعة ١٠.
***
دقت الساعة عاشرة مساءًا..
وبدأ الكافية الذي حجزه سليم في الاستعداد لحفل القران الصغير، تألقت نهى بفستان ابيض بسيط ذو فصوص لامعه تتوسط منطقة الصدر منساب بقماش الحرير الناعم حتى كاحليها، مع حجاب ابيض يضاهي ملامحها الرقيقة التي اكتفت بوضع لمسات بسيطة من مستحضرات التجميل عليها..أما خالد فقد تألق ببذلة سوداء رافضًا ارتداء ربطة عنق ولحقيقة الأمر لم تصر نهى كثيرًا فكانت متفهمة لِمَ يحب ويكره.
فركت يدها بخجل شديد وهي تنتظر مجيء المأذون وعقلها يسبح بتوتر في اللحظات التي تعقب زواجها من خالد، رفعت بصرها حينما استمعت لجلبة فوجدت عائلة خالها بأكملها تدخل للمكان..هي كانت تعلم أن زيدان سيحضر بناءًا على اتفاقها مع سليم…ولكنها لم تعلم بمجيئهم جميعًا..كانوا يحملون الهدايا التي كانت جميعها مجهورات بسيطة تعبيرًا عن سعادتهم بها..بدأت في تلقي التهاني من شمس التي احتضنتها بحب شديد وقد لمسته هي من خلال همساتها الرقيقة..أما عن نظرات الرضا التي كانت توجه لها من قبل منال لها مذاق أخر وخاصةً عندما ربتت فوق يدها معبرة عن اعجابها بالفستان وجمالها، حتى يزن اكتفى بتلويحه لها وتقديم هديته ثم انصرف يصافح خالد ليقدم مباركته..بينما زيدان فتوقف على بعد مسافة منها لم يستطع التحدث..ولكن نظراته تحمل أسف وندم ربت فوق جوارحها، احيا كرامتها، فقررت الامتثال لرغبتها التي اقسمت على تحقيقها وابتسمت له بلطف مرحبة بتلك التي كانت تقف بجانبه تراقب كل شيء كاللبوة الشرسة…كانت تتأهب وكأنها على أتم الاستعداد للانقضاض على كل من يهدد ملكيتها ولكن هدوء نهى واستقبالها البسيط بهما وكأنما تجبر نفسها على نسيان الماضي جعل مليكة تهدأ من ذاتها المتحفزة واقدمت على التعرف اليها…التفوا جميعًا حول نهى ولم تلاحظ نظرات خالد المصوبة نحوها حيث كان يراقب كل شيء بقلب كاد يخترق ضلوع صدره من شده خفقاته وحينما رحبت به بهدوء وتعاملت بعدها بتجاهل وامارات الخجل لم تختفي من وجهها شعر بنفسه يهدأ وكأنه طير فك قيوده منطلقًا بجناحيه الصغيرين لتحليق عاليًا دون خوف…دون ترقب.
بدأ الجميع يجلس بأماكنه واكتفى زيدان بمصافحة خالد وتنحى بجانب مليكة متفهمًا صعوبة العلاقة بينهما حاليًا..كادت نهى تجلس بجانب خالد ولكنها توقفت كمن لدغها عقرب حينما دخل مجدي والمدعوة فيفي لداخل الكافية، فمالت على خالد تهمس بشراسة وكأنه أُلقي فوقها عباءة سحرية حولتها كليًا:
-ايه اللي جاب فيفي دي هنا.
ضغط فوق شفتيه بعتاب وهو يهمس رغم سعادته بغيرتها التي تشتعل بضراوة في مقلتيها:
-عيب دي اخت مجدي.
هتف بتحدٍ سافر والغيرة تحرق صدرها كلما اقتربت منهما، رحبت بمجدي أما فيفي فاكتفت بمد اطراف اصابعها بكل عنجهية جعلت خالد يحمر وجهه لتصرفها الاحمق فقال بنبرة غامضة مستنكرة اخترقت عقل نهى:
-اخبار جوزك ايه يا فيفي، أنا حاولت احل المشكلة معاه هناك في قطر على قد ما اقدر.
اغمضت نهى عينيها بحرج شديد وانزوت أكثر على نفسها، ولم تقدر على رفع بصرها حتى، ومن تملك منها الضحك كانت شمس حيث كانت تجلس بالصدفة بجانبها وجذب انتباهها ما يحدث وبلمحة مكر اكتسبتها من زوجها ادركت كل شيء..فنهضت بخفة تجلس بجانبهم تخبرهم بما حدث قاصدة اراحة زيدان من الندم المعذب لذاته وبالفعل ارتاح كليًا وبدأ التعامل بأريحية أكثر..حتى أشار له سليم ليتقدم حتى يكون شاهد على العقد مع مجدي وتلك النقطة تحديدًا اطفأت نار الغيرة التي كانت تهب بين حين وأخر لدى خالد كلما وقع بصره على زيدان..مجرد شاهدته على العقد تنهي الماضي وتدفنه في طيات النسيان.
تحرك يزن هنا وهنا يلتقط الصور بناءًا على اوامر سليم حتى انه قام بتصوير مقطع فيديو أثناء عقد القران…وعندما اعلن المأذون زواجهما…بدأت التهاني والمباركات تهبط فوق رأس خالد ونهى بسعادة..أما سليم فقد أمر يزن بالتقاط صورة له مع خالد ونهى ثم جمعهم جميعًا وأمر أحد العاملين بالتقاط صورة أخرى لهم….تحت نظرات يزن المتعجبة من تصرفاته منذ متى وسليم يحب التقاط الصورة..تمام هو يعلم أنه يلتقطها بنفس عنجهيته وجلوسه المعتاد ساق فوق الأخرى ظاهرًا شموخه وعزته ولكن لِمَ الاصرار؟ حتى قطع عليه سليم كل ذلك حينما قال له بخفوت ولمعة ماكرة تسيطر على عينيه:
-عارف اكونت سمير..ابعتله بقى كل الصور والفيدوهات دي وبالذات اللي أنا حاطط ايدي فيها في ايد خالد.
انطلق صوت داخل يزن لم يخرجه معبرًا عن اعجابه بأخيه:
-يا ابن اللاعبية.
هز رأسه بابتسامة واسعة قبل أن يقول:
-حاضر وكمان هزوق الفيديوهات والصورة بشوية كلام من اللي قلبك يحبهم.
ربت سليم فوق كتف اخيه بفخر..فمهما كانت شخصيته مشاكسة مرحة هو يمتلك ذكاء عائلته وينجح في استغلاله لقهر أي شخص أمامه.
بعد تلك اللحظات وعندما قاربت الساعة الحادية عشر مساءًا دخلت ميرفت للكافية بعدما تلقت اتصالاً من خالد يطلب ذهابها الى هناك كي يسلمها ابنتها التي طفح الكيل به في الاعتناء بها مقتنعًا أخيرًا أنها مجرد بلهاء وقعت فوق رأسه، فركضت الى هناك بسعادة متخيلة حوزتها على ابنتها واتمام زواجها من الشيخ كي يعوض خسارتها الفادحة بعد ان قامت بـ بيع اخر محل لها ولم يصبح لها اسم في السوق وذلك بعدما فقدت الأمل في كل شيء والديون تهدد بسجنها وهذا شيء لن تتحمله وها هي الدنيا تتراقص أمامها من جديد بعد هذا الاتصال ولكن…
ما يحدث هنا؟! بللت طرف شفتيها وهي تنظر للمكان بما يحوي من افراد لم تفهم سبب جمعهم..شعرت بهزة قوية تزلزل كيانها وأصبح تماسكها واهن جدًا رغم تمسكها بعصاه حديدية وذلك بعدما أصيبت بجلطة أثرت عليها..لم تقوى على التحرك أكثر من ذلك، فركضت ببصرها فوقهم جميعًا وخاصةً ذلك الذئب الذي كان يجلس بترفع مما فجر الحقد بداخلها مع نظراته الساخرة التي مالت للتشفي والانتقام ولكنها لن تعطيه تلك الفرصة ما دامت حية تحاملت على نفسها وضربت بعصاها ارضًا بقوة اخافت نهى وبنبرة تحمل الشر قالت:
-ايه اللي بيحصل هنا دا.
وضع خالد ذراعه فوق كتف نهى التي اهتزت فور رؤيتها لوالدتها..ومع ذلك هتف خالد مرحبًا بها:
-يا اهلا يا حماتي..جيتي متأخر ليه، كدا ينفع تتأخري على كتب كتاب بنتك.
زمجرت بصوتها الغليظ المرتفع:
-حما لما تلهفك يا خالد، انت عملت ايه في بنتي.
تجاهل وقاحتها مؤقتًا مستغلاً اللعب فوق أوتار اعصابها وهو يترك نهى ليتقدم اليها:
-عيب تكلمي جوز بنتك كدا، وبعدين أنا معملتش حاجة، اتجوزتها بس.
كانت تشتعل أكثر بكلماته فبدأت كالجحيم المستعر وهي تنظر له بكراهية وحقد:
-اتجوزتها من غير علم اهلها.
نظر اليها ببراءة وببرود أردف:
-مين قال كدا…امال سليم ابن خالها يبعمل ايه هنا، ما هو وكيلها.
لقد صب الزيت على النار مع تصريحه ذلك، لقد جنت بالفعل وفاضت عيناها بمزيد من الحقد المكبوت عندما شعرت نفسها أضحوكة المكان..وكأنها ممثل أخرق صعد فوق خشبة المسرح يتلقى من المشاهدين النظرات الساخرة والابتسامات المستنكرة..لمحت زيدان الجالس بجانب فتاة لا تعرفها يحدجها بقوة فقررت القاء قنبلتها لتكسر سليم اولاً ثم نهى ابنتها التي وافقت على تلك المهزلة…
-وانت وافقت تكون وكيلها ومتعرفش انها كانت مخطوبة لزيدان..اللي جه خطبها من وراكم كلكوا.
كانت عيني زيدان منبع للقسوة وكاد يوبخها لولا يد مليكة التي حاوطت كفه ويد يزن التي منعته حينما ضغط بها فوق كتفه..أما نهى فأخفضت بصرها أرضًا تحاول السيطرة على دموعها التي انهمرت فوق خديها بخذلان لم تتوقعه للمرة الألف من والدتها..أو المسمى بوالدتها!.
راقبت ميرفت وجوههم بتشفي كبير، ولكنه لم يدوم حينما لم تلاحظ الصدمة عليهم حتى أن سليم نهض بكبرياء وشموخ احرق عينيها المتابعة لاقترابه منها وقال بصوت يصل اليها:
-عندك حاجة جديدة غيرها!
اكتفت بالنظر اليه بكره فأكمل وهو ينظر لها باستخفاف:
-قبل ما يتفق معاكي على الخطوبة دي، كان حكيلي وأنا اللي وافقت..اخواتي مبيعملوش حاجة الا بأذني أصل ابويا نجح في تربيتهم، مش زيك فشلتي في كل حاجة، جاية تشتمي فينا واحنا كنا بنتسلى بيكي وبعدين احنا وافقنا عشان ننقذ بنتك اللي انتي مكنش همك وقتها غير ازاي تدخلي زيدان في عشك..بس دا كان في احلامك.
لم يترك لها فرصة الرد بل حول بصره لخالد وهو يقول بابتسامة بسيطة:
-خد عروستك وامشي يا خالد متضيعوش وقت مالوش لزمة، احنا كنا بنحسب انها هتفرح لبنتها انها اتجوزت راجل يعرف يصونها ويحافظ عليها بس للأسف اللي في داء مبيتغيرش.
أومأ خالد برأسه متفهمًا كلمات سليم المبطنة والتقط يد نهى التي سارت خلفه تخفض بصرها ارضًا بوجع فاق طاقتها..وقبل أن تغادر رفعت بصرها تقابل والدتها فرأت القسوة والشر يكمن بعينيها..ارتسم فوق ملامحها متاهات من الألم وهزت رأسها بيأس وهي تغادر المكان ومن خلفها غادرت عائلة سليم واحدًا تلو الأخر ولم يتبقى سواها مع من تمنت قتله حالاً لِمَ يفعله بها.
ازدادت نظراته قوة لم تزده سوى هيبة ووقار، وتابع بتسلية مواصلاً نحره لها:
-كانت مفاجئة مش كدا.
-محركتش فيا شعرة…كل اللي عملته على الفاضي.
تماسكت بقوة لم تعهدها من قبل وهي ترد عليه، فضحك بتهكم:
-فعلاً ما هو واضح..بس لو مأثرتش فيكي، لسه عندي اللي يأثر.
صمتت ولم تعقب وقد اسودت عيناه وطغى عليها جحيم مظلم وهو يقول بكره سيطر على صوته:
-محلاتك الخمسة أنا اللي اشتريتهم واحد وراه التاني واخرهم المحل اللي كنتي بتموتي وانتي بتعبيه برخص التراب..أنا السبب في كل حاجة حصلتلك وبتحصلك وهتحصلك، قولتلك زمان اسم سليم الشعراوي هتفضلي فاكراه طول عمرك، عدت السنين وفاكرني العيل الصغير اللي كسرتي بخاطره وكنتي شمتانة فيه، بس قدرت انفذ كلامي وفعلاً اسمي هيفضل معلم فيكي العمر كله.
صمت للحظة ثم قال ساخرًا:
-دا ان كان فيه عمر اصلاً.
انقبض جدران المكان عليها وبدأت أنفاسها تنحسر داخل صدرها المشروخ والذي شعرت به ينزف بعد أن ضربت فيه سكاكين مدببة تترك اثار وحشية بها، لم تقوَ على تحمل تلك الصدمات..لم تتحمل الانهيار أمام عينيه، قبضت فوق عصاها بقوة تلقي بانهيارها عليها، اخيرًا سمح لها بالتنفس وانصرف من امامها مغادرًا…فـ بقيت وحدها تصارع كرامتها التي دهسها سليم وحسرتها على امانيها التي تبخرت، تعودت أن تكون الرابحة الوحيدة حتى لو بطرق غير شرعية، ولكنها ذبلت في القاع مع الخاسرين..ومصيرها المهلك التف حولها كالحبل المتين يخنقها بضراوة مهما حاولت اظهار قوتها..خارت بضعف امام سيارتها بعدما تركت المكان بصعوبة ضغطت بها على نفسها..تمسكت بمقبض الباب وضاقت انفاسها فجأة فسقطت أرضًا مغشية عليها مع محاولات السائق بإفاقتها.
***
في اليوم التالي..
تململت نهى في الفراش بعد ليلة أمس التي قضت معظمها في البكاء حتى غرقت في ثبات عميق رغم محاولات خالد في تهدئتها… لقد انتهت ليلة زفافها بنظرة قاسية متوحشة احرقت خيط الوصال بينها وبين والدتها بل عائلتها بالكامل..اعتدلت بجلستها وحاولت التركيز بما يدور حولها، لم تتذكر أبدًا متى عادا لمرسى مطروح وكيف غفت بهذا الشكل..وهنا انتقلت من الفراش صوب المرآة تمرر بصرها عليها، رباه! كم كانت بشعة…
شهقت بنعومة حينما وجدت نفسها بالفستان الذي مال لونه للاصفرار قليلاً أم أنها تتهيأ ذلك لا تعرف تنهدت بنعومة ثم رفعت بصرها قليلاً لتصطدم بوجهها الباهت وشعرها الاشعث اقتربت خطوة أخرى لترى عينيها الملطخة بسواد فاحم ودموعها المنسابة بالأمس تركت أثر فظ فوق ملامحها، فهمست بحرج:
-هو شافني كدا.
ابتلعت لعابها من هيئتها المزرية، دومًا ما تفسد لحظاتها الجميلة عن طريق عائلتها، لِمَ بكت من الأساس بعدما رمتها والدتها بنظرات الكره والاشمئزاز لمجرد انها رفضت زيجة كانت ستحكم عليها بالموت…أي هاوية يريدون زجها دون مراعاتها، لقد خُيل لها أن قلبها المتحجر سيرق لابنتها عندما تراها بفستان ابيض تحلق به في سماء الزوجية ولكن والدتها كانت تريد افساد ليلتها بأي شكل كان..وللمرة التي لا تعرف عددها لم تفكر بمشاعرها، هنا توقفت للحظات وهي تنظر لنفسها وقررت أن تأخذ منحنى جديد، تسلك طريق يعج بمستقبل مشرق، لقد نجحت في الاختيار وستمضي به دون النظر للوراء.
زفرت أنفاسها المضطربة للهواء ثم قررت أن تستعيد جزء من حيويتها..دلفت للمرحاض تمحي اثار الأمس بحمام منعش، ثم ارتدت فستان صيفي قصير وتركت لشعرها البني القصير ينساب بنعومة فوق كتفيها، امسكت زجاجة عطرها ونثرت منه القليل…ثم الكثير ومن بعدها قررت خوض تجربة الخروج هكذا، فبدت كالطفلة حينما تشجع نفسها على التحرك.
خرجت بالفعل فعم الهدوء المكان..عدا اصوات دندنة بسيطة كانت تظهر للعلن فجأة ثم تختفي، تقدمت بخطواتها البسيطة نحوه ثم همست بصوت عذب يقطر منه الخجل:
-خالد.
التفت خالد بعدما كان يصنع له القهوة..ووقع بصره على حورية جميلة تنظر له بهيام ممزوج بالخجل، أدرك فستانها، خصلات شعرها، كل شيء حتى لمعة الحب الطاغية على عينيها أصابت قلبه بهزة قوية..هزة جعلته يطيح من مكانه ويطير لأعلى كالعصفور حينما يحلق في سماء الربيع الصافية.
ترك القهوة التي اوشكت على النضوج..وبكل رعونة وكأنه مراهق تحرك خلف أحاسيسه التي تتخبط بجنون بين ضلوع صدره، شيء واحد يريده وسيفعله دون ان يتفوه بكلمة واحدة وخاصةً حينما لاحظ شفتيها المرتجفة قليلاً فأثارت في نفسه الجنون..اطاح بعقله وقرر تدليل قلبه بعد سنوات طويلة من الحرمان..قبلة واحدة وسينتهي الأمر، ولكنه لم ينتهي….لم ينتهي ابدًا رغم انحسار انفاسهما، وتوهج وجهها..رغم دقات قلبيهما التي كانت تتناغم وتمزج خشونته بأنوثتها المفرطة، لم يستفيقا مما كان فيه الا عندما فارت القهوة واصدرت صوت بسيط جذبهما من هالة العشق المحاطة بهما.
ابتعد بصعوبة عنها وابعد بصره عن شفتيها المتورمة وشعرها المبعثر اثر أصابعه التي كانت تتغلغل في نعومته بحرية تتوق لها..حاولت التحرك خلفه لتساعده في لملمة تلك الفوضى ولكنها فشلت، لقد سرق طاقتها في قبلات فجائية جعلتها كالصنم تقف بلا حراك..اجفلت على يده التي عادت تقبض فوق كفها تحركها نحو الغرفة، تشبثت بالأرض تقول برجاء كالأطفال:
-انا جعانة.
لم يعير لها الانتباه وأردف وهو يجذبها خلفه نحو الغرفة:
-جايب سندوتشات جوا حلوة.
-طيب عايزة اتفرج على التلفزيون.
قالتها في رجاء أكبر تخشى ما سيحدث في تلك الغرفة وحدهما وخاصةً بعد قبلاته تلك، فوجدته يقول:
-هنمثل انا وانتي جوا.
تمسكت بالباب قبل أن تدخل وعينيها تحمل رجاء أكبر، ولكنه اضمحل فور قوله المشاكس:
-تيجي نلعب؟
ابتلعت لعابها وهمست بتساؤل حذر:
-نلعب ايه؟
ابتسم بشقاوة وحماس:
– اول حاجة غمضي عينك.
اغلقت عينيها بتردد كبير تنتظر الخطوة الثانية وما كان منه سوى انه حملها بسرعة وادخلها على حين غرة، صرخت بنعومة فوجدت نفسها بمستوى أعلى منه..حاولت الابتعاد عنه، فأنزلها ولكنه احتفظ بالتصاقه بها، وضعت يدها فوق صدره تلقي لومها:
-ينفع تضحك عليا.
-نهى انتى مصر كلها ممكن تضحك عليكي.
قالها بسخريته المعتادة فتجهمت بغيظ:
-بمزاجي على فكرة.
ضحك بشدة فغرقت بملامحه الوسيمة بهيام وحب، وتحديدًا حينما نظر اليها يقول بصوت غلب عليه العاطفة:
-طب ما تسيبني اضحك عليكي يا نونتي.
ثم اكمل بغمزة طفيفة من عينيه:
-واهو كله بمزاجك.
-أأأ…أصل نفسيتي مش جاهزة.
تلعثمت بخجل وهي تخبره بأي سبب واهي تهرب من حصاره، فطبع قبلة فوق وجنتها اليمنى هامسًا:
-وهتبقى جاهزة امتى؟
لم تجيب بل ذابت كقطعة ثلج تعرضت للحرارة فجأة، فاستمر هو باللعب فوق أوتار تماسكها بمهارة حينما طبع قبلة فوق وجنتها الأخرى، وواصل بنفس حرارة همسه:
-يا ترى لما…
رفعت عينيها بشغف تنتظر أن يُكمل ودقات قلبها تتسابق بجنون، شعرت بثقل انفاسه وهو يكمل همسه الشغوف ويده تحفر لمساته فوق منحنيات جسدها:
-لما اقولك بحبك.
تنهيدة حارة خرجت منها وزاغت نظراتها بعاطفة متأججة حينما سقط بشفتيه ليحتل شفتيها في ملمحه من العشق والوصال لا تنتهي، اعلنت استسلامها وسقطت اسبابها الواهية بعدما تحررت من قيود الخجل وسافرت معه نحو عالم وردي تخوض فيه اجمل حكايات الحب والغرام.
***
بعد مرور يومين…
بالمشفى تحرك السائق بحيرة لا يعلم أي قوة سيخبر بها ميرفت بما حدث لشقتها وتحديدًا بعدما ساءت حالتها الصحية وأثرت الجلطة عليها بشكل كبير وخاصةً على نطقها الذي اصبح ثقيل للغاية، وقف أمام الباب لا حول له ولا قوة بعدما تلقى اتصالاً من محاميها على هاتفها فأخبره المحامي بتفاصيل صعقته..وترك له مهمة اخبارها، اليوم كان موعد مغادرتها للمشفى لا يعلم كيف سيخبرها..
خرجت الممرضة تخبره بالدخول، فدخل متوترًا يخشى رؤيتها بضعفها ذلك ولكنها صدمته بجبروتها ونظراتها الحادة القاسية، قالت بخفوت ثقيل:
-روح على البيت في كام الف في دولابي هاتهم، وبعدها شوف حد يبيع العربية وهاتلي واحدة تخدمني وعرف ابراهيم وسمير باللي حصل.
تقدم منه متوترًا وهو يقول:
-أنا الفلوس معايا فعلاً يا هانم والمحامي دفع جزء منهم للمستشفى.
رمته بنظرة حادة رغم تعبها:
-المحامي الصبح كلمني وادهملي عشان…
ابتلع لعابه قبل أن يخفض بصره وهو يقول:
-للأسف يا هانم..ابراهيم بيه لغى التوكيل اللي عملهولك وعمل توكيل لواحد صاحبه باعله الشقة والعربية اللي قالي كدا المحامي بتاع حضرتك.
تسارعت أنفاسها غير مصدقة ما فعله زوجها بها فقالت بنبرة مختنقة ثقيلة:
-اتصل عليه.
اخرج السائق الهاتف من جيبه وأجرى اتصالاً بإبراهيم الذي رد ببرود:
-ايوا يا ميرفت.
وضع السائق الهاتف على مكبر الصوت، فقالت بنبرة قاسية معنفة:
-ايه اللي انت عملته دا يا ابراهيم، تبيع الشقة والعربية من ورايا.
-عملت ايه! هو انا بعمل ما انتي ما شاء الله عماله تبيعي ولا بتشوريني ولا كأني موجود.
انفجر بها ساخرًا، ثم تابع بقسوة مماثلة:
-اعرف من الغريب انك بتبيعي المحلات ومفكرتيش تبعتي اي فلوس ليا أنا وابنك، بتسكتيني انك بتدوري على بنتك وفي الاخر ضحكت عليكي واتجوزت خالد.
ردت بعنف مكبوت تمحي به اثار تلك الليلة من ذهنها:
-انا بعتهم برخص التراب عشان اسدد الديون اللي هتسجني.
صرخ بها هائجًا:
-وأنا فين وابنك مفكرتيش فينا، أنا معملتش غير الصح الشقة والعربية ملكي وبعتهم عشان محتاج فلوس هدخل بيها في مشروع انا وابنك مع الشيخ قاسم، ولما ان شاء يدخلنا دخل هبقى ابعتلك اللي يكفيكي…سلام.
اغلق الاتصال وتركها تحصد ما زرعته، بقيت وحيدة مريضة منكسرة بلا مال بلا مأوى…بعد ان عاشت في اوج مجدها، بعد ان لمست عنان السماء بيدها وظنت انها امتلكت كل شيء، فجأة هوت داخل بئر أسود ابتلعها بظلمته القاسية.
انتبهت لصوت السائق المتسائل باهتمام وشفقة:
-هتعملي ايه يا هانم؟
-سيبني.
همست بها قبل أن تعود برأسها للخلف تفكر في مستقبلها المجهول بعد أن تركها الجميع…
***
عادت نهى للقاهرة بعد زواجها بأربعة أيام..بعد أن تلقى خالد اتصالاً من سليم يخبره بما حدث لميرفت واستقرارها الآن في دار لرعاية كبار السن وكان ذلك قرارها مؤكدًا على حديثه بكلمات السائق الذي اخبره بها وان السائق حاول مساعدتها الا انها رفضت وأصرت على قرارها، لم يملك خالد سوى اخبار نهى، فانهارت باكية وترجته ان تعود للقاهرة وتقوم برعاية والدتها بنفسها حيث طلبت منه عودتها معهما لمرسى مطروح فبالنهاية هي والدتها ولن تتركها تصارع الموت في دور الرعاية، ورغم انه اعترض في بادئ الأمر الا انه وافق بسبب توسلاتها الباكية ووافق بشرط الا تجلس معه في نفس الشقة، فسارعت نهى بعرض فكرتها أن تجلس بالطابق العلوي وحدها.
وها هو يقف ينتظر في صالة استقبال كبيرة في دار الرعاية ينتظر خروج نهى من الغرفة التي تقطن بها ميرفت، محاولاً أن يكون ظريف هادئ مراعيًا لحالتها الصحية…الا ان خروج نهى جعله عكس ذلك فانتفض ناحيتها بقلق:
-مالك يا نهى؟
وضعت رأسها فوق صدره وبكت بانهيار:
-رفضت وقاتلي ابعدي عني، حاولت اقنعها انك انت اللي عرضت الفكرة دي قالتلي عايز يشمت فيا..كنت فاكرة انها اتغيرت بس لسه زي ما هي.
همس بخشونة متسائلاً:
-طيب وهتعملي ايه؟
رفعت عينيها الضائعة تسأله في صمت وكأنها لا تقوى على أخذ قرار..وكأن الحياة توقفت بها فجأة ما بين والدتها العنيدة والتي لم يهزمها مرض أو يغيرها للأفضل وزوجها المتسائل عن مصيرهما! فسألها مرة ثانية بجدية:
-طب تحبي ادخل احاول معها؟
حركت رأسها في رفض، تخشى أن تسيء له والدتها، أو تتدهور حالتها بسبب رؤيته، فبقيت مشتتة هكذا بصمتها الذي طال حتى قطعه هو قائلاً:
-خلاص يا نهى، دا قرارها وهي ادرى حد بنفسها، أنا اللي عليا وافقت انك تجيبها معانا رغم كرهها ليا، واللي عليكي بردو عملتيه واتحايلتي عليها، الموضوع في ايدها.
همست بألم:
-يعني ايه؟
-يعني دا قرارها سيبها وأنا هجيبك كل اسبوع تشوفيها وتطمني عليها، ومصاريفها هتكفل بيها ودا كله عشان خاطرك انتي، امك زمان عملت فيا كل حاجة وحشة وكسرتني بدل المرة ألف، بس مفيش في ايدي غير ان اريحك.
تخبطت بين جدران عقلها تفكر في مصير والدتها التي كانت تهيج غضبًا وحقد فور رؤيتها حتى عندما عرضت عليها أن تعتني بها وتأخذها معها رفضت بشراسة فلم تصمت عند هذا الحد بل أضافت بتهديد دوى كصوت اطلاق الرصاص في رأسها:
“عايزني ارضى عنك، اطلقي منه، وتعالي اجوزك الشيخ قاسم تعوضيني عن كل حاجة، وقتها بس ارضى عنك، لكن طول ما انتي متجوزة الصايع دا أنا لا راضية عنك ولا نيلة”
اجفلت من شرودها على همسه الحاني الرقيق وكأنه نسمة من نسمات الربيع بعد خريف قاس:
-ايه يا حبيبتي، قررتي ايه؟
غمغمت بحزن لوالدتها التي لن تتغير أبدًا:
-موافقة على كلامك.
قبل رأسها بحنو وتحركت معه تاركة والدتها تستشيط غضبًا وكرهًا بعد أن طلبت من احدى العاملات التصنت عليهما، وحينما علمت بقرارها، بدأت في اطلاق شتائم قذرة لابنتها رغم ثقل لسانها، حتى نظراتها لم تتغير بل زادت بشاعة وحقد وكأن قلبها انتزعت منه الرحمة والطيبة وغرق في ظلمة متوحشة لأبد.
نظرت لنفسها وحالتها المريضة لتلك الغرفة الصغيرة التي احتوت على دولاب صغير وفراش يحتوي جسدها المريض وبعض الاثاث المتناثر هنا وهناك، لم تتخيل في أسوأ كوابيسها أن تنتهي حياتها عند هذا الحد المرير، اكتوت بنار الخذلان من قبل زوجها وولدها…وتركتها ابنتها لتنعم بحياة بعيدة عنها، اما هي ستنهش الوحدة بقايا روحها حتى تهلك بين جدران تلك الغرفة.
***
في ليلة مسائية أسدل بها الليل على السماء لتختفي الضوضاء ويعم الهدوء قليلاً وخاصة على منزل الشعراوي..صعدت مليكة الدرج المؤدي لشقتها بالطابق الثالث، بعد أن أرسل ليها زيدان رسالة نصية يخبرها فيها بعودته لعمله، طالبًا رؤيتها قبل سفره، فرق قلبها وضربت بتنبيهات سليم عرض الحائط وذلك باتفاق مسبق مع شمس التي قررت الهائه وطلبت منه مساعدته في استحمام الصغيرة قمر وقد وافق على فور والسعادة تغزو وجهه هو وأنس.
وصلت مليكة لشقتها التي تناثر بها ادوات الدهان، دخلت بخطوات هادئة تبحث عن زيدان بصوت خافت:
-زيدان.
ظهر صوت يزن عاليًا يجذب انتباهها فجعل الصدمة تسري في أوردتها:
-تعالي يا مليكة احنا هنا.
تسمرت مكانها وهي تنظر لهما، فرأت الغضب يحفر خطوطه فوق وجه زيدان، ويزن ينظر لهما بتسلية:
-أنا كنت طالع عند سليم، فشوفت زيدان طالع على شقته قولت يمكن محتاج مساعدة كدا…
صمت يحرك رأسه بمكر ثم تابع بضحك:
-ولا مساعدة كدا.
-مستغني عن خدماتك.
قالها زيدان بغيظ شديد، فاستنكر يزن قوله وهتف:
-زي القطط بتاكل وتنكر، ناسي مساعدتي ليك.
-ياعم اقسم بالله طفحتها زل بسببك، أنا ابقى راجل اهبل ان جتلك تاني وطلبت رأيك في حاجة.
كان صوته يحمل عنف مكبوت، حاولت مليكة الانسحاب بقولها المرتبك:
-طيب، أنا نازلة تحت..
اوقفها يزن بقوله المشاكس:
-خليكي، زيدان قالي محتاجك عشان تنقوا لون دهان الليفنج بس بسرعة بقى…اصل سليم مبيفهمش في الحاجات دي، ونيتكم سليمة.
التقط زيدان فرشاه صغيرة وضربها فيه مردفًا بتوبيخ:
-امشي من هنا يا متطفل.
ارتفعت ضحكات يزن وهو يغادر الشقة، فسارعت مليكة بقولها المعاتب:
-لما كان هنا، مبعتليش رسالة ليه مطلعش عاجبك كدا احراجي.
-تتحرجي شوية ولما أموت أنا من الغيظ.
قالها بحنق شديد وهو يقترب منها، فعبست بوجهها تسأله:
-تموت من الغيظ ليه؟
امسك وجهها بين كفيه وتحولت نبرته كليًا من الشراسة الحانقة لهمسات عذبة:
-مش هشوفك قبل ما اسافر، هتوحشيني.
أشرقت ابتسامتها ولمعت عينيها بوميض الحب والغرام، فقال هو بمزاح:
-ان شاء الله ربنا يكتبلنا نجتمع مع بعض في شقة واحدة وتلمنا احسن من الفضايح دي.
ضحكت بخجل، فتابع هو بوعيد لاذع:
-واقسم بالله وقتها اللي اشوفه منهم على باب شقتي هقت.له.
همست بخجل ناعم:
-هترجع امتى؟
-معرفش.
ترقرقت الدموع بعينيها وقبل أن تتحدث سارع هو بلثم دمعة ساخنة انسابت فوق وجنتها قائلاً بصوت غلب عليه عاطفته واشتياقه لها:
-هتوحشيني، خلي بالك من نفسك.
اقدمت على عناقه بخجل فطري ثم شددت عليه تستمد من دفئه قدر ما يمكنها تحمل غيابه، ثم همست بوله:
-وانت كمان هتوحشني.
هاجمت همساتها حواسه وأضرمت بقلبه نيران الشوق لها، متمنيًا أن يركض بهما الزمن ويعود مجددًا لأحضانها الدافئة، لهمساتها الشغوفة، لنظراتها الحالمة، لكل شيء يحفظه بها عن ظهر قلب، وخاصةً دقات قلبها التي تتناغم مع نبضاته وتألف روحهما بالهوى.
***
بعد مرور أسبوع..وفي ليلة اقتحم الليل بظلمته على سماء الدنيا، هبطت مليكة من السيارة المخصصة لها بعدما ذهبت للقاء زوج والدتها وزوجته التي بدأت تتقبلها، زفرت بتعب فاليوم كان مرهق بداية دوامها بالمشفى حتى زيارتها لزوج والدتها…وها هي تعود لموطنها ومأوها الذي سعدت به كثيرًا وخاصةً بعد أن تلقت الألفة على يد عائلة زيدان..
وقبل أن تدخل للبوابة الرئيسة وبعد مغادرة السيارة استمعت لصوت اقدام خلفها، استدارت سريعًا فهاجم الذعر قلبها حينما رأت ماجد يقف أمامها وعلى وجهه ابتسامة نصر، هوى قلبها من مكانه واضمحلت آمالها في نسيانه وعادت تتذكر أسوأ أيامها..عادت لنفس العتمة مجددًا، لذات الوحل التي جاهدت الخروج منه بأقل الخسائر.
-ليكي وحشة والله، فاكراني مش هوصلك.
اخترق صوته مسمات جسدها، فـ اقشعرت باشمئزاز وكره انبثق من عينيها، فاستكمل هو معاتبًا بسخرية:
-كدا تتجوزي من غير ماجد حبيبك ياخد مراده.
-اخرس.
هتفت بها في شراسة وغل نابع من اعماقها وتحديدًا حينما واصلت:
-بلا حبيب بلا زفت، أنا مكرهتش في حياتي قدك، أنت واحد قذر وحيوان.
علت نبرتها قليلاً فابتسم باستهزاء:
-هششش، طب وطي صوتك مش خايفة جوزك يسمع.
ورغم أن الخوف كان ينخر في قلبها الا انها قالت عكس ذلك:
-لا مش خايفة، عشان أنا معملتش حاجة غلط وانت بتتبلى عليا.
ضحك بحقد ثم قال بوقاحة:
-حلو فعلاً أنا مفبرك الصور وكمان المحادثات بس يا ترى في حد هيصدقك.
وقبل أن تجيب أجاب بالنيابة عنها:
-لا…ولو قولنا ان في حد هيصدقك السمعة يا مليكة! ليه مش واعية لنفسك، هتتبسطى يعني لما جوزك يطلقك وتترمي في الشارع زي الكلاب، لما ممكن تسمعي كلامي وتجيلي الشقة..
نهرته بغضب:
-اخرس انا لا يمكن اعمل كدا، أنا اشرف منك ومن افعالك.
ضحك برعونة ثم أردف بتهديد:
-قدامك فرصة تفكري فيها يومين يا أما هبعت لجوزك الصورة دي..
ثم رفع الهاتف يريها الصورة ومرر بطرف اصبعه فوق الشاشة متابعًا بضحك:
-ولا دي! ولا دي احسن، بذمتك مش هيصدق لما يشوف وشك وشعرك..لعيب أنا صح.
امسكته من تلابيب قميصه بشراسة وقسوة نبعت من عينيها رغم براءة ملامحها، قائلة بحرقة:
-جبت صوري بشعري منين يا حيوان.
ابعدها عنه وهو يعدل من ثيابه، ثم قال بتهكم:
-من فرح صاحبتك، مفاجئة مش صح.
انتفض جسدها كمن التف حوله ثعبان فجأة يمنع حركته، هزت رأسها بمرارة والدموع تهاجم مقلتيها في ثوان:
-لا..استحالة.
-دي الحقيقة، هسيبك في صدمتك، ويا ريت تفكري أنا مش عايز غير مصلحتك، أصل أنا اقسم بالله ما هسيبك لو اخر نفس في عمري.
اختلطت نبرته بالوعيد الوقح، ورأت في عينيه هوسه بها، هوس امتلاكها، تنفيذ ما تؤل اليه نفسه، فسرت رجفة قوية في جسدها المتصلب وهي ترى مغادرته بسيارته، انهارت باكية ووقعت حقيبتها على الارض، فاقدة طاقتها وقدرتها على التحمل، شهقات خافتة واحيانًا مرتفعة كان سببها الذل الذي تعرضت له.
حاولت تهدئة نفسها قبل أن يلاحظ أحد، قبل أن تتأخذ قرار في مصيبتها، التقطت حقيبتها واستدارت صوب البوابة ولكنها صدمت بصاعقة حينما رأت سليم يقف أمامها يضع يده في جيب سرواله وملامح وجهه مبهمة بشكل اخافها.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى