روايات

رواية وما ادراك بالعشق الفصل العاشر 10 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الفصل العاشر 10 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الجزء العاشر

رواية وما ادراك بالعشق البارت العاشر

رواية وما ادراك بالعشق الحلقة العاشرة

الفصل العاشر _ وجهًا آخر _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
مرّ يومان و قد ساورته مشاعر القلق حيالها بالفعل، إنها محبوسة في شقته السريّة كما توّعدها، معاقبة على سلاطة لسانها و قلّة أدبها، صحيح لا ينقصها شيء هناك و هو متأكدًا من هذا، حتى إنه سبق و تركها لفتراتٍ أطول من ذلك، لكنه لا يستطيع تجاهل مشاعره تجاهه.. مسؤولية.. إهتمام.. و لا زال عقله يرفض الصوت الذي يتردد بشدة بأعماقه بشعور آخر يفزع من الإقرار به
لأن مجرد الإقرار به يعني أن حبه لم يكن بالقوة و من المسلّمات غير القابلة للتغيّير كما كان يظن، و أن بإمكانه أن يحب عليها أخرى.. “فريال” التي أختارها بقلبه في مطلع شبابه… و “رحمة” التي وافق عليها بعقله و هو رجلًا ناضجًا.. ثم ها هي قد تسلّلت لتحتلّ مكانًا بقلبه !!!
هذا و بدون أيّ جهدٍ منها، إنها طبيعية، مثيرة للإهتمام، لا يمل من رفقتها أبدًا، و الحال الآن أنه يفقتدها حقًا !
يزفر “يحيى” بضيقٍ شديد و هو يقف أمام المرآة يضبط من هِندامه المنمق، يريد لو يلغي الحفل اللعين الذي يقيمه لأجل صفقة عمل كبيرة و يذهب إليها هي، يراضيها و يعقد معها صلحًا جديدًا، تظن بأنها زوجة في الخفاء، الآن و قد عرف “رفعت” فهو ينوي أن يعرفها به، لتعلم بأن زواجهما ليس مجرد ورقة من أجل شرعية علاقتهما، إنها زوجته، و هو يريدها أن تكون كذلك طالما هو على قيد الحياة …
وصل كلًا من الأخان “رفعت” و “يحيى البحيري” كلٌ مع زوجته إلى أبرز و أفخم فندق بالمدينة، فور أن دخلوا صالة الإحتفال المفتوحة بقمة البناء الشاهق استقطبوا الأنظار، كانوا محطّ إعجاب الجميع، الأخوين يشبهان بعضهما إلى حد كبير، و لكن “رفعت” وسامته خشنة و أضخم قليلًا، أما “يحيى” الذي يمتاز بطابعٍ ملائكي واضح يجعله يبدو مثل أميرًا من الحكايات الخرافية، و كان وصفًا ملائمًا لأن زوجته “فريال المهدي” بدت و هي تتأبط ذراعه هكذا كملكة، بثوبها الأزرق اللامع الذي احتوى قدّها مبرزًا مفاتنها دون الكشف الصريح عنها، تسريحة شعرها الكلاسيكية و زينتها الرقيقة
استطاع “يحيى” أن يرى نظرات الحسد بأعين الرجال علانيةً، ما جعله ملاصقًا لها منذ بدء السهرة، حتى طلبها منه أخيه للرقص، فلم يمانع “يحيى” و هو يأخذ بيد “رضوى” بدوره ليؤدي معها نفس الرقصة …
-رضوى ! .. هتف “يحيى” للمرة الثانية منتشلًا زوجة أخيه من شرودها
انتبهت الأخيرة إليه، وجهّت نظراتها الحزينة إلى عينيه و هي تقول بابتسامةٍ متكلّفة :
-نعم يا يحيى.. كنت بتقول حاجة ؟
يحيى بتعجبٍ : كنت بقول حاجة ؟ انتي باين مش هنا خالص. إيه يا رضوى مالك ؟ الحفلة مش عجباكي و لا إيه !؟
هزت رأسها نفيًا، ثم نظرت صوب زوجها الذي يراقص زوجة أخيه بمرحٍ لا يخطؤه النظر، تنهدت بثقلٍ مرددة :
-أخوك.. أخوك إللي تاعبني يا يحيى !
حانت منه نظرة نحو “رفعت”.. ثم عاود النظر إلى زوجة أخيه الجميلة.. لم تكن على قدر جمال “فريال” و لكنها جذّابة و مليحة الوجه.. امرأة تليق برجل مثل “رفعت البحيري”.. ثرية ذات أصول عريقة مثلهم
من ضمن حماقات “رفعت” إنه لا يُقدر زواجه حقًا، و يعول كثيرًا على حب زوجته إليه، هذا الحب الذي لا بد و أن ينفذ يومًا ما إذا لم يتوقف عن العبث بمشاعرها …
-عمل إيه تاني ؟ .. سألها “يحيى” مقطبًا بتأسفٍ على وضعها
ردت بمرارةٍ : هو مافيش حاجة جديدة ممكن يعملها. رفعت عمل كل حاجة.. كنت فاكرة لما نخلّف هايبقى كويس.. هايفوق من هو إللي فيه.. بس ولادنا بقوا في المدرسة. و مافيش حاجة اتغيّرت.. بالعكس.. بقى أسوأ.. أنا ماعرفش لو هو مش بيحبني اتجوزني ليه ؟
-إيه الكلام ده يا رضوى.. إوعي تفكري كده تاني أكيد رفعت بيحبك. انتي مراته و أم ولاده.
-لأ يا يحيى.. رفعت ماحبنيش. لو حبني ماكنش هايعرف عليا ستات.. ماكنش هايشمّت الناس فيا لما أعرف منهم إنه بيقابل دي و دي برا و بيظهر مع أي واحدة مش بيهمه.. م بيهمه لا شكله و لا شكلي.. أنا مكسوفة و أنا موجودة هنا معاكوا يا يحيى. عاملة نفسي مش واخدة بالي من نظرات الناس و همساتهم عليا.. و لغاية دلوقتي مش لاقية مبرر قصاد حبي لرفعت يخليني أسيبه عشان كرامتي على الأقل !
احتج “يحيى” على الفور قائلًا :
-تسيبيه يعني إيه ؟ لأ طبعًا مش هايحصل. اسمعي أنا عايزك تهدي خالص. سيبيه ليا و أنا هاتصرف معاه. بس شيلي الأفكار دي من راسك. انتي مراته و مكانك جنبه و جنب ولادك.. إتفقنا ؟
حدق فيها بإلحاحٍ، لتومئ له و هي تقول مغلوبةً على أمرها :
-إتفقنا !
ابتسم لها بموّدةٍ و تقدير لتفانيها و عشقها لشقيقه، و في قرارة نفسه يسخر من ذلك الحظ الغريب، إن “رفعت” قد رزق بزوجة مُحبة و لا تعرف كيف تصنع زيادةً لترضيه و تبقي عليه لها وحدها، بينما هو تزوّج من المرأة التي يحب.. “فريال المهدي” و لا يشك بحبّها إليه.. لكنه يُعاني معها منذ بلغا عشّ الزوجية و يكتم معاناته بداخله حتى لا يُفسد حياتهم.. لو كانت مثل زوجة أخيه و لو قليلًا لما هزّت ثقته بنفسه و دفعته في الأخير للزواج من أخرى
الآن أيقن “يحيى”.. لو لم تكن “رحمة”.. كانت لتكون غيرها.. لقد صبر مع “فريال” سنواتٍ طوال و كان يظن بأنه قادر على هذا لبقيّة حياته.. لكن الأمر ليس بيده.. تلك الغرائز من صنع الخالق.. و هو رجل و إنسان في النهاية.. لا يمكنه تجاهل طبيعته …
-يحيى بيه !
إلتفت “يحيى” إلى نداء أنثوى رقيق، كانت فتاة من طاقم الفندق، حدّثته باحترامٍ فائق :
-عاوزين حضرتك في الـReception يافندم !
يحيى عابسًا : عشان إيه ؟
الفتاة : ماعنديش معلومات. الخبر وصل حالًا و جيت أبلّغ حضرتك.
رفع “يحيى” حاجبه بغرابةٍ، اعتذر من زوجة أخيه و طلب منها أن تُعلم “رفعت” بغيابه المؤقت لبضعة دقائق و كذا “فريال” أن تخبرها بأنه يتابع أمر ما داخل الفندق حتى لا تقلق عليه، و اتّبع إرشادات الموظفة حتى أفضت به قدماه إلى الأسفل، بقاعة الإستقبال الكبيرة …
-رحمة !!!
خرج اسمها همسًا من بين شفتيه بينما يحملق فيها مصدومًا غير مصدقًا …
وقف على بُعد قدمان منها، لا زال لم يتعافى من وقع الصدمة كليًا، بل تزيد و هو يراها أمامه على هذا الشكل، تتأنق بفستانٍ أرجواني مكشوف الصدر، يكاد يتمزّق على جسمها، و زينة وجهها عبارةً مُحدد عينين ثقيل و حمرةً شفاه فاقعة مثل الدم
أين لها بهذا الفستان اللعين !!؟
إنه لا يذكر بأن اشتراه لها، كيف حصلت عليه ؟ بل كيف خرجت من الشقة أصلًا و قد أقفل عليها بالمفتاح بيده هذه !؟؟؟
-يحيى بيه.. المدام جت لحضور الحفلة و مش معاها دعوى !
بالكاد أصغى “يحيى” إلى عبارة موظف الإستقبال، لم يحيد بعينيه عن “رحمة” لحظة واحدة، تلفت حوله ليطئن بأن لا أحد يراهما، ثم قطع المسافة بينهما بخطوتين سريعتين …
-انتي خرجتي من الشقة إزاي !؟؟ .. سألها “يحيى” طاحنًا أضراسه من شدة الغضب :
-عرفتي تيجي هنا إزاي أصلًا ؟؟
رفعت رأسها تنظر إلى عينيه بتحدٍ سافرٍ، و قالت رافعة حاجبها المرسوم بدقة :
-خرجت من الشقة إزاي ؟ كلمت البواب و كدبت عليه كدبة صغننة. قلت له قفلت الباب من جوا و المفتاح ضاع مني. ف جاب حد فتحه.. عرفت أجي هنا إزاي ؟ المجلة إللي حضرتك مواظب عليها كان فيها تفاصيل الحفلة الكبيرة بتاعة الليلة دي. و عرفت إن حرمك المصون هاتكون معاك.. أخدت العنوان و نزلت اشتريت الفستان الشيك ده و جيت على هنا. عشان لما تشوفني هي و ضيوفك أكون واجهة مشرفة ليك.. إيه رأيك ؟
احتقن وجهه بحمرة خطرة و هو يقول و أنفه ينتفخ مثل ثورٍ في طور الهياج :
-انتي اتجننتي !! .. و قبض على ذراعها فجأةً يهصره هصرًا مستطردًا :
-إمشي قدامي.. السواق بتاعي هايوصلك البيت. و حسابنا بعدين !
قاومت قبضته باصرارٍ مغمغمة :
-لو حرّكتني من هنا خطوة كمان هاتبقى فضيحة. سامعني ؟ انت شكلك مافهمتش كلامي آخر مرة. أنا خلاص مابقتش عايزاك. يا تطلقني دلوقتي حالًا يا مش هامشي من غير و مراتك عارفة كل حاجة !!
أدار رأسه رامقًا إيّاها بذهولٍ، ران الصمت بينهما لبرهةٍ هكذا، كلاهما في مواجهة الآخر دون حراكٍ و قد بدت “رحمة” مصممة حقًا …
تركها “يحيى” بغتةً، و شاهدته و هو يتجه نحو موظف الإستقبال، خاض معه حديث قصير، ثم استلم منه مفتاحًا و استدار ناحيتها ثانيةً، أمسك برسغها و سحبها خلفه بعنفٍ فاجأها، أخذها عبر المصعد إلى طابق بعيد عن صخب الإحتفال و الأنظار، لم يخفف حتى قبضته عنها، وصولًا أمام إحدى الغرف، دس المفتاح في القفل، ثم دفعها إلى الداخل بقوةٍ كادت تسقط على إثرها لولا انتبهت إلى خطواتها
إلتفتت ناحيته بعينين متسعتين و هي تقول بحنقٍ :
-انت مفكر لما تحبسني هنا كمان مش هاعرف أعمل حاجة ؟ مابقاش رحمة إللي تعرفها لو ما نفذتش وعدي ليك !!
إلتمعت عيناه و هو يرد عليها بغضبٍ بارد :
-اطمني.. أوعدك من الليلة دي مش هايكون في وجود لرحمة إللي أعرفها !
و انسحب في هدوءٍ مغلقًا باب الغرفة عليها، بالمفتاح، لقد حبسها فعلًا.. مجددًا …
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
عاد “يحيى” إلى قاعة الإحتفال من جديد عابس الوجه، في البادئ لم يستطع التخلّص من عبوسه أبدًا، و لكن عندما وقعت عيناه على “فريال” ضغط على نفسه حتى إنفرجت أساريره شيئًا فشيء، نجح في رسم ابتسامة بسيطة على ثغره
شحذ خطواته ناحيتها، حيث كانت تقف ضمن حلقةٍ من السيدات و معها زوجة أخيه، أُخذت “فريال” عندما شعرت بيدٍ تمسك بيدها، و لكنها ابتسمت ما إن أدارت رأسها و اكتشفت بأنه هو …
-كنت فين يا حبيبي ؟
تلقّى “يحيى” سؤالها ذي لهجة العتاب بابتسامة حب واضحة، و قال معتذرًا من رفيقاتها :
-عن إذنكوا لحظة !
و شدّها من بينهن بلطفٍ، مشيت معه طواعية إلى أن بلغا مقصورة نائية قليلًا تطلّ مباشرةً على البحر الممتد بلا نهايةٍ …
-فريال أنا آسف بس هاضطري تاخدي مكاني بقيّة السهرة !
استمعت إليه بعدم فهمٍ، لتستوضحه ثانيةً :
-بتقول إيه يا يحيى مش فاهماك ؟ إيه إللي حصل !؟
تنهد قائلًا بأريحية متقنة :
-إبراهيم ابن أخت توني الجواهرجي جالي هنا و مستني تحت. قال في حرامية دخلوا على خاله و هو في المحل و سرقوا الدهب و رفعوا عليه سلاح. هو دلوقتي في المستشفى بس محتاجني لازم أخد متر سميح و أطلع مع إبراهيم على القسم حالًا !
شهقت “فريال” مغطيّة فاها بكفها و قد إنطلت عليها كذبته، في الحقيقة لم تكن كذبة تمامًا، تلك الحادثة وقعت بالفعل منذ شهران، و قد تدخل “يحيى” مساعدًا صديقه الصائغ و مقدمًا له الدعم الكامل، لو سألت زوجته عن صحة الحادث فيما بعد لن ينكره أحد …
-توني كويس !؟ .. تساءلت “فريال” بحزنٍ بَيّن
مط “يحيى” فمه قائلًا :
-لسا مش عارف.. أكيد هاروح أطمن عليه بعد ما نخلص في القسم. بصي يا حبيبتي أنا عارف إنك أدها و هاتعرفي تسدي مكاني. بعد ما الحفلة تخلص هاتروّحي مع رفعت و رضوى. و أنا هاخلص إللي عندي ده و هارجع على البيت علطول. لو طوّلت نامي ماتستنيش لما أرجع.
أومأت له و قالت ممسكة بيده بكلتا يديها :
-خلي بالك على نفسك.. من فضلك يا يحيى !
يحيى مبتسمًا : حاضر يا حبيبتي.
و دنى منها مقبلًا شفتيها بعمقٍ للحظات، ثم أخذها و عادا وسط الحشد، تركها مع السيدات و سار نحو أخيه الذي بدا منخرطًا في حديثٍ شيّق مع نجم كرة قدم معروف، أمسك بذراعه و مال على أذنه مرددًا بخفوتٍ :
-عايزك دقيقة !
يستجيب له “رفعت” و يعتذر من محدّثه، يلتقت إلى أخيه منصتًا، فيشرح له “يحيى” الأمر بإيجازٍ و يوصيه بتأييده ما إذا سألته “فريال” …
-و انت بقى رايح فين بجد ؟ .. تساءل “رفعت” بابتسامةٍ تهكمية، و خمن قبل أن يجاوبه أخيه :
-رايح للمدام التانية صح ؟ يا أخي ماكنتش أعرف إنها واكلة عقلك للدرجة دي. بقى تعمل الفيلم ده كله عشان تروح لها و تقضي الليلة و لا حد يدرى بيك !!
كز “يحيى” على أسنانه مغمغمًا :
-رفعت.. للمرة المليون بقولك. انت مش واصي عليا. أنا حر في تصرفاتي. و انت بصفتك أخويا واجب عليك …
-أداري عليك مش كده ؟ .. قاطعه “رفعت” بسخريةٍ، و أردف :
-بقولك إيه. أنا قلت لك بؤي مش هايتفتح بكلمة و مش عشانك. أنا لو ساكت ف ساكت عشان مراتك و ولادك.. اتفضل امشي يلا. اعمل إللي يعجبك. أنا شوية كده هاتحرك من هنا بفريال و رضوى. مع السلامة.
و هذا المضمون ما كان بحاجة لسماعه، لم يعبأ “يحيى” بانتقادات شقيقه، في النهاية هو آخر شخص يحق له النصح ناهيك عن التقويم …
غادر “يحيى” الحفل دون أن يلقي نظرةً خلفه، لكنه لم يغادر الفندق، بل عاد أدراجه إلى الغرفة التي قام بحجزها لليلة واحدة، و بمجرد أن فتح الباب و دلف للداخل تلبّسته حالة الغضب مرةً أخرى، رآها فور دخوله تقف أمام زجاج الشرفة المغلقة، ما إن سمعت الباب يغلق بقوةٍ حتى إلتفتت نحوه في الحال
أغاظه أن يرى بعينيها نظرة التحدي و الصلابة ذاتها لم تتغيّر، و كأنها لم تدرك بعد فداحة فعلتها، لم تتحرّك “رحمة” من مكانها و هي لا تزال محدقة فيه بصمتٍ يقول الكثير، عقدت ساعديها أمام صدرها، بينما يخطو “يحيى” صوبها وئيدًا الآن و هو يقول أخيرًا :
-فاجئتيني يا رحمة.. حقيقي.. ما تخيّلتش إنك جريئة للدرجة دي !
ضغطت شفتيها معًا للحظة، ثم قالت بجفافٍ :
-أنا قضيت معاك خمس شهور.. بس حاسة إني كبرت فيهم ألف سنة.. استكفيت منك إهانة و كل مرة كنت بفوق على الحقيقة دي.. مش هاسمح لك تستغلّني تاني.
وصل أمامها الآن و رد بهدوءٍ و هو يهز رأسه :
-انتي لسا ماشوفتيش استغلال !!
و رنّت صفعته المباغتة على خدّها في جنابات الغرفة المترفة، كانت صفعة أعنف من تلك التي نالتها منذ أيام في شقته، أحسّت بقطرة حارة تسيل من شفتها و ذاقت طعم الظماء الصدئة بفمها، كان وجهها مائلًا للجانب الآخر، لم يمهلها لحظة لمعالجة ما جرى، مد يده و اجتذبها من ذراعها بوحشيةٍ …
-هاتندمي ندم عمرك يا رحمة ! .. تمتم “يحيى” بقساوةٍ
عاودت النظر إليه بقوة و هسّت من بين أنفاسها المتسارعة :
-طلّقني !!
لا زالت تتحدّاه …
أومأ لها قائلًا :
-آخر مرة طلبتي الطلب ده قولتي إيه ؟ كرري أسبابك !
اهتاجت أكثر و هي تخبره و الكلمات تخرج من فمها كالقنابل :
-قلت لك طلّقني عشان الأعمى يشوف إن العلاقة دي مش علاقة جواز.. عشان انت شايفني رخيصة لدرجة مستخسر فيا أشيل طفل منك و أخلّف زي كل الستات إللي في الدنيا دي.. عشان لو على الفلوس و المستوى إللي مفكرني طمعانة فيهم ف أنا أقدر أعملهم منغيرك عادي بعد ما أسيبك علطول مافيش أكتر من الرجالة إللي هاتدفع مقابل جسمي …
الحمقاء !!!
لم تتعلّم الدرس، آخر مرة قالت ذلك كان عقابها مجرد صفعة، أما الآن فهو كان بحاجة تمامًا أن تكرر ذلك، لتسلب منه آخر ذرة تعقّل و ضمير فيه …
لم تعدّ صراخاتها بعد ذلك لكثرة الصفعات التي إنهالت من كفوفه على وجهها، كتمت ما استطاعت منها طائعة لا شعوريًا لصوته الزاجر :
-اخرسـي.. صوتك مايطلعش !!
رفع يديه عنها الآن تاركًا إيّاها تنهار أمامه جاثية فوق ركبيتها، بينما يزيح سترته الفاخرة عن كتفيه العريضين لتسقط أمامها، يحلّ ربطة عنقه، يفك أزرار قميصه و ينزعه بحركاتٍ متأنية، كل هذا و بصره لا يرتد عنها طرفة عينٍ
من شدة دموعها لم تستطع النظر إليه جيدًا حتى، لم تكن نادمة على ما قالته، بل أرادته أن يريها أقسى ما لديه حتى لا تحنّ له بعد فراقهما، لقد قررت الإنفصال عنه و هذا ما ستفعله مهما كلّفها الأمر …
-آااااااه ! .. صرخت حين شعرت بقبضته تجتذبها من خلال حفنة خصيلات أسفل رأسها
رأته عبر مدامعها جالسًا على طرف الفراش عاري الجزع، و قد فك طوق خصره أيضًا، صدمتها آوامره التالية، و لوهلة شعرت حقًا بجدية و خطورة ما أقدمت عليه، و أن العاقبة لن تكون بدرجة السوء التي تخيّلتها، بل أشدّ سوءًا على الإطلاق …
-مش عايزة أعمل كده !!! .. تمتمت “رحمة” بصوتٍ متحشرج بالبكاء
ليرد عليها بهدوئه المخيف :
-و أنا مش باخد رأيك.. و بعدين انتي المفروض بنت ليل. يعني فاهمة في شغلك.. يلا !
اعتصرت عينيها من الدموع لكي تنظر إليه جيدًا، وجهه قاتم، ليس وديعًا كما عهدته، مصمم، لكنها كانت أكثر تصميمًا و هي تهز رأسها آبية بشدة، فما كان منه إلا إن كال لها مزيدًا من الصفعات و الإهانات التي دفعتها في الأخير للصراخ بالموافقة لعدم تحمّلها عنفه غير المتوقع البتّة …
و فعلت !
فعلت كل ما أمرها به، نفذت تعليماته بالحرف مجبرة، و قد برّ بوعده حقًا و جعلها كما وصفت نفسها… “عاهرة”!!!
كانت تشعر بالغثيان فعلًا و هو يشدّها لتقف على قدميها الرخوتين منتقلًا للخطوة التالية، مع أقل حركة لا تتحمّل، ليدفع بها نحو الفراش غير عابئًا بحالتها المزرية، لم يلقيها فوقه كما توقّعت، لم يجعلها تنال أيّ مظهر من مظاهر إحترام الذات على الأقل
وضعها في وضع حتى مالت عبر مقدمة الفراش على بطنها بينما قدميها تلمسان الأرض، سمعت قماش فستانها يتمزّق بحركةٍ حادة واحدة من يديه، ثم شعرت بلمساته في كل مكانٍ قبل أن تتحركا يديه إلى خصرها، و قبض عليها مثبتًا إيّاها باحكامٍ، مال ضاغطًا بصدره على ظهرها، أنفاسه تتصادم ببشرتها ثقيلة و ساخنها بينما يجتاحها بشكلٍ غير متوقع لدرجة انتزعت منها صرخة عالية كفيلة لإيقاظ الطابق بأكمله
إحدى يديه تركت خصرها لتغطي فمها الصارخ و هو يهمس محذرًا :
-هشششش !
لكنها لم تستطع، و هو يعرف هذا، ألم يعقد النيّة على إذلالها ؟ ألم يعدها بأنها ستندم ندم عمرها ؟
هذا ما يفعله الآن، و لم يتراجع عنه للحظة، كلّما شعر بتعاطفٍ نحوها، تضج بأسماعه كلماتها منذ قليل، فتزيده وحشية تدمر بقاياها
لم تجد إلا البكاء بلا حول و لا قوة بين يديه و أن تمسك بالملاءات بشدة، و قد ندمت بالفعل، ندمت على كل شيء، زواجها منه، إنجذابها إليه، حتى بوادر الحب الذي تملّك من قلبها، إن وجودها برمّته لا يساوي الألم الذي تعيشه الآن، إنه غليظ، إنه حيواني، هل كان هكذا منذ البداية أم إنه خدعها !؟
عندما تركها أخيرًا، أول شيء حرّكه بعيدًا هي يده عن فمها، لم تعد تصرخ، كما لم تعد تشعر به قريبًا منها، احتاجت دقيقة بمكانها للتعافي مِمّا جرى لها على يديه، دموعها تسقط بلا حسيبٍ من عينيها، تسقط من دون بكاء
أحسّت باللحظة التالية بقماشٍ رقيق ينساب فوق جسمها، اكتشفت بأنه أحد الشراشف قد ألقى به عليها لتستر عريها بينما يتحدث من خلفها ببرودٍ و هو يرتدي ثيابه :
-في مول هنا في الفندق. هانزل أشوف لك حاجة تلبسيها بدل الفستان المقطوع.. و إللي بالمناسبة هانتحاسب عليه كمان. بس مش وقته.
لم يكاد يزيد شيء آخر، أجفل عندما رآها تثب واقفة، تضم طرفيّ الشرشف إلى جسمها و هي تركض صوب الحمام، تبعها على الفور واقفًا عند عتبة الباب، بينما تنحني فوق المرحاض مفرغة ما بمعدتها شبه الفارغة أساسًا
تداعت أخيرًا معانقة نفسها أمام عينيه، تغمض عينيها و هي ترفض بوضوح النظر إليه، ينظر هو لها، في داخله يكره ما فعله بها، يعلم بأنه دمرها للتو، و أن ما جرى لن ينساه كلاهما أبدًا، إذا قدّر لهما العيش معًا مرةً أخرى.. لم يعد واثقًا !
_______________________________________
ركض.. رغم أنه يشعر بالأرض هويًا تحت قدميه.. ركض بأقصى ما لديه من سرعة.. فصورة أمه الواقفة فوق سور شرفتها الخاصة أمام عينيه لا تتلاشى ابدًا.. إنه أبشع أنواع الخوف.. خوف فقدان أمه !!!
وصل مقطوع الأنفاس، اقتحم الشرفة المفتوحة، ليجدها كما هي، بثوب نومها الأسود الذي يتطاير من حولها بفعل النسيم الصباحي، لا تزال تقف هناك فوق السور الرخامي حافية القدمين، تحدق بالسماء و كانها ترى شيء، أو أحدٍ ما …
-ماما ! .. هتف “عثمان” لاهثًا
أدارت له رأسها، و صدمه تعبير وجهها، لا توجد قوة في العالم و لا حتى إرادة بدافع الكبرياء يمكن أن تخفي الدمار الذي يرا في عينيّ أمه الآن، إنه واضح جدًا، لدرجة يجب أن يتمالك نفسه حتى لا يفقد رباطة جأشه أمامها و يزيد الأمر صعوبةٍ …
-يحيى كان متجوز عليا يا عثمان ! .. قالتها “فريال” مقررة الحقيقة
زم “عثمان” فمه كابحًا شعور بالغضب تجاه أبيه، الواقع مختلف حين تنطق به أمه، حقًا …
مشى ناحيتها ببطء، بينما رفعت “فريال” حاجبيها متمتمة بشرودٍ :
-و من زمان.. من زمان جدًا.. كنا لسا ماكبرناش.. اتجوز و خلّف.. و قدر يخدعني طول السنين دي.. قدر يبص في وشي و يضحك و يعيش حياته معايا عادي و هو بيخونّي من ورا ضهري.. يعني إيه ؟ إللي بينا ده ماكنش حب ؟ جوازنا إللي كل الناس كانت بتحسدنا عليه.. كلامه ليا.. حياتنا كلها كانت كدبة !!؟؟؟
رفع يديه و هو لا يزال يتقرّب صوبها بحذرٍ قائلًا بصوتٍ أجش :
-ماما.. أرجوكي إنزلي من عندك.. إنزلي و هانتكلم.. هاعملك إللي انتي عايزاه بس إنزلي !
رددت “فريال” ساهمة العينين و كأنها لم تصغي لجملته :
-مش لاقية إجابات على أسئلتي يا عثمان.. الأصوات في راسي مش بتسكت… مش عايزة تسكت !!
إنفعل “عثمان” صائحًا بغضبٍ شديد :
-بابا مات.. مات خلاص يا فريال هانم. مستحيل يرجع. و مستحيل يجاوبك على أسئلتك. سمعتيني ؟ يحيى البحيري مات !!!
تلقّت كلماته القاسية بصدماتٍ جعلت الدموع تنهمر من عينيها مدرارًا و هي تقول من بين أنفاسها :
-أيوة.. أيوة صح.. مات و مستحيل يرجع… بس أنا ممكن أروح له !
و إتسعت عيناه بذعر متجرّد عندما مدت قدمها مقدمة و بلا رادعٍ أو ذرة تردد عن إلقاء نفسها من العلو المميت …
-لأاااااااااااااااااااااااااااااا !!! .. دوت من أعماقه صيحة الرعب
بينما يندفع ناحيتها مسابقًا الزمن فعليًا …
إنها لمعجزة
أن لحق بها على آخر لحظةٍ، قبل أن تتبع قدمها الأخرى القدم الممتدة بعد السور، قبض على خصرها بذراعيه بقوةٍ مؤلمة، و كأنه يقبض على الحياة بكل ما أوتي من قوة، كان مفجوعًا، لا يصدق ما كادت تفعله، بينما ينطلق الصراخ من فم “فريال” عندما أحبط ابنها محاولة إنتحارها جاذبًا إيّاها بعيد عن السور نهائيًا
أخذت تقاومه و هو لا يتزحزح عنها قيد شعرة، بالكاد كانت تقف على قدميها بينما يمسك بها بإحكامٍ متحملًا ثورتها و مصغيًا لصراخها الذي أدمى قلبه :
-آااااااااااااااااااااااااااااااااه.. آااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه.. آااااااااااااااااااااااااااااااه …
آهاتها الجريحة هزّت المنزل بأكمله، حتى الطير رفرف في السماء فزعًا من الحدث الجلل، سيدة القصر، الأم المثالية، الزوجة المخلصة.. “فريال المهدي”.. إنها تنهار !!!
-مـامـــا !! .. صاح “عثمان” ملتاعًا عندما سكتت فجأة و تراخت بين ذراعيه فاقدة الوعي
حملها على الفور بسهولةٍ و استدار ليجد “سمر” تقف على مقربةٍ منهما، تراقب بوجلٍ ما يجري، خاطبها بخشونةٍ و هو يتجه صوب بأمه صوب الداخل :
-تعالي ورايا يا سمر !
وضع أمه بفراشها و أمر زوجته :
-خليكي جنب أمي إوعي تسبيها لحظة.. أنا راجع علطول.
خرج إلى الردهة أمام غرفة “فريال”.. حمد الله كثيرًا على سلامتها بأقل الخسائر.. لا زالت أعصابه مهزوزة تأثرًا بما حدث.. أحس بشيء من الراحة لغياب الصغار عن المنزل و ارتيادهم المدرسة فما كانوا ليتحملوا رؤية كل هذا
أرسل في طلب طبيب العائلة بشكلٍ عاجل، ثم أجرى إتصالًا آخر، ما إن رد عليه صوت أنثوي يعرفه جيدَا حتى هتف بصرامةٍ :
-صفيّة.. تقومي من مكانك و تجيلي على هنا فورًا.. سامعة ؟ دلوقتي حالًا !!
_________________________________________
استغرقت شقتهما الفخمة يومًا كاملًا في التنظيف، و قد تكفّل هو بإيجاد إحداهن جاءت لتساعد زوجته في تهيئة كل شيء، و في الصباح كانت الأمور بخير
الأسر المكوّنة من ثلاثة أفراد.. “فادي حفظي”.. “هالة البحيري”.. و صغيرهما “سليم” البالغ من العمر عشر سنوات.. يجلسون بتراث الشقة المفتوح إلى طاولة حملت ما لذ و طاب من طعام الفطور
كان “فادي” يوّجه نظراته نحو بحر الإسكندرية بشوقٍ جارف، و في نفس الوقت يتلذذ بإحتساء فنجان قهوته، لتأخذه زوجته من شروده فجأة …
-مش كنت خلّيت سمر تيجي تقعد هنا معانا يا فادي ؟
إلتفت “فادي” إلى سؤال زوجته، رد عليها بلهجةٍ من الصفاء النفسي النادر :
-أنا ماشي معاها واحدة واحدة. طلبت تقعد في البيت القديم.. رغم إن الشقة مابقتش بتاعتنا و كانت مقفولة.. حتى الحجة زينب صاحبة البيت إتوفت بقالها سنين.. بس عملت المستحيل و رجعتها على الأقل مؤقتًا.. هاتقعد هناك شوية يمكن ده يساعدها فعلًا تفتكر أي حاجة.
صبّت “هالة” لصغيرها كأسًا من العصير و هي تقول بلطفٍ :
-أيوة يا حبيبي بس مايصحش كنت تسيبها لوحدها. ممكن تقعد براحتها في البيت القديم. لكن في آخر الليل تيجي هنا وسطنا أو ترجع بيتها !
تنهد “فادي” قائلًا :
-أنا ماسبتهاش لوحدها يا هالة.. ابن عمك جه و أنا نزلت بعد ما أكدلي إنه معاها. و عرفت كمان إنه بعت يجيب يحيى من القصر عشان يبات مع أمه.. شوية كده و هاكلمها أطمن عليها.
أومأت له و قالت بجدية :
-طيب انت لسا ماقولتليش.. هانقعد هنا كتير و لا إيه ؟ عشان مدرسة سليم !
نظر “فادي” نحو إبنه الذي حمل منه تشابهٍ كبير في الملامح مع لمحاتٍ من جمال أمه محصورًا في لون الشعر العسلي و شكل العينين، ابتسم بخفةٍ و هو يقول :
-مش هانطول إن شاء الله.. أطمن بس على سمر.. و كمان دي فرصة مناسبة.. هقدر أقنع ملك تسافر معانا.
هالة بتشككٍ : و لو ماقتنعتش !؟
رمقها “فادي” بنظرةٍ ثعلبية، و قال :
-في كل الأحوال هاخدها معايا.. ملك أختي القاصر. و أنا ولي أمرها. أنا الواصي عليها ! ……………………………………………

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى