Uncategorized

رواية ندبات الفؤاد الفصل الحادى والعشرون 21 بقلم زيزي محمد

 رواية ندبات الفؤاد الفصل الحادى والعشرون 21 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل الحادى والعشرون 21 بقلم زيزي محمد

رواية ندبات الفؤاد الفصل الحادى والعشرون 21 بقلم زيزي محمد

حملها بسرعة البرق على كتفه هابطًا بها للأسفل نحو شقتها تحت صدمتها منه ومما يفعله، ولكن أنفاسه الهائجة المحملة بعواصف غيرته عليها جعلتها تعود للواقع وهي تتحرك بانسيابه فوق كتفه الصلب!.
لجم لسانها ولم تستطع إنهاء تلك المهزلة بحقها، حيث لم يعد واعيًا لأفعاله التي قد تصيبها بجنون وتجعلها مجرد مضغة في أفواه السكان بالبناية، حاولت دفعه ولكن قبضته القوية الممسكة بها في قوة جعلتها تستكين حين ينتهي من رحلة وصوله إلى شقتها..
وحينما استمعت لصوت إغلاق باب شقتها من خلفهما، حاولت التحرك من على كتفيه، ولكنه أبى واستكمل طريقه نحو أريكتها ثم وضعها برفق فوقها، وراحت يده تغلغل بين خصلات شعره المبعثرة يرجعه للخلف، تزامنًا مع أنفاسه الهائجة وكأنه كان يحمل حملاً ثقيلاً فوق كتفه، فظنت أنها اكتسبت القليل من الوزن نظرًا لهيئته تلك!.
وللمرة الثانية هربت الكلمات منها وهي تنظر لعينيه المتحركة فوق جسدها المكشوف من أسفل الروب والذي فتح قليلاً من الأسفل، طالعته بقلق حينما لمعت نظرة الاشتياق التي سيطرت عليه، إلى جانب ارتفاع صدره وهبوطه في وتيرة سريعة للغاية تشبه تسارع أنفاس مصارع كان يقف على بُعد خطوة من الانقضاض فوق غريمه!.
مدت يدها ببطء نحو الروب تجذبه على ساقيها بخجل منه، فاستفز بحركتها تلك واقترب منها سريعًا يطالعها من الاعلى، حيث كانت هي أسفله تضع يدها الصغيرة فوق صدره الصلب تمنعه من الاقتراب منها، وانتقلت عدوى أنفاسه الهائجة إليها ومن فرط ثوران مشاعرها انقطعت كمحرك السيارة الذي يرفض العمل في وقت الظهيرة…نعم فأنفاسه الحاره تجعل من مشاعرها مادة قابله للذوبان تحت تأثير عينيه التي كانت تتلهف رغبة بها!.
– آآ..ابعد لو سمحت.
قبض فوق أصابعها التي كانت تبعده بضعف، يطالعها وهي تتحدث كطفلة كانت تهرب من نظرات والدها خجلاً من رد فعله!.
– مش كفاية بعد مابينا!.
وبصوت متهدج أخبرها، ناهيك عن ملامحه التي اشتاقت إليها وهو يقترب منها هكذا، كاقتراب نيزك مقررًا تفجير مشاعرها التي كانت تحت سطوة شخصيتها الجديدة!.
– أنت اللي اختارت كده، متجيش وتلومني.
أخبرته بصوت يحمل نبرة الوجع الممزوجة بالحنين إليه.
– وانتي اللي غلطتي في حقي الاول!.
رد عليها بنفس نبرة الوجع والخذلان الذي ذاقه على يدها حينما قررت أن تعامله كمغفل ليس له الحق في مشاركته أبسط قرارتها!.
دفعته بقوة تملكت منها وكأنها الشرارة التي الهبت تمردها عليه من جديد.
– طيب وبعدين هنفضل نتكلم في ماضي فات ولا هيقدم ولا هيأخر في حياتي الجديدة!.
قالتها بنبرة جامدة تخفي بها التوتر الذي أصابها، فرد ساخرًا وهو يعود بجسده نحو الكرسي يجلس فوقه.
– أنا شايف انك لغيتي حرف النون من كلامك، قصدك حياتنا!.
هزت رأسها وهي تعود بوضيعتها تستقيم وتجلس مغلقة الروب بإحكام قائلة بصوت حازم:
– لا أنا عارفة بقول إيه من الاول، مبقاش فيه أنا وأنت…فيه أنا وبس!.
هز رأسه بيأس زائف وهو يطالعها بصمت لدقيقة أقلقتها ثم خرج صوته يخبرها ببؤس:
– خلاص هطلع اقول لأنس إن ماما مبقتش تفكر فيك وبتفكر في نفسها وبس!.
– أنس!.
همست بها بصوت خافت، ثم كررت اسمه بنبرة مرتفعة وهي تندفع نحوه تسأله بخوف مما يرمي إليه سليم:
– أنس هنا فوق!، انا كنت هروح اخده بكره!.
– ولسه فاكرة، بعد ما الولد مبقاش عايز يشوفك.
قالها بنبرته الخشنة التي الهبت نيران الغضب لديها فانقضت عليه بشراسة تقبض فوق مقدمة سترته القطنية تجذبه نحوها وهي تقول:
– أنت اللي كرهته فيا صح، أنا عارفك يا مستبد تعمل كده وأكتر!.
قبض فوق أصابعها بعدما تركها تخرج شحنتها الغاضبة، وبنبرته الهادئة أخبرها بتهكم طفيف:
– هو أنا اللي سبت ابني علشان شوية كلام فارغ عايز احققه!.
ابتعدت عنه وهي تشير نحوه بعيون امتلئت بدموع القهر وخيبة الأمل التي تتذوقها على يده للمرة التي لا تعلم عددها:
– احلامي بقت كلام فارغ، ومشاعري بقت كمان بالنسبالك كلام فارغ..أنت هتحس ازاي بيا وأنت قلبك حجر!.
فرك أنفه محاولاً كبح جماح غضبه هو الآخر بعد تراشق الاتهامات الجديدة به، فالأمر يشبه بشخص يسير في طريق لا حول له ولا قوة وفجأة اندفع الأناس حوله يسددون له اللكمات ناعتين إياه باللص الوقح!.
– كفاية كلام مالوش لزمة وفي الآخر انتي مش شايفة غير نفسك، انتي غلطتي في حقي الاول يا شمس وده كان مجرد رد فعل بسيط مني على اللي عملتيه…علشان أنا لو حد غيري مكاني كان ضربك بس أنا راجل أهبل أصلاً اللي جاي وراكي علشان اراضيكي.
انفعل وخرج عن طور تعقله من كلامها الجارح، واندفع خارج الشقة وصوت أنفاسه يعبر عن كم الغضب المسيطر عليه.
خرج تحت نظراتها المتعجبة من ردة فعله، حيث انقلبت الأدوار فجأة بينهما..ولكن لن يهم، فالأمر بينهما شبه مقطوع حتى وإن أعادها إلى عصمته مجددًا..الأهم هو أنس صغيرها الذي إن ظهر منه رد فعل يحزنها حقًا ستنهار بعد محاولات عديدة بالتمسك برداء القوة.
جلست بانهيار مجددًا تبكي قهرًا تفكر بطريقة ما كي تخرج من مأزق وضعها به سليم مع طفلهما، فلن يصح أن تثور وتصعد بثورتها الغاضبة تأخذ طفلها، فقد يسبب له جراحًا جديدة هي اضعف من مواجهتها.
***
صعد سليم درجات السلم بسرعة متجهًا صوب شقته المستأجرة، ثم دفع الباب بقدمه، حتى أفزع يزن و زيدان الجالسان في منتصف الصالة بإنهاك بعد الانتهاء من حريقة صغيرة بالمطبخ نتيجة لخطأ أخيهم سليم والذي اختفى فجأة من عمق الأحداث، وها هو يظهر بمظهره المخيف متقدمًا نحو غرفة بآخر الردهة ثم أغلق الباب خلفه بقوة.
– ماله ده يا زيدان، ده كله عشان البيض بالسجق باظ.
ضحك زيدان بتعب ليقول:
– أنت أهبل ياله، باين عليه اتخانق مع شمس تحت.
رفع يزن يده لأعلى قائلاً بحنق زائف:
– ربنا يسامحك يا شمس، رجعتيه زي الأول تاني، ده كان بيدخل طريق الطبخ من أوسع ابوابه!.
رقد زيدان بالأريكة وقرر أن يغفو مكانه:
– بوظت الانحراف اللي كان داخل عليه!.
هز يزن رأسه عدة مرات بإيجاب، ثم توسعت عيناه فجأة وهو يصيح بنبرة يملؤها العبث:
– أنا عرفت سليم أخوك عايز إيه، سليم محتاج ينحرف بجد.
سخر زيدان منه:
– هتعرفوا على بنات هيهربوا من قصف الجبهات بتاعته..هتفكر تشربه حاجة هيدفنك مكانك، ده عشان اتحط قدامه شيشة كان هيتجلط فيها.
– لا يا ظريف سليم محتاج يبقى أهبل.
اعتدل زيدان يطالعه بعدم تصديق مردفًا:
– محتاج يبقى إيه؟!
كرر يزن بتفكير:
– أهبل.
ثم عاد واستكمل:
– يعمل حاجات معملهاش قبل كده، يجرب يروح أماكن مفكرش يروح قبل كده…
صاح مجددًا بحماس:
– لقيتها..أنس..أنس.
اندفع أنس من الشرفة حيث كان واقفًا يتابع حركة سير السيارات من خلال القوائم الحديدية.
– نعم يا عمو.
التقطه يزن على ساقيه وأجلسه وهو يقترب بوجهه منه مخبرًا إياه بصوت خافت لم يسمعه زيدان، ولكن توقع بشيء كارثي حينما التمعت عيون الصغير بحماس وسعادة غير عادية، عاد بجسده مجددًا فوق الأريكة وهو يضرب وجهه بخفه:
– ربنا يستر من اللي جاي!.
***
تمم سيف على السيارات بنظراته قبل أن يعطي لعاملين معه نقودهم، حيث قرر إغلاق ورشته مبكرًا عن موعد إغلاقها نتيجة لإرهاقه، صدح هاتفه بصوت رسالة من عم ليال يخبره بمجيئة غدًا كي يتمم الزواج حيث لم يعد متفرغًا بعد ذلك.
ظهر الضيق على وجهه، فيبدو أن تلك المتمردة لن تقدم على خطوة جيدة بحقهما، حقًا حل الاختطاف يريحه جزء بداخله، وينهي به كل دلالها الزائد..
لمح بطرف عيناه عودتها من الطريق الرئيسي وهي تحمل بعض الحقائب البلاستيكة، قبض فوق الكرسي الذي كان يدخله داخل ورشته بقوة يمنع تهوره من السيطرة عليه، حيث أصبح على يدها معتوه بدرجة الامتياز، ولكنه لم يقدر فهواجس رفضها له تجعله كالمجنون الذي زُج به في غرفة بيضاء اللون..
اندفع خلفها بخفة بعد أن اغلق باب ورشته، وما إن دخلت البناية حتى جذبها لأسفل السلم..لغرفة مهجورة تقبع في الأسفل، مستغلاً عتمة النور في مدخل البناية.
شهقت ليال بصدمة، وهربت أنفاسها من صدرها تشعر بيد قوية تجذبها نحو مكان لا تعلمه، ولكن صوت أنفاسه وهمسه لها بجانب أذنيها جعلها تستكين للحظات حينما أخبرها بهدوء خافت:
– اهدي…أنا سيف.
صمتت للحظات تستجمع تركيزها الذي فر هاربًا منها، ثم عادت تستعيد قوتها وهي تبتعد عنه، فابتعد قليلاً رافعًا يده للأعلى تزامنًا مع تشغيل إضاءة هاتفه حينما أغلق الباب بقدمه.
طالعته على الضوء البسيط، حتى تتأكد من وجوده وكأن عقلها يرفض تواجده من الأساس، فتصرفات حمقاء مثل هذه لن تصدر منه أبدًا.
– أنت مجنون…ازاي تعمل كده.
– أعمل إيه..مش هعرف اتكلم معاكي على السلم.
قالها بلامبالاة وهو يرفع كتفيه لأعلى، فردت بحنق:
– تقوم تاخدني تحت السلم!.
زم شفتيه بضيق وهو يعقد ملامحه موجهًا حديثه لها بجدية:
– أنا عايز اعرف انتي رافضني ليه!.
ردت بعفوية ندمت عليها فيما بعد:
– انا مرفضتش، أنا طلبت مدة افكر.
– ومدتك بتطول وخنقتني!.
أشار نحو عنقه بضيق، فرمشت بأهدابها تطالعه بعدم تصديق:
– دول يومين يا سيف، وبعدين أي بنت في الدنيا محتاجة وقت تفكر في موضوع زي ده.
رغم أنها حذفت تلك الألقاب التي كان يكرهها حينما تضعها بإصرار قبل اسمه، إلا أنه تجاهلها مردفًا بمكر جعلها تعود للخلف خطوتان:
– ده لو مكنتش بتحب اللي متقدم ليها، لكن انتي بتحبيني زي ما بحبك.
أشارت نحو نفسها باستهجان واضح:
– أنا بحبك..
قاطعها وهو يقترب منها مردفًا بهمس محمل بعواطف الحب والغرام:
– وأنا بموت فيكي.
– لا كده كتيير…بجد كده كتير.
قالتها بانفعال واضح حينما انحسرت أنفاسها بين ضلوعها وهي تستمع لاعترافه المزلزل لكيانها المسكين الذي كان يحاول التماسك منذ أن وقفت معه في غرفة صغيرة جدًا تسمح لمسافة صغيرة للغاية بينهما.
وضع يده فوق الحائط من خلفها وظل محافظًا على المسافة بينهما، سائلاً إياها بعيون تتوق لإجابة يثلج بها صدره الملتهب بنيران العشق والهوى.
– ليال..هسألك سؤال واحد ومن بعده إجابتك هي اللي هتحدد مصيرنا..موافقة تتجوزيني؟!
اندفعت الحروف من جوفها وتشابكت حيث لم تعد تعلم أي منهما الإجابة الصحيحة، لقد وضعها في مأزق لا فرار منه، فكانت تتهرب منه بحجة المدة التي طلبتها للتفكير بشيء قد حسمته بقلبها ولكن عقلها يرفضه..يرفض الانصياع خلفه، أصابتها الحيرة مجددًا ما بين الاعتراف بحبها له، والابتعاد بعيدًا عنه تعيش عذاب فراقه بإرادتها..فالحسم داخل عينيه يخفيها بل يجعل لسانها مربوط أمام نظراته لها حتى أنه تحفز جسده وملامحه في انتظار إجابتها التي يقسم أنها بمثابة الروح له إن وافقت ستعيد قلبه للحياة مجددًا، وإن رفضت سيقع قلبه في قاع الظلام..فاقدًا لأنفاسه التي كان يتشبث بها كالمتسلق فوق جبل عالي ممسكًا بصخر بيديه المتعرقة نتيجة لارتفاع درجة حرارته حينما انقطع حبل النجاة فجأة.. وحقًا لقد ارتفعت درجة حرارة هذه الغرفة وهو يقف ينتظر إجابتها التي خرجت سهوًا عنها حينما انهزم عقلها في معركة خاضها مع خصم تتحد معه كل الأطراف..
– موافقة.
كان همسها خافت للغاية ولكنه أصاب قلبه ومسامعه وكل خلية بجسده..مما ارتسمت البسمة فوق وجهه يطالعها بارتياح اجتاح صدره كراكض لمسافة طويلة بصحراء جرادء باحثًا عن المياة كي يرتوي صدره المتعطش للحياة.
اخفض يديه وفك حسارها أخيرًا، مردفًا بحماس طفيف وهو يرى تورد وجنتاها:
– بكرة بإذن الله هنجيب المأذون وعمك هيجي.
هزت رأسها باستسلام تام، وهي تتحرك باتجاه الباب ولكن كعادته الخارجة عن إرادته قال بمزاح أغضبها:
– لما أنتي واقعه فيا كده، ما تقولي من الاول، لازم تعب القلب ده!.
قبضت فوق الباب تحاول التمسك بقيم الهدوء قليلاً، فرسمت على وجهها ملامح الاستفزاز قبل ان تفتح الباب تخبره بوقاحتها المعهودة:
-انتي فهمتني غلط يا سيف، أنا وافقت علشان انقذك من الفضيحة، فاطمة اختك كانت هتموت عشان مكنتش هتلاقي بنت مناسبة توافق تتجوزك، خايفة من سيرتك اللي هتبقى على كل لسان..
همست بها في أواخر حديثها وغمزت له بطرف عينيها، وفرت هاربه منه لأعلى، تاركه إياه تحت صدمته من فاطمة اخته..حيث كان قلبه يشعر بما خططت له بذكائها المعهود فهمس بشراسة الانتقام:
– يا فاطمة الكلب..ده أنا هوريكي.
***
فتح يزن باب غرفة سليم لأنس نظرًا لقصر قامته..غمز له بطرف عينيه وهو يشير نحو الغرفة، فاندفع أنس للغرفة بحماس جعل سليم يستدير بجسده نحوه بعد أن كان راقدًا على فراشه.
– بابا…بااابا.
جلس سليم فوق الفراش وحاول رسم ملامح البسمة على ثغره وهو يقول:
– في إيه يا أنس..مالك.
– أنا نفسي اتفسح اووي، وعايز اروح الملاهي أنا وانت وماما وعمو يزن وعمو زيدان.
كان يزن يقف خلف الباب يستمع للحديث بتركيز فتوسعت عيناه ذعرًا من طريقة طلب أنس، مما اضطر لخروج كلماته الخافته الممزوجة بالحنق:
– يا ابن ال….مش كده …لا بلاش اسمي..بلاش لا.
استغرق سليم ثوان في الصمت قبل أن يعود سائلاً إياه:
– بس احنا لسه هنقابل مامي..ونتكلم زي ما اتفقنا.
قاطعه أنس متذمرًا:
– ما هي مامي تحت..عمو يزن قالي.
توسعت أعين يزن بصدمة، فحرك سليم رأسه متفهمًا قبل أن يرفع رأسه للالتقاط أنفاسه مبتسمًا بمكر وهو يصيح بصوته:
– يزن…يزن… يابيه.
دخل يزن على الفور راسمًا فوق ملامحه عدم الاكتراث:
– ايوا مين بينادي!.
التوى فم سليم ساخرًا:
– أنا يا اخويا..تعال، تعال نور القعدة.
فتح يزن يده قائلاً بمزاح طال نبرته رغمًا عنه:
– نعم يا اخوياا..نعم يا حبيبي ياللي ملناش غيرك في الدنيا دي، يا مأكلنا يا مشربنا..
دفعه سليم بعيدًا عنه بالوسادة قائلاً بامتعاض:
– اقعد ساكت، أحسنلك وابعد عني مبحبش حد يقرب مني ولا يحضني.
جلس يزن فوق الفراش أمامه بلامبالاة:
– والله أنت الخسران، انت تعرف كام بنت..
أشار له سليم بتحذير وعينيه على أنس لصغر سنه وانشغل بعدها بالطلب من صغيره الخروج من الغرفة، ونفذ الصغير امره على مضض، وفور خروجه أردف سليم بعصبية خافتة:
– لاحظ انك قدام أنس..مينفعش تتكلم قدامه كده.
أبعد يزن وجهه عنه وهو يحاكي نفسه بتهكم:
– امال لو عرف أنا بقوله يعمل إيه مع البنات أصحابه في المدرسة، احتمال يتجلط فيها.
– أنت يابني، ركز معايا.
قالها سليم بعصبيته المعهودة، فرد يزن بخمول اكتسح نبرته:
– ايه مركز اهو..
– انت قايل ليه لأنس ان امه تحت..
– ابنك عايز امه حتى لو انت متفق معاه على حاجة، وبعدين فرصة تغيروا من نفسيته شويه يا سليم..الواد اتخنق منكوا والصراحة أنا لو ابنكوا كان زماني قلعت هدومي ملط ودعيت عليكوا.
دفعه سليم مجددًا بالوسادة بغيظ لوقاحته:
– لم لسانك، انت قدام اخوك الكبير..
خرجت نبرته محذرة قاسية، فعقد يزن يديه أمامه مردفًا بأدب زائف:
– حاضر يا أبيه!.
– قوم من هنا..قوم من وشي، عكرت مزاجي أكتر.
قالها سليم بغضب، فرد يزن ببرود:
– طب ما تسبيني اساعدك وننجز من موضوع شمس ده، ياعم ده في مثل بيقولك خذوا العلم من أفواه العلماء..
– وأنت عالم في إيه ان شاء الله!.
قالها سليم باستنكار شديد وهو يرفع حاجبيه معاً، فأجاب يزن بفخر:
– في النساء.
ظهرت ملامح الذهول على وجه سليم، فسارع يزن بالتفسير:
– قصدي انا ليا خبرة طويلة عريضة…
– انجز..انت المفروض تخبي فضايحك أساسًا.
– ياعم أنا فاهم تفكيرهم، ساذجتهم، ايه اللي بيفرحهم..ايه اللي يكدهم وهكذا، يعني من الآخر خد بنصيحتي وهتتبسط في الآخر اوي.
ظهر الملل على وجه سليم وهو يتابع الحديث، فقال باستهزاء:
– وهي الملاهي هتفرح شمس في إيه!.
– يوووه متعرفش أنت المراجيح بتعمل إيه في قلب البنات، وبعدين فرصة تثبت لشمس انك بتحاول تقرب الواد منها بعد ما يعيني ويا حرام زعلان منها.
عقد ملامحه بالعبوس حينما لمح له يزن عن خطته التي عقدها مع أنس ولده وهو بساذجته كان يظن أنها مجرد سر بينهما.
– امشي ورايا يا سليم..صدقيني هتنبهر.
– اقعد ساكت..هو أنا مجنون عشان اروح الملاهي…
ثم عاد يردف باستنكار:
-بعد السن ده اروح ملاهي…هو أنا تافه زيك.
قالها سليم بعبوس ونفور في آن واحد، وعاد بجسده فوق الفراش يرقد عليه تحت نظرات يزن المُصرة على تنفيذ ما خطط إليه!
***
بعد مرور ساعة..
وقف سليم يتابع ارتفاع الالعاب لأعلى تحت صرخات أنس بالسعادة واندماج شمس التي كانت ترفض المجيء معهم ولكن كلمات أنس التي حفظها من عمه يزن لامست قلبها على بسبب حزنه، ولن تستطع نسيان جلوسها مع سليم في نفس السيارة بثيابه التي قد تدفعها للجنون حقًا، حيث انقلب نمط ثيابه هكذا دون مبرر، فبالتأكيد يوجد أمرًا ما يخفيه، غير مدركة أنه كان يركض كالمجنون مغيرًا من نفسه حتى يجذب انتباهها مرة ثانية!.
انتبه سليم لصوت يزن الواقف بجانبه وهو يشير نحو لعبة طائرة:
– يلا يا سليم..اركب مع ابنك الطبق الطاير.
– اركب إيه!.
أشار يزن نحو اللعبة قائلاً:
– الطبق الطاير.
– لا مش هركب اي لعبة، اركب أنت معاه.
– أنا وزيدان هنركب الصاروخ.
توسعت أعين زيدان قائلاً برفض خافت:
– لا أنا اركب معاك علشان تنزلنا بفضيحة ولا مصيبة.
لكزه يزن بيده فصمت زيدان رغما عنه، أنهت شمس حديثهما بقولها الحازم:
– انا اللي هركب معاه..يلا يا أنس.
جذبت أنس من يده، فمال يزن على سليم الساخط عليهم جميعًا:
– اللعبة دي بيركبوها ولاد بردوا.
اندفع خلفهما بضيق وهو ينظر بحذر نحوها وكأنه صياد بنتظر بالتهام فريسته..
جلست شمس وبجانبها أنس…لاحظت اقترابه منهما فتمسكت بأنس حتى يكون حائلاً بينهما ولكنه فاجأها حينما دار نحوها وجلس من الناحية الأخرى..كادت أن تحرك أنس بالمنتصف ولكنه منعها بصوته الخافت:
– متحسسيش ابنك بحاجة ما بينا!.
التفتت برأسها نحو تطالعه بعناد:
– وأنت متعرفش حد انك ردتني لعصمتك.
رفع أحد حاجبيه لها، فهزت رأسها مؤكدة:
– انا بردوا أم وفي ايدي اقلب أنس عليك في ثانية.
حول بصره بعيدًا عنها وقرر كتم غضبه حتى لا ينفجر بها أمام الراكبين جميعًا، مفكرًا في طريقة ما للتعامل معها بأسلوب يرضيه..وحينما لمح ذكرياتهما القليلة معًا بعد عودتها له، وجد أن صغيرته مازالت تحمل مشاعر بقلبها تجعلها تخضع لسطوة عشقه، ابتسم بمكر مقررًا أن يستخدم تلك النقطة أسوأ استغلال…
وعندما انطلقت اللعبة، واندفع بعض الاطفال بالصراخ عكس سعادة أنس البادية على وجهه، فتعجبت شمس منه قليلاً ولكنها عادت تقول لنفسها بسخرية:
– ماهو ابن مين..ابن سليم الشعراوي هيكون قلبه حجر زي ابوه.
وبنصف عيناها رمقته بضيق، فابتسم لها وهو يجذبها نحوه يحتضنها بقوة ناظرًا لأنس بابتسامة سمجة:
– مامي شكلها خايفة يا أنس، يبقى لازم إيه!.
اندفع أنس هو الآخر نحوها يصيح بسعادة:
– نحضنهااااااا.
احتضنها أنس من خصرها وسليم حاوطها بيده هو الأخر تحت محاولاتها بالانفلات منه، فقالت بتهديد:
– سيبني يا سليم.
– كل لعبة هتركبيها هحضنك كده!.
– ده تهديد ده ولا ايه!.
– تحسبيه زي ماتحسبيه، مش فارقة اللي عندي قولته، وبطلي حركة علشان منقعش من اللعبة.
زفرت بحنق وهي تستكين بإحضانه وحمدت الله أن اللعبة مرتفعة ولن يراها يزن وزيدان وهي خاضعة مجددًا لزوجها المستبد بعد محاولات منها بتحقيق ذاتها، ولكن أي ذات سيتحقق وهي تحت قبضته!.
بينما بالأسفل وجهت إحدى الفتيات سؤالها الممزوج بالغنج الذي جعل الامتعاض يغزو وجه زيدان:
– أنت اخو يزن!.
– لا صاحبي.
قالها زيدان وهو يخلي مسؤوليته من تهور أخيه الذي استطاع في خمس دقائق مغازلة نصف فتيات الملاهي وكأنه له قدرة خارقة تفوق أي رجل في ذلك.
– بتتبرى مني يا زيزو.
– يعم ابعد عني ابوس ايدك، أنت هتوديني في ستين داهية.
نظر يزن للفتاة قائلاً بهمس:
– عنده كمية حقد جواه من ناحيتي رهيبة.
– بيغير منك!.
سألته الفتاة غير مصدقة، فأجاب يزن بخبث جعلت أعين زيدان تتوسع بصدمة:
– علشان أحلى منه.
***
بالأمس….
توقف سليم على أعتاب باب شقة شمس حاملاً ابنه على يده، فتحت الباب وحاولت أخذ الصغير منه، فقال بهدوء:
– هدخله جوا علشان ميصحاش.
زمت شفتيها بضيق، وافسحت له المجال، فدخل بخطواته البطيئة وتوقف بمنتصف الصالة فأشارت نحو الغرفة وتركته وحده يضع أنس على الفراش..
وضع بالفعل أنس وخرج من الغرفة فوجدها تقف بجانب الباب..وكأنها تحاول طرده بذوق!، رن هاتفه وكان سيف فأجاب على الفور:
– خير يا سيف أنت كويس!.
– اه كويس، كنت عايزك بكرة علشان كتب كتابي على ليال.
توسعت ابتسامة سليم بسعادة ادهشت شمس التي كانت تهيم عشقًا به:
– الف مبروك، أكيد هسافر واجيلك.
– تسافر!، انت فين؟!
نظر سليم نحو شمس بنظرة ذات مغزى قائلاً بتنهيدة عميقة خرجت من جوفه:
– في اسكندرية، لما اشوفك هنبقى نتكلم.
اغلق سليم الاتصال تحت نظرات شمس الفضوليه، وجاء أن يخرج ولكنه توقف بسبب صوت بكاء أنس طالبًا إياه، منعته شمس قائلة:
– أنا هروح وانيمه!.
ابعد يدها بعيدًا عنه بصرامة:
– ده ابني وعايزني وكرم مني خليته ينام معاكي.
دخل سليم لغرفة التي يرقد بها أنس فوجده يجلس في منتصف الفراش باكيًا، اندفعت خلفه شمس والكلمات اللاذعة تتسابق على طرف لسانها، ولكنها صمتت بسبب ذعر ابنها، اقتربت بقلق تحتضنه وتحاول تهدئته شاعرة بالذنب والندم لِمَ يشعر به الآن من عدم اتزان نفسي وانعدام للأمان في بيئة يتصارع بها طرفان لاثبات كلاً منهما نظريته.
اقترب سليم هو الآخر شاعرًا بنفس حاجته لعناق دافئ يلقي خلفه تراكمات أصبحت كالجبال فوق صدره، ولأول مرة شعر بحاجته للتخلص منها، فأصبحت تعيق تنفسه، تعيق حياته..لا يطيق التعايش معها كعادته سابقًا!، ولكنه ما زال يجد صعوبة من التخلص منها، فالمحاربة في جميع الجهات تفقدك أحيانًا قوتك..وتصبح بالأخير صريعًا لا تقو حتى التعبير عن آلامك.
مد أنس يده وطلب قربه بعيونه الناعسة، فامتثل سليم لأمره وحاوطه مقبلاً إياه فوق رأسه، تحت نظرات شمس المندهشة باكتشافها جانب غريب بزوجها لم تكن تعرفه!.
اصبح أنس بالمنتصف بينهما..ممسكًا بيدهما معاً وكأنه يخشى الابتعاد عنهما مجددًا، وفي ظل هذا الصمت المبعثر لمشاعرهما، ودقات قلبيهما التي كانت تخفق بقوة، جاهدت شمس النوم المسيطر عليها في هذه اللحظة بأعجوبة وخاصةً أن نظراته اقلقتها للغاية!.
***
في اليوم التالي..
عاد سليم للقاهرة بعد قيادته لساعات كانت الأجمل على الاطلاق وهو يتذكر بالأمس محاولاتها الفاشلة بعدم النوم، ولكنها فشلت واستسلمت كما أنها لم تشعر حينما دار حول الفراش وقام باحتضانها مقبلاً إياها بنعومة حتمًا ذهبت عقلها وهي تحت تأثير الاجهاد المفرط لجسدها..قرر أن يستسلم هو الآخر للنوم بعد أنا جافه لأيام عديدة بسبب بعده عنها..
وفي الصباح نهض باكرًا عنها، ودار حول الفراش وهو يصطنع النوم بجانب أنس، لا يريد أن تشعر باقتحامه لمشاعرها دون إرادة منها، رغم أنه يريد أن يفتك بتلك الأسوار التي فرضتها حول نفسها.
تذكر يقظتها المحببة لقلبه، وهي تعقد حاجبيها تنظر له بتفكير قليل كان هو يراقبها بخبث، حتى أنه لاحظ اقترابها منه تنظر لملامحه بصمت الهب دقات قلبه التي كاد أن يقسم أنها استمعت لها.
فتحت عيناه فجأة فأربكها فعادت للخلف تقول بتوتر جلي:
– انت نمت هنا ازاي، مطلعتش بيتك ليه!.
– انتي اللي طلبتي مني كده.
قالها في ثبات، فتعجبت وهي تشير نحو نفسها:
– أنا طلبت انك تقعد وتنام هنا!.
حرك رأسه بإيماءة بسيطة مؤكدًا على حديث بعبث حاول إخفاءه تحت صدمتها:
– ايوا وكمان طلبتي اخدك في حضني، بس أنا مرضتش علشان مكنش ليا مزاج.
– أنا؟!
نهض عن الفراش قائلاً بخفوت حتى لا يوقظ ولده:
– آه انتي، المهم هسافر القاهرة، خلي بالك من أنس لغاية ما ارجع!.
وبنبرة مستفزة أخبرته:
– هو انت معندكش شغل ومحلات في القاهرة يا سليم!.
وبنفس الاستفزاز أخبرها بخبرًا كان كالصاعقة فوق رأسها:
– لا ماأنا اشتريت محل في وش المكتبة اللي انتي قاعدة فيها وقررت اوسع شغلي كمان في اسكندرية، ورايح دلوقتي اتمم في الشغل فيه قبل ما اسافر!.
أنهى حديثه وهو يتجه صوب الباب، فدبدبت في الارض بغيظ:
– عايز يموتني…حتى المكتبة هيبقى في وشي.
عاد سليم من شروده حينما وصل على أعتاب المنطقة التي يقطن بها سيف… قرر أخذ هدنه قليلة من التفكير بشمس، مركزًا على زواج صديقه المفاجئ من فتاة حقًا لا يعلم كيف سيجتمعان بغرفة واحدة فهما على النقيضان تمامًا…
***
– بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير..
أنهى المأذون زواجهما بكلماته تلك وارتفعت الزغاريد تبهج صدورهم بفرحة زواج سيف وليال..فكانت تجلس بجانب فاطمة في خجل لم يعهده منها أحد من قبل، لم تتحدث، لم تعترض، لم ولم ولم…حتى أن سيف كان يرفع نظراته أحيانًا يطمئن بوجودها…وحقيقةً هي كانت عدة عوامل تجعلها صامته هكذا، سعادة لزواجها منه وأخيرًا تحقق حلم من أحلامها كان صعب المنال، إلى جانب أنها لا تريد رؤية الشماتة بعيون عمها وزوجته الحمقاء…تزامنًا مع بعض الافكار المخيفة التي جعلتها في حالة استكانة عجيبة من فكرة أنها اصبحت زوجة لأحد سيصبح هو المتحكم بها وهذا أبعد ما يكون عنها.
راقبت ليال قدوم عمها منها، فشعرت بالنفور منه واستياءها من زوجته، حيث مازالت تحمل مشاعر الكره بداخلها تاركه ندوب صغير بقلبها بسببهما..وما لفت انتباهها هو وقوف سيف أمامهما متحدثًا معهما بكلمات مقتضبة جعلتهما يخرجان بغضب.
لن تنكر أنها شعرت بالراحة لتصرفه ذاك..فلن تستطيع أخذ مباركتهما على محمل الحب والمودة هم من قطعوها اولاً…
قابلت دقائق التنهئة بعد ذلك بابتسامة عذبة، ثم غادر من في الشقة حتى سليم صديقه بعد أن تحدث معه بكلمات خافته كان يحرك بها سيف رأسه بالإيجاب..قطبت ما بين حاحبيها بتفكير وتساءلت ماذا يقول له؟!، هل يخبره بأن يكون حليمًا وهادئًا معها؟!، هل خُيل لسيف أن يجمعهما منزلاً بهذه السرعة قبل أن تنقطع أنفاسه اولاً في تحقيق متطلباتها كمحاولة منها للهروب من براثنه الذي يحاول فرض حصاره عليها بكل الطرق!.
شعرت بالشفقة عليه لِمَ سيقابل الآن منها!!.
__________________
يتبع ……
لقراءة الفصل الثانى والعشرون : اضغط هنا
لقراءة باقى فصول الرواية : اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!