روايات

رواية وتلاقت الأرواح الفصل الأول 1 بقلم ندى ممدوح

رواية وتلاقت الأرواح الفصل الأول 1 بقلم ندى ممدوح

رواية وتلاقت الأرواح الجزء الأول

رواية وتلاقت الأرواح البارت الأول

وتلاقت الأرواح
وتلاقت الأرواح

رواية وتلاقت الأرواح الحلقة الأولى

1_لقاء عابر
بدأ الشَّفق يتلون على صفحة السماء، والشمس تغرب وهي تلوح بالتوديع إلى يومٍ آخرٍ آت.
سارت بخطى وئيدة، وهي تضم كتابٍ ما إلى صدرها، وفوق منكبها حقيبةً سوداء، وعلى حين غرة راعها إن برز فجأة شابًا نحيل الجسد، قصير الطول، أسمر البشرة، وأعترض طريقها ووقف حائلًا بينها وبين السير قدمًا، فتقهقرت (أسماء) للخلف وأشتعل الغضب في عينيها، وتميزت غيظًا، وهمت بأن تنفجر ثآئرة في وجهه، لكنها أطبقت شفتيها وأحجمت عمَّا نوت وآثرت أن تنأى عن إثارة المشاكل.
وبادرها الشاب قائلًا، وعينيه تلمعان ببهجة شرهة؛ لا تفارقان ملامحها:
_ما ليّ أرَ القمر قد غادر السماء وتجسد أمام عيني لينير دربي!
شرراتٍ من الغضب توهجت في مقلتاي (أسماء) وهي ترمقه شزرًا، وكبحت غضبها، وكظمت غيظها، وهي تردد في هدوء:
_نوري محال أن ينير دربك قط يا عصام، وأبتعد عني فورًا وخل سبيلي.
فأرتد (عصام) إلى صمته، وتجهم وجهه شيئًا، ونحا ببصره إلى الليل الذي جثم على الأرض، ثم قال في هدوء، كهدوء البحر قبل العاصفة:
_دربي ودربك واحد يا أسماء، مهما حاولتِ إن تنأي بنفسك عني؛ سيتلاقى سبيلنا.
_ومن الذي قال هذا يا ابن سالم؟ أنت..؟ ومن يأخذ كلامك على محمل الجد! إنها هواجسك وحدك.
تفوهت بتلك العبارة والدة أسماء، بعد ما جاءت مسرعة عندما أقبل عليها صبيٌ يخبرها صائحًا بإعتراض عصام طريق أسماء، فتوقفت إزاءه وقد أعطت ظهرها لأبنتها، وقالت بلهجة مفعمة بالقوة:
_دع هواجسك تلعب بك كيفما تشاء، دعها تذهب بك يمينًا ويسارًا كالمجنون، ولكن إبتعد عن ابنتي.
ورفعت حاجبها، وأردفت تسائله في صرامة:
_قُل ليّ ما الذي يستغلق عليك فهمه كي تبتعد عن طريقها؟ وإذ رأيتها تمرُ من أمام عينيك تركض مفسحًا لها الطريق، توارى وجهك البغيض عنها؟!
جز (عصام) على أسنانه، وغمغم وهو يستشيط غضبًا:
_أنا وجهي بغيض؟!
تمتمت والدة أسماء بنبرة متهكمة:
_وهل ترَ أحدٌ غيرك وجهه بغيض ها هنا!
إندفع (عصام) شَطرها ناويًا لطمها، لكنَّ وقبل أن يصل إليها سمع صوت إحتكاك سيارة مسرعة تقترب منه، وفي لحظة كانت ترتطم في جسده، بضربة بارعة كلا تصيبه بأذى سوى سقوطه المدوّ، وقبل أن ينهض إثر ذلك، كانت سيدة تخرج من السيارة وهي تصفق بابها بقوة ترتدي بنطال أسود واسع، يعلوه جاكت قصير أسود، ووشاح قصير يلف رأسها، وجأرت وهي توقفه قسرًا:
_ما خطبك يا ولد، كيف تجرؤ أن تعترض طريق أسماء وصديقتي.
وهوت بلطمة قوية على خده، جعلت عينا (عصام) تتسعان ذهولًا، ويفغر فاهه من الصدمة ويحدق فيها بنظرة غاضبة تعهد بالأنتقام، وصدح صوت رجل قوي هاتفًا:
_كيف تجرؤين على مد يدك على والدي يا ست منى.
وفي جرأة إلتفتت إليه (منى)، وأخترقته بنظرات ثاقبه، وهي تصرخ فيه بشراسة:
_تراءى ليّ إنه بحاجة للتربية فلم أتريث..
ورفعت سبابتها بوجهه، وهي تخفض صوتها، وأتبعت تقول بنبرة كالفحيح:
_إبعد والدك عن طريقنا وإلا أقسم بالله سأفعل أنا، وإن فعلت فلا تلومن إلا نفسك.
شهقت (أسماء) بالبكاء؛ كان فؤادها متصدعًا من الحزن، لوهلة حسبت (عصام) سيتمادى على والدتها بالضرب، وهن بلا رجل يحميهم، وبلا سند يتكأون عليه، وأسرعت خطاها جهة بناية منزلها، وفتحت باب الدار وهي تتندفع للداخل جهة غرفتها، وتلحق بها أختها الصغرى (دنيا)، وهي تصيح في جزع:
_ما الذي يبكيكِ يا أسماء؟!
رمت (أسماء) نفسها على الفراش وانخرطت في البكاء.
ما أصعب أن تحيا الفتاة بلا أب يسبغ عليها بسقف حمايته؟
جلست (دنيا) بجوارها، وسال دمعها على خديها غزيرًا وأخذ ينقط على (أسماء)، التي توقفت عن البكاء، واستوت جالسة، وهي تربت على كتف اختها برفق، وتهمس في حنو:
_أنا بخير يا دنيتي لا شيء، لا تشغلي بالك.
_ولكن أشغلي بالي أنا إذا أردتي!
انبعث الصوت من لدن الباب، فوثبت (دنيا) واقفة في شغفٍ، واندفعت تعدو وهي تلقي بنفسها في أحضان (منى)، قائلة:
_طنط منى.
قبلتها (منى) من وجنتها، وهي تقول:
_قلب طنط منى.
وأستطردت تقول وهي تحوَّل بصرها إلى (أسماء):
_أعدي ليّ قدحًا من الشاي، وذريني برفقة شقيقتك لدقائق.
وربتت على خدها برفق، وهي تستعجلها:
_هيا.
ذهبت (دنيا) بضجر، وهي تدب قدميها في الأرض على مضض، بينما أغلقت (منى) الباب، وجلست بجانب (أسماء) التي وضعت رأسها على كتفها، وهمست بصوت يخنقه غصة بكاء:
_لهنية ظننت إن عصام سيجرؤ على والدتي، ولن يمنعه أحدٌ عنا.
وسكتت، وأُرسل دمعها يتكلم، حضرها الحزن فوأد سكون فؤادها، وطمأنينة نفسها، ثم أسبلت جفنيها عن ألمٍ يحز في نفسها فعل المدى في الذبيح، وهمست بصوت يفطر القلب، ويقطر بالأسى:
_لماذا فقدتُ أبي؟ لماذا غادرنا ونحنُ بحاجة إليه؟ عندما يعترض عصام طريقي ويضايقني أتحل بالقوة الواهية لكن قلبي يخفق خائفًا، ويرفرف كطيرٍ ثم اصطياده، لو كان أبي بيننا ما كان ليجرؤ أحد عليَّ.
مسدت (منى) على رأسها وهي تصيخُ السمع بذهنٍ شارد، وما أن لاذت (أسماء) بالصمت لم تلبث لهنيهة إن قالت:
_لات الأمر كما تظني، ولن اتلو عليكِ كلماتٍ واهية، ولن أرثي حزنك بعبرات مواسية، ولكن هل ليّ أن أسال؟
لم تنتظر (منى) الإجابة، بل تلت قائلة:
_هل تعلمين معنى ( { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى }
[سُورَةُ الضُّحَىٰ: ٦])
أومأت (أسماء) برأسها، ثم رفعت رأسها إليها وقالت:
_بلى، أعلم معناها وإن الله عز وجل آوى الرسول…
قاطعت (منى) إسترسالها، وأخذت هي لُجام الحديث، وهي تقول ببسمة متلألئة كأنها نور الفجر في ليلة من ليالي الدآدي:
_أتعلمين إن كان الرسول يتيمًا توفى والده وآمنة حامل فيه بشهرين، لكن تبقت له أمُه، ثم بعد وفاتها عاش في كنف جده عبد المطلب، وبعد وفاة الجد ذهب تحت رعاية عمه ابي طالب.
صمتت (منى) لبرهة، استعبرت خلالها مآقيها دمعًا يذوب من الشوق لنبيه، وهمست بصوت مختنق بالعبرات:
_انظري إلى حكمة الله كيف آوى الرسول من أمه إلى جده إلى عمه، لم يذَره وحيدًا، أتظنين بعد ذلك إن الله لن يؤويكي؟! أنَّى لكِ بأفكار كهذه يا اسماء! إن ربكِ كريم نعم أنتن يتيمات الأب لكن تظل أمك تميمة تحميكِ أنتِ وأختك، لا تزل صلبة قوية لأجلكن، أستغفري ربك واغسلي وجهك من البكاء، حاشا الله ألا يرعاكن وهو الحافظ.
وأغلقت أهدابها لردحًا من الزمن، ثم قالت:
_ثم إن الله لا يكلف نفسًا بالأبتلاء إلا لو كانت تقدر على تحمله، وعلى ثقله، وعلى وجعه، مهما جثم هذا الإبتلاء سيكون قادرًا عليه والله سبحانه وتعال يقول في كتابه الكريم:({ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)( { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) ربك رحيم فتسلحي بالصبر، والمأوى إلى الله فجميع الخلائق فانية إلا الحي القيوم، ولتنالي بصبرك منزلةَ من يدخلون الجنة بغير حساب (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].إإنما هو إمتحان يختبرك به الله، وهي علامة حب من الله لكِ، واعلمي إن الله وحده هو مفرج الكرب، إن الله يا ابنتي يدبر أمر كل امريءٍ منا بحكمة، فإذا علم الإنسان اسم الله الحكيم حق العلم، والمعرفة لوضع رأسه في آخر اليوم فوق وسادته راضيًا مطمئنًا، هادئ البال لإنه يعلم إن الحكيم يدبر أمره، وإن كل شيء يحدث له فهو بحكمة، وخيرٍ من الله.
سكتت (منى)، وثغرها يتلألأ متبسمًا ببسمة متوهجة كمشكاة تضيء طريقًا مظلم بين أخاديد من الوجع، ثم تنهدت بعمق.. وهمست بصوتٍ رخيم يقطر خشوعٍ:
__ثمة عبادٌ يحبهم الله، ألا تريدين أن تكوني منهم؟!
_ومن أولئك العباد!
_إنهم الصابرون الذين يرضون ويصبرون بما كتبه الله لهم مهمًا كان ثقل الإبتلاء فقد قال الله تعالى في سورة آل عمران “والله يحب الصابرين”، فطوبي للصابرين الذين نالوا محبتة، وحظوا بقربه.
سكتت (منى)، وتبسمت (أسماء) مبتهجة وقد تأجج نور الإيمان في صدرها، وأغدق عليها الرضى، فطوقت عنق الأخرى بوِد وهي تهمس بصوتٍ خافت:
_أدامك الله لقلبي يا أحلى طنط رُزقت بها.
ثم أبتعدت عنها، وطالعتها في مشاكسة، وغمغمت:
_أهاب لعيناي أن تحسدان علاقتك مع والدتي.
ثم أردفت في تمني:
_ليت علاقتكم تظل كما هي دائماً.
_ستظل يا روحي إن صرفتي عيناكِ عنا، وكففتِ حسدًا!
آتاها الرد منبعثًا من فم أُمها وهي تقفُ على أعتاب الغرفة، ثم تهادت بخطواتٍ متأنية نحوهن، وهي تهدر بغضبٍ تلتهب به عينيها:
_والد سالم لن يهدأ حتى أقتله بيدي هاتين، أو يقتلني!
أسبلت (منى) جفنيها في ضيقٍ بيَّن، وجزت على أسنانها في عصبية، ولم تلبث إن أنفجرت أسايرها بالبهجة، وتمتمت:
_دعك من كل هذا يا سعاد…
وهبَّت واقفة، وجذبت سعاد من يدها، وهي تقول:
_هلمي بنا لنخرج نتناول الطعام معًا بالخارج أنا وأنتِ فقط…
لكنَّ سعاد أفلتت كفيها من راحتيها برفق، وأشاحت النظر عنها، وقالت في هدوء لتكبح إسترسال صديقتها:
_على رِسلك يا منى، تعلمين إني لا أخرج دون البنات، ولا يمكنني تركهم بمفردهما.
دلفت (دنيا) إلى الحجرة، وبيديها صنية تحوي كؤوسًا من الشاي، وهي تُردد في حيرة:
_وهل نحنُ صغارًا يا أمي كي تخشي علينا أم ماذا؟؟
ومالت على أذن والدتها، وأستطردت:
_أم إنك تخافين أن يقوم الجن بأختطافنا.
قالت عبارتها وخبطتها أمها في كتفها بخفة، وأطلقت هي ضحكة رائقة، ثم كتمت قهقهتها عندما لم تجد من يبادلها إياها، ونقلت البصر بينهم، وهي تغمغم بوجهٍ عابس:
_لماذا لم يضحك أحد؟
دفعتها (أسماء) بغيظ، وهي تردف:
_وعلامَ سنضحك يا بلهاء.
ثم ألتفتت إلى والدتها، وأصرت قائلة:
_أماه أريدك أن تخرجي مع طنط منى وتقضين بعض الوقت برفقتها، فلم تخرجان منذُ فترة بمفردكما، أرجوكِ يا أمي فلتذهبي.
لم تلبث (سعاد) بعد إلحاحا أن وافقت على مضض، مخافة أن تحزن رفيقتها الوحيدة وعضدها في الحياة، الوتد الذي تميل عليه بكل ثقلها دون خشية من السقوط؟
ورفقتها أبنتيها إلى الباب، وهي توصيهم وكأنها ستغيب حينٌ من الدهر:
_لا تفتحان الباب لأحدٍ حتى مجيىء، وإن أحتجتم شيءٍ مهمًا كان فلتتصلان بيّ فورًا.
سحبتها (منى) من ذراعها في ضيق، وهي تقول بغلظة:
_ولا تنسيان يا عزيزاتي أن تأخذان الرضعة قبل النوم لأننا سنتأخر.
ثم أتبعت في صرامة، وجدية:
_هيا يا سعاد إنهما كبيراتان كفاية ليهتمان بنفسيهما.
ضحكات مكتومة كانا يحجمها البنتين حتى توارت أمهما عن الأنظار، ثم أنطلقت عالية وهما يغلقان الباب وراءهما، بينما تسأل (دنيا) في اهتمام:
_ألم تحادثي ندى اليوم؟ كيف حالها؟!
سحابةٌ من الحزن ظللت وجه (أسماء) مبددة إشراقته، وهي تقول في حنين مس القلب:
_لا، لم أحادثها، أوحشتني تلك الفتاة رغم إنها قد فارقتني البارحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعد بكاءٍ يفلق القلب العليل ذهبت في سباتٍ عميق، بعد يومٍ شاق بالسفر للأنتقال إلى البلدة التي نُقل والدها إليها في عمله، صوت موسيقى عذبة، تسللت من أذنيها إلى أعماقها لتوقظها من نومها، وتنزع عنها راحتها، تقلبت (ندى) في فراشها بضيق، ثم أعتدلت مغضبة، وهي تدمدم:
_من ذاك الغبي الذي يسمع موسيقى في هذا الوقت؟!
ثم ألقت بالغطاء من فوقها وهي تغادر الفراش وتتميز غيظًا، جالت ببصرها أنحاء الحجرة في محاولة لأستكشاف مصدر الموسيقى أين مبعثه، لكن محاولتها باءت بالفشل.
أرتفع رنين هاتفها، فردت فورًا على الأتصال بشغفٍ، وهي تكاد تستطير فرحًا:
_أسمـــــــــــــــــاء أوحشتيني يا فتاة كثيرًا جدًا، كيف حالك؟
ضاع رد (أسماء) وسط صيحة (دنيا) التي تقف بجوارها:
_حالها لا يسر عدو ولا حبيب يا عزيزتي، البنت ستموت إن لم تعودي.
ضحكت (ندى) في بساطة، بينما أتاها صوت (أسماء) أكثر هدوءً ووضوحًا، وهي تقول:
_ ندى ما هذا الصوت؟ أهو صوت موسيقى؟ لولا إني اعرفك لظننت إنه أنتِ من تسمعين!
تنهدت (ندى) بضيق، وقالت بصوتٍ يقطر بؤسًا:
_لا أدري مبعث تلك الموسيقى يا أسماء، سأكاد أجن لقد أيقظني الصوت من النوم.
كانت تتحدث وهي تيمم وجهها شَطَر النافذة، وتوقفت مستندة بإحدى كفيها على إطارها، ورفعت نظرها إلى النجوم المضيئة بشيءٍ من الراحة، ولسانها يحادث رفيقة عمرها بحماسٍ ورفق، حتى سقطتا مقلتيها على شخصٍ ما، يجلس وهو يميل فوق بيانه، أصابعه في مهارة تعزف مقطوعة حزينة، فغمغمت بصوتٍ ذاهل:
_لقد علمت مصدر الموسيقى؟
تساءلت (أسماء) باهتمام:
_من أين يأتي؟
ردت (ندى) متجهمة المحيا:
_من عند الجيران…
ثم قالت في سرعة:
_حسنًا فلتبقِ معي قليلًا.
وأبعدت الهاتف عن أذنها، وصاحت بصوتٍ عال:
_لو سمحت هلا أخفضت من صوت الموسيقى، يوجد أُناس حولك لا تروق لهم سماعها ولا يطيقوها مثلي.
لاذت بالصمت عندما رأت الشاب ينهض، ويلتفت إليها دون أن يعيرها أيُّ أهتمام أو نظرة، ودون أعتذار أو كلمة، وبصوتٍ مدوّ، صفق ضلفتايّ النافذة خاصته، فأنتفضت (ندى) إثر الصوت، وأطرفت البصر في دهشة، ثم بلغها صياح (أسماء) في الهاتف، فوضعته على أذنها، وهي تقول في تعجب:
_أسماء لقد صفق ضلفتايّ النافذة في وجهي دون حياء.
_من هذا؟
_ابن الجيران.
كظمت (أسماء) ضحكتها، وهي تُردد بجزل:
_هل حقًا أغلق النافذة في وجهك؟! قليل الحياء!
هتفت (ندى) هائجة:
_صَه، أسكتي يا أسماء لا أريد أن أسمع صوتك إني أكاد أنفجر غيظًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
_لا يزل الوقت باكرًا يا روحي، لمَ عُدتِ كنتِ بتِ ليلتك خارجًا.
هكذا أستقبلت والدة (منى) أبنتها ما أن وطأت قدميها داخل البيت؛ بكلماتٍ لاذعة متهكمة، فأسبلت (منى) أهدابها في ضيق وهي تأخذ نفسًا عميقًا، وزفرته في تمهل، وهي تدمدم بصوتٍ يقطر ضيقًا:
_ليس اليوم يا أمي أرجوكِ، لا تفسدي عليَّ متعة لم تزور قلبي منذُ مُدة.
وتوجهت نحو السُلم، وما همت أن ترتقي درجاته، توقفت وهي تمسك الدربزين، وتسترق السمع إلى أمها وهي تقول بصياح:
_تخشين أن افسد ليلتك، وماذا عنك؟ لماذا لم تفكري في اسم العائلم، ماذا يقول الناس عنا عندما يرونك آتية في وقت متأخر إلى المنزل…
أستدارت (منى) إليها، وفي عينيها نما غضبٍ كالبركان أشتعل مع كلماتها:
_الناس.. الناس.. الناس كل ما يشغل ذهنك الناس وفقط.
وأردفت وهي تؤشر بسبابتها إلى صدرها:
_وأنا، ابنتك ألا تفكرين بيّ قط؟
ودنت منها وهي تتابع بنبرة محتدة:
_إذًا فلتعلمي يا أمي إنني لا أفكر فيما يقولوه الناس عني، وإنهم آخر اهتمامتي، وما دام إني لا أفعل شيء يغضب الله مني فلا أهتم بأحد ولا أخشى إلا الله.
ورمقتها شزرًا، وولت لتصعد الدرج، وفي إثرها صوت أمها وهي تصرخ:
_قليلة تربية، فشلت في جعلك أبنة صالحة، فلا غرو أن يطلقك زوجك قبل زفافكم بأيام.
تسمَّرت قدما (منى) فوق الدرج برعدة سَرَت بأوصالها، وازدردت لعابها وهي تطرف لتدحر دمعة تلألأت داخل مقلتيها، وأرسلتها مآقيها العبرة إثر العبرة، لقد نكأت والدتها جرحًا يرُّم على فساد، جرحًا قد غسق..
هيج كلامها جُل الأوجاع المؤصدة، فذابت تهافت المشتاق على هيئة دموعٍ سحت من مآقيها وذكرى الغائب تتشكل في خلدها، أوصدت باب حجرتها وراءها وأسندت ظهرها عليه، وحررت دموع الفؤاد لتنسكب من وِعاء الحزن مما ألَم بها، وتحركت كإنسان آلي وأبدلت ثيابها، فراغٌ تام كان يحتل السويداء من قلبها في تلك اللحظة.
فراغ لن يملأوه شيء قط!
ما أمر من حُزنٍ أستقر كغائب وجد موطنه بين النبضات.
ثم جعلت تنظر من شرفة حجرتها إلى السماء الصافية، وتسبح بذهنها في ذكريات تأججت غرة، وتنبهت للأطياف التي برزت ظِللها أسفل شرفتها، فشرأبت برأسها وناظرت مجموعة من الشباب الذين يتسللون إلى منزلها خفية، فزفرت بضيق، ولم يخامر الخوف نفسها، وبقلبٍ غير واجف، غمغمت في قسوة:
_يبدو بإن ابن سالم لن يمرر هذا اليوم على خير.
وهزت كتفيها بحيرة، وهي تسترسل بتنهيدة:
_لنرَ ما سيحدث.
وتحركت خارج حجرتها، فرأت الشباب يحاوطونها وبين أيديهم عُصيان، فرفعت حاجبها في دهشة، وقالت في تعجب:
_أليس من العيب أن تداهموا منزل سيدتين يا رِجال؟! أم أنكم بالاسم فقط رِجال؟!
رفع إحدى الشباب عصاه، وهو يتهيأ ليهوى بها فوق رأسها، ولسانه يجأر:
_من يجرؤ ويمس إحدٍ منا بسوء نرده له أضعافه.
وقبل أن تهوى العصى فوق رأسها، تراجعت (منى) برأسها للخلف وقبضت على العصى…
وفجأة دوت صوت رصاصة..
وساد صمت رهيب..
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
تحرك (نوح) واقفًا خلف أبيه، يضع يديه داخل جيبيّ بنطال بذلته، يقطب حاجبيه بتفكير، وبعينين كالصقر يترصد أصابع والده وهما تبدعان برسم عينان ووجه آلفه؛ بسبب رسم والده له طوال الوقت.
حتى نما بداخله وتشعب الحنين إلى معرفة صاحبة الوجه، والتي لم يفصح أبيه عنها او عن هوايتها للأن، وهو لم يصر في الحقيقة، فقد ترك كل شيء لوقته.
كان لا يزل أبيه بعينين حزينتين، مشتاقتين ترسمان وجهًا لم يفارق الخيال أبد الدهر يرسم باهتمام شديد وتركيزٍ أشد، بينما يقول:
_هل ستظل واقفًا هكذا دون أن تجلس؟
فتبسَّم في إعجاب، وتحرك ليجلس بجواره وهو يقول:
_كيف شعرت إني وراءك رغم إني لم أصدر صوتًا!
ترك أبيه القلم من يده، ورفع رأسه إليه، وهو يقول في ثقة:
_المهنة يا نوح تعلمنا ما يجهل القدر على تعلمنا إياه.
غمز (نوح) له، وأشار بعينيه جهة الرسمة التي بيد أبيه، وقال:
_ألم يحن الوقت لتخبرني لمن تلك العينان، ولولا إني قد رأيت أمي رحمها الله لقلت هي!؟
بعينين تضويان بالحنين حاد (طه) ببصره للرسمة، وقال بصوت يقطر شوقًا ووجدًا:
_تلك العينين هما كل ما تبقَّ لأبيك يا نوح!
لم يفقه (نوح) شيئًا فزم شفتيه، وهو يقول:
_لا أفقه شيئًا مما تقول!
انبلجت بسمة حزينة على ثغر (طه)، وألتفت إليه وهو يقول متنهدًا بثقل:
_أنسى أبيك الآن، وأخبرني كيف حال المكتب يا سيادة المحامي؟ وهل تبلي بلاءً حسنًا!
تراجع (نوح) للوراء مسترخيًا، وقال في بلادة:
_كل شيء بخير يا أبَتِ لا تشغل بالك.
تجهم (طه) بغتة، وقال بتأكيد:
_هذا شيئًا جيد، ولكن يجب أن تأخذ حذرك في القضية التى تتولى المرافعة عنها خطرة بعض الشيء، وقد يُصيبك الأذى لا تنس هؤلاء تجار مخدرات!
أعتدل (نوح) وعقد ذراعيه أمامه، ومال بجذعه نحو أبيه، وهو يقول بصوت خافت:
_أنا لا أخاف من أحد يا أبَتِ إلا الله سبحانه وتعالى، ولن أترك مظلومٌ لحبل المشنقة لإني أهاب بعض الحشرات.
ربت أبيه على كتفه في فخر واعتزاز، وغمغم:
_وأنا معك يا ولدي.
ثم أستطرد مستدركًا:
_هل أنت ذاهب إلى مكانٍ ما؟
أومأ (نوح) برأسه، وقال وهو ينهص:
_آه لدي موعد هام، عندما أعود سأخبرك عنه!
إنصرف (نوح) إلى بعض شؤونُه، لقد خرج للقاء أخت موكليه لإنها طلبت لقاؤه بصورة عاجلة؛ متعللة إنها تريد قول شيء هام له، قد يكون به نجاة أخيها، وقد ذهب للقائها والفتاة لم تضيف له شيئًا جديدًا، أو شيءٍ لا يعرفه.
والقضية كانت عصية، إذ إن التهمة أُثبتت بطريقةً ما على الشاب، الذي كان يعمل في شركة (الغزل والنسيج)، وإذ بأصحاب العمل يلقون التهمة عليه، وأخذ فيها مؤبد وهو موقن من برأته ولن يتخلى عنه.
وسَرح بعقله إلى ما أخفاه عن والده من محاولة قتل كادت تودي بحياته، إذ ذات مرة حينما كان عائدًا إلى داره وجد سيارة تتبع أثره حتى صدت طريقه، وخرج منها رجلًا وهو يشهر سلاحه في وجهه، فتحفز جسده بأكمله ورغم ظلام الليل الحالك أستطاع بعينين صقريتين إن يرى الرجل جيدًا، ويضع خطة نصب عينيه تمامًا راح ينفذها على الفور، إذ قفز من السيارة غرة، ووثب على الرجل وامسك معصمة، ورفعه إلى أعلى، ليبعد عنه فوهة المسدس، وبسبب مباغتته للرجل لم يملك فعل شيء حيال ذلك أو مجابهته، وانتزع منه المسدس، وصوبه إليه، وهو يقول في حزم غاضب، منفعل:
_من وراءك يا هذا؟
لكنَّ الرجل أطاح بركلة من قدمه المسدس من قبضته وقفز داخل سيارته، وأبتعد..
أستيقظ عقل (نوح) بغتة، عندما وجد أفراد الشرطة أمام عينيه، وطلب منه الضابط بصوتٍ أجش محتد أن ينزل من سيارته، فأنصاع على مضض، والضابط يقول:
_معنا أمر خاص بتفتيش سيارتك يا نوح!
قطب (نوح) جبينه، وضيق عينيه مستفهمًا وهو يقول:
_كيف؟!
أشاح الضابط بوجهه عنه، وهو يتمتم في برود حاد:
_هكذا، و…
قطع عبارته إقبال جندي من الجنود نحوه، وأدى التحية العسكرية وهو يضرب كعبيه في الأرض، هاتفًا:
_لقد وجدنا هذا..
ووضع في يدين الضابط أكياس جمة من المخدرات، ففحص الضابط المادة البيضاء، ثم ألتفت إلى (نوح) وقال في غضب:
_تدعي النذاهة يا سيادة المحامي وأنت بعيدًا عنها!
ثم أرجح كيسٌ من المخدرات أمام أعين (نوح)، وتابع:
_ما هذا يا رجل! هل تتاجر في هذا السم.
وفي ثبات رمق (نوح) أكياس المخدرات بلا اهتمامٍ ظاهر، وغمغم في هدوء:
_هذه الأكياس لست ليّ، ولا ادري كيف وُضعت داخل سيارتي.
هز الضابط منكبيه، وهو يقول:
_هذا ليس من شأني، يؤسفني إنك ستضر للمجيء معنا.
أومأ (نوح) برأسه إيجابًا وإنساق معهم دون مقاومة او أحتجاج.
وأدرك إن خوف والده كان صحيح!
وإن اللعبة قد بدأت..
ولا أحد يدرك من الفائز؟!
فمن سيفوز؟!
ولمن يكون النصر؟!
وكيف تتلاقى طرقًا، أخمدتها الريح بين ركام الحياة؟!

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وتلاقت الأرواح)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى