روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل التاسع عشر 19 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل التاسع عشر 19 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء التاسع عشر

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت التاسع عشر

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة التاسعة عشر

الصامت في المجالس ثرثار في مجالس أخرى، والغائب عنك حاضر مع سواك، كالشمس حين تغرب على ديارك لتشرق على ديار أخرى، لذلك لا يوجد شخص غامض أو صامت أو غائب، إنما هي منازل ومفاضلات..
“أُفصح عن نفسي بقدر الأمان الذي أشعر”.
صلوا على نبي الرحمة …
__________________
خرجت من المرحاض تلقي المنشفة اعلى المقعد بإهمال شديد، وهي تشعر بانقباضة غريبة في صدرها، ما السبب لا تدري، لكنها فقط تشعر برغبة عارمة في البكاء، ابتسمت بسمة سخيفة لا تليق بمثل هذا الموقف، تتحرك صوب المرآة التي تتوسط جدار غرفتها تحدق بها ثواني قبل أن تمسك وجنتيها تتحسسهم بشكل مريب وصوتها خرج غريبًا :
” يا خسارة الخدود يا ميمو، كان جاد بيحبهم اوي ”
ضحكت وهي تستقيم بكامل جسدها أمام المرآة تراقب نفسها بأعين متحفصة شغوفة، تبحث في نفسها عن تلك الميمو التي خطت لذلك المنزل قبل عشر سنوات، مراهقة بأعين سوداء متسعة ووجه بلون القمح ذهبي، وجنتان مكتنزات بشكل مغري، جسد طفولي غبي يختفي داخل ثياب واسعة كالسيدات المسنات .
اين تلك الذليلة الضعيفة التي خضعت لشياطين جاد من تلك المتجبرة التي تدهس من يقف في طريقها، أين تلك البريئة التي ألقاها القدر أسفل اقدام جاد؟!
منحته طاعة عمياء حينما يأست من الخلاص، ارتجف جسدها، تستعيد في رأسها تلك اللحظات التي طأطأت رأسها له، تقبلت كل ما فعل بطيب خاطر وبسمة، بل وكان يجبرها على التودد له ليشعر بشعور مَرضي أنه ما يزال محبوبًا رغم كهولته .
ابتسم جاد وهو يراقبها تتهادى أمامه بثياب جميلة استطاعت أن تنقل له صورة جيدة عما تخفي تلك الصغيرة عن أعينه ..
وهي كانت تسير وتتلوى حوله ببسمة خبيثة كما الافعى، أعطته نشوة الانتصار، وجعلته يتجرع كذبتها في كؤوس، أظهرت له خضوع وهمي مُرضيًا له، فإن لم تستطع مواجهة الموجة، سر معها، وهي قررت أن تسير مع امواج غضب جاد، بل وأصبحت راكبة امواج محترفة، في سنة واحدة فقط استطاعت جعله يلهث خلفها كما الكلب خلف عظمة، بعدما كانت تقبل هي قدمه باكية، أصبح يقبل هو قدمها متوسلًا نظرة منها ورضاها عليه ..
انتصرت انتصار بُني على أنقاض طفولتها وبرائتها، تجرعت من خبثه كؤوسًا حتى امتلئت نفسها به، كانت تلميذة نجيبة بشهادته، والآن جاء الوقت لتبهر معلمها بتطبيق ما تعلمته عليه ..
امسكته من ثيابه تجره صوبها بلطف هامسة :
” كنت فين انهاردة يا جاد ؟؟ كده تسيبني في البيت لوحدي ؟؟”
نظر لها جاد كالمسحور وهو يهتف بتبرير :
” لا ياقلب جاد، أنا بس كان عندي شغل وبخلصه، هو أنا أقدر اسيبك برضو ”
ابتسمت ميمو متحركة صوب الفراش تجلس عليه براحة شديدة واضعة قدمًا فوق الأخرى :
” شغل ايه ده ؟؟ ما تسيب الشغل لسعيد بقى وتفوق ليا يا عيوني ”
نفخ جاد بحنق شديد وهو يتحرك من مقعده صوب الخزانة يخلع سترته :
” وهو حد بقى يقدر على سعيد دلوقتي ؟؟ ده واحد ابن *** أنا هوريه، الاستاذ سافر عشان شغل، واسمع أنه بقى صاحب كيف وبيشرب مخدرات وبيهربها، ومش عامل حساب لاسمي لو اتقفش بيهم ”
ابتسمت ميمو بسمة مريبة وهي تنظر لظهره واعينها تلتمع بشر مخيف :
” ليه كده بس ؟؟ بعدين مش هو راجع ؟! اوعى يكون هيسافر بيهم لاحسن يتقفش في المطار ”
نفخ جاد يبعد رابطة عنقه بحنق شديد :
” راجع بيهم الاستاذ مصر وبيقولي مخافش لأنه مش اول مرة يعمل كده، طلع خبرة ابن الاستاذ، بس والله لما يرجعلي لأكون شايف حسابي معاه ”
نهضت ميمو عن الفراش تتحرك صوبه متمايلة، تضع يديها أعلى كتفه تدلكها وصوتها كالفحيح في أذنه:
” أنت بس أهدى يا روحي وسيبك من أي حاجة تحرق دمك، بعدين مش هو بيقولك أنه متعود ودي مش اول مرة ؟؟ خلاص سيبك منه وركز في حياتنا ”
نظر لها ببسمة واسعة وشعور بالانتشاء يسير بين اوردته، أن يمتلك زهرة كتلك الصغيرة، لهو انتصار لعجوز مثله ..
” مالها حياتنا يا قلبي ؟؟ ما هي زي الفل اهي ”
رمقته ميمو بنظرة غير مفهومة، تجذب ياقة ثيابه بشكل ظهر له ممازح، لكنها هي والتي كانت روحها تتلوى اشمئزازًا في الداخل، كانت تود لو تشدد الخناق على رقبته وتنتهي منه :
” هي جميلة فعلا ياقلبي، بس أنت مش ناسي حاجة ؟! مش ناسي أنك وعدتني تسمح ليا أخرج من البيت واروح النادي اتدرب على الرياضة اللي نفسي فيها من زمان ؟؟”
نظر لها جاد نظرة انبأت ميمو أنها مقابل تلك الخطوة لتدمره، سيكون عليها دهس جزء آخر من ذاتها، ستقتل جزء آخر منها، ابتلعت ريقها تستقبل نظراته ببسمة حاولت ألا تظهر فيها اشمئزازها منه ومن نفسها، تكره نفسها وتكره كل جزء تدنس بلمسات جاد، لكن لا فرار لها منه سوى بهذه الطريقة، صبرًا جاد …
وقبل أن يقترب منها جاد خطوة واحدة أنقذها صوتًا جعلها تبتسم بسعادة وراحة مبتعدة عنه بتحجج وهي ترسم القلق واضحًا على ملامحها :
” ايه ده ؟؟ سامع الصوت ده ؟!”
نفخ جاد بحنق شديد وقد استاء أن تزعجه زينب كل ليلة بصيحات وتأوهات، متى يتخلص من تلك الحشرة، لولا خوفه غضب سعيد وتمرده أكثر لكان القى بها في اقرب سلة مهملات، اقترب يمسك ذراع ميمو جاذبًا إياها إليه أكثر :
” سيبك منها، هي كل ليلة كده، يعني أنتِ مش عارفة زينب؟؟ خليكِ معايا دلوقتي ”
لكن ميمو أبعدت يده بصرامة وهي تنظر له بتحذير، ثم تحركت صوب الخارج تقول بهدوء :
” هروح اشوفها مالها وراجعة ”
خرجت تتجاهل سبات وصراخ جاد بحنق ولعناته التي خص بها زينب، تسير في الممر بسعادة كبيرة، فخطة زينب في إبعاد جاد عنها تنجح اغلب الليالي، هم بالطبع لا يكررون نفس الأمر في ليالي متتابعة، لكنها اليوم كانت في حاجة حقًا لطوق النجاة الذي تلقيه لها زينب …
دخلت الغرفة بهدوء وهي تغلق الباب خلفها تقول بصوت خافت وامتنان شديدة لزينب التي مثلت لها والدة أخرى منحها لها الله بعد وفاة والدها، حتى أنها أضحت تناديها بماما عرفانًا وشكرًا لها :
” خلاص يا ماما أنا جيت اهو، والله جدعة ده كان لسه هيـ …”
توقفت عن الحديث فجأة حينما رأت تأوهات زينب تزداد وجسدها يرتجف بقوة وصرخاتها تعلو، هنا وشعرت ميمو أنها لا تدعي الأمر كالعادة، اقتربت منها بسرعة مخيفة وهي تقول بخوف :
” ماما …ماما فيه ايه ؟؟ ماما مالك ؟!”
بكت وهي ترى جسد زينب يرتجف ونظراتها تجحظ بشكل جعلها تطلق صرخة مرتعبة، تركض خارج الغرفة تصرخ بصوت رجّ جدران المنزل :
” جـــــــاااد …جـــــااد الحقني، ماما بتموت ”
اقتحمت الغرفة وهي تصرخ بوجه شاحب وعيون تسيل منها الدمع، تجذب يده بقوة :
” الحق ماما، بسرعة ابوس ايدك، بتموت اتصل بالدكتور بتاعها بسرعة، يا جاد اتحرك ابوس ايدك”
ها هي عادت للتذلل له، عادت لأجل امرأة اعتبرتها والدة، لكن جاد لم يفعل سوى أنه نفض يدها بحنق لضياع ليلته يتحرك صوب الفراش يلقي بجسده عليه :
” شوية وهتسكت، مش اول مرة يعني، بعدين ايه ماما دي ؟؟ دي ضرتك لو ناسية ”
بكت ميمو برعب وهي تنظر له، ثم لباب الغرفة، قبل أن تقرر هي الركض والاتصال بالطبيب، اقتحمت الغرفة وجسدها يرتعش بجنون :
” فين الكارت بتاع الدكتور، طب أي علاج ارجوكِ ردي عليا”
كانت تتحدث وهي تعبث بكل الأدوية التي تتوسط الطاولة جوار زينب، لكن فجأة تحقق حديث جاد وصمتت زينب، استدارت لها ميمو ببطء وقلق لتراها تحرك شفتيها حركات بطيئة، ومن ثم رسمت على وجهها ابتسامة غريبة و…
انطفئت الحياة بأعين زينب وغادرت الدنيا بعدما نالت نصيبها من المعاناة، والآن حانت لحظتها لترتاح واخيرًا، ماتت مبتسمة وكأنها لا تصدق أن الله كتب لها الفرج من ذلك الجسد، أن روحها تحررت من كل ذلك .
في تلك اللحظة أطلقت ميمو صرخة شقت سكون الليل وهي ترتمي على جسد زينب تبكي وتنتحب بقوة :
” لا متسبنيش لوحدي، ارجوكِ متسبنيش لوحدي، أنا خايفة، يا ماما خديني معاكِ، كلكم سبتوني، متسبنيش، مــــــامــــا ”
انتفض جسد ميمو من تلك الهوة على صوت طرق على بابها، تنفست بعمق وهي تمسح دموعها، تحاول أن تخرج من تلك الحالة سريعًا، تسمع صوت نيرمينا تطلب أذنها للدخول ..
” تعالي يا نيمو ”
خطت نيرمينا للغرفة لتبتسم لها ميمو وهي ترى بها زينب أخرى، نفس الملامح الشقراء التي ورثتها منها هي وسعيد، ولم ترث نيرمينا من جاد شيئًا سوى اسمه، عدا سعيد الذي استخلص كل سواد جاد لنفسه .
ابتسمت نيرمينا وهي تقول ببسمة واسعة بعدما استيقظت واخذت مسكن لأجل رأسها:
” أنا خليت الدادة تعمل لينا مكرونة، تحبي تأكلي معايا ؟!”
اقتربت منها ميمو تضمها بحب مقبلة رأسها :
” طالما مع نيمو، يبقى احب اوي يا عيوني”
____________________
وبمجرد أن سمع الجميع صوت الجرس يصدح في المكان حتى انتفض الأربعة بشكل مخيف جعل رؤوف يرفع قدميه سريعًا على المقعد خوفًا أن ينتزعها أحدهم أثناء هرولته للخارج .
الأربعة يتسابقون على من يصل له اولًا ويكون له نصيب الأسد من صالح، ورؤوف ينظر للباب بأعين متسعة ورعب وقلبه يخبره أن اليوم لن يمر مرور الكرام …
وعلى الدرج كانت تقف الثلاث فتيات؛ هاجر التي سافرت صبيحة اليوم لأجل أن تكون مع رانيا في يوم كهذا، ليس وكأنها تفعل ذلك دائمًا، لكن هذه المرة اختلفت الأمور، وكذلك مروة التي جاءت لتشدد من أزر رفيقتها، واخيرًا العروس المنشودة للطبيب صالح .
الجميع يحاول أن يصل بانظاره صوب الباب ليروا ما يحدث، لكن خابت جميع آمالهم، فمن موقعهم هذا لن تصل رقابهم _ولو كانت تماثل رقبة الزرافة طولًا_ للباب ..
في الاسفل كان أول الواصلين للباب هو جبريل، الذي اتفق مع إخوته على التخلص من ذلك الشاب اليوم والانتهاء من وجع الرأس الذي جلبه على منزلهم الهادئ..
فتح جبريل الباب بقوة كبيرة جعلت الطارق ينتفض للخلف، لكنه لم يسمح له بالتقاط الأنفاس وهو يجذبه من ثيابه للداخل وتجمع الكل حوله ..
وصلاح يقف بين الأربعة لا يفهم ما يحدث سوى أنه وقع بشرك أخيه الذي طلب منه هو طرق الباب .
قال جبريل وهو يجذبه بقوة من سترته :
” جيت تاني يعني ؟! ايه وحشناك ؟؟”
حاول صلاح أن يبعد يد جبريل عنه وهو يردد بهدوء وبسمة :
” دي مرتي الأولى اللي اتشرف بيها برؤيتك يا استاذ ”
انتزعه محمد من يد جبريل وهو ينفث فيه بعض دخان غضبه :
” والأخيرة باذن الله يا حبيبي ”
واخيرًا استطاع صلاح أن يفلت من بين قبضة محمد وهو يعدّل من وضعية سترته يقول بجدية كبيرة :
” واضح أن فيه معاني مبطنة في كلام حضرتك، لكن أنا مش هفترض السوء، وهقول أنك حابب تتم الزواج بسرعة وعشان كده مش هندخل البيت، وانتم اللي هتنورونا في بيتنا ”
ورغم النظرات والكلمات التي تختلف كليًا عن الخاصة بصالح، إلا أن الأربعة والذين يجهلون وجود توأم لصالح، كانوا يقفون على صفيح ساخن وهم يستمعون لكلمات صلاح ظنًا أنه يحاول السخرية منهم؛ لذلك اندفع عبدالجواد ينتزعه من بين الجميع صارخًا في وجهه :
” أنت ياض ملتك ايه ؟! مش بتحس ؟! يعني المرة اللي فاتت شوفت أننا كلنا رافضين ومش طايقين وجودك، ورغم كده جيت تاني، ايه عايز تشوف وش تاني لينا ؟؟”
في تلك اللحظة ارتفع صوت صالح الذي دخل المنزل بعدما رأى أنهم ابتلعوا طُعمه، وامسكوا بصلاح ظنًا أنه هو، يمر من جوارهم بكل برود صوب الداخل وهو يقول باستفزاز :
” هو فيه وش اوحش من الوش اللي شوفته ؟؟ يا اخي الله يكون في عون اللي عايشين معاكم ”
أنهى حديثه يدخل الغرفة تحت أنظار الأربعة الذين اتسعت أعينهم وقد شعروا فجأة بالصدمة، لدرجة أن عبدالجواد سريعًا استدار ليرى إن كان يمسك بصالح أم أنه تسرب من بين يديه ودخل للغرفة .
لكن كل ما رآه هو نسخة منمقة من صالح، وتلك النسخة مدت يدها ترسم بسمة غريبة أعلى فمها يبعد يده، ثم نفض سترته بهدوء شديد وهو يقول بنبرة راقية على الأقل مقارنة بأخيه:
” أنا صلاح، اخو صالح التوأم، اتشرفت بيكم وباستقبالكم ليا ”
أنهى حديثه يرميهم بنظرة مستفزة، ثم تحرك بخطوات هادئة واثقة خلف صالح، والأربعة يحدقون بظهورهم في صدمة ..
وبمجرد أن دخل صالح للغرفة، حتى تحرك يستقبل حماه الغالي بالاحضان والقبلات :
” ابو محمد الغالي، والله ليك وحشة ”
ضحك رؤوف وهو يبادله العناق مربتًا أعلى ظهره بحب وقبل أن ينطق بكلمة أبصر فجأة نسخة من صالح يقف خلفه ينظر لهم ببسمة، انتفض رؤوف للخلف بخوف ليتعجب صالح ويقول :
” ايه فيه ايه ؟؟”
أشار رؤوف خلف صالح وهو يبتلع ريقه بخوف :
” قـ..قرينك ”
نظر صالح لصلاح الذي ابتسم بسمة جانبية وقال :
” لا قرين ايه بس، ده صلاح اخويا التوأم ”
تحرك صلاح صوبه يمد يديه باحترام شديد وهيبة يصافحه :
” مساء الخير يا فندم، اتشرفت بمعرفتك ”
نظر رؤوف بعدم فهم لصالح الذي ابتسم وهو يقول :
” اصله متربي زيادة شوية ”
في تلك اللحظة أبصر الأربعة يدخلون للغرفة وهم يبحثون عن صالح بينهم، وقد نسوا من كان بين أيديهم، ورغم اختلاف الوان القميص، فصلاح يرتدي الاسود، وصالح الابيض، واختلاف شكل الشعر، إلا أن الصدمة انشأت عند الجميع حالة عدم التمييز بينهم .
ابتسم صالح يشير لنفسه بثقة :
” أيوة أنا يا حبايبي”
أنهى حديثه وهو يخرج هاتفه يقول بجدية لصلاح :
” اخلي محمود يدخل ابوك ؟؟”
نظر صلاح لهم وهو يضم ذراعيه لصدره، فتلك كانت فكرته هو، أن يدخلوا ويدرسوا الأمور بحجة اخبار الجميع بمجيئهم ومن ثم يستدعون والدهم ومحمود ..
هز صلاح رأسه موافقًا، ليتصل صالح بوالده وهو يشير لهم بالجلوس:
” اقعدوا بدل ما الحاج يدخل يتفزع من منظركم كده ”
أشار لهم رؤوف بتحذير أن يجلسوا، ورغم الاعتراضات والتأففات جلس الأربعة بتحفز شديد أعلى المقاعد وفي الجزء المقابل لصالح وصلاح، وكأنهم صنعوا جبهتين حرب ..
خرج رؤوف يستقبل بنفسه والد صالح، تاركًا خلفه الجميع يسنّ أسلحته استعدادًا لمعركة حامية بين الطرفين، وصالح كان أول من شنّ هجومه محركًا المياه الراكدة لدى الطرف الآخر متسببًا في امواج عاتية :
” شوفت يا صلاح، عشان قولتلك دول شوية همج مصدقتنيش ”
نظر صلاح لهم ثواني، قبل أن يردد بتقريع :
” عيب يا صالح، الناس قاعدين هاديين اهو واستقبلونا احسن استقبال، عيب لما تقول كده عليهم وقدامهم يا حبيبي، مش اخلاقك دي ”
ابتسم عبدالله ساخرًا من الأمر والمشهد أمامه :
” شكل رانيا وقعت في قليل الادب اللي فيهم ”
وافقه جبريل وهو يراقبهم بملامح مقتضبة :
” طول عمري اقول البنت دي حظها زي الزفت ”
امتص صالح شفتيه يتحسر معهم على حال رانيا، وقد تبقى أن ينتحب و يولول على حياة تلك الفتاة التعيسة التي القتها الاقدار لمثل هذا الأمر :
” والله عندك حق، ده نفس اللي قولته اول ما عرفت انكم اخواتها ”
تنهد بصوت مرتفع، ثم أكمل برضى :
” بس يلا اهو ربك مش بيظلم عباده، عوضها بيا، وإن شاء نتجوز وانسيها اسمكم ”
اشتد غضب الأربعة ليهب محمد ضاربًا الطاولة بقدمه وهو يصرخ بجنون :
” ده لو بقى….اصل مش بعد ما رفضنا مهندسين ودكاترة وناس محترمة كتير وكبار في البلد نقبل بيك أنت ”
وقف صالح أمامه يقول بمجادلة وعناد :
” كبار في البلد، كام سنة يعني ؟؟ أنا كلها كام شهر واتم ٢٨، بعدين ما أنا كمان دكتور على فكرة ”
تشنج الجميع أمامه برفض لذلك التصريح الذي خرج من فم صالح، وكان أول المتحدثين والمعبرين عن الصدمة هو عبدالله الذي قال :
“دكتور؟ هي هزّلت في نقابة الطب عشان يقبلوا بيك ؟؟”
” أيوة يا حبيبي هزّلت، هزّلت بالضبط زي ما نقابة المهندسين قبلوا بيكم أنتم الأربعة دفعة واحدة ”
ارتفع صوت عبدالجواد متسائلًا بفضول :
” دكتور ايه إن شاء الله ؟؟ اكيد دكتور اطفال، اصل رقة القلب واللسان الطيب ده عمرهم ما يكونوا غير في قسم زي الاطفال ”
ضحك صالح وهو يجلس مجددًا يريح جسده ببرود شديد، وصلاح يراقب ما يحدث متحفزًا للتدخل إن تمادى أحدهم وتعدى حدوده أكثر مع أخيه ..
” لا يا حبيبي فيه قسم تاني مناسب لرقة قلبي اكتر من الأطفال، عقبالكم جميعًا يارب لما تنوروه كده واشوفكم على اربع سراير قدامي متغطتيين بملايات بيضة”
وقبل أن يبادر أحدهم بالصراخ أو الاستفسار عن مقصده، سمعوا جميعًا صوت رؤوف يضحك بألفة شديد وهو يدخل المكان مرحبًا بمرتضى :
” اتفضل اتفضل، والله نورتونا ”
دخل الثلاثة رجال تباعًا، وكان آخرهم محمود الذي تمعن في المنزل حوله ورغم أن منزله يشابهه في المستوى، إلا أنه أحبه .
تحرك محمود وجلس جوار صالح يهمس له بتفاؤل شديد :
” ايه يا صالح الدنيا ؟؟ اتصافيتوا ؟؟”
ابتسم صالح بسمة ساخرة جانبية :
” اتصافينا ايه بس، دي اتعكرت اكتر يا محمود، لسه مصرين أنهم يبوظوا جوازتي ”
ربت محمود أعلى قدمه بمؤازرة وتأكيد :
” متقلقش يا صاحبي والله هتتجوزها متخافش ”
هز رأسه وهو ينظر لصلاح الذي طمأنه بنظراته هو الآخر، ومن ثم والده الذي انسلخ عن حديثه مع رؤوف وقال :
” ها يا بني مهدت ليهم الموضوع ؟؟ اتكل على الله واقول الكام جملة اللي حفظتهم ”
نظر صالح حوله وهو يميل على والده يهمس بعدم فهم :
” كام جملة ايه اللي حفظتهم يا حاج ؟؟ أنت جاي امتحان شفوي ؟؟ الله يكرمك أنا مثبت الجوازة دي على تكة ”
وضع والده يده أعلى صدره بهدوء :
” يابني أهدى كله متظبط، أنا بس حفظت خمس جمل من اللي بيتقالوا في المناسبات دي عشان نفتتح الحديث ”
ابتسم صالح يتأمل من حديث والده خيرًا:
” حيث كده، اتفضل يا حاج ابهرهم وافتتح الحديث ”
أشار له مرتضى بإبهامه مبتسمًا، ثم اعتدل يتنحنح بصوت مرتفع يجذب انتباه الجميع، فقد كانوا هم أيضًا يتناقشون سويًا بصوت منخفض .
واستهل مرتضى حديثه بقوله :
” طبعًا احنا بنعتذر أننا جينا من غير ميعاد ”
جذبه صالح بسرعة نحوه حينما رأى نظرات الاستنكار تعلو وجه رؤوف متسائلًا عما يقول والده ..
” ايه يا حاج من غير ميعاد ايه ؟؟ ما أنا متفق معاهم على الميعاد ”
” بجد ؟؟ مقولتش ليه عشان اعدل الجملة طيب ”
نظر له صالح يتساءل بجدية :
” هي دي واحدة من الخمسة ؟؟”
اومأ له مرتضى، ليشير له صالح بتجاوزها :
” سيبك من دي ونط على الجملة التانية، وربنا يستر على باقية الأربع جمل اللي حيلتنا”
أنهى جملته وهو يشير لصلاح بالاقتراب فقد كان صلاح يجلس على مقعد منفرد وهو يتوسط محمود ووالده ..
مال صلاح بنصف جسده ليقترب من صالح الذي همس له بجدية كبير :
” لو ابوك خلص الجمل بتاعته، تدخل أنت في الحوار وتكمل، مش هنسكت ونقول للناس معلش اصل الحاج مش محضر ”
كتم صلاح ضحكة صاخبة كادت تفلت من فمه، وهو يغمز لصالح ببسمة واسعة :
” متقلقش أنا معنديش اكتر من الكلام، دي مهنتي يا حبيبي ”
ألقى له صالح قبلة في الهواء يعتدل في جلسته نافخًا صدره يستمع لوالده يتلو عليهم الجمل التقليدية التي مكث ليلًا يجمعها من الأفلام القديمة ويبحث على متصفح جوجل حول ( خمس جمل لطلب عروس ) ..
” أنا يا استاذ رؤوف يسعدني ويشرفني اطلب ايد بنتك البكر الرشيد …. ”
توقف مرتضى في منتصف الحديث وهو يميل على صالح متسائلًا مرة أخرى بشكل جعل الجميع يتعجب:
” أنت مقولتليش العروسة اسمها ايه ؟؟”
ابتسم صالح للجميع يقول من تحت أسنانه :
” رانيا يا حاج اسمها رانيا، بعدين ايه بكر رشيد دي ؟؟ أنت بتكتب الكتاب؟؟ ”
تجاهله مرتضى وهو يعتدل في جلسته مرة أخرى والاربعة يراقبونهم بأعين ساخرة واجساد متحفزة وافواه مزمومة بشكل يوّضح للاعمى أنهم رافضون لكل ذلك …
” بنتكم الآنسة رانيا على ابني الدكتور صالح ”
ابتسم صالح وهو ينفخ صدره يحرك حاجبيه باستفزاز للاربعة، ووالده يتعجب نظراتهم لهم بشكل مخيف جعله يتساءل :
” هو اخواتها مالهم بيبصوا عليا كده ليه ؟؟”
انحنى صالح يقبل كتف والده بسعادة ثم حرك يده عليه كأنه ينظفه من غبار وهمي :
” مش مصدقين طبعًا أن القمر ده يبقى ابويا، سيبك منهم يا حاج وكمل باقيلك تلات جمل، سمعهم وشرفني يا غالي”
وكلمات صالح دفعت الثقة لصدر مرتضى، وصلاح يضع يده أعلى فاهه يعضها بقوة مخافة أن تنطلق ضحكاته صاخبة في المكان، جيد أنه لم يفوت ذلك العرض الممتع، بينما محمود لم يكن يهتم بكل ذلك حينما أبصر هاجر تدخل للمكان وهي تحمل لهم جميعًا الضيافة …
انتفض جسد محمود بحركة تلقائية حينما يراها، فهي الوحيدة الذي تتسبب في انتفاضة كل خلية داخله، وهاجر كانت تنظر للجميع ترحب بهم باحترام شديد، لتقع عيونها على محمود الذي سبب ارتباكًا طفيفًا في حركتها .
ابتسم لها يحرك رأسه بتحية صامتة لها، وهي دفنت وجهها ارضًا بسرعة كبيرة والخجل تملك منها، ليزداد التماع عين محمود، وتزداد دقاته بشكل مبالغ فيه ..
سارع بالجلوس وهو يميل على صالح قائلًا وعيونه لم ينتزعها عن هاجر :
” بقولك ايه يا صالح، ما تخلي ابوك يسيبلي جملة في الآخر كده يطلب بيها ايد جوجو ليا ”
دفع صالح وجهه بعيدًا عنه :
” ابقى هات ابوك هو يتكلم، أنا ابويا عامل جمل يا دوبك على قد القعدة كلها ”
ابتسم مرتضى وهو يراقب هاجر ببسمة :
” دي عروستك يا صالح ؟؟ قمر يابني ”
دفع محمود جسد صالح للخلف يقترب من مرتضى وهو يردد بجدية كبيرة :
” لا يا حاج دي مش عروسة صالح، دي بسكوتة محمود ”
اعتدل يتمتم بحنق شديد وقد انقشعت الغيمة الوردية فجأة وعلى الغضب وجهه :
” صحيح البسكوتة في ايد اليتيم عَجبة ”
استأذنت هاجر من الجميع تنسحب سريعًا من الغرفة ومحمود يراقبها باهتمام، ثم انتبه لصوت محمد الذي قال بنبرة جامدة :
” والله يا استاذ كلامك كله تمام، لكن للاسف احنا اختنا مش هينفع تتجوز ابنك خالص …”
__________________
هبطت من السيارة تستقبلها رياح لطيفة تحمل معها روائح الأراضي المزروعة حولها، ابتسمت وهي ترى رائد يخرج من السيارة، ينظر للإطار الذي ثُقب على بداية البلدة وتسرب منه بعض الهواء…
نظرت حولها لكل تلك الأراضي الخضراء على مد البصر، مظهر ستكون سعيدة لرؤيته المتبقي من عمرها حين استيقاظها، تحسد قاطني ذلك المكان، فبدلًا من الاستيقاظ على أصوات الصراخ ومناظر البيوت الملتصقة، يستيقظون على هذا .
أفاقت تسبيح من شرودها على صوت رائد يتوقف جوراها يقول ببسمة واسعة لا يرى من ملامحها سوى عينيها، وقد كانتا أكثر من كافيتين لتوضيح مدى راحتها بما ترى :
” عجبك المكان ؟!”
استدارت له تسبيح تقول بصوت خافت رقيق :
” سبحان الله المناظر بجد جميلة اوي، بارك الله لأصحابها فيهم يارب ”
أجابها رائد ببساطة :
” كل دي اراضي والدي وشغال فيها فلاحين من البلد، وبعضها متأجرة بالسنة ”
شهقت تسبيح بصدمة وهي تحدث به لا تصدق ما يقول :
” ما شاء الله، دي املاك والدك ؟؟”
ابتسم رائد يهز رأسه ثم قال بجدية :
” معظم الأراضي الشرقية هنا ملك لوالدي، والجنوبية ملك لعمي مرتضى والد صلاح وصالح، وباقي الأراضي في البلد متوزعة على الفلاحين ”
مازحته تسبيح بخفوت :
” ماشاء الله طلعتوا اغنيا وانا اللي كنت مفكراكم شوية شباب الدنيا جاية عليكم ومش عارفين تأمنوا لقمة عيشكم”
ضحك رائد بصوت صاخب وهو يقول من بين ضحكاته :
” والله يا تسبيح هي الدنيا جاية علينا فعلا، جاية علينا بالقوي كمان ”
صمت يوضح لها من بين أنفاسه حين أبصر نظرات الجهل تعلو حدقتيها :
” الاراضي زي ما قولت ملك لأهلنا مش لينا يا تسبيح، يعني كل ده نتيجة تعب اهالينا، ورغم أن لينا فيها عادي، لكن احنا التلاتة عندنا مبدأ في الحياة، أننا بنتعب ونأسس نفسنا بنفسنا، واهو صلاح بيكتب وشغال صحفي، وصالح بيقضي يومه تشريح، وانا بروح القسم اخسر قضية وارجع كل يوم ”
نظرت له تسبيح بشفقة كبيرة تستشعر المرارة في صوته :
” بس أنت احسن ظابط أنا شوفته في حياتي يا رائد ”
نظر لها رائد ببسمة حنونة يقدر لها تلك الكلمات التي انعشته من الداخل وجعلته يشهؤ كما لو أنه ارتشف كوبًا مثلجًا من الماء في حرارة الصيف وفي وسط الصحراء :
” مش قصدي أتجاوز حدودي أو حاجة والله، بس …كلماتك دي عندي اكبر من الترقية اللي عايش عمري اجري وراها ”
وفي تلك اللحظة ابتأس رائد أنه لم يوفر جملته تلك والتي خرجت عفوية منه لما بعد عقد قرآنه بها، وقتها كان ليرى ذلك التأثير الكبير الذي انعكس في عيونها ..
وتسبيح تشعر وكأنها لا تمس الأرض أسفلها من شدة سعادتها، كيف يمكن لإنسان أن يكون بارعًا في التحكم بمزاج انسان آخر بهذه الطريقة، رائد يستطيع في ثواني أن يضحكها من بين دموعها …
في تلك اللحظة أفاق الاثنان على صوت سليمان يستدعيهم لدخول المنزل :
” رائد هات تسبيح وتعالى مينفعش وقفتكم كده ”
خجلت تسبيح وهي تهرول أمامه بعيدًا عنه، بعدما تناست أين هي ومع من ..
ورائد يسير خلفها ببسمة يراها تخطو صوب والده الذي قابلها ببسمة يشير لها بدخول المنزل، ومن ثم استقبله هو بنظرات يرفع عكازه يدفع به كتفه بخفة :
” ما كفياك حب يا خويا هتفضحنا واحنا لسه مخلصناش من حوار منال، استرنا خلي ربك يسترها معانا، بدل ما تلاقي نفسك قاعد جنب منال في الكوشة ”
فتح رائد عيونه شاهقًا باعتراض شديد :
” لا يا حاج هلم نفسي اهو حاضر، أنت بس خد معاد مع ابوها خلينا نخلص واكتب كتابي على تسبيح ”
ضربه والده بالعكاز في خفة :
” ما تثبت شوية يا خويا، مالك مسروع كده ”
ضحك رائد بسعادة وهو يسير مع والده داخل المنزل والذي كان كبيرًا وتراثيًا لكن فخمًا ومنظمًا بشكل مبهر :
” يا حاج عايز اتكلم معاها براحتي مش من ورا النقاب كده”
نظر له سليمان قليلًا قبل ان يهتف بجدية :
” أنت شوفت شكلها صحيح ؟؟ أنت عارف أن ده حقك يا بني أنها تخلع النقاب قدامك ولو لمرة كرؤية شريعة عشان تشوفها ”
ابتسم رائد وفي رأسه يستعيد كل تلك الصور لها، مواقف عديدة مرة بها مع تسبيح، وقتها لم يهتم بمظهرها بقدر ما اهتم بالموقف الذي رآه به لكن الآن يحاول استدعاء صورتها في رأسه ليردف بجدية :
” أيوة يا حاج شوفتها، ومش شكلها اللي هيخليني اغير رأيي أو افكر ”
في تلك اللحظة سمع الاثنان صوت نعمة ( والدة رائد ) تتحدث بعدم فهم لتسبيح التي كانت تحدق فيها بخجل ولا تعلم ما تخبرها به :
” ما تتكلمي يابنتي أنتِ بنت مين هنا ؟؟ طب تايهة ؟؟”
تحدث رائد والذي تدخل في الحوار سريعًا يلقي أعلى رأس والدته قنبلته دون تمهيد :
” دي تسبيح يا امي، خطيبتي وهتبقى مراتي قريب اوي ”
حدقت نعمة في تسبيح بأعين مدهوشة، ومن ثم نظرت لابنها وزوجها الذي قال يتدارك صدمتها :
” أنا هفهمك يا نعمة بس اصل ابنك هـ ”
وقبل أن يتمم جملته قاطعتهم نعمة بإطلاق زغرودة عالية رن صداها في المكان بأكملة، ومن ثم انقضت بجسدها كله على تسبيح تمطرها بوابل من القبلات والاحضان والكلمات التحببية :
” والله ما مصدقة، أخيرًا هتتجوز يا رائد ؟؟ يا ختي ايه القمر ده، والله وعرفت تختار يا واد ”
كل ذلك وهي لم تبصر من تسبيح سوى عينيها، فما ردها حينما تراها دون نقابها، وما حاله هو حين يبصرها بنفس الهئية امامه ..
كانت تلك افكار رائد وهو يراقب بأعين شاردة ما تفعل والدته وكلماتها العفوية لتسبيح التي كانت تضحك ضحكات خافتة وتبتسم لها، وكأنها كانت مكبوتة وحينما أمنت ردة فعل والدته انطلقت تتصرف بعفوية؛ عفوية لم يرها هو سوى في ردودها الحمقاء مثل خاصته .
قالت نعمة وهي تجر تسبيح خلفها صوب المطبخ والفضول يأكلها لترى مظهرها :
” تعالي معايا يا حبيبتي احطلك شوية بسكوت وشاي بلبن لغاية ما الفطار يجهز ”
راقبهم رائد يعلم جيدًا أن والدته اخذتها لمرحلة الفحص الكلي لتتأكد من اختياره، ابتسم ينظر لوالده بجدية :
” كنت عايز أسألك يا حاج، امتى اقدر اكتب كتابي ؟؟ أنا خلاص مبقاش عندي صبر، عايز اتعامل معاها براحتي بدون ما احس نفسي متقيد، وكمان بعد كتب الكتاب عايزك تعملي اشهار في الجوامع كلها عشان الكل يعرف”
ومن بين كلمات رائد انبثقت كلمات اخرى لرجل يتحدث بتعجب :
” كتب كتاب ايه ؟؟ أنت خلاص هتكتب كتابك على بنتي؟؟ ومن غير ما اتبلغ قبلها يا رائد ؟!”
استدار سليمان ببطء صوب مسعد والذي كان هو نفسه والد منال، ليشعر أنه وقع في مأزق قبل أن يحضر نفسه له، ورائد جواره يعض شفتيه وداخله كان سعيدًا لأنه عاجلًا او آجلًا كان سينهي الأمر؛ لذا لا ضير إن فعل الآن..
” كويس أنك جيت يا حاج مسعد، أنا والحاج كنا عايزينك ضروري في موضوع…..”
__________________________
تحرك داخل المكان بريبة، لا يدري سبب إحضاره هنا، لكنه يدرك جيدًا أنه ليس بالخير ابدًا، فمتى كان الخير مقرونًا باسم غانم ؟!
توقف في منتصف المكتب يحدق بجسد غانم الذي يكاد المقعد أسفله يتداعى لضخامته، وأرجله الخشبية تستغيث من ذلك الحمل الكبير عليها ..
اعتدل غانم في جلسته وهو يبتسم بسمة لم تطمأنه، بل ساهمت في اثاره رعبه أكثر وأكثر، وازداد الرعب اضعافًا حينما تحدث غانم :
” ازيك يا جلال ؟!”
ابتلع جلال ريقه، يجيبه بارتباك واضح عليه، ورغم أن غانم لا يفضل العمل مع الحثالة امثال جلال إلا أنه وعملًا بمقولة ( عدو عدوي صديقي ) فجلال الآن السبيل الوحيد له لتنفيذ ما يحلم به .
” الحمدلله يا باشا أنا …أنا زي الفل”
ابتسم له غانم، ثم أشار له بالجلوس وفعل جلال سريعًا وقد حصل أخيرًا على فرصة ليريح قدميه اللتين كانتا ترتجفان تحت وطأة ما يحدث ..
تحدث غانم بجدية كبيرة يضم كفيه أعلى المكتب :
” قولي يا جلال، مزعل منك سعيد ليه ؟؟”
نظر له جلال بعدم فهم لثواني، قبل أن ينتقض قائلًا بجهل لما يحمل غانم في صدره لسعيد :
” محصلش ياباشا والله، هو بس سعيد باشا اللي بقى في الفترة الأخيرة خلقه ضيق ”
” بس انا عايزه يحصل يا جلال ”
نظر له جلال بعدم فهم ليوضح له غانم ما يقصد :
” أنت بتقول محصلش أنك زعلته، بس انا عايزك تزعله يا جلال، واهو منها تفش غلك بسبب الرصاصة اللي لسه سايبة أثرها ومنها تاخدلك قرشين حلوين وتهج برة البلد كلها ”
ابتسم جلال باتساع وهو لا يصدق ما يسمع، هل عرض عليه للتو أموالًا وفرصة للسفر، والأهم أهداه انتقامًا تحت حمايته ؟!
” اؤمرني ياباشا، أنا خدامك من ايدك دي ..لايدك دي ”
ابتسم غانم وهو يعبث بعدة صور أمامه قبل أن يلقي بواحدة لجلال الذي سال لعابه على صاحبة الصورة وصوت غانم يصدح في الخلفية :
” شايف اللي في الصورة دي ؟؟ عايزها تكون واحدة من الحلوين اللي هيتشرحوا الدفعة الجاية”
رفع جلال عقله بصدمة وقد فرقعت تلك الكلمات الفقاعة الوردية حوله وردد بجهل ؛
” دفعة جاية ايه ؟! حضرتك سعيد باشا بيشتغل في الاموات، أنت عايزنا تقتلها ؟!”
هز غانم رأسه بقوة رافضًا
” لا مش عايزها تموت خالص، أنت بس عليك تخطفها وتسلمها لوسيم ورجب والباقي عليهم وملكش دعوة أنت”
” أيوة ياباشا بس …”
ضرب غانم المكتب بقوة وهو يصرخ في وجهه :
” اخلص أنا مش عايز كلام كتير، هتعمل كده ولا مش هتعمل ؟؟”
وافق جلال بسرعة كبيرة وهو يقول :
” هعمل ياباشا هعمل، بس أنت معلش فهمني براحة أنا هعمل ايه بالضبط ”
ضم غانم كفيه وهو يميل قليلًا، ثم همس بجدية :
” هقولك، بس تصحصح معايا …”
____________________
استيقظت من غفوتها الصغيرة التي سقطت بها دون أن تشعر بعدما تناول الغداء مع ميمو، والآن فتحت عيونها على نبضات ألم عنيفة تضرب رأسها، نظرت حولها بتعب تحاول البحث عن ذلك العلاج الذي يُسكن آلمها والذي أضحت تأخذه دون حساب ..
لكن تذكر أنها تركته في المطبخ حينما كانت تأكل مع ميمو ..
تحركت من فراشها صوب الخارج وهي تحاول الوصول للمطبخ، لكن في طريقها شعرت بدوار عنيف يتملك منها .
أمسكت في الجدار تقاوم إغماء وشيك قبل أن تستمتع لصوت ملهوف جوارها يردد بنبرة خافتة :
” نيمو حبيبتي أنتِ بخير ؟!”
استدارت نيرمينا تحدق بوجه أخيها الشاحب منذ البارحة، لا تعلم ما أصابه، لكنه جامد ذابل وفاقد لكل معاني الحياة منذ استفاقت من المخدر ..
” أنا بس حسيت نفسي تعبانة شوية، عايزة المسكن عشان راسي ”
نظر لها سعيد ثواني قبل أن يميل حاملًا إياها متوجهًا لمطبخ المنزل وهو يقول بجدية كبيرة :
” مينفعش تاخدي أي أدوية بدون ما تاكلي، بعدين أنا حاسس أن المسكنات الكتير دي غلط عليكِ ”
ضمت نيرمينا رقبة سعيد بقوة، وبدون أي مقدمات قبلت وجنته بحب، ثم استندت برأسها أعلى كتفه تردد بحزن على ملامحه المنطفئة :
” مالك يا سعيد ؟؟ أنت زعلان ؟؟”
بل اموت قهرًا، فكرة أن حياتي قد تنتهي في أي مكان عدا ذراعيّ زهرتي تقتلني، أن أعيش دون فكرة أنه وعند كل حزن سأذهب لاروي ظمأ قلبي من بحار بسماتها، حتى وإن صرخت في وجهي، تصيبني بالجنون ..
افكار وكلمات كثيرة تدور في رأس سعيد، لكن ايًا منها لم تعبر عما يكنه داخل صدره، وكل ما استطاع قوله هو :
” أنا بخير يا نيمو بس كنت خايف عليكِ يا قلبي ”
ضمته نيرمينا أكثر وهي تربت على كتفه بذراعيها وكأنها تحاول اصلاح ندوب داخله، ندوب لن تمحيها مائة ربتة، لكن وجود نيرمينا الآن جوار خافقه يخفف من وجعه :
” متخافش أنا كويسة طول ما انت معايا يا سعيد”
قبل سعيد رأسها يضعها بحرص شديد أعلى مقعد المطبخ :
” وسعيد هيفضل سعيد طول ما أنتِ معاه يا نيمو ”
ابتسمت نيمو له ببسمة واسعة وهي تتذكر مشاغبته لها قديمًا مستخدمًا اسمه، تحرك سعيد يحضر بعض الطعام التي تأتي سيدة لتُعده، ثم ترحل فهو لا يحبذ وجود الغرباء بشكل دائم في منزله…
وضع الطعام أمام نيرمينا، ومن ثم صب لها كوب عصير في الوقت الذي شعر فيه باهتزاز هاتفه، وضع الكوب أمام نيرمينا، قبلها قبلة سريعة يقول بجدية :
” هرد على التليفون وراجع ماشي ؟!”
هزت نيرمينا رأسها وهي تنظر للطعام بلا شهية حقيقية، لكنها رغم ذلك اكلت بعض اللقيمات لأجل إنهاء ذلك الدوار المزعج، وأثناء ذلك لمحت من الباب الخلفي للمطبخ جسد يسير في الظلام، ودون تفكير علمت صاحب ذلك الجسد الرياضي والطويل، جسد يتميز به صاحبه ..
أمسكت نيرمينا الطعام سريعًا وتحركت صوب الحديقة مبتسمة بسمة واسعة، فهي لم تر مختار منذ عادت من المخيم مع سعيد، وقد أخبرها الأخير أنه ذهب ليحزم امتعتها، وأمر آخر هي لا تعلم عنه شيئًا …
ابتسمت ترى جسد مختار وقد استقر في الظلام أسفل إحدى الأشجار، تحركت صوبه تمسك الطعام لأجله وهي تهمس باسمه :
” مختار …أنت اكلت ؟! جبتلك اكل ”
لكن لم يصل لها ردًا من مختار سوى رؤيتها لجسده يتحرك ببطء وبهدوء، فجأة ضربها الإدراك وهي تنظر بصدمة صوب مختار :
” مختار أنت… أنت بتعيط ؟؟”
شعرت نيرمينا بالذهول يضربها وبالدموع تتجمع في عيونها دون معرفة سبب بكاء مختار أو إن كانت تلك بكاء أو لا، هي فقط تحدثت بصوت باكي وهي تقترب منه ببطء :
” مختار أنت كويس ؟؟”
وللعجب ازداد ارتعاش جسد مختار، هو حتى يعجز عن البكاء، يعجز عن الصراخ، حنجرته تأبى أن تريحه .
وضعت نيرمينا الطعام جانبًا وهي تجلس على ركبتيها أمامه تنظر له بتردد ترى اهتزاز جسده، لا تفهم ما يحدث، هي في حياتها لم تر مختار يتفاعل كما البشر، لم تعتقد أنه يشعر مثلهم، وحينما ترى منه بادرة شعور …تكون بكاء ؟؟
ومختار في تلك اللحظة كان يحاول أن يوقف دموعه، يدفن وجهه بين أقدامه رافضًا أن ترى هي لحظة ضعف لم يحسب لها حساب، هو دفن كل مشاعره في أقصى اركان عقله منذ سنوات طويلة، ما الذي حدث الآن ؟؟ ذلك اليوم من كل عام يكون اسوء يوم عليه، يوم فقد كل حياته…
بكت نيرمينا بهيسترية وهي تتحدث من بين شهقاتها بصعوبة :
” مختار أنت بتعيط ليه ؟؟ متعطيش بالله عليك ”
وحديثها يتنافى مع بكائها، تتراجاه ألا يبكي وهي تبكي جوراه بانهيار شديد، رفع مختار وجهه الذي لم تراه نيرمينا بسبب الظلام المحيط، مسح دموعه التي هبطت، وهي ما تزال تبكي أمامه وكأنها هي الحزينة، أو هي المدمرة هنا…
ومختار الذي كان يرثي حالته منذ ثواني، بدأ يحاول تهدأتها بلا كلمات حينما خرج لها في الإضاءة الخافتة الخاصة بالحديقة يشير لها ألا تبكي ويحاول أن يجعلها تكف عن البكاء وهي لا تتوقف :
” أنت كنت بتعيط ؟! حد زعلك ؟!”
حرّك مختار رأسه للجانبين ينفي جملتها بقوة يحاول أن يراضيها بدلًا أن تعكف هي على مراضاته …
توقفت نيرمينا وهي تنظر له تقول بحزن :
” يعني أنت مكنتش بتعيط ؟!”
هز مختار رأسه بنعم، ثم ابتسم بسمة صغيرة ليؤكد على صدق كذبته، وهي توقفت سريعًا تتنهد براحة أنه بخير، فهي من ذلك النوع الذي حينما ترى باكيًا تجلس لتبكي جواره دون معرفة مصابه، فما بالكم بصديقها الوحيد؟!
ابتسم مختار بيأس عليها وهي تحركن تمسك طبق الطعام، ثم أعطته له وهو الذي لم يتناول طعامًا منذ يوم ونصف تقريبًا ..
اخذ منها الطبق ينظر لها بتساؤل لتقول هي :
” جبته ليك، أنا وميمو اكلنا من المكرونة دي وكانت حلوة اوي ”
دفعت الطبق صوبه أكثر تراقبه يحمل الملعقة، ثم بدأ يأكل بهدوء وهي تراقبه ببسمة واسعة تقول :
” أنت مش ناسي أننا صحاب صح ؟!”
رفع لها مختار أنظاره بتعجب، لتوضح هي مقصدها :
” أنا بس قولت افكرك لتكون قولت كده وقتها عشان تسكتني بس ”
ابتسم مختار بسمة واسعة قبل أن تتحول لضحكات بلا صوت جعلت نيرمينا تراقبه بعيون واسعة مذهولة، ما هذا الذي تراه الآن ؟؟ مختار يضحك؟! ورغم أنها لن تسمع صوته إلا أنه هُيئ لها صوت ضحكات رجولية إصابتها بقشعريرة لذيذة على طول عمودها الفقري .
أفاقت من شرودها على نظرات مختار الذي أشار برأسه مضيقًا ما بين حاجبيه، في إشارة منه إن كان هناك خطب، لكنها فقط هزت رأسها بلا شيء، ثم أشارت للطعام تقول :
” ممكن حتة بانيه ؟؟”
نظر مختار للطبق أمامه، قبل أن يدفعه صوبها بلطف وكأنه يخبرها أن تأخذ ما تريد، لكن نيرمينا في تلك اللحظات ما كانت تفعل ذلك سوى لتشغله عن شرودها به والذي لا تفهم هي ما تريده منها، ابتسمت وهي تراه قد بدأ يتناول بنهم شديد لتتظاهر أنها تأكل معه، وهي لم تمس الطعام، ومختار ينظر لها كل ثانية بلطف ..
لتضم قدميها أسفل جسدها متحدثة بفضول شديد :
” مختار هو أنت كنت فين قبل ما ميمو تجيبك تشتغل هنا ؟!”
توقف مختار عن تناول الطعام، ثم نظر لها ثواني دون رد حتى ظنت أنه لن يجيبها، إلا أنه خيب ظنها وهو يرفع يديه ويشير ببعض الحركات المعروفة لمثل حالاته، لكنها لم تفهم منها شيئًا ..
” يعني ايه مش فاهمة ”
ابتسم يهز كتفه، ثم أخرج الهاتف وكتب عليه بعض الكلمات ورفعه في وجهه لتقرأ بجبين متغضن :
” طالما مش هتفهمي رَدي… بتسألي ليه ؟؟”
رفعت نظرها له بحنق وقالت :
” وأنت طالما تقدر تكتب على التليفون بتشاور ليه ؟؟”
ضحك مختار مجددًا بلا صوت ليهتز قلب نيرمينا في مضجعه، وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة وهو مستمر في الضحك وهي تعترض بتذمر وحنق …
كل ذلك تحت انظار ميمو التي كانت تتحدث في هاتفها داخل شرفتها ورأت جلستهما معًا، رفعت حاجبها وهي تقول ببسمة واسعة ماكرة :
” الظاهر الاستاذ مختار اللي كان مش طايق البشر اول ما جه يشتغل عندي، بدأ يكون علاقات طيبة مع البشر ….أو مع نيمو تحديدًا ”
______________________
انتبه الجميع لجملة محمد التي جذبت الأنظار له، وبدلًا أن يحاول صالح تدارك الأمر وتفسيره لوالده الذي نظر له ينتظر تفسيرًا لما قاله، اقترب هو من والده يهمس :
” سيبك منه يا حاج وقول لعم رؤوف أنك عايز تشوف العروسة، خليه ينادي رانيا وشوية كده وقوله ما تيجي نسيب العرسان شوية ”
نظر له مرتضى بعدم فهم، ثم أشار على محمد قائلًا بسخرية :
” يابني أنت اطرش ؟! مش سامع اخوها قال ايه من شوية ؟! ده بيقولك مش هينفع خالص، هو أنت اخدت الموافقة من مين بالضبط، أنا مش شايف حد موافق فيهم غير ابوهم ”
قبّل صالح يد والده هامسًا :
” وهو ابوهم شوية ؟؟ ده هو الخير والبركة، سيبك بس من اخواتها وخليك معايا، قول لعم رؤوف عايزين نشوف العروسة ”
حدق به مرتضى بحنق شديد، لكنه رغم ذلك تنهد وهو يوجه حديثه لروؤف الذي كان في تلك اللحظة يوبخ محمد وبقوة :
” معلش يا استاذ رؤوف بس احنا مش هنشوف العروسة ولا ايه ؟؟ عايزين نعرف رأيها ”
اتسعت عين محمد بشر حينما وجد تجاهل لكلماته، لذلك نهض وبقوة يقول رافضًا أي محاولة من والده لمنعه :
” يا حاج مجيتك على راسي والله، ويعز عليا ارفض ليك طلب، لكن زي ما قولت احنا …”
قاطعهم صوت صلاح الذي نهض يتدارك الأمر حينما التقط نظرات صالح له :
” استاذ محمد ”
نظر محمد صوب صلاح بتحفز ليمنحه صلاح نظرة هادئة متعقلة وهو يردد بجدية كبيرة :
” أنا مدرك كويس اوي أنك كأخ خايف على اختك ومش حابب أنها تبعد عنك، لكن صدقني الأسلوب ده مش الطف حاجة عشان تظهر خوفك، ليه متثقش في اخت حضرتك واختيارتها وتسيبها تقعد مع اخويا وتفكر كأي آنسة ناضجة في سنها وتاخد قرارها، ولما تاخد قرارها تقدر تقعد معاها وتسألها وتتناقش معاها بهدوء ”
نظر له محمد ثواني قبل أن يقول ببساطة مستفزًا صالح بكل ما فيه وهو يشير لصلاح :
” تمام أنا عاجبني ده اكتر، وموافق عليه لرانيا ”
رفع صلاح حاجبه بغضب وهو يردد بينه وبين نفسه :
” هو كل بيشحت عليا ليه، هو أنا مقطوع فيا الامل للدرجة دي ؟”
اشتعلت عين صالح بقوة ليعطي لمحمد ما يطمح إليه من خلف حديثه، فهو لم يقل ما قال إلا ليستفزه وقد نجح في ذلك، حيث هب صالح يقول بغضب وصوت مرتفع :
” وأنت مين اساسا عشان تختار لأختك على مزاجك ”
وقف محمد أمامه وخلفه باقي عصابته ينتظرون إشارة منه :
” اديك قولتها، اختي، اختي وانا حر اختار اللي يعجبني واللي ميعجبنيش ”
” ليه ؟؟ أنت اللي هتتجوز ولا ايه ؟؟”
اتسعت عين محمد وهو يسمع صوت جبريل يردد بشر :
” اسمع عشان احنا سكتنا كتير ولولا وجود والدك احنا كان زمانا اتصرفنا بشكل تاني ”
تدخل رؤوف في الحدث مانعًا أي تجاوز قد يزيده ابناؤه في حضوره :
” جبريل …محمد ..احترموا نفسكم واحترموا اني واقف، ولا أنا مبقاش ليا وجود أو احترام بينكم ؟!”
وسريعًا تراجع الأربعة وطأطأ جبريل رأسه معتذرًا بخفوت ومحمد اقترب من والده يهمس له :
” يا بابا أنت عارف والله أننا مش بنقلل من احترامك، بس بلاش الشاب ده انا محبتوش، أنت مش شايف بيتكلم ازاي ويتعامل ازاي ؟؟”
نظر له رؤوف بصرامة شديدة يحذره بعيونه أن يتمادى في تصرفاته الوقحة أمام الجميع، وقد أحرجه أمام والد صالح الذي كان يتابع ما يحدث وقد أدرك جيدًا أن ولده ذلك الغبي كعادته يتهور ويعاند بشراسة لأجل ما يريده، لكن هو لن يلومه هنا أمام الجميع .
نظر روؤف لعبدالجواد الذي كان ينأى بنفسه في أحد أركان الغرفة يشاهد ما يحدث، حتى انتفض على صوت والده :
” عبدالجواد، روح هات اختك ”
اعتدل عبدالجواد ينظر له برفض، لكن نظرة منه جعلته يوافق بصمت ويتحرك للخارج، واعين صالح قامت بتشفير كل ما حوله عدا باب الغرفة يترقب إطلالتها، وقد كان صلاح يقف جواره يكتف يديه لصدره مستعدًا لصد أي هجوم قد يُشن على أخيه، والغرفة بأكملها كانت أشبه بساحة حرب…
ثواني حتى انتبه الجميع لدخول عبدالجواد وهو يسحب خلفه رانيا التي كادت تسقط ارضًا وهي لا تستطيع رفع عيونها قط، لا تدري أخجلًا من الموقف بأكمله، أم رهبة من الأمر..
وعبدالجواد يسير أمامها كسدٍ منيع، يتحدى صالح أن يقترب، لكن صالح في تلك اللحظة كان فقط يراقب دخول رانيا دون أن يأبه لأحد، وما أفسد متعته تلك سوى وقوف ثلاثة من الصخور أمام عيونه لتمنع عنه الرؤية..
رفع عيونه لهم يهمس بحنق :
” ايه القرف ده بقى ؟؟”
ولم يتزحزح أحدهم من أمامه وقد نهشت الغيرة قلوبهم، وعبدالجواد ضم رانيا من كتفها له وكأنه يعمل فرد امن لديها، نفخ صالح بحنق شديد ينظر خلف ظهورهم لرؤوف الذي ملّ تصرفات ابنائه وقال :
” ايه يا ابو محمد ما تشوف عيالك ”
نظر رؤوف لهم بشر يحذرهم من تخريب أي شيء :
” عبدالجواد سيب اختك يا حبيبي مش هتطير ”
نظر له عبدالجواد باعتراض واهي :
” يابابا أنا بس بـ …”
” قولت سيب اختك وابعدوا من هنا، يا تقعدوا مكانكم يا اطلعكم كلكم برة ”
وبمجرد أن أبتعد عبدالجواد عن رانيا على مضض حتى اختطفها محمد لتجلس جواره يحدق في أعين صالح بتحدي أن يقترب منه لأخذ اميرتهم، ورانيا لا تدري ماذا تفعل، هي فقط تنظر ارضًا دون رد .
ومرتضى الذي واخيرًا أُتيحت له فرصة النظر إلى رانيا ابتسم برضى شديد وهو يتمتم :
” بسم الله ماشاء الله، زي القمر يا بنتي تبارك الله ”
خجلت رانيا أكثر وهي تستشعر تصلب جسد محمد جواره، وصوت عبدالله يقول بجدية ردًا عن شقيقته :
” شكرا لحضرتك ”
كان صلاح يراقب كل ذلك ببرود وقد ملّ تلك الألعاب التي تحاول دفع شقيقه بعيدًا عن الفتاة التي يريد، لذلك ابتسم بدبلوماسية شديدة :
” مش ممكن نسيب العرسان شوية يتكلموا، اعتقد ده حقهم كرؤية شرعية ولا ايه ؟؟”
نظر صالح لشقيقه بسعادة كبيرة وكم يود النهوض وتقبيله، لكن صوت محمد المعترض قاطع كل ذلك وهو يقول :
” ليه ؟؟ يشوفها واحنا قاعدين، احنا موافقناش اساسا لسه عشان يقعدوا سوا ”
جادله صلاح بهدوء وبسمته لم تختفي :
” ما هو القعدة دي بتكون قبل ما العروسة تقول رأيها، عشان تقول رأيها براحة بعد ما تتكلم وتعرف هتعمل ايه، يعني لو مش فيها ازعاج ليكم ”
نظر رؤوف لابنته التي كانت تبدو خجولة وبشدة من نطق كلمة أمام اشقائها، وهو شعر أن الأمر قد زاد عن حدة وأن غيرة ابنائه قد أصبح مبالغ بها، لذلك نهض يقول ببسمة :
” اتفضل معايا يا استاذ مرتضى نقعد في الصالة برة قصاد الاولاد وخليهم يتكلموا مع بعضهم ”
أنهى جملته، ثم شدد على جملته :
” لوحدهم ..”
ارتفعت أعين ابنائه له بفزع شديد واتساع جعله يكتم ضحكة متشفية وهو يشير لمرتضى أن يتبعه :
” اتفضل معايا يا استاذ مرتضى نقعد برة ”
وبالفعل سار خلفه مرتضى ببسمة بشوشة مقدرًا لاحترام ذلك الرجل، تاركًا خلفه صراع بين الجميع وصالح، ليقطع ذلك الصراع صلاح الذي تدخل وجذب محمد من مرفقه كرفيق قديم يسحبه للخارج :
” معلش يا باشمهندس حابب نتكلم برة شوية ”
أنهى حديثه يشير لمحمود بعيونه أن يتبعه ويخرج الجميع وكذلك فعل محمود يجذب يد عبدالجواد وعبدالله اللذين كانا يقفان مكانهما دون حراك، وجبريل الذي خرج مجبرًا ليتركوا المكان فارغًا إلا من صالح ورانيا .
ابتسم صالح وهو يجلس على مقعد مجاور لها، لكن مع حفظ مسافة مناسبة بينهما يردد بصوت خافت :
” مقولتليش يعني وقت ما عرفتك أنك متحاطة بأسوار شائكة كده، دول كانوا هيخنقوني لولا ابويا وابوكِ موجودين ”
ابتسمت رانيا وقالت بصوت هامس :
” هما بس بيخافوا عليا ”
” والله يا رانيا أنتِ اللي زيك يتخاف منهم مش عليهم، أنتِ ناسية كنتِ بتعملي فيا ايه ؟؟”
رفعت رانيا رأسها بسرعة كبيرة وهي تحدق فيه بشكل مرعب، لتتسع بسمته يقول بسعادة كبيرة :
” أيوة كده ارجعي لاصلك، جو الكسوف ده مش واكل معاكِ خالص ”
تنهدت رانيا بصوت مرتفع، صالح ينجح مجددًا في اخراج اسوء ما فيها، مسحت وجهها ببطء قبل أن تستدير وتنظر له لتتحدث بحنق، لكن سبقها هو ليلقي قنبلته في وجهها :
” في الآخر اخترتي الفستان، مخليكِ ….بنت ”
كانت رانيا مبتسمة بخجل في بداية جملته، حتى بدأت بسمتها تتلاشى وهي تحاول أن تستوعب معنى جملته، ماذا يقصد أن ذلك الفستان يجعلها فتاة ؟! هل كان يراها ذكرًا ؟؟ وقبل أن تنفجر في وجهها قال :
” قمر …مخليكِ بنت قمر ”
لاعب ماكر محترف في ثواني يدفعها لقمة غضبها، وقبل أن تفرغ غضبها يسحبها لقاع هدوئها، يدفعها ويجذبها، يتلاعب بمشاعرها واعصابها، لا تدري هل يقصد الأمر أم أنه لا يستوعب مقدار تأثيره عليها .
وكل تلك الخلجات ظهرت واضحة على وجه رانيا ليبتسم صالح، يقول بصوت خافت :
” أنتِ وافقتي صح ؟!”
نظرت له رانيا ثواني دون فهم ليوضح هو مقصده :
” قصدي على طلبي، لما والدك يسألك هتوافقي ؟؟”
هل خرجت نبرته مليئة بالرجاء أم أن خجلها قد شوش على مشاعرها، حتى كادت لا تفرق بين شيء والآخر ؟!
” رانيا …”
نظرت له رانيا بتشوش وملامح مذهولة، فاقترب هو برأسه هامسًا بحنان يتنافى مع محتوى جملته:
” أنتِ لو موافقتيش عليا أنا هخطفك واحرق قلب اخواتك عليكِ وكل يوم هبعتلهم صور سيلفي لينا واحنا بنصيف واقهرهم ”
دُهشت رانيا من تهديده لها، وهو ابتسم وقد اوصل رسالته واضحة لها، ثم قال بهدوء :
” أنتِ متعرفيش أنا بعمل ايه عشان افوز بيكِ ولا كم المعارك اللي هخوضها عشان بس اوصل للحظة المأذون، عشان كده عايزك تقدري اللي بعمله وبعد الجواز تشيليها جميلة ليا”
” أنت هتذلني يا صالح ؟!”
ابتسم صالح بسخرية :
” اذلك ايه ؟؟ ده انا همضيكِ على تعهدات طاعة، ده انا كل قعدة بيتحرق دمي ميت مرة”
نظرت له رانيا بغضب :
” وايه اللي مضطرك على حرقة الدم دي ؟! ما تختصر الموضوع وتشوف واحدة تانية تكون مريحة بدل ما تتعب نفسك معايا ”
كانت تتحدث من خلف قلبها وهي تنتظر رده وتقسم أن تحيل حياته جحيمًا إن وجدت منه تفكيرًا في الأمر، لكن صالح ابتسم وهو يقترب منها هامسًا بخبث :
” اسكتي مش انا واحد بحب وجع القلب ؟؟ والله أميرة طول عمرها تقولي أنت اتخلقت يابني لوجع القلب ”
وصوت رانيا الذي خرج محملًا بالغيرة جعل صالح يحتفل سعادة :
” أميرة ؟؟ مين أميرة دي ؟؟”
لعب صالح على اوتار غيرتها بمهارة شديدة وقد خرجت نبرته صادقة :
” أميرة دي حبي الاول ”
شحب وجه رانيا فجأة وهي تفكر إن كان لصالح حب أول، نعم فشاب مثله يتعامل مع النساء بهذه الحدة بالطبع تم الغدر به مرة من قبل، ابتلعت ريقها وقد شعرت فجأة بانطفاء سعادتها وانقباضة صدرها، أبعدت عيونها عنه دون أن تبدي ردة فعل ..
ليشعر صالح أنه تمادى في مزاحه وما كاد يفتح فمه لتوضيح ما قال، حتى وجد العمالقة الأربعة يقتحمون الغرفة عليهم ومحمد يردد بقوة :
” الوقت خلص ”
نهض صالح من مكانه حانقًا :
” طب مفيش وقت بدل ضايع؟!”
” والله ده اللي عندنا، مش عجبك اتفضل امشي ”
ابتسم له صالح مستفزًا :
” لا ازاي عاجبني يا ابو النسب، عاجبني يا حبيبي ”
دخل الجميع في تلك اللحظة واقترب محمود من صالح يهتف في أذنه :
” تفتكر لو طلبت هاجر في اللحظة دي ممكن الاقي القبول ؟؟”
نظر صالح صوب هاجر التي اقتربت من رانيا تتحدث معها بصوت منخفض ليقول ساخرًا:
” أنت لو طلبت هاجر دلوقتي مش هتلاقي غير الجذمة تنزل فوق دماغك ”
في تلك اللحظة كانت هاجر تحاول أن تتلاشى النظر لمحمود بالحديث مع رانيا :
” مالك يا رانيا ملامحك قلبت كده ليه ؟؟”
هزت رانيا رأسها بلا شيء، ثم نظرت لصالح الذي كان يحدق بها خوفًا أن ترفض بسبب مزاحه الثقيل معها؛ لذلك ولاول مرة يذكر صالح والدته بصوت عالي وفي حوار عادي، يذكرها بين الجميع لا بينه وبين نفسه :
” كان نفسي ماما أميرة تكون معانا في اليوم زي ده، كانت هتحب تشوف رانيا اوي ”
نظرت له رانيا باهتمام شديد ليبتسم هو لها قائلًا :
” هتحبها اوي لأنها زيها، شبهها في الروح، وفي كل شيء”
كان يتحدث بشجن جعل رانيا تبتسم دون شعور وهو يبادلها البسمة بأخرى أشد حنانًا حتى وقف جبريل في وجهه فجأة قاطعًا عليه الرؤية ليردد صالح بتأفف :
” اللهي يسد في وشك أبواب الرحمة يا جدع ”
ابتسم له جبريل يشير له أن يعود لمكانه :
” ارجع اقعد مكانك يا حبيبي ”
ربت صالح على كتفه ببسمة :
” أنا هرجع عشان بس ذوقك ده وكلمة حبيبي اللي زي العسل منك …”
وبالفعل عاد صالح صوب مقعده.
في الوقت الذي تسلل به محمود للخارج خلف هاجر التي دخلت المطبخ لتحضر الحلوى للجميع، وقفت على أطراف أصابعها تحاول الوصول للاطباق لتشعر بمن يقف جوراها يحملها ويضعها على الطاولة أمامها، ثم ابتعد ..
نظرت له هاجر بخجل شديد تشكره :
” شكرًا يا محمود ”
وكانت الإجابة منه بسيطة وهو يقول :
” العفو على ايه ؟؟ ”
صمت ثواني ثم قال بصوت ملئ بالمشاعر :
” سعيد إني شوفتك هنا ..”
نظرت له هاجر ببسمة وصمتت، ولم تدري ما تقول سوى أنها الآن تشعر بمطبخ رؤوف الواسع وقد أضحى ضيقًا، اقترب منها محمود بتردد لا يفقه لوضعه شيئًا سوى أنه يشتاق لجلسة كتلك التي يجلسها صالح وتكون هي المنشودة من الجلسة، لذلك وبدون مقدمات تحدث :
” هاجر هو اخوكِ مش هيرجع من السفر ؟؟”
نظرت له بتعجب :
” خلال يومين راجع باذن الله، أنت مكلمتوش فون ؟؟”
هز رأسه نافيًا :
” لا الحقيقة اللي أنا عايزه فيه مش هينفع فون ”
رتبت هاجر الاطباق بشكل منمق أعلى الصينية ومن ثم أخذت ترص عليها قطع الكعك بشكل لطيف وهي تقول مبتسمة كعادتها :
” عايز اي يا ترى ؟؟”
والرد من محمود لم يفكر فيه ولو لثواني، بل قذفه في وجهها دون مقدمات أو توضيحات :
” عايزك أنتِ …”
وفي الداخل كانت هناك قنبلة أخرى تماثل قوة القنبلة التي القاها محمود، حيث اسودت وجوه الأربعة بقوة حينما سأل رؤوف ابنته عن رأيها وكان ردها هادئ خجول وخافت وهي تكاد تشعر أن اخوتها سيتقتلونها بأعينهم :
” موافقة …”
وبتلك الكلمة البسيطة والصغيرة أشعلت رانيا نيرانًا بين الجميع، واطلقت شرارة الحرب …
______________________
انتفض جسد مسعد بقوة من مقعده وقد سقط عليه ذلك الخبر كالصاعقة، هل يظنونه ابلهًا ليقتنع بكل تلك الحكايات والتخاريف التي حاكوها عن اضطرار رائد للزواج بقريبتهم اليتيمة عملًا بوصية جدها ؟!
” أنت بتقول ايه يا عمدة ؟! أنت فاكرني هصدق الفيلم ده ؟؟ لو عايز تخلي مسؤوليتك من الجواز قولي بدون لف أو دوران، في النهاية مش انا اللي هيتقال عليه مش قد كلمته، بالنسبة لبنتي فذنبها في رقبتك أنت وابنك ”
هب رائد فورًا يدافع بشراسة عن والده وعن صورته التي اهتزت بسبب عادات بالية قيدته :
” حاج مسعد، حضرتك في بيتنا يبقى تحترم والدي وتتكلم معاه كويس، ومش معنى اني رفضت بنتك يبقى فيها عيب، العيب كله في العادات القديمة اللي ماشيين عليها، مش أي عيلين لعبوا في الطين سوا يبقى نقرأ فاتحتهم على بعض، أنتم بتربطوا مصاير أولادكم بأشخاص هما اساسا ميعرفهمش ”
نظر له مسعد بقوة قائلًا :
” أنت عايز تقول ايه ؟! قصدك إن أنا ظلمت بنتي ؟؟ يا حضرة الظابط يا محترم أنا بنتي عمرها ما كانت هترفضك ولا ترفض ليا طلب وهي تعرفك كويس يعني مش هجوزها لواحد غريب، الكلام اللي بتقوله ده حجج بتقنع بيه نفسك أنك صح أنت وابوك وأنكم مضيعتوش بنتي”
اشتد صراخ رائد وقد ابهره ذلك المسعد ببدائية تفكيره، ويريده أن يضع يده في يد مسعد بعد كل هذا؟! رجل يتاجر بابنته ويعتبرها بضاعة مستهلكة فقط لأنه لم ينفذ وعدًا قطعه والده في طفولتهم ؟؟ سامحك الله يا ابي .
ومن الداخل كانت تقف تسبيح في إحدى غرف المنزل مع الحاجة نعمة التي كانت تدور في مكانها بخوف تضرب كفيها ببعضهما :
” ربنا يهديك يا مسعد ويرحمك من دماغك دي ويهدي رائد وميخلصش عليك ”
صُدمت تسبيح من حديث نعمة وهي تقول بتردد :
” يخلص عليه ؟؟ ليه رائد كويس ومش ممكن يوصل لكده أبدًا ”
نظرت لها نعمة بشفقة :
” كويس ؟؟ والله يابنتي أنتِ اللي كويسة، ده رائد ده شيطانه قوي ولما يتعصب مش بيشوف قدامه، ربنا يسترها علينا ”
أنهت حديثها وهي تدعو أن يمرر الله تلك المواجهة على خير، وتسبيح اقتربت من الباب تفتح جزء منه ببطء وخوف شديد أن يلمحها أحدهم تتجسس عليهم ..
لتفتح عيونها بصدمة وهي ترى رائد آخر غير ذلك المرتبك، الحنون الهادئ والمراعي لها، رائد غاضب وثائر، يمسك تلاييب رجل بقوة وهو يهز جسده وقد برزت عروقه بشكل مخيف وسليمان يصرخ عليه أن يدع الرجل، لكن رائد كان في أقصى حالاته جنونًا وهو يصرخ وقد هزّ صراخه جدران المنزل :
” اخــــرس، تجيب سيرتها على لسانك هقطعك حتت ومش هعمل حساب لعمرك طالما أنت مش محترم نفسك، بنتك اللي واقف تدافع عنها اساسا مش عايزاني ولا أنا عايزها، روح شوف بنتك وبطل بقى القرف اللي بتعمله ده، بطل تتحكم في حياتها وحياة غيرها عشان كلام الناس ”
حاول مسعد أن يفلت من يد رائد وهو يعاند ويصر على حديثه، وقد تحكم به الجهل وقيده رعبه من حديث الناس عن ابنته، فبعض القرى ينشأ بها الطفل ويتوارث الجهل والتخلف إلا من رحم ربي ونجى من تلك الدوامة بنفسه وبعائلته ..
” عصبيتك دي اكبر دليل إن كلامي صح، وأنك جايب البنت اللي معاك تتجوزها عشان تداري على عربدتك في القاهرة يا ….”
في تلك اللحظة استحكم شيطان رائد به ليدفع مسعد بعيدًا ويخرج سلاحه وهو يصرخ في وجهه مهددًا، لكن فجأة تيبست يده حين استمع الجميع لصوت صرخة عالية خرجت من تسبيح وجعلت جميع الرؤوس تستدير لها ومنهم مسعد الذي حدق فيها بشر وقال بصوت حاقد :
” متقولش أنها هي دي البنت اللي بديتها على بنتي ؟؟ وعلى ايه لابسة النقاب يا ست الشريفة؟! ما عملتكم ريحتها فاحت ”
ومن بعد تلك الكلمة لم يستمع أحد لشيء في المنزل سوى صرخة مسعد التي رنت بين جدران المنزل …..
___________________
وأعلم أنه حينما تتكاثف الاسرار ويتعاظم الغموض، فقد حانت لحظة كشف المستور ..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!