روايات

رواية غوثهم الفصل الخامس 5 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الخامس 5 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء الخامس

رواية غوثهم البارت الخامس

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الخامسة

“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
مَوْلاي إنّي بِباك قدْ بسطتُّ يَدِي..
منْ لي أَلُوذُ بِهِ إلّاكَ يا سَندي.
_النقشبندي
اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وبَارِكَ علىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ
___________________________
_بعدما كان يسرنا رؤياكم، اصبحنا نستسقل وجودكم ونتمنى أن لا نراكم، أنا من حسبتُ نفسي عزيزًا في دياركم، فوجدت نفسي مصونًا بكل مكانٍ إلاكم، ظننتُ أنني عليكم لن أهون، فصان الجميع عهده معي، وما خانني سواكم.
_لقد كُتِبَ عليه في ذلك العمر الصغير أن يختبر هذا الشعور البغيض وهو يرى أحن الناس عليه _أو من المفترض أن تكون هكذا_ والدته تتخلى عنه مقابل المال في صغر عمره وهو أكثر الناسِ حاجةً إليها، استمع “إياد” إلى الحوار الدائر بينهم منذ أن عرض خاله بيعه لهم مقابل المال، فسقطت زجاجة العصير من يده بغير قصد ليصلهم صوت التهشيم على الأرض ولم يختلف كثيرًا عن صوت التهشيم بداخل قلبه.
ركض “إياد” من المكانِ مُتجاهلًا ندائهم المتكرر باسمه حتى تقابل مع رفيقه “أبانوب” فلاحظ الاخر بكائه لذلك سأله بتعجبٍ تخالطه الدهشة:
_مالك يا “إياد” بتعيط كدا ليه ؟؟ عمو “أيهم” زعقلك؟
ارتمى على صديقه يعانقه، فحاوطه الأخر مُربتًا عليه ولم يفهم شيئًا غير أن صديقه يبكي بوجعٍ جعله يود البكاء هو الأخر، فيما استمر الثاني في البكاء حتى وصل له “أيهم” يركض خلفه وما إن رأه في عناق رفيقه، حينها تنفس الصعداء بعدما كان يلهث بقوةٍ ونفسٍ مُتقطعٍ، ثم مال بجسده للأمام يلتقط أنفاسه ويستند بكلا كفيه على ركبتيه.
لاحظه “أبانوب” فسأله بحيرةٍ:
_هو ماله يا عمو ؟؟ مين زعله، أنتَ ؟؟.

 

حرك رأسه نفيًا ثم اقترب منهما يفصل العناق بينهما وابنه يُطرق برأسه للأسفل يخفي عينيه عن أبيه، فيما رفع “أيهم” رأس الصغير يحدثه بثباتٍ:
_بتعيط ليه ؟؟ زعلان إنك هتكون معايا علطول؟؟ إحنا بنعمل كدا علشان تفضل معايا ومتسبنيش، عاوز تسيبني ؟؟
سأله “أيهم” بنبرةٍ مُحشرجة، فحرك الأخر رأسه نفيًا، حينها مسح والده على رأسه ووجهه ثم أجبر شفتيه على الابتسام وهو يقول:
_طب زعلان ليه؟؟ هنفضل مع بعض علطول.
رد عليه الأخر بسؤالٍ لم بتوقعه موجعًا بتلك الطريقة:
_يعني أنتَ مش هتعمل كدا أنتَ كمان؟؟
اتسعت عيناهُ بغير تصديق وهو يتفحص الصغير بنظراته، فيما انتظر “إياد” جوابه وهو ينظر له مُترقبًا جوابه، وما كان إلا عناقًا أبويًا خطفه فيه بين ذراعيه وهو يقول مؤكدًا كل حرفٍ ينطق به:
_مُستحيل، لو على رقبتي مش هعمل كدا أبدًا، فراق الروح أهون عليا من غيابك عن عيني يوم واحد بس، أوعى تفكر في كدا علشان أنا مليش غيرك يحلي أيامي.
احتضنه “إياد” وكأن حديث والده كما الثلج على النيران أخمدها تمامًا قبل أن تفرض سيطرتها عليه وتقوم بتبخيره، بينما “أيهم” حمله بين ذراعيه ثم اعتدل واقفًا يمسك بكف “أبانوب” فتفاجأ بـ طليقته تأتي من خلفه ولحسن الحظ أن صغيره كان يخفي رأسه في كتف والده الذي هتف مُحذرًا حينما رآها:
_لو شوفت وشك تاني أنا هدوسك برجلي، غوري من وشي، غوري بقولك.
همت بالحديث فاقترب منها شقيقها يمسك كفها يضغط عليه ثم حرك رأسه موافقًا وهو يقول:
_وماله يا باشا حقك.
وزع “أيهم” نظراته المُزدرية بينهما ثم بصق عليهما وتحرك من المكان بعدما رمقهما بمقتٍ وحقدٍ يود الفتك بهما لولا وجود الصغيرين، فالتفت يرحل بهما وحينها رفع “إياد” رأسه ينظر لوالدته مُتحسرًا بعدما خيبت أماله، ليعيش هذا الشعور في ذلك السن الصغير، وعلى الرغم من ذلك ستبقى تلك الذِكرى الأكثر ظلامًا في قلبه.
وقفت “أماني” تتابعه بعينين دامعتين تود الركض خلفه بعدما تحركت غريزة امومتها الفطرية، فاقترب ذلك الشيطان الذي يتجسد في هيئة أخيها يقول بنبرةٍ هادئة:

 

_كل حاجة هتبقى بخير ياختي، يلا بس قبل ما الحج يرجع في كلامه تعالي يلا.
سحبها من كفها وهي تسير خلفه مُنصاعة في أذعانٍ لأوامره حتى عادت من جديد للداخل بعدما عاد الرجال لداخل وكالة “العطار”، وحينها فقط قرآت في عيون الجميع ابشع النظرات الحاقدة عليها، ولم تحتاج وقتًا أو حتى دقة لتقرأ تلك النظرات الواضحةِ من الأساس.
جلس “عبدالقادر” على مقعده يمسك عصاه، وهو يرمقها بمقتٍ وحقدٍ نظرةً جعلتها تُخفض رأسها سريعًا قبل أن تقتلها محلها.
_______________________
_في بيت “العطار”
وصله “أيهم” بابنه على ذراعه و “أبانوب” في يمسك في كفه حتى توقف فطرق الصغير على الباب وماهي إلا ثوانٍ حتى فتحته “وداد” لهم وعند رؤيتها لهم، تسائلت بلهفةٍ على الصغير:
_حصل حاجة يا أستاذ “أيهم” ؟؟ الولد بخير ؟
حرك رأسه بقلة حيلة فأنحنت جانبًا تترك لهم الفرصة للدخول، فسألها قبل أن يمر على أعتاب البيت:
_”آيات” فين ؟؟
أشارت له باصبعها حيث مكان تواجدها، فتنهد بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ حاول جعلها طبيعية.
_خليها تيجيلي عند أوضتها بسرعة.
تحركت “وداد” من أمامه بلهفةٍ بعدما قرأت تعابير وجهه ويالطبع علمت أن هناك أمرًا بالكاد لم يكن خيرًا، فيما تحرك “أيهم” نحو الداخل يقف عند باب غرفة “آيات” والصغير على ذراعه ورأسه يلقيها على كتفه.
اقتربت منه “آيات” بلهفةٍ بخطواتٍ اشبه بالركض، بينما هو زفر بعمقٍ ثم قال:
_افتحي الباب علشان هنيمه عندك في الأوضة.
حركت رأسها موافقةً ثم فتحت الباب له باذعانٍ لمطلبه، فدلف يضع الصغير على الفراش ثم طالعه بأسفٍ وتنهد بثقلٍ ثم مال عليه يُقبل جبينه، اقتربت شقيقته منه تسأله بصوتٍ بدا عليه الحزن واضحًا:
_هو ماله يا “أيهم” ؟؟ قالي هروح أجيب حاجة واروح لجدو المحل وهاجي تاني، حصله إيه بس؟؟
سرد عليها الموضوع إجمالًا بدون تفصيل مما جعلها تبكي دون إرادةٍ منها وهي تحرك رأسها نحو الصغير تطالعه بشفقةٍ وحزنٍ على تلك المشاعر المُميتة التي شعر بها، بينما “أيهم” زفر مُطولًا ثم قال:

 

_خلي بالك منه ومتخليهوش يخرج من البيت لو طلب يخرج كلميني، مش هوصيكي.
مسحت دموعها وهتفت تعاتبه بقولها:
_هتوصيني على ابني؟؟ روح أنتَ وملكش دعوة.
اقترب منها يُقبل رأسها بامتنانٍ لم يُفصح عنه لكن كلاهما كان على درايةٍ بقلب الأخر ومابه، ثم بعدها خرج من الغرفة بعدما رفع رأسه من جديد واستعاد ثباته ليخرج من البيت كما المحارب نحو ساحة المعركة دون حتى أن يتخذ هُدنة تلتئم بها جروحه.
اقتربت “آيات” من الصغير تجلس بجواره على الفراش فدلفت لها “مهرائيل” بلهفةٍ ومعها “أبانوب” الذي أخبرها بكل شيءٍ رأه، فسألتها:
_حصل إيه يا “آيات” ؟؟ ماله “إياد”؟؟
التفتت له بعينين دامعتين فلاحظت الأخرى ذلك، بينما “آيات” سردت لها ما حدث وأخبرتها بما فعلته والدة الصغير، فشهقت “مهرائيل” وهي تقول بغير تصديق:
_المعفنة الحقيرة !! هي كانت تطول أصلًا إنها يكون عندها ابن زيه من عيلة العطار ؟؟ أقولك أحسن، بكرة هنلاقيها بتتباع في السوق ومحدش يفكر يدفع فيها نص جنيه حتى، بكرهها.
تنهدت “آيات” بثقلٍ ثم قالت بشرودٍ:
_كنت عارفة إن قلبها جامد بس مش للدرجة دي، قولت أكيد دي أم ومسير قلبها فيه حنية شوية، بس طمعها بقى غطى على أي حاجة حلوة ممكن تكون جواها.
اقتربت “مهرائيل” تربت على كتفها، بينما “أبانوب” خلع حذائه ثم انتقل على الفراش يُمدد جسده عليه كُليًا بجوار صديقه ثم ربت على خصلاته وهو يقول بنبرةٍ غلفها الحزن لأجل رفيقه:
_هيصحى إمتى يا “مهرائيل” مش بعرف اقعد من غيره.
ابتسمت له ثم هتفت بحماسٍ تقصد تشجيعه:
_خليك جنبه أنتَ لحد ما يصحىٰ، ماشي ؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم وضع رأسه على الوسادة بجوار الصغير وعيناه كما هي مُثبتة على الصغير.
“في محل العطار”
دلف “أيهم” بخطواتٍ واسعة وكأنه يُصار الأرض أسفله، بينما الجميع كانوا في انتظارهِ، ما إن رأه “عبدالقادر” تنهد بعمقٍ ثم قال بلباقةٍ وهيبةٍ يليقان به:

 

_دلوقتي هتاخدوا الفلوس اللي طلبتوها، وعليهم حاجة بسيطة مني كمان، إكرامية ليكم.
نظر له “أيهم” بتعجبٍ بينما “عبدالقادر” تحرك نحو الباب الصغير في محله من أمام الجميع ليختفي أثره لمدة دقائق ثم خرج لهم جديد بالمال ثم ألقى الحقيبة على الطاولةِ أمامهما، وقبل ان تمتد أيديهم أو حتى نظراتهما نحو الحقيبة، أوقفهما بقوله:
_دول ٦٠٠ ألف جنيه، يعني زيادة عن اللي طلبتوه، كدا ملكيش أي حاجة عندنا، وأظن أنتِ كنت جاية البيت عندنا من غير حتى شنطة هدوم، يعني كل حاجة بتاعة ابني، حضراتكم بقى هتمضولي على ورق، إن لو حد فيكم فكر بس يقرب من ابني أو حفيدي، أنا هخفيه ورا الشمس، قولتوا إيه ؟؟.
هيبته في الحديث وإصرار حروفه لم ينذر بالخير بل يقول أن هذا الرجل قد يفتك بكلٍ من تسول له نفسه المساس بمن يخصه، تحدث “شكري” في الحال بقوله:
_ماشي يا حج دا حقك برضه، وأنا اضمنلك إن لا أنا ولا “أماني” لينا علاقة بالواد تاني.
ضرب “عبدالقادر” الأرض بعصاه ثم نطق بنبرةٍ قاسية:
_اســمـه “إيــــاد” واد الأشكال اللي زيك كدا.
تعمد “عبدالقادر” إحراجه أمام الجميع، ثم التفت يُخرج الاوراق من خزانته وعاد من جديد يمد يده بالأوراق وهو يقول:
_ورقة طلاقك كلها يومين وتكون عندك رسمي، أمضي على الورق دا علشان تمشوا من هنا بالفلوس، يا كدا، يا وعزة وجلالة الله مافيه جنيه واحد هيخرج من هنا !! قولتوا إيه.
خطف “شكري” الورق منه ثم سحب القلم من الطاولة الموضوعة أمامه يدون امضته في الخانة المخصصة له، ثم مد يده لشقيقته التي تجمدت أطرافها و حركت رأسها نحو “أيهم” تتطلب منه العون، فابتسم بسخريةٍ ونطق بتهكمٍ:
_دا كان زمان، كان فيه منه وخلص، أمضي علشان نخلص إحنا كمان و أنضف حياة ابني من أشكالكم، ربنا يتوب علينا.
نزلت دموعها وباتت مُتيقنة أن كل الطرق أصبحت مسدودةّ في وجهها، لذلك أختارت الأصلح لها ثم مسكت القلم تدون به امضتها حتى تم كل شيء، فسحب “عبدالقادر” الورق منهما وأشار برأسه نحو الحقيبة يتحدث باقتضابٍ:
_اتفضلوا خدوا الفلوس وامشوا من هنا، بس قبل ما تمشوا لو حد فيكم يفكر ناحية حد من بيت العطار، أنا هدوسه في وشي، مفهوم أنتَ وأختك ؟؟
تدخل “بيشوي” ينطق بجمودٍ:
_لو لمحتك يا “شكري” بتقرب من “إياد” من غير ما استأذن حد أنا ساعتها هزفك قصاد الحارة كلها، واللي يكلمني هقوله أنا عمه ومعايا إذن، مفهوم ؟؟.
سحب الحقيبة مُتجاهلًا كلام “عبدالقادر” و “بيشوي” ثم أمسك كف شقيقته يسحبها خلفه وهي تجلس كما المضروبة فوق رأسها بعصا كانت على وشك فقد حياتها من خلالها.
راقبها “أيـهم” مُتحسرًا على سنين عمره التي ضاعت منه في العيش معها، و على أحلامه التي تبخرت كما قطعة الثلج التي وضعت أسفل أشعة الشمس، ظننا أنها تلتمس منها الدفء فتفاجأت بنفسها تتبخر أسفل أشعتها حتى اختفى أثرها تمامًا، هكذا هو أعطاها أجمل ما فيه لترد عليه بأقسىٰ ما لديها، أخرج تنهيدةً حارة من جوفه، ثم نظر للجهة الأخرى جهة صورة والده برفقة ابنه و حينها ابتسم للصغير مقررًا الصمود لأجله.
_______________________

 

في منطقة الزمالك تحرك “يوسف” من أمامهم جميعًا نحو غرفته حتى يُبدل ثيابه بأخرى تتناسب مع الخروج من البيت، فارتدى قميصًا باللون الأسود و شمر أكمامه حتى قُبيل مرفقه و بنطالًا من خامة الجينز وكعادته صفف خصلاته وارتدى ساعة معصمه ثم ارتدى حذاءًا رياضيًا باللون الأبيض ثم تمم على هيئته و ابتسم بزهوٍ لنفسه متعمدًا الظهور أمامهم بأوسم حالاته.
نزل من الغرفة بخطواتٍ ثابتة على الدرج فوجدهم يجتمعون حول طاولة الطعام بدونه، فابتسم هو بسخريةٍ ثم استأنف سيره نحو الأسفل حتى لاحظته “فاتن” فقالت بلهفةٍ:
_”يوسف” تعالى كُل معانا، أنا بعتلك مع “فيصل” بس أنتَ مرضيتش تنزل، تعالى يا حبيبي أنا عاملة الأكل اللي بتحبه.
تحدث “سامي” بنبرةٍ ساخطة:
_هو أكيد مستعجل يا “فاتن” متضغطيش عليه.
ابتسم “يوسف” بزاوية فمه ثم قرر اللعب معهم لذا تحرك نحو المقعد الفارغ بجوار “سامي” يسحبه ثم قال بنبرةٍ تبدو طبيعية لكنها تُنافي ذلك:
_بقى عمتو تتعب نفسها وتعمل الأكل اللي بحبه وأنا أقول لأ؟؟ مينفعش كدا كأني قليل الأصل، وابن الراوي شارب الأصول كلها بالمعلقة.
توجهت الأنظار بأكملها نحوه، بينما هو مد يده بطبقٍ فارغٍ لعمته حتى تضع به الطعام ففعلت هي هذا بنفسٍ راضية و وجهٍ مُبتسمٍ جعله يبتسم هو الأخر متعمدًا إثارة غيظهم.
جلست عمته بعدما قربت من جميع الأصناف، بينما هو حمحم بخشونةٍ ثم نطق بسخريةٍ:
_ما تاكلوا يا جماعة هو أنا غريب؟؟ كلوا عقبال ما تاكلوا في الجنة إن شاء الله.
أدار وجهه للجهة الأخرى بعد جملته تلك وهمس لنفسه:
_ابقوا قابلوني لو عتبتوها حتى.
أدار وجهه من جديد لهم يبتسم باستفزازٍ جعل “نادر” يزفر بقوةٍ من فكرة تواجده عمومًا، بينما “يوسف” مال على أذن “سامي” يهمس له:
_طب أنتَ متربيتش علشان أمك رقاصة، هو بقى مترباش ليه تفتكر ؟؟؟.
رفع “سامي” رأسه نحوه يطالعه بحدةٍ، فابتسم “يوسف” ثم قال بنبرةٍ ضاحكة ينطق هامسًا:
_اقولك أنا ليه؟؟ علشان سته رقاصة.

 

ضغط “سامي” على قبضته يحاول التحكم في نفسه، ففاجئه “يوسف” وهو يضع الطعام في فمه عنوةً عنه قاصدًا ذلك تحت نظرات الآخرين المُتعجبة، بينما هو لم يلمس الطعام بل مسح كفيه ثم تحرك من مكانه، فسألته “فاتن” بخيبة أملٍ:
_أنا قولت أنتَ هتاكل، ماكلتش ليه؟؟.
التفت لها يقول بنبرةٍ غلفها الحزن:
_شكرًا، أنا قعدت بس علشان مزعلكيش وأنتِ متعشمة فيا، إنما لدرجة أني آكل مش هقدر، كدا كدا معزوم برة.
رفعت “شهد” رأسها نحوه تود أن تسأله عن كافة التفاصيل، بينما هو لاحظ نظرتها تلك وتحرك من المكانِ مُتجاهلًا إياهًا بل وتجاهلهم جميعًا.
________________________
في حارة العطار تحديدًا بقرب محل “سعد” للهواتف المحمولة، اقترب “أيوب” بهيبته الطاغية على الرغم من لين تصرفاته وطباعه، كان يرتدي بنطالًا وفوقه سترة قُطنية على عكس عادته الرسمية، وفي يده زجاجة من خامة الزجاج خضراء اللون، فلمح بعينيه “سعد” جالسًا أمام المحل يضع قدمًا فوق الأخرىٰ و بجواره النرجيلة الفحمية “شيشة” يسحب هوائها ثم يخرجه من جديد و عيناه تُمشط الشارع سامحًا لنفسه أن يغوص بنظره في أجساد النساء و الفتيات بطريقةٍ مُهينة حتى وإن كانت ملابسهن مُحتشمة.
قبل أن يقترب “أيوب” منه أخرج هاتفه يحادث الفتاة وما إن أجابت على الهاتف قال بنبرةٍ هادئة:
_تقدري تطلعي البلكونة تشوفي حقك وهو بيرجع.
أغلق الهاتف معها ثم وضع هاتفه في جيبه واقترب أكثر من الأخر فلاحظ “أيوب” نظراته وقد قرر أن يُكمل ما أتى لأجله لذلك تحرك بخطى ثابتة مَلكًا نحو محل هذا الفظ و النظرات بأكملها مُثبتةً عليه خاصةً بعد لقاءهما الأخير الغير محمود تمامًا، أقترب حتى وقف أمامه بطلته المُهيبة، فازدرد “سعد” لعابه بتلقائيةٍ، بينما “أيوب” رفع صوته أمام الجميع قائلًا:
_اســمــعوا يا أهــل حارة العطار، علشان أنا و أعوذ بالله من كلمة أنا، جيت هنا من يومين بالظبط حذرته بلساني وأيدي انه لو فكر يقرب تاني من حد يخص عيلة العطار، أنا بنفسي هاجي هنا أهينه، الاستاذ طبعًا كان خاطب، ومحصلش نصيب، البيه المحترم مصمم يهدد خطيبته أنه هيرمي في وشها مية نار، كل دا علشان ترجعله تاني بالعافية، أنا بقى جيت علشان أوريه إن اللي بيعمل مبيقولش.
فور انتهاء حديثه التفت لـ “سعد” وقد سبق وفتح الزجاجة التي يمسكها ثم فاجئه بقوله:
_مبروك عليك مية النار يا “سعد”.
قبل أن يدرك الأخر مقصده، كان “أيوب” ألقى الزجاجة في وجهه وسط الشهقات المُستنكرة و الخوف من سكان الحارة، بينما “سعد” صرخ بملء صوته و وضع كفيه على وجهه وهو يصرخ تلقائيًا، بينما “أيوب” ابتسم بسخريةٍ ثم حرر وجهه بعدما ابعد كفيه ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_علشان تعرف إنك عيل خايب ملكش لازمة، دي ازازة سفن مكلفتنيش ١٠ جنيه على بعض، بس بصراحة مش خسارة في أشكالك عديمة الرباية، واهو قدام الكُل بقولك فكر كدا تلعب بديلك علشان ساعتها أنا هنفذ بجد.

 

لهث “سعد” بقوةٍ وهو يطالع “أيوب” بخوفٍ، بينما الأخر ابتسم له بثقةٍ ثم ربت على كتفه وهو يقول بملء صوته:
_بألف هنا يا “سعد” خليك فاكر بقى إن ابن العطار مش لقمة طرية يعني يوم ما تحب تبعت حد يخلصك منه، ابعت حد مصحصح شوية، مش واحد عميان، دا علشان تخلص بسرعة بس.
تحرك “أيوب” من جديد عائدًا بنفس الثبات، بينما من إحدى شرفات الشارع وقفت الفتاة تبتسم بسعادةٍ وهي ترى الخوف باديًا على الأخر، ليعيش نفس معاناة خوفها منه.
________________________
ركب “أيوب” سيارته ثم توجه حيث منطقة المُعز، تلك المنطقة التي يعشقها و يُفضل التواجد بها وسط كل ما يُشبهه، البيوت القديمة و المساجد التاريخية و التُحف القديمة، وصوت المُنشدين الابتهالات الدينية، كل ماهو هنا يبعث السكينة في نفسه، لذلك أوقف السيارة عند مقدمة الشارع ثم نزل منها يسير الباقي على قدميه مُستمتعًا بكل ذلك كما الطفل الصغير يراقب الألعاب التي يعشقها.
وصل محله في منطقة المُعز، وقد كان مُخصصًا لصناعة الفخار بكافة أنواعه و أشكاله، و بعض التُحف التي كُتِب عليها بخط اليد العربي، وبعد الإطارات التي كُتبَ بداخلها آيات قرآنية و بعض الأذكار، معظم الأشياء صنعها هو بيديه، على الرغم من ذلك كانت اسعارها رمزية بسيطة، وذلك لأنه قرر أن يفعلها بقابل الحُب و الشغف وليس للربح المادي.
دلف المحل وهو يبتسم خاصةً حينما وجده مُمتلئًا بالناس، فاتسعت ابتسامته وهو يردد بنبرةٍ خافتة:
_بسم الله اللهم بارك، الحمد لله.
جلس على مقعده فاقترب منه مساعده يُرحب به، بينما هو رد عليه تحييته ثم طلب منه أن يتابع شئون عمله قبل أن يعود من جديد لحارة العطار ويتابع الأمور بها.
________________________
أوقف “يوسف” سيارته عِند منزل “نَـعيم الحُصري” ثم ترجل منها ودلف حتى مُقدمة البيت فوجد “نَـعيم” يجلس بجوار “إسماعيل” يتابعان سير العمل، فاقترب منهما يقول بنبرةٍ هادئة:
_مساء الخير؟؟.
تجاهله “نَـعيم” فيما رد عليه “إسماعيل” تحيته بوجهٍ مقتضبٍ، فسحب هو مقعدًا ثم جلس بجوار “عبدالقادر” يقول بأسفٍ:
_متزعلش مني بقى، حقك عليا.
تنهد “نعيم” ثم أدار وجهه للجهة الأخرى، فتحدث “يوسف” بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ عارف غلاوتك عندي واني مقدرش حتى أزعلك، بُصلي طيب و هزئني براحتك.
التفت له “نعيم” ثم نطق بنبرةٍ جامدة:

 

_علشان أنتَ غبي وأنا خايف عليك، قولتلك ١٠٠ مرة صحيح قلبك جامد وملكش حاجة تكتفك، بس مش كل مرة بتسلم الجَرة يابن الراوي، هتيجي مرة تبقى بجد وتضيع منك كل حاجة، تقدر تقولي بقى روحت فين بعدما سيبت “ليل” و مشيت ؟؟.
تنهد مطولًا يعلم أن تخبئته لن تنفعه بشيءٍ لذلك رفع رأسه يجاوبه بثباتٍ:
_روحت ضربت “سامي” علشان يبطل يقولي تاني أني تربية أحداث، كان لازم اخوفه علشان يتهد شوية.
تحدث “نعيم” بغلظةٍ وقد نفذ صبره:
_ولما يموت في إيدك ؟؟ إيه العمل هتبقى ضيعت نفسك على واحد زي دا !! واحد محدش يقبل حتى يبصله ؟؟ تبقى عديت بكل اللي فات دا وتيجي بعدما اتخطيتهم كلهم تضيع نفسك ؟؟ يابني حرام عليك أنا ما بصدق ترتاح شوية.
اقترب منه يقبل كفه ثم رفع رأسه يقول مؤكدًا:
_صدقني اللي عملته دا ريحني، مرة من نفسي بعدما مشيت من وسطهم من غير أي حاجة، رغم إني ليا في كل حاجة، أوعدك طول ما أنا هنا مش هعمل حاجة لحد ما أمهم تفوق و أعرف هي عاوزاني ليه، اديني مستني.
ربت “نَـعيم” على ظهره، بينما نطق “إسماعيل” بضحكةٍ واسعة:
_طب بما إن “يوسف” خلاص رجع، أنا عندي خبر حلو.
انتبه له كلاهما، فقال “إسماعيل” بحماسٍ:
_النقض بتاع “إيهاب” أخويا اتقبل و الحكم سقط من عليه وخد براءة خلاص.
شهق “يوسف” بحماسٍ فيما انتفض “عبدالقادر” من موضعه يسأله بغير تصديق:
_بتتكلم جد ؟؟ أوعى تكون بتخرف ؟؟ ابني البِكري راجع؟؟
ابتسم له “إسماعيل” ثم اقترب منه يقول بنبرةٍ مختنقة من شدة التأثر:
_صحيح أنتَ مش أبونا، بس اللي عملته معانا هو نفسه الله يسامحه بقى معملهوش، شرف لينا نبقى عيالك أنا و هو و “يوسف” و ربنا يبرد نارك و يردلك الغايب و يطمن قلبك على اللي راح.

 

لمعت العبرات في عينيه لذلك رفع كفه يمسح على رأس “إسماعيل” ذلك الشاب الذي عانى هو و أخيه من ماضٍ بشع كاد أن يُفتك بهما لولا وجود “نَــعيم” معهما و الحاقه لهما لا كانا تدمرا كُليًا.
_”إسماعيل أشرف الموجي”
شاب في الثامنة والعشرون من عمره، الابن الثاني لاشرف الموجي، يعتبر المسئول الرئيسي عن كافة أمور “نَـعيم” يعتبره كما ابنه تمامًا له مَعزةً خاصة لديه، كونه أكثر الشباب إلزامًا له، لا يفارقه بتاتًا.
طويل القامة بنسبة طبيعية، جسده متناسقًا مع طوله، ملامحه شرقية لكنها لينة يبتسم دومًا بوجهه البشوش، خصلاته سوداء حالكة اللون، عيناه باللون العسلي
جسده عريض بنسبة قليلة، هاديء الطباع، يعيش دومًا بمفرده حتى وهو وسط الناس، وذلك لأن الجميع يخشونه لسببٍ لم يكن له يدًا به.
_”إيهاب أشرف الموجي”
الابن الأكبر لاشرف الموجي، شاب في العام الواحد والثلاثون من عمره، يُشبه أخيه إلى حدٍ كبير لكنه أكثر من طولًا كما أنه جسده ضخمًا كما كان جسد والده، دخل السجن منذ أربعة أعوامٍ على ذمة قضية تم تدبيرها له للزج به فى السجن حتى يتم التخلص منه وقد حصل على حكم خمسة عشر عامًا على ذمة تلك القضية، قضى منهم سنتين في سير التحقيقات و سنتين منذ أن تم الحكم عليه، ليصبح إجمالًا أربعة أعوامٍ.
تحدث “نَـعيم” بفرحةٍ غلفت صوته:
_واد يا “حمدي” يا “عبودة” أحضروا بسرعة.
ركض الاثنان له بلهفةٍ فنطق هو بلهجةٍ رغم من أنها آمرة إلا أنها أعربت عن مدى فرحته وهو يقول:
_اي حد هييجي يأجر خيل بنص التمن بكرة و أي حد في المطاعم وكل الكافيهات الأكل بنص التمن و العائلات و الاسره مجانًا، و عاوزة فراشة تغطي نزلة السمان كلها، و ليلة تتعمل على شرف “إيـهاب” و “يوسف” و وجودهم معايا هنا، سامع !! يلا دلوقتي تنفذوا و عاوزكم تزيعوا خبر إن “إيهاب” الموجي خرج من جديد.
وصلتها تلك الجملة فسقطت منها الصينية الفارغة التي كانت تمسكها وا قتربت منه “سمارة” بلهفةٍ:
_بجد والنبي يا حج ؟؟ سي “إيهاب” راجع بكرة؟؟ بالله عليك ريح قلبي و قولي آه.
ابتسم لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_خارج بكرة إن شاء الله، هكلم المحامي علشان أروح واكون في انتظاره.
لمعت العبرات في عينيها فرفعت رأسها تقول بامتنانٍ:
_ألف حمد وشكر ليك يا رب، يا ما أنتَ كريم يا حنَّان يا منان.

 

طريقتها الشعبية في التحدث و طريقتها في العموم غريبة، في العام السابع و العشرون من عمرها، فتاةٌ سمراء البشرة، عيناها واسعة بطريقةٍ ملحوظة و تجذب أنظار كل من ينظر لها، تبدو وكأنها إحدى فتيات الأسر الفرعونية، ترتدي دومًا العباءات و فوقها ما يسمى باسكارف تعقده عند مقدمة خصلاتها السوداء الغجرية المموجة بكثافةٍ، اسمها هو نفسه لقبها “سمارة”.
فتاةٌ من فتيات الشارع تشردت في صغر عمرها، جمعها القدر صدفةً بـ “إيهاب الموجي” و شقيقه انتقلت على أثر تلك الصدفة معهما لبيت “نَـعيم الحُصري” تعمل به مع النساء و تحفظ نفسها من الانتهاكات التي تتسبب لها من الطامعين في جمالها الشرقي من الرجال، فأصبح الجميع يخشون الاقتراب منها بعدما أعلن “إيهاب” حقه بها وأنها تخصه و ستصبح زوجته.
ابتسم لها “إسماعيل” ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أنتِ أول واحدة سأل عليها يا “سمارة” مش عاوزك تقلقي، بكرة إن شاء الله هتشوفيه وتملي عينك منه.
تحدثت بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_يا سيدي بس أشوفه و أملي عيني منه.
سألها “يوسف” مُبتسمًا بتعجبٍ من حبها له:
_لسه بتحبيه يا “سمارة” ؟؟ أنا قولت خلاص نسيتيه وفقدتي الأمل دول كانوا ١٥ سنة قبل النقض.
التفتت له تهتف بصدقٍ وقد لمعت عيناها على الفور:
_هو أنا ليا غيره يعني ؟؟ دا كل حاجة ليا في الدنيا دي، من يوم ما أرض ربنا دي جمعتنا سوا وأنا معرفش غيره، أبويا و أخويا و حبيبي، و ربنا يكرم وابقى مراته إن شاء الله، بس هو ينور الدنيا تاني بوجوده.
ابتسم “يوسف” لها بتفهمٍ وهو يفكر أن المسألة لم تكن مسألة أصل و نسب كما يزعمون، إنما هي قلوبٌ، تحب بصدق وتحارب لأجل حبها، وأقرب مثال أمامه تلك الفتاة “سمارة” كانت تعيش في الشوارع بدون عائلة بعدما طردتها زوجة أبيها، وها هي تحارب لأجل حُبها بل تنتظره أيضًا بفارغ صبرها.
_________________________
في شقة فضل ارتدت “ضُحىٰ” ثيابها الخاصة بالخروج تجهيزًا لمقابلة خطيبها، و قد تجهزت تمامًا لتصبح في أرق طلتها و أجملها أيضًا، كانت “قمر” تراقبها بحذرٍ تخشى عليها من انفطار قلبها و تصدع أملها الذي وضعته به على أن تغيره كما سبق و أخبرها.
التفتت لها “ضحى” تسألها بلهفةٍ:
_ها يا “قمر” شكلي حلو ؟؟.
تنهدت الأخر بضجرٍ ثم قالت على مضضٍ وكأنها مجبورة:
_شكلك حلو لدرجة إنك خسارة فيه، هو يطول ؟؟
جلست “ضحى” بجوارها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_عارفة انكم كلكم مش بتحبوه، بس هو بيحاول يتغير، وعاوزني اساعده، ليه أتخلى عنه و افلت ايدي لما ممكن فعلًا وجودي معاه يكون سبب أنه يبقى واحد تاني.

 

ردت عليها “قمر” بنبرةٍ جامدة:
_علشان مفيش حد بيتغير علشان حد يا “ضحى”، لو مش هتغير علشان نفسي أنا يبقى هتغير علشان مين؟؟ كلنا عارفين أنه عينه زايغة و أنه كان بتاع بنات، ولسه زي ما هو، دا مش واحد تأمني على نفسك معاه، بعدين عاوز علطول يكلمك و يحب فيكي مش مراعي أي حدود ولا اصول للبيت دا، صدقيني هتخسري معاه كتير، الحقي نفسك أنتِ لسه على البر.
فُتح باب الغرفة وطلت منه “أسماء” تقول بضجرٍ:
_المحروس وصل برة قاعد مع أخوكِ و عمتك.
ابتسمت بحماسٍ ثم وقفت تُتتم على هيئتها، بينما “أسماء” تابعتها بسخريةٍ فخرجت الأخرى من الغرفة، بينما “قمر” ضربت كفيها ببعضهما وهي تقول بغير تصديق:
_بنتك دي مجنونة، يا عميا، بتحبه على إيه؟؟ علشان شكله يغور و هو دمه تقيل و واقف كدا، دا سم.
أبتسمت “أسماء” بغموضٍ ثم قالت:
_خليها، على جثتي الجوازة دي تتم.
بعد مرور دقائق خرجت “أسماء” و معها “قمر” فتعلقت عيناه بها على الفور يبتسم لها دون مراعاةٍ لتلك التي تجلس بجواره، بينما هي حركت رأسها للجهة الأخرى تهرب من نظراته، فدلف “فضل” في تلك اللحظة يُلقي عليهم التحية، فردوها جميعًا.
لمعت مقلتان “أسماء” ثم وقفت تقول أمام زوجها بثباتٍ:
_معلش بقى يا “علاء” يا حبيبي الجواز دا زي الأكل كدا، و أكلتك مش بالعينها مقطوع منها النصيب، حصل خير يا حبيبي.
توجهت الأنظار نحوها بحيرةٍ، فأضافت هي من جديد:
_أصل الراجل اللي طباعه مبتتغيرش، نغيره هو أسهل.
وقف “علاء” أمامها يسألها بدهشةٍ وقد ظنها في باديء الأمر تمازحه:
_حضرتك بتقولي كدا ليه؟؟ أنا عملت أيه طيب ؟؟
فتحت هاتفها وهي تنظر له بوجهٍ يبتسم باستفزازٍ ثم ضغطت على زر تسجيل مكالمته مع “قمر”، ثم فتحت تسجيلًا أخر له وهو يطلب منها أن تتحدث معه و تصبح صديقته ليستشيرها في حياته.
اتسعت الأعين و نطق “فضل” بذهولٍ خلفته صدمته:
_أنتِ يا “قمر” ؟؟
ردت عليه “أسماء” بنبرةٍ جامدة:
_”قمر” ملهاش ذنب، كتير خيرها جت تقولي على اللي حصل و اتفقت معايا تكشفه علشان خايفة على أختها من واحد زي دا، و البيه بيكلم غيرها و غيرها، عاملهم سبحة في أيده.
تندى جبين “علاء” وبدا متوترًا أمامهم يحاول تبريء نفسه، لكنه تفاجأ بـ “عُدي” يمسكه من عنقه وهو يَسبه بوالديه ثم انهال عليه باللكمات حتى حاول الأخر إلصاق التهمة بـ “قمر” و اتهامها في سُمعتها، فضربه “عدي” من جديد حتى سحبه نحو باب الشقة وهو يقول بصراخٍ:
_لو شوفت وشك هنا تاني لو حتى صدفة، أنا هجيب كرشك بايدي، سامع يا روح أمك ؟؟ اخواتي لو فكرت تقرب منهم أنا هدوسك برجلي، خشي يا “قمر” هاتيله حاجته ارميهاله في وشه.
دلفت “قمر” للداخل بينما “ضحى” استجمعت جزءًا من شجاعتها ثم وقفت بثباتٍ و أخاها يمسكه في يده، أقتربت منه وبكل ما أوتيت من قوة صفعته على وجهه بغلٍ مشحون في قلبها تجاه ذلك الخائن، ثم خلعت خاتمه من اصبعها، ذلك القيد الذي يُكبلها لأول مرّة تشعر بالراحةِ وهي تخلعه من اصبعها ثم ألقته في وجهه وقالت بعدها بصراخٍ:

 

_غور من وشي، غور وإياك أشوفك تاني فاهم؟؟.
اقتربت “قمر” تضع اشياءه أمامه ثم قالت بثباتٍ:
_لو عندك دم تغور من هنا منشوفش وشك تاني، فاهم؟؟
نظر لها بشرٍ وكانت نظرته توحي بالانتقام، لكنها تجاهلت تلك النظرة و رفعت رأسها تتحداه، حينها قام “عدي” بفتح الباب ثم دفعه خارج الشقة و رمىٰ خلفه أشياءه ثم أغلق الباب وكأنه يقول رحيلك غدا بدون عودة.
بينما “ضحى” ارتمت على “قمر” تبكي بين ذراعيها فاحتضنتها الاخرىٰ تبكي معها وهي تهتف بأسفٍ:
_حقك عليا والله، عملت كدا علشانك أنتِ، متزعليش مني لو غالية عندك بصحيح.
انتحبت “ضحى” وهي تتمسك بها، بينما “فضل” جلس بخيبة أملٍ يضع كفيه على ركبتيه ثم قال بقلة حيلة له سوى الله:
_لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
____________________________
قُبيل أذان الفجر بلحظاتٍ قليلة، تقلب “أيهم” على فراشه فوجده خاليًا من ابنه الذي نام بجواره بعد عودته للبيت، فَزُع إبان نومه و ركض من الفراش ينادي عليه بصوتٍ مُحشرجٍ:
_إيــاد !! إيــاد أنتَ فين ؟؟.
وجد الشقة بأكملها فارغةً منه، فعبثت الظنون بخياله أنه قد يكون تركه و ذهب لوالدته أو شعر بالحزن فقرر الهروب من ذلك البيت، نزل للأسفل ركضًا بملابسه البيتية عبارة عن بنطال رياضي باللون الرمادي و فوقه سترة قطنية سوداء اللون، كان صوته عاليًا وهو ينادي على ابنه، فأوقفته “وداد” بقولها:
_متقلقش، فتح الباب ونزل عمه خده معاه.
انتبه لها فسألها باهتمام ونبرةٍ قوية:
_عمه خده ؟؟ خده معاه فين؟؟
ابتسمت له ثم قالت بوجهٍ مبتسمٍ:
_هو قالي لما تسألني أقولك لو حاسس إنك تايه روحله.
تحركت من أمامه وهي تستاذنه بقولها:
_عن اذنك هصحي الحج و “آيات”
تحركت من أمامه بينما هو تنهد بعمقٍ ثم مسح وجهه بكفيه.

 

بعد مرور دقائق قليلة خرج “أيهم” من البيت بنفس ملابسه دون أن يبدلها فقط توضأ وخرج من البيت سيرًا على الأقدام حتى وجهته _الغير معلومة للجميع عداه_ ثم وقف على أعتاب ذلك البيت المُكرم، فوصله صوت أخيه يقول بنبرةٍ هادئةٍ لابنه:
_كل ما تحس إنك تايه أو دنيتك همومها تقلت افتكر إنك تيجي هنا تقف بين ايدين ربنا و تشكي همومك، عياطك لوحدك مش هيفيدك بحاجة هيبين ضعفك، إنما عياطك وأنتَ في بيت ربنا قوة، لو اشتكتلي أنا أخري أني أطيب خاطرك بكلمتين، إنما الشكوى لله عزة و قوة، تقف قدام العباد كلهم راسك مرفوعة، ومع رب العباد تبين ضعفك وقلة حيلتك اللي ملكش غيرها، ربك اسمه “الجبار” مش معناها المنتقم، إنما الجابر بخواطر الناس، أوعى تخلي الدنيا دي تغريك و تلهيك عن سببها الرئيسي إنك ملزم تبني مكان في الجنة، فاهم ؟؟.
حرك “إياد” رأسه موافقًا وهو يبتسم له، فقربه “أيوب” له يقبل قمة رأسه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_لسه الفجر فاضل عليه شوية، استناني اشغل الابتهال.
أوقفه الصغير بقوله متلهفًا:
_لأ أنا بحب صوتك أنتَ، عاوز أسمعه منك ينفع؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم تنفس بعمقٍ وشرع في الابتهال بصوته العَذب قائلًا:
مَولاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُّ يَدي
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي ..
مولآي يامولآي ..مولآي إني بباك قد بسطتُ يَدي
من لي ألوذُ به إلاك يا سَندي ..
أقُومُ بالليل والأسحارُ سَاجيةٌ
أدعُو وهَمسُ دُعائي .. أدعُو وهَمسُ دعائيِ بالدُّموُع نَدي
بِنورِ وَجهِكَ إني عَائذٌ وجل
ومن يعُذ بك لن يَشقى إلى الأبدِ ..
مَهما لَقيتُ من الدُنيا وعَارِضِها
فَأنتَ لي شُغلٌ عمّا يَرى جَسدي ..
تَحلو مرارةُ عيشٍ في رضاك
ومَا أُطيقُ سُخطاً على عيشٍ من الرّغَدِ
مَنْ لي سِواك ، ومَنْ سِواك يَرى قلبي ويسمَعُه !
كُلّ الخَلائِق ظلٌّ في يَدِ الصَمدِ
أدعوكَ يَا ربّ فاغفر زلَّتي كَرماً
واجعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدي
وانظُرْ لحالي في خَوفٍ وفي طَمعٍ
هَل يَرحمُ العَبدَ بَعْدَ الله من أحد
لمعت العبرات في عيني “أيهم” و دلف للمسجد بضعفٍ يجلس بجوار ابنه الذي احتضنه مُبتسمًا، بينما “أيوب” أنهى الابتهال بقوله:
_مــولاي…..يا مــولاي…من لي سواك يرى قلبي ويسمعه كل الخلائق ظلّ في يد الصمدِ.
رفع “أيهم” رأسه يطلب من الله أن يلطف بقلبه وقلب صغيره برحمته و كرمه الواسعين اللاذي طالا كل شيءٍ، بينما “أيوب” مسح وجهه ثم وقف أمام مكبر الصوت حينما أشارت ساعة المسجد لموعد اذان الفجر، فوقف يعلن عن موعد التقاء العباد مع ربهم في موعدٍ الناس نِيامٍ به، لكن المؤمن الخاشع من يحارب للوقوف في صفوف المُصليين وفي غضون دقائق، امتلأ المسجد بالرجال فابتسم “أيوب” لهم وألقى عليهم كعادته التحية بقوله:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ردوا عليه التحية، ودلف والده المسجد فوجدهم بجوار بعضهم حينها تأكد أن أولاده في حفظ الله ورعايته دون أن يقدر عليهم أي عدوٍ، طالما يحافظان على عهودهم مع ربهم فلن يخيفهم شر الإنسِ.
_________________________
عاد “يوسف” من صلاة الفجر مع “نعيم” و “إسماعيل” فاستاذن منهما “نَـعيم” بقوله:
_بقولكم إيه؟؟ كلها كام وهصحى علشان اروح لايهاب، هطلع أنام عاوزين مني حاجة ؟؟.
ردوا عليه بنفيٍ، فربت هو على ظهريهما ثم تحرك من المكان يدخل لداخل البيت، بينما “يوسف” تحرك نحو الاسطبل يقف بجوار الخيول وخاصةً خيله هو “ليل”.
وقف بجواره ثم رفع كفه يربت على خصلاته السوداء الفحمية اللامعة، وهو يبتسم له، حيث تلك الراحة التي يشعر بها وسط الخيول وكأنه منهم، أصبح يعلم كافة تفاصيلهم الصغيرة و الكبيرة طريقة عيشهم و الحد الأقصى لعمرهم، و حزنهم و فرحهم، كل شيءٍ أصبح على درايةٍ به.
وقف “إسماعيل” بجواره يتمم على الخيول بنظره، فصدح صوت هاتفه في تلك اللحظة برقمٍ ما إن ابصره حتى اتسعت مقلتاهُ وفتح الهاتف على الفور وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_من غير كلام كتير، عرفت مكانه ؟؟؟.
وصله الرد من الأخر فانتظر التكملة ثم أغلق المكالمة، فانتبه له “يوسف” لذا سأله بتعجبٍ:
_فيه إيه يا “إسماعيل” ؟؟ حصل حاجة؟؟
أظلمت عيناه بشرٍ ثم نطق بنفس الجمود قائلًا:
_عرفت مكان الزفت “مُـحي”
سأله “يوسف” بلهفةٍ:
_مش قولت أنه من بعد ما ساب أبوه سافر باين؟؟.
أبتسم بسخريةٍ ثم قال:
_كان هنا وقريب مننا أوي، هتيجي معايا ؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم التفت وهو يقول:
_يلا يا “إسماعيل” تعالىٰ.
تحرك الاثنان معًا من البيت فركبا سيارة “إسماعيل” الذي نظر أمامه بشرٍ، فسأله “يوسف” باهتمامٍ:
_مالك يابني ؟؟ هو حد جه جنبك ؟؟.
تنهد “إسماعيل” ثم نطق موجزًا:
_البيه بعد ما ساب أبوه ماشيلي مع رقاصة في شارع الهرم
رفرف “يوسف” بأهدابه ببلاهةٍ لا يصدق ما سمعه للتو، بينما “إسماعيل” رفع سرعة السيارة ثم ضغط عليها يريد الوصول قبل ذرات الهواء نفسها، بينما “يوسف” التزم الصمت وهو يفكر كيف في صغر عمره أن يفعل ذلك؟؟.
أوقف “إسماعيل” سيارته أمام الملهى الليلي، ثم تنهد بعمقٍ، بينما “يوسف” سأله باهتمامٍ:
_هنعمل إيه دلوقتي ؟؟ هتعرف تتعامل ؟؟
ابتسم بخبثٍ ثم غمز له حتى نزل من السيارة وتبعه “يوسف” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_يا ملبوس يا ابن الملبوسين.
وقف كليهما على أعتاب باب ذلك المكان المحرم، فسألهما أحد أفراد الحراسة بنبرةٍ جامدة:
_نعم فيه تذاكر ؟؟ فيه ميعاد ؟؟ فيه دعوة

 

مال “إسماعيل” على أذن “يوسف” يهمس بسخريةٍ:
_هو إحنا داخلين كباريه ولا داخلين مكتبة الإسكندرية؟؟
رسم “يوسف” ملامح الجدية ثم أخرج من جيبه ورقة مالية يضعها في جيب حِلة الحارس السوداء وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_احنا بس عاوزين حاجتين من جوة لزوم الليلة و ماشيين علطول، مش هنطول عليكم.
فهم عليه الأخر فحرك رأسه موافقًا، فسمح لهما بالدخول، حينها دلف الاثنان لذلك المكان المكروه ثم جلس كلاهما على طاولةٍ فتحولت نظرات الفتيات نحوهما، واقتربت منهما واحدةٌ تتحدث بميوعةٍ وهي تقول:
_مساء الخير يا بهوات، نورتونا.
نظر لبعضهما البعض باشمئزازٍ فأخرج “إسماعيل” بعض الأوراق المالية يمد يده لها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_عاوزين أوضة “ليلة” الرقاصة، فين؟؟
تحولت نظراتها إلى الريبة، وهي تسألهما:
_خير ؟؟ عاوزين منها إيه ؟؟
تحدث “يوسف” بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ مال أمك أنتِ؟؟ اخلصي هي فين؟؟
أشارت نحو موضعها خاصةً حينما أخرج لها “إسماعيل” نقودًا أخرى، جعلتها تطالعهم بطمعٍ ثم خطفتهما، بينما تحرك “يوسف” نحو موضع إشارتها فوجد رواقًا باللون الأحمر حوائطه و ستائره اللامعة و صور الراقصات العاريات، كان الوضع بأكمله يشعره بالضيق والاستياء فوجد غرفةً كتب على بابها “ليلة” اقترب من باب تلك الغرفة يحاول فتحها وقبل أن يقوم بذلك، شعر بفوهة السلاح في رأسه ونبرةٍ جامدة من خلفه تقول:
_ارفع إيدك وامشي قصادي يا حيلتها.
ازدرد “يوسف” لعابه ثم رفع كفيه يعلن استسلامه لذلك الأخر، بينما الثاني وقف يشعر بالانتصار، ولكن هل انتصاره في محله ؟؟.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!