روايات

رواية غناء الروح الفصل السادس 6 بقلم زيزي محمد

رواية غناء الروح الفصل السادس 6 بقلم زيزي محمد

رواية غناء الروح البارت السادس

رواية غناء الروح الجزء السادس

رواية غناء الروح
رواية غناء الروح

رواية غناء الروح الحلقة السادسة

تركت سيرا عائلتها واجتماعهم الليلي وتوجهت نحو غرفتها، تجري اتصالاً به تطمئن من خلاله عن أي أخبار تخص قلادتها الذهبية، وكالعادة اختارت الصمت وعدم إخبار عائلتها كي لا تتلقى توبيخ حاد من قبل “أبلة حكمت”، استمعت لرنين الهاتف بملل وحين أنهى الاتصال فجأة، عبست بقسمات وجهها، ولسانها يردد وفق لعقلها:
-يا سلام يا تقيل هو أنا بتصل بعاكسك، والله لتصل تاني.
أجرت اتصالاً آخر ولم تتوقع سرعة رده، فأصابها التوتر قليلاً عندما استمعت لنبرته الرجولية المميزة بخشونة تليق به وحده:
-الو.
تلقائيًا تسربت النعومة المُفرطة لصوتها فقالت بتساؤل ناعم للغاية:
-أستاذ يزن؟
ترعرعت بنبرته الخشنة برعم من السخرية حين قال:
-فعلاً بتتصلي في أوقات مناسبة جدًا!
ضيقت عينيها بغيظ أنثوي شرس ثم أبعدت الهاتف توجه له بعض السُباب الخافت والذي لم يصله، ثم عادت تجبر نفسها على تجاهل سخريته المبطنة وسألته بجدية:
-حد جالك ولقيت السلسلة ولا لا؟!
-هو احنا لحقنا يا سيرا، دي ضايعة الصبح!
اجابها بنبرة عابثة لم يعرف أنها سوف تلهب حنقها، فقالت بتهكم صريح:
-انت شكلك طلعت أي كلام، وبتحور عليا وفاكرني هبلة لما تضحك عليا.
-يا نها اسود، ده مين ده اللي ضحك عليكي يا سيرا.
لوهلة لم تفهم ما يحدث وسر مهاجمة “أبلة حكمت”، فانتفضت بفزع، وفي خضم انتفاضها أوقعت الهاتف من يدها، حين وجدت “أبلة حكمت” تقف خلفها مصدومة مما سمعته!
حاولت تحجيم نظرات غضب “أبلة حكمت” وتوضيح سوء الفهم الذي وصل إليها، ولكنها لم تجد الفرصة، حيث انقضت أبلة حكمت عليها، تقبض فوق ذراعها بقسوة والتهديد يشتعل بنبرة صوتها:
-قوليلي مين ضحك عليكي يا سيرا، صارحيني أحسنلك؟
ترنح صوتها من فوق جبل الثبات، وهوت في هاوية الخوف مما نسجه عقل اختها:
-يا أبلة حكمت، افهميني بس، اديني فرصة أشرحلك؟
-تشرحيلي أيه بعد ما الفاس وقعت في الراس!
تضاعف صدمتها من كلمات أختها، وبالرغم من حدة الموقف إلا أنها سخرت قائلة:
-مالحقتش تقع يا أبلة حكمت صدقيني، انتي دايمًا تحكمي كده عليا بالباطل!
-باطل؟!
سألتها باستهجان، ثم استطردت بقولها الهجومي:
-ده أنا سامعكي بودني الاتنين دول، وشايفكي وانتي بتكلميه بعنيا اللي هياكلهم الدود دول.
-هما هياكلهم الدود فعلاً، طالما مش مدياني فرصة افهمك.
فُتحت سجون الغضب بصوتها لتلهم “أبلة حكمت” بهجوم غير متوقع، فصاحت الأخرى بانفعال:
-أنتي بنت قليلة الأدب.
وضعت سيرا يدها فوق وجهها بإحراج شديد، حين لاحظت بدأ دخول أفراد عائلتها بأكملهم لداخل الغرفة بقلق عارم، ونظراتهم تنتقل بينها وبين أبلة حكمت المستشيطة بغضب، وأول من قطع لحظة الصمت هو والدهما بسؤاله الهادئ والذي كان غير مناسبًا للأجواء المشحونة بالغرفة:
-في أيه يا بنات؟
تصاعدت ضحكات “أبلة حكمت” علنًا وهي تشير باحتقار نحو سيرا الواقفة تغلي في مرجل متقد من تصرفات اختها الحمقاء:
-تعال يا بابا شوف مين ضحك على سيرا والهانم بتحاول تهرب مني.
-كفاية بقى يا أبلة حكمت حرام عليكي.
صرخت “سيرا” بغضب عارم، بعدما زجتها أختها في قبو مظلم بتصرفاتها الهجومية، فلم تعد قادرة على مواجهتها وتبرير موقفها.
رفعت أبلة حكمت أحد حاجبيها بتبرم، بينما راحت شاهندا تخطو نحو سيرا تحتويها بين جناحي حنانها، وتحاول تهدئتها:
-اهدي يا حبيبتي وفهمينا أيه اللي حصل؟
انهارت سيرا ببكاء حار وهي تتلفظ بصوت مبحوح اثر انفعالها، فالتف الجميع حولها يحاولون تهدئتها بما فيهم والديها:
-أنا سلسلتي ضاعت يا بابا النهاردة، وماعرفش وقعت مني فين، في واحد صاحب معرض عربيات عرض عليا أنه هينشر خبر أنها تخصه بما انه مسيطر في المكان ده، فأنا اخدت رقمه وكلمته اسأله لقاها ولا لا، ولو حضرتك مش مصدقني، تقدروا تيجوا معايا وتسألوه، وأبلة حكمت دخلت فجأة وسمعتني بكلمه وبسأله عليها، وبقوله انت شكلك مش مسيطر وبتضحك عليا.
انطلق “صافي” زوج أبلة حكمت بقوله الذي فاجئ به الجميع:
-يعني يا سيرا، الراجل بيعرض خدماته تقومي تكلميه بالشكل ده!
تدخل زوج كريمة اختها الأخرى يعارضه بقوله المعاتب:
-هو ده وقته يا حاج صافي انتقاداتك، وفرها لوقت تاني.
رمقه ” صافي ” بغيظ وهو يضرب كف بآخر:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هو حرام الواحد يقول رأيه، يلا بينا يا حكمت ننزل شقتنا.
سارعت “أبلة حكمت” بلم غضبها ودفنه بين طيات الاحراج:
-يلا يا اخويا، زمانك واقع من الجوع.
وقامت بإلقاء غمزة لأولادها، فتفهموا على الفور، وانطلقوا خلف والدتهما، أما سيرا كانت تحاول الافاقة من صدمتها أثناء سقوط دموعها الكثيرة فوق صفحات وجهها، فهمست:
-هي ازاي تمشي كده؟!
تدخلت والدتها تحتضنها وكالعادة تجبر بخاطرها:
-يا حبيبتي يعني أنتي مش عارفة اختك لما بتغلط بتعمل أيه، بتهرب كعادتها.
-بس هي اتهمتني زور يا ماما!
وجهت عتاب نجح في محاربة قبضان الحزن بصوتها، فربتت والدتها فوق كتفيها برفق:
-يا حبيبتي ما تقصدش، وحقك عليا، أنا بكرة هعاتبها واعرفها اللي عملته في حقك غلط.
تابعت “كريمة” هي الأخرى بصوتها الحاني:
-يا سيرا كلنا عارفين أبلة حكمت على أيه، معلش هي بقالها يومين ماعملتش الأكشن بتاعها.
ضحك زوج “شاهندا” رغم عنه وهو يقول:
-أنا كنت مستغرب هدوئها أصلاً اليومين دول.
لم يهدأ غضب سيرا أبدًا فقالت بصوت مشحون:
-بس مش على حسابي.
أكدت فريال عقب حديث سيرا بقول حازم:
-الصراحة أيوه يا بابا، أبلة حكمت تصرفها غلط في حق سيرا، احنا عارفين اختنا محترمة ومؤدبة ولا يمكن تتصرف التصرفات دي أبدًا.
انطلق لجام الحزم بصوت والدها ينهي الأمر:
-خلاص، امكم هتكلمها بكرة، لو سمحتوا اخرجوا انتوا كملوا سهرتكم وسيبوني مع سيرا شوية.
على الفور بدأ الجميع في الخروج من الغرفة، وترك المساحة الكاملة لهما، ليبدأ “حسني” والدها بقوله المعاتب:
-ينفع اللي حصل ده؟!
رفعت عينيها الباكية ترمقه بعدم تصديق:
-بابا أنت مصدق أبلة حكمت بجد؟!
-لا طبعًا.
قولاً واحد نفى ما تسرب لعقلها، ثم عاد وأردف بنبرة ممزوجة بطيف من اللوم:
-ينفع سلسلتك تضيع وماتعرفنيش، من امتى بتخبي حاجة؟
ردت بصدق:
-ماحبتش اشغلك، كفاية الضغط اللي أنت فيه.
انفجر التهكم الممزوج بالحزن فوق صفحة وجه والدها وخاصةً وهو يقول:
-ضغط أيه؟! على أساس هما عيالي وانتي لأ، أنا مش متعود منك على كده، أنا متعود دايمًا إن سيرا صريحة وماتخبيش، واهو موقف زي ده لو كنتي حكيتلي عنه كنت وقفت حكمت من أول ما دخلت عند حدها، لكن اللي حصل عكس كده فاضطريت استتى زيي زي أي حد واعرف في أيه اللي بيحصل!
شعرت بالخجل الشديد لِمَ يقوله والدها، فأبدت موافقتها على حديثه:
-عندك حق يا بابا.
قبل جبينها بحب ولمعت ابتسامته الحنونة لتذيب بقايا غضبها:
-وبالنسبة لسلسلة لقيتها خير وبركة لو كانت ضاعت تبقى راحت لصاحب نصيبها.
اندست الحسرة بين نغمات صوتها الحزين:
-بس أنا كنت بحبها اوي.
حاول والدها بمراضاتها بقوله:
-ياستي ربنا هيكرمني وهجبلك غيرها.
احتضنت والدها بحب واغمضت عينيها تستمتع بحنو في لحظة ربما تتكرر بعد فترة كبيرة، بسبب انشغال والدها الدائم بعقبات أخواتها الفتيات، ومشاكل أزواجهن المتكررة، ومشاغبة اخويها “قاسم وعبود” وفترة مراهقتهما الصعبة، فكانت النتيجة أنها المنسية الضائعة بين هموم الحياة رغم صغر سنها وحاجتها الدائمة لاحتواء والديها.
****
قاد سيارته وعقله منشغلاً بها وسر إغلاقها السريع للاتصال، هل أثار غضبها لدرجة أنها أغلقته عمدًا في وجهه، أم أصابها مكروه! غرق في التفكير المنصب حولها فقط، ونسى تمامًا وجود “سليم” بجانبه حتى أنه لم يلاحظ حديثه حتى شعر بيد سليم القوية تقبض فوق ذراعه يسأله باستنكار:
-سرحان في أيه يا شهريار زمانك؟!
-فيك يا أبيه!
سرعان ما خرج من دائرة شروده وارتدى ثوب العبث المنسوج بخيوط السخرية، وكما توقع اندفع سليم يوبخه باحتقار:
-احترم نفسك، عشان مانزلش من العربية واكسر دماغك.
ضحك بخفة وهو يجبر نفسه على الابتعاد عن دوامة التفكير بها، فقال:
-أنا دماغي متكسرة لوحدها، مش محتاجة تكسير زيادة.
لمعت بسمة ساخرة فوق وجه سليم وهو يردف بخفوت:
-هو في حد يكلم كمية البنات دي كلها، ودماغه تبقى سليمة!
رفع يزن أحد حاجبيه بتحدٍ وهو يقول بنبرة مغمورة في شقاوته:
-حاسس بحقد ولا متهيألي!
انفجرت إمارات الغضب فوق تقاسيم وجه سليم الذي قال:
-متهيألك يا بارد، أنا هحسدك على أيه، اللي أنت فيه ده عقاب.
تابع يزن قيادته لسيارته بتسلية وقد نسى للحظة أمر سيرا بعدما نجح أخيه في جذبه لنقاش ناري حول صداقاته مع الفتيات، فقال بنبرة عابثة يغلب عليها الضيق الزائف:
-نفسي تفهموا إن أنا مابضحكش على أي بنت وبوهمها بحاجة، أنا في فئة كده بحبهم وبحب أبقى for fun معاهم، غير كده متلاقنيش، لكن أي واحدة تدخل على سكة تانية مابكملش معاها.
تعجب سليم من تفكيره فقال بحيرة من أمر أخيه المجنون:
-يا بني ما تتجوز وترتاح من الهم ده كله.
رد باعتقاد مترسخ داخل ذهنه عن الزواج والمسئولية، فسرعان ما أوضح وجهة نظره:
-الهم ده أنا هشوفه لو اتجوزت يا سليم صدقني.
زفر سليم بحنق وهو يردف:
-يعني مضطر استحمل غبائك كتير، المهم كلم اخوك وصالحه.
-أنا مزعلتش حد، هو اللي مقموص.
أوقف سيارته أمام منزلهم، وقبل أن يترك سليم السيارة هو الآخر قال بتحذير طفيف:
-لا انت بس ماحترمتش اخوك وقفلت في وشه باب معرضك، أنا لو منه ماعبركش العمر كله على الحركة دي.
تركه سليم ودخل المنزل بعنجهيته المعهودة، ففتح يزن فمه بصدمة ولسانه يردد:
-يا أخي اعوذ بالله من اللي يفكر يضايقك، الواد زيدان عليا نعمة طلع نسمة وأنا ماعرفش.
-هتقف عندك كتير؟
اغلق يزن سيارته وتحرك نحوه مردفًا بشقاوة:
-لا جاي وراك يا ابيه.
هز سليم رأسه بعدم رضا ونفاذ صبر من أفعال أخيه الأصغر المستفزة، وفي طريقهم لدخول شقة والدتهما، وجدوا زيدان أمامهم، وكما هو متوقع تلقى يزن نظرة غاضبة منه وتجاهل مقصود حين رحب بسليم بحفاوة:
-أزيك يا سليم؟
رد سليم بهدوء:
-الحمد لله يا زيدان.
لم يسكت زيدان عند هذا الحد بل تابع بترحيب آخر:
-أخبارك أيه يا سليم؟!
حمحم سليم بخشونة وهو يجيب:
-قولتلك الحمد لله في أيه؟
حول نظراته المحتقرة نحو يزن الواقف يتابع أفعاله بتسلية:
-أصل أنا بحب اطمن عليك يا سليم يا أخويا يا محترم.
منع سليم نفسه من الضحك، وأكمل بنفس جديته:
-كتر خيرك يا زيدان.
-الواحد والله بيفتخر انك اخوه يا سليم.
رفع سليم حاجبيه معًا، وفشل في منع ابتسامته التي تسللت لفمه وهو يجيب:
-يا سيدي كتر خيرك.
وقبل أن يتحدث زيدان، سابقه يزن وهو يوجه حديثه هو الأخر لسليم الواقف بينهما:
-إلا قولي يا سليم، أنت من امتى بقيت دماغك صغيرة وقماص كده.
وقبل أن يجيب سليم بتوبيخ، بتر زيدان حديثه حين وجه له هو الأخر حديثه المبطن بنيران الغضب:
-أنا مش قماص يا سليم، أنت تعمل عملتك وجاي تقولي دماغك صغيرة.
ضحك يزن بسخرية وهو يوجه حديثه لسليم المنتظر هو الاخر رده وكأنه اعجب بـ لعبتهما:
-الله امال أنا حاسس هيطقلك عرق ليه يا سليم؟
لمعت عيون زيدان بشراسة وهو يقول:
-وأنا هيطق لي عرق ليه من واحد زيك يا سليم مايستاهلش.
توسعت أعين يزن وهو ينظر لسليم غير مصدقًا:
-يا نهار أبيض، زيدان اتعدى حدوده معاك خالص يا أبيه، أنت ماتستاهلش؟! لما أنت ماتستاهلش، امال مين يستاهل؟!
تفوه زيدان بلفظ غير لائق وكاد يشتبك مع يزن المبتسم بعبث:
-يا****** انت عيل…
صاح سليم ينهي لعبتهما السخيفة بحدة:
-بس أنت وهو، انتوا الاتنين ماتستاهلوش أصلا اقف معاكم، واقف مع عيلين في ابتدائي، أنس أعقل منكم.
تركهما ودخل لشقة والدتهما، بينما ظل يزن يستفز في زيدان الثائر بغضب:
-كده ارتحت لما اتهزقنا منه!
ظهرت “مليكة” في الصورة أمامهما وهي ترحب بيزن، سعيدة بإنهاء أمر خلافهم:
-ازيك يا يزن؟
قابلها ببسمة صافية كعادته، وهو يجيب بمكر:
-الحمد لله يا مليكة، ثواني وأغير هدومي واطلع معاكم.
رفع زيدان أحد حاجبيه باحتجاج واضح:
-نعم تطلع فين؟!
أجاب يزن ببساطة أدهشتهما معًا:
-انت مالك، مليكة كلمتني وعزمتني عندكم على العشا.
نظر زيدان لمليكة المتابعة للموقف بدهشة بالغة:
-بجد يا مليكة اللي بيقوله ده؟
تلجلجت مليكة بقولها وقد أدركت خطة يزن في مراضاة زيدان بأسلوبه المبطن بشقاوة معهودة منه دائمًا:
-آآه…طبعًا أنا كلمته وعزمته على العشا، في اعتراض يا زيدان، هو مش بيتي ومن حقي اعزم في أي حد.
رفع يزن أحد حاجبيه بتحدٍ سافر، فقال زيدان بحنق طفيف:
-هو أنا اتنيلت ولا اتكلمت، اطلع يا عم، خسارة فيك طاجن ورق العنب.
توسعت أعين يزن بسعادة بالغة:
-لا بجد، طاجن ورق عنب، لا أنا طالع من دلوقتي، مش ضروري أغير هدومي، أخاف زيدان يلهفه كله في كرشه.
ردد زيدان باستحقار خلفه وهو يصعد الدرج:
-كرشه! نسي يسلم على أمه عشان الأكل، لا أصيل وابن بار فعلاً.
-ماتدخلش في علاقتي مع أمك يا أصفر.
قالها يزن وهو يصعد خلف مليكة المتحمسة لإعادة جو العائلة الفكاهي والعلاقة المرحة بين زيدان ويزن.
****
أشرق الصباح ليزيح غمة الليل القاتمة، فدبت عجلة الحياة كالعادة في منزل السيد “حسني” ولكن سيرا استطاعت ترك المنزل باكرًا قبل استيقاظهم، لم تكن تريد استقبال “أبلة حكمت” هذا الصباح ولا رؤيتها بعدما هدمت جبال صبرها معها بقنبلة الشكوك التي ألقتاها في وجهها بالأمس، ورغم أن الجميع قام بمراضاتها إلا أنها فشلت في قنص لحظات النوم وظلت حزينة بغرفتها، حتى قررت النزول لمنزل فاطمة صديقتها، وقبل أن تصل للبناية التي تسكن بها صديقتها، ظهر أمامها “فايق” جارها بوجهٍ خالي من أي تعابير، تجاهلته في البداية إلا أنه اعترض طريقها وقال بصوتٍ مستنكر:
-أيه يا سيرا مفيش صباح الخير، هو في حد بيخاصم جيرانه ولا أيه؟!
أمسكت عصاة الاستنكار منه وهي ترمقه من أعلاه لأسفله بتعجب بالغ:
-هو أنا من امتى بكلمك يا فايق ولا بصبح عليك؟!
ورغم حدة كلماتها إلا أن تعابير وجهه لم تعكس غضبه، بل كان أكثر راحة واستمتاع وهو يحادثها:
-حتى لو مكنتيش بتقوليها بلسانك، كنتي بتقوليها بعينك كل مرة بشوفك الصبح.
التهبت نيران الاستهجان بحدقتيها وهي تواجهه:
-نعم؟! انت بتقول أيه على الصبح؟!
رسم ابتسامة استفزتها وهو يقترب منها خطوة فتراجعت للخلف خطوة مقابلة له:
-مابقولش بس قريب اوي هتقولي كل حاجة.
دفعته عن طريقها بحقيبتها الكبيرة وهي تمتم بانفعال ضاري:
-أوعى من طريقي عشان مش ناقصك والله!
تنحى جانبًا ووقف يتابعها باستمتاع بالغ وهي تدخل لبناية فاطمة، متذكرًا كلمات أخته عن مدى إعجاب سيرا به بعدما استطاعت بكل خبث سحب الكلام من فاطمة وبطيبتها أخبرتها عن مدى إعجاب سيرا بأخيها، فزاد غروره بنفسه وتوهجت أفكاره بشرارة الإيقاع بها في شباكه أو ربما تصلح حاله ويتقدم لخطبتها، وكعادته اندلع غروره يرسخ بعقله أنه فرصة لن تتكرر لأي فتاة، لحسن سلوكه وأخلاقه في المنطقة، معتقدًا أنه لم يعلم أحد عنه أنه مدمن للخمر، فهو نجح في ارتداء ثوب الاخلاق الحميدة وأقنع به الجميع حتى عائلته.
أما بالأعلى وتحديدًا بغرفة فاطمة، كان النقاش بينهما محتدم للغاية، حين أبدت فاطمة اعتراضها:
-يا بنتي الصراحة أنا مش مصدقة، كلام كمال جوز اختك فريال، معقولة فايق يكون بيشرب خمرة.
-أنا أصدق يا فاطمة، هو كمال هيكدب ليه، يا بنتي بقولك شافه في فندق كان بيشتغل فيه مع صحابه وهو بيشرب وسكران، بجد أنا مش عارفة دماغي فين وأنا بعجب بيه.
ضربت فاطمة كف بآخر وهي تقول:
-لا حول ولا قوة الا بالله، فايق مثال الاخلاق يطلع فشنك.
ضحكت سيرا بقهر:
-ماتفكرنيش، بمثال الاخلاق، عقلي كان فين وأنا بعجب بواحد زي ده وكمان اسمه فايق!
تشاركا الضحك معًا، ثم بدأت فاطمة في سرد أخر الأخبار المنطقة على مسامع سيرا لتسليتها وإخراجها من حالة الحزن المسيطرة عليها، ومن أن أنهت حديثها حتى سألتها بفضول:
-مش هتروحي ليزن ده النهاردة؟!
صاحت باستنكار ناري:
-أنا! لا يمكن طبعًا أروحله أو اعبره.
تبرمت فاطمة بضيق ولم يعجبها تفكيرها:
-خلاص براحتك ولا كأني قولت حاجة.
عادت سيرا تأكد على حديثها بكل ذرة قوة لديها وخاصةً عندما تذكرت سخريته منها بالأمس:
-قال أروح له قال، ده أنا ابقى كلبة لولو لو فكرت اروح له.
*****
أنهت ” يسر” ترتيب غرفتها ونثرت القليل من معطرات الجو المبهجة علها تريح نفسها المشحونة بويلات الغضب، وتعطي لعقلها التعيس أمل مشرق حتى ولو كان زائفًا! خرجت لتقابل شقتها المظلمة فبدأت في فتح النوافذ وكأنها تطرد كل الشحنات السلبية الموجودة بها، فهب بوجهها نسمات الهواء التي استطاعت العبور لصدرها وتغلغلت به تزيح ثقل الهموم المتربع فوقه، أغلقت عيناها البنية تستمتع بسحر اللحظة، داعية الله أن يرزقها بصلاح الحال وراحة البال، ولكنها سرعان ما تراجعت وتساءلت كيف؟! كيف ستنجو بسفينتها الخرقاء لمرسى أمان وزوجها يتعمد إغراق سفينتهما بكل برود وتبجح منه، كيف ستحصل على حياة هادئة؟! بينما النساء تلتف حوله في كل مكان، وهو يترنح بسعادة في بهو إعجابهم به، آه محترقة خرجت من جوفها الملتهب بنيران الغيرة، فبدت غير قادرة على مجابهة ذكريات الماضي، حين قابلته على سُلم الدرج الخاص ببنايتهما قبل أن تنتقل عائلة نوح لمنطقة أخرى، فهم كثيرين التنقل والسكن بمناطق مختلفة، زحف لعقلها مشهد لقائهما المفاجئ، قبل ست سنوات.
****
تركت “يسر” شقتها، عازمة على استكمال رسالة الماجستير علها تخرج من قوقعة الفراق عن خطيبها “نوح” بعدما فقدا طريقًا للتواصل بينهما، وفشلت العقول في إيجاد حلاً يرضي كلا الطرفين، وخاصةً حين فاجأها بشرط لم ولن تستطيع تقبله أبدًا، ورغم أنه أعطاها مبرراته لذلك الشرط اللعين إلا أنها لم تقتنع وأبدت رفضها التام، فاختارا معًا طريق الانفصال باقتناع تام بينهما ومن بعدها انتقل هو وعائلته لمنطقة أخرى وتركوا شقتهم، فانقطعت عنها أخبارهم، حاولت التلصص عن أخباره ولكنها فشلت ولم تجد ما يريح قلبها، وتحديدًا حول ارتباطه، فبدت كالمخبر السري وهي تتبع أخباره هنا وهناك، لذا قررت الانشغال بشيء آخر علها تنسى لحظاتهما معًا وسعادتها بارتباطهما والذي لم يدم سريعًا وانفصلا في أمر مفاجئ للجميع.
ضغطت على زر المصعد عدة مرات بنفاذ صبر، وأخيرًا وجدت المصعد يستقر بطابقها، لكنها صدمت بوجود نوح أمامها، فاهتز قلبها من مكانه وأصابه رجفة لذيذة للغاية، انقشع عنها قناع الحزن فور رؤيته، وباتت أكثر إشراقًا وكأنه يملك تعويذة سحرية تستطيع تحويلها من تعيسة لأخرى سعيدة لمجرد وجوده فقط.
-ازيك يا يسر؟
كانت نغمة صوته تحمل اشتياقه الصريح لها، فرقصت مشاعرها بساحة الحب والهوى:
-الحمد لله يا نوح، أنت عامل أيه؟!
رمقها ببسمة صافية ممزوجة بلمعة العشق، وكعادته غمرها باهتمام لطيف لن تجد مثله أبدًا:
-أنا كويس طول ما أنتي كويسة.
توردت وجنتيها باحمرار طفيف، ولمعت عيناها بوميض العشق، فقالت بصوت مبحوح من فرط هياج مشاعرها:
-ر…ر…ربنا يخليك أنت جاي ليه في حاجة؟!
لا زالت ابتسامته تلمع بسماء عينيه الصافية، رغم أنه أظهر بعض الضيق:
-يعني شوية مشاكل في عقد الشقة، فخلصته مع الحاج أحمد، وكان في شوية حاجات باقية لينا باخدها، فالأسانسير وقف وقولت أكيد أنتي اللي طلبتيه.
احتل ثغرها بسمة واسعة وهي تسأله بخجل:
-وأنت أيه اللي أكدلك أن دي أنا؟!
-قلبي قالي.
فاجأها برده ونظرته المعبرة عن حزنه لفقد طرق الوصال بينهما، فقرأت بعينيه سطور آماله بعودتهما، وفي خضم صمتهما وتواصل أعينهما المستمر بسرد ما تكنه الصدور وما تخفيه العقول، استمر نوح بإثارة صدمتها حين أمسك يدها يسألها بنبرة غلب عليها لهفته وحبه الشديد لها:
-لسه يا يسر مُصرة على رأيك؟!
أنار عقلها بكلمات والدتها حول إعطائه فرصة أخرى له، وأن ما يطلبه منها ليس سوى طيش شباب، فالزواج مسئولية بالغة ومرهقة للقلب والعقل معًا، وبذكائها الأنثوي تستطيع محو شروطه الحمقاء، معتقدة أن شرارة الحب تستطيع التهام وحوش رغباته الغريبة والعجيبة!
-ها يسر؟ لسه زي ما أنتي!!
رفعت وجهها تواجه عينيه بعنفوان أنثوي دومًا يليق بها:
-أيوه زي ما أنا يا نوح، هتغير ليه؟
-ماحدش قالك تتغيري أبدًا، وأنا ماتمناش تتغيري بالعكس أنا بحبك كده وهفضل أحبك طول عمري بكل حاجة فيكي.
تصريحه أذاب الجليد حول فؤادها، فانصهرت مشاعرها وهي تقرأ سطور العشق والهوى بحدقتيه، همست بحزن مغمور في دورق الحسرة:
-واللي طلبته مني صعب اتقبله يا نوح.
-يسر أنتي لو بتحبيني بجد زي ما بحبك، عمرك ما هتفكري في التفاهات دي، بالعكس هتفكري فيا وفي وجودك جنبي، وفي حياتنا، أنتي فجأة سيبتي كل الحب اللي ما بينا على جنب وفكرتي في النقطة دي، رغم أنك ممكن كنتي تتغاضي عنها وتفكري ازاي ماتوصلنيش للي أنا عايزه.
احتلت غمامة الكآبة وجهها وهي تجيبه بواقع حياتهما المستقبلية:
-الكلام سهل صدقني، بس الواقع أصعب، وبعدين ليه دايمًا مطلوب مني أني أبذل مجهود، أنا مش داخلة حرب، ده جواز والمفروض أساسه يكون مودة ورحمة ما بينا.
أبدى موافقته السريعة على حديثها:
-فعلاً عندك حق، وأنا عمري ما هقلل منك أبدًا، ولا أعاملك معاملة تقل منك، أنتي هتفضلي يسر البنت اللي يوم ما قولت يا جواز مافكرتش غير فيها.
ابتسمت بشجن وهي تلقي ما في جعبتها:
-ويوم ما فكرت تجرح مافكرتش غير فيها بردو.
حاول التملص منها بقوله المعارض بخشونته المتعلقة بنبرته الرجولية:
-يعني يوم ما اطلب أبسط حقوقي تقولي بجرحك، وبعدين انتي اللي قولتي ننفصل يعني ده قرارك، رغم أني مكنتش حابب كده، ومدتنيش فرصة أقنعك باللي أنا عايزه.
تفهمت إلى ما يرمي إليه، فقالت بدهاء أنثوي دائمًا يليق بأنثى فريدة الخصال مثلها:
-يعني لو فشلت تقنعني، كنت هتسيبني صح؟! ده اللي حسيته منك، فسهلت عليك الطريق.
ورغم مهارتها في تسديد كرة اللوم والعتاب، إلا أنه عاد وسدد بملعبها بنفس طريقتها بأسلوبه البسيط والهادئ:
-أنا حسيت أني سهل عندك، فزعلت بس على قد زعلي على قد ما كنت اتمنى ترجعيلي ونتمم جوازنا اللي وقف عشان حاجات الله أعلم هي هتحصل ولا لأ.
تعلقت قشة الأمل خاصتها بقولها الحازم وهي تواجهه بصراحة:
-وأنا اعيش رهن هيحصل ولا لا ليه يا نوح، ليه دايمًا لازم أحس أني في اختبار.
ضغط فوق كفيها بقوة وهو يحثها على عودتهما:
-سيبي نفسك وماتفكريش في أي حاجة غير حياتنا وبس، هو يعني سهل عليكي تقطعي علينا فرحتنا.
تدخلت والدتها التي كانت تقف خلف الباب تتابع حوارهما بشغف:
-والله كلام نوح عين العقل يا يسر، أنتي بتحبيه وهو بيحبك ليه تفكروا في حاجات ملهاش لزمة وزي ما قولتلك تقدري تخليه مايفكرش في اللي هو عايزه.
القت والدتها نحوه نظراتها المعاتبة حتى هي لم تستطع التأقلم مع رغباته التي أفصح عنها بكل برود، ولكن الحب المتأجج بقلب ابنتها والعذاب التي تعرضت له فور فراقهما، جعلها تسعى بكل إمكانياتها لإصلاح الأمور وتهدئة هياج أفكار أبنتها، معتقدة بسذاجتها أن ابنتها تستطيع تحجيم رغبة نوح المُلحة ووضعها في بئر النسيان بحبها وأنوثتها وحصاره في عش الزوجية بمسئولياته الكثيرة.
-قوليلها يا حاجة، قولي لبنتك اللي دماغها زي الحجر، كل حاجة يا يسر لسه مستنياكي ومستنية إشارتك عشان نرجع للي كنا بنحلم نكمله.
ضاعت يسر بين صراع قلبها المتمني وعقلها الثائر برفضه، فشعرت أن كفة الحنين تميل نحو فكرة الرجوع والرضوخ لشرطه وخاصةً بعدما أعلنت أحاسيسها المتلهفة له العصيان على عقلها الرافض الرجوع إليه، حتى أنه بدت أمانيها تغلب معتقداتها في حرب أصبحت محسومة لعودتها لنوح!
لكن لا زالت موافقتها تصارع سجون الرفض، فتفهمت والدتها ما تعانيه ابنتها بصمتها الطويل، لذا حاوطتها برفق وكأنها تشجعها على تخطي عقبات زائفة كما تعتقد، أما هو حثها على نطقها بعينيه المتلهفة لعودتهما بأي شكل، وأخيرًا استطاعت التخلي عن قيود الرفض بقول متهور لم تعتقد أنها سوف تندم عليه فيما بعد:
-ماشي يا نوح موافقة.
****
عادت يسر من شرودها أخيرًا بعدما نفدت قواها لتحمل كم الذكريات المؤلمة المتدفقة لعقلها، فأغمضت عينيها الباكية والحسرة تتناغم بصوتها الحزين:
-يا ريتني ما وافقت، كنت افضل على نفس رأيي، ماكنش يبقى دا حالي.
فتحت عيناها حين وجدت ابنتها تحاول استراق انتباهها:
-ماما أنا جعانة وعايزة آكل.
همست ببسمة مكسورة وهي تهم لإطعام ابنتها والخروج من بقعة التفكير به.
-حاضر يا حبيبتي.
****
تمم ” يزن” على آخر الملفات الخاصة بمبيعات المعرض، والرضا يزحف لصدره بعدما نجح في تحقيق أعلى نسبة مبيعات هذه السنة، بالرغم من شقاوته وعبثه مع الفتيات إلا أن عمله يمثل لديه الخطوط الحمراء واستطاع تحقيق أحلامه من خلال تطوير أمانيه كل عام.
-أستاذ يزن.
لم يصدق، هل بالفعل هي موجودة أمامه، شغفه الجديد تقف بجسدها الممشوق ونظراتها الحادة والتي تنافي رقة ملامحها، ونغمة صوتها الناعمة تسقط على مسامعه بدفيء لذيذ، فقطعت سيرا تأمله بها بعدما شعرت بالخجل:
-هتفضل باصص لي كتير؟!
-أصل مش مصدق عيني الصراحة!
أجاب بنبرة يغمرها المكر وهو يعيد جسده للخلف، يستمتع بوجودها أمامه، في ظل وقفتها الهجومية وكأنها تستعد للانقضاض عليه:
-وده ليه ان شاء الله، طبيعي آجي وأسالك عن أي أخبار تخص سلسلتي.
تصنع الجدية وهو يشير إليها بالجلوس، مردفًا بنبرة جادة هو يدرك تمامًا أنها لن تليق به في ظل حاجته المُلحة لإثارة غضبها بسخريته:
-كويس إنك جيتي؟ أنتي مش متخيلة المجهود اللي عملته عشان الاقي السلسلة.
-مجهود؟!
كررت خلفه باستنكار، فأسرع بقوله والجدية تقطر من حروفه رغم حاجته المفرطة للضحك:
-طبعًا، هو سهل يعني نلاقي سلسلة دهب؟ هو أنتي عارفة جرام الدهب بكام دلوقتي يا سيرا؟!
ضيقت عينيها بغيظ واضح حين لاحظت سخريته المبطنة عليها، ولكنه استطرد بجدية ملونة بمشاكسة لطيفة:
-أنتي مش متخيلة الحوارات اللي دخلت فيها عشان خاطر عيونك….آآ اقصد عشان خاطرك يعني، ده الوا……قصدي الراجل اللي لاقاها كان مُصر أنها بتاعته بس على مين أنا جبته من قفاه وهددته لو مطلعهاش وادهالي هو حر وطبعا خاف مني عشان أنا حد واصل أوي يعني، فادهالي.
تركت بطولاته الزائفة في اقتناص قلادتها جانبًا وصاحت بفرحة عارمة وهي تسأله:
-يعني الحمد لله لقيتها، هي فين هاتها؟
عبس بوجهه وهو يقول بتهكم طفيف:
-أيه ده مفيش شكرًا ولا أي حاجة، ده أنا بحكيلك عانيت قد أيه عشان اوصلها.
زمت شفتيها بضيق رغم محاولاتها المستمرة لإظهار لطفها ولكن أفعاله تثير حنقها دومًا:
-شكرًا طبعًا لمجهوداتك العظيمة، بس هي فين بقى؟!
هز كتفيه ببساطة وهو يجيب:
-مش معايا طبعًا.
ارتفعت نبرة صوتها بدهشة ممزوجة بالاستنكار اللاذع:
-نعم؟!
جذبت أنظار العاملين بالمعرض، فسارع بتهدئتها بقوله وهو يشرح لها ما حدث:
-أيه اهدي في أيه، أنا لقيت القفل بتاعها مكسور فبعت اصلحها.
فشل في اقتناص إعجابها به، وذلك حين ردت بهجوم حاد:
-الله وأنت تعمل حاجة زي دي ليه من غير أذني.
أصابه الغيظ من تعمدها الواضح لتقليل من مجهوداته، متعجبًا من أفعالها والتي تنافي تصرفات باقي الفتيات معه، فهو لم يخطأ أبدًا حين وصفها بعقله بالفريدة في كل شيء:
-يعني ده جزاتي، تصدقي إن أنا غلطان.
عادت تصيبه بالجنون حين ترنحت من فوق أرجوحة الهجوم وعادت لأرض النعومة والدلال:
-أه….اقصد، طيب بص لو سمحت هو فين المحل ده عشان اروح اجيبها.
تلقت نظرته المعاتبة وهو يستعد للنهوض ولململة أشيائه:
-رغم إن أنا زعلان، بس أنا هاخدك واوديكي.
لم تمر سوى دقيقة واحدة وعادت رصاصات الهجوم من فوهة مدفعها:
-تاخدني فين؟! أيه كمية الحب اللي بتعاملني بيها دي!
اتسعت ابتسامته باستفزاز واضح وهو يتعلق بعينيها المشتعلة بنيران السخرية:
-لا أنتي لسه ماشوفتيش حب مني، ده بوادر لطف.
حاولت كظم غيظها بشتى الطرق وهي تتجاهل غزله المبطن، فقالت:
-يا أستاذ يزن وفر لطفك وحبك وقولي فين المحل؟
انطلقت إمارات السأم تغزو وجهه الوسيم وخاصةً حين قال:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أنا بقولك يلا هوصلك بعربيتي.
رفضت رفض قاطع وهي ترمقه باستنكار ملتهب:
-لا انت مجنون، انت عايزني اركب معاك، لا طبعًا.
تسللت بوادر السخط لحديثه المصبوغ باستهزاء بسيط:
-هو حد قالك إن أنا بعض، أو عندي مرض معدي، أنا زي الفل ومستحمي قبل ما أنزل.
رفعت أنفها بشموخ وهي تقتل آماله بالذهاب معه، فيبدو أن الإصرار يفرض عباءته على عقلها ورزانتها:
-بعيدًا عن هزارك أنا ماينفعش اركب معاك عربية لوحدنا، أنا هطلب أوبر.
تضجر وهو يرمقها بسخرية:
-يعني هي فرقت!
-اه طبعًا تفرق، وأنا أيه عرفني يمكن ورا إصرارك ده تخطفني، انت شكلك عايز تخطفني.
توسعت مقلتيه غير مصدقًا أن عرضه لإيصالها من باب الذوق حولته بعقلها المجنون لخطة خبيثة للإيقاع بها، فقال باستياء:
-اخطفك؟!
-اه طبعًا والله أنا حاسة ليك في تجارة الأعضاء.
أكدت على حديثها برعونة أدهشته، فقال ممازحًا إياها:
-مايميش معاكي اني مدمن خطف البنات الحلوة اللي زيك.
عبست بوجهها تسأله بتحذير طفيف رغم أن مشاعرها مالت بجنون نحوه وأصبحت متشوقة لغزل آخر:
-نعم؟!
اقترب منها واختصر المسافات بينهما، فهمس بنبرة مشاكسة استطاع من خلالها سبر أغوار قلبها:
-ما انتي اللي بتهزري، طلعتني مجرم ورئيس عصابة.
تظاهرت بالعبوس والجدية وهي تبتعد عنه محذرة إياه بقسوة مهزوزة:
-يبقى ريح نفسك وقولي المحل فين، عشان مارقعش بالصوت واتهمك بحاجات توديك ورا الشمس.
فتح ذراعيه وهو يبتسم بشقاوة:
-يا سلام والله اتمنى.
شملته بنظرة مستنكرة من أعلاه لأسفله وهي تسأله بعدم فهم:
-تتمنى أيه؟!
-اروح ورا الشمس، عايز اعرف أيه هناك.
تابع مزاحه وهو أكثر راحة في الحديث معها، ولكنها صدمته بسخريتها منه:
-هاها ها…سوري ظريف جدًا.
توقعت غضبه منها ولكنه صدمها بلطفه الزائد عن حده:
-هعتبرها مداعبة لطيفة منك، يلا بينا.
تذمرت بضجر وهي تغادر المعرض خلفه:
-بردو؟!
توقف على باب معرضه يعلن استسلامه لها، ثم أوقف سيارة أجرة، متابعًا الحديث معها بخفوت وهي تستقل في المقعد الخلفي:
-يا ستي اركبي تاكسي وأنا هاخليه يمشي ورايا، وقبل ما تفتحي بوقك وتتهميني أني بتاجر في المخدرات، المحل اللي بعتله السلسلة مش هيرضى يسلمها إلا ليا، هتيجي ولا لأ.
صمتت ولم تعقب على حديثه رغم العبوس المحتل لقسمات وجهها الجميل، بينما هو كان أكثر راحة واستمتاع وهذا ما أثار استفزازها نحوه رغم أن دقات قلبها كانت تتصارع بجنون في أروقته، فراح عقلها يهيئ لها أنه يمكن للقدر نسج خيوط الوصال بينهما ولكن شتان بينها وبينه، الفارق بينهما كبير ومخيف لدرجة أن آمالها هوت واصطدمت بواقعها.
****
وصلوا أمام “المحل الأساسي” الذي يخص عائلة الشعراوي والذي يتخذه سليم مكانًا له أغلب الوقت، ولكنه أجرى اتصالاً قبل أن يذهب وعلم من أحد العاملين أن اخيه الأكبر يتابع باقي المحلات اليوم، فارتاح أكثر وهو يأخذ تلك المشاكسة معه، وكما توقع رفضت أن يدفع للسائق أجرته، ودفعت هي بكل غرور، فيبدو أن تلك المشاكسة تحظى بعزة نفس كبيرة.
دخلا معًا ولم تلاحظ أنه غمز أحد العاملين، فسارع الآخر بجلب القلادة ووضعها أمامهم، ابتسمت براحة وسعادة وهي تلتمسها بين يديها ولكن سرعان ما تركتها حين استمعت للعامل وهو يقول:
-القفل المكسور احنا شلناه خالص وركبنا قفل دهب مكانه وان شاء الله مش هتتقطع تاني ولا تبوظ.
توسعت عينيها بشراسة وهي تردف بضيق اجتاح صوتها:
-وانت تعمل كده ليه من غير ما تقولي؟!
توتر العامل وهو ينظر ليزن، الذي هو أيضًا أصابه عدم الفهم فنظر إليها يهدأ ثورتها بنبرته الخافتة:
-في أيه يا سيرا، الراجل شاف شغله، هو غلطان في أيه؟!
شعرت وكأن دلوًا من الماء البارد صُبَّ فوق رأسها بسبب شعورها بالإحراج، ليس معها المال لذلك القفل الذي بالتأكيد سيكون بعدة آلاف، تشعر الآن وأن مظهرها أمامه كالفرخ الصغير الذي سقط في بركة من الماء الفاسد، كيف تخبره بأنها لا تملك ذلك المال!، وكيف يغير شيئًا فيما يخصها دون الرجوع إليها، وعند تلك النقطة التفتت إليه لتصب كامل غضبها عليه وتخرج مما هي فيه.
-فعلاً هو مش غلطان، انت اللي غلطان عشان اتصرفت في حاجة ماتخصكش.
وبلمحة دهاء منه أدرك مما تحاول إخفائه من خلال عصبيتها، فحاول تهدئة انفعالاتها بقوله الخافت:
-انتي مضايقة من أيه، ماتشليش هم حاجة.
اندفعت الدماء لوجنتيها وهي تواجهه بشراسة منسوجة بخيوط الغضب:
-هم أيه! لا طبعًا، أنا مايهمنيش دي كلها أمور بسيطة وعادية، أنا بتكلم في المبدأ نفسه.
-في أيه اللي بيحصل هنا؟!
وجود سليم المفاجئ أربك الجميع وخاصةً يزن، فسارع بلم الأمور المبعثرة بقوله الجاد:
-مفيش حاجة يا سليم، روح أنت على مكتبك وأنا جايلك.
ركز سليم بنظراته الثاقبة عليها مما أثار حنقها الضعف ورمقته بعنفوان شرس، يكفي الغليان الذي تشعر به وهي تقف كالجرو المبتل أمامهم، حولت جسدها نحو العامل المتابع للأجواء بفضول:
-بص خليها عندك هنا وأنا بكرة هجيب بابا واخدها.
سارع يزن برفض ما تحاول فعله:
-لا طبعًا، والدك أيه اللي تجبيه، بقولك مش مستهلة، خدي سلسلتك.
أعطاها القلادة فوضعتها بقوة فوق الطاولة الكبيرة، ترفض ما يقوله بترفع:
-بأمارة أيه يعني تعمل معايا كده، لا طبعاً واللي هقوله هو اللي هيحصل يا أستاذ يزن، وكتر خيرك لغاية هنا.
وضعت حقيبتها خلف ظهرها واستعدت للمغادرة متجاهلة أمر وجود سليم الذي اندفع نحو أخيه يسأله بريبة وحذر:
-مين دي يا يزن، ده حوار جديد؟!
سارع يزن بالنفي شاعرًا بالضيق الشديد:
-لا يا سليم ولا حوار ولا حاجة، هبقى احكيلك بعدين سلام.
غادر هو الآخر تاركًا سليم ينظر خلف أثره بتفكير لثوان ثم قرر التوجه لكاميرات المحل، يتابع من خلالها ما حدث أثناء غيابه.
*****
سارت ساعات الليل ساعة خلف الأخرى، وأخيرًا استطاعت سيرا النوم، متناسية ما حدث في هذا اليوم ، ومن فرط إرهاقها باتت تتوهم وجود أحد بغرفتها، ففتحت نصف عين بقلق ممزوج بالخوف وهي تتابع الظل الموجود بغرفتها، فتأكدت من وجود أحدهم من خلال صوت أنفاسه العالية، أغلقت عينيها بخوف شديد وهي تهمس لنفسها:
-أنا همثل أني نايمة وهو يسرق أي حاجة براحته.
ولكنها بدأت تشعر بيد أحدهم على ساقيها حتى وصلت إلى بطنها ومنها إلى كتفيها، فقالت بهمس مرتجف وهي تغلق عينيها بقوة ترفض فتحهما:
-أنا ممكن اقولك على مكان الفلوس فين بس ماتقتلنيش.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غناء الروح)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى