روايات

رواية غوثهم الفصل الثامن عشر 18 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثامن عشر 18 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء الثامن عشر

رواية غوثهم البارت الثامن عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثامنة عشر

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن عشر”
“يــا صـبـر أيـوب”
_________________
“وَمالي غير باب الله بابٌ
ولا مولىً سواهُ ولا حَبيبُ
كريمٌ مُنعمٌ بَرٌّ لَطيفٌ
جَميل الستر للداعي مجيبُ”.
_النقشبندي.
________________________
وكأن النيران بداخلي تُصاب بالعدوى عند رؤيتها لدموع أحدهم وكأن الحزن المرسوم على الملامح ينتقل لها لتثبت لي أن ماهي إلا نيرانًا اخمد الزمان قوتها وعند مجيء هُبة رياح قوية عاصفة لم تنطفيء النيران، بل بالعكس ازدادت قوتها وهي تأكل في قلبي، ليبقى المتألم من نيرانها…أنا.
_منورة حارة العطار يا….يا بنت خالتي.
تفوه بها “عبدالقادر” بنبرةٍ أوضحت التهكم في حروفه وكأنه يُعاتبها بحديثٍ متوارى، فيما اتسعت عينان “يوسف” بدهشةٍ وهو يلتقي بصدمةٍ جديدة تضاف لقاموس صدماته وكأن هذه هي حياته، يتلقى بها فقط الصدمات والصفعات.
لاحظت “عـهد” التوتر الذي طفق يعلن عن نفسه في الأجواء لذا هتفت بتوترٍ انتقل لها وبدت كأنها مذنبة أمامهم:
_طب هضطر استأذن أنا بقى علشان ميعاد الشغل.
لم ينتبه لها سوى “يوسف” الذي حرك عينيه نحوها لتبتسم له بمجاملةٍ ثم تحركت من المكان نهائيًا، فنظر “يوسف” لهما من جديد يهتف بنبرةٍ جامدة يستفسر عما تفوه به “عبدالقادر”:
_إيه اللي أنا سمعته دا ؟؟ بنت خالتك إزاي يعني؟؟
تنهد “عبدالقادر” ورماها بنظراتٍ ثاقبة وهو يقول:
_أسألها، قولها تقربلي إيه، بس للأسف قرايب بالاسم بس.
نكست “فاتن” رأسها للأسفل فزفر “يوسف” بقوةٍ وهتف من جديد بنفاذ صبرٍ وقد أوشك على الانفجار فيهما:
_ادخل يا حج خلينا نتكلم، لحد ما نشوف أخرتها.
دلف “عبدالقادر” وهي خلفه بعدما صارعت نفسها في الدخول حيث أتيح أمامها حلٌ أخر وهو الركض هروبًا منه ومن فرض هيمنته أمامها، بينما “يوسف” وقف بينهما ينطق بخشونةٍ وقد أوشك حقًا على التحول إلى أخرٍ:
_أنا لو معرفتش سبب القرابة بينكم هوريكم وش يزعل الكل مني، قريبهم إزاي ؟؟ “حكمت” مكانش ليها أخوات أصلًا غير واحد ومات.
هتف “عبدالقادر” بغضبٍ وقد تذكر ماحدث في سالف الدهر:
_كان ليها، أخت من الأم اللي هي أمي، بس اكمنها صاحبة أصل أوي قاطعتها علشان أبوها ورث وبقت مبسوطة، إزاي أمي الفقيرة اللي على قد حالها تبقى أختها؟؟ كدا كدا اللي بيربط بينهم أم مش أب وعصب، كانت السبب في موت أمي بحسرتها، ولولا الدم وصلة الرحم أنا كان زماني مموتها بأيدي.
نزلت دموع “فاتن” وهي تجلس على الأريكة، فطالعها “يوسف” بتعجبٍ وهتف مستنكرًا وكأن ما يقع على سمعه أقوى من قدرته على التحمل:
_وأبويا كان يعرفك منين؟؟ هو كدا مش قريبك إيه اللي جمعكم ببعض.
جاوبه “عبدالقادر” بثباتٍ:
_علشان كان صاحب عمري، مليش غيره اتعرفنا على بعض عن طريق جدودنا من زمان، وكان أخويا، وقف جنبي وعمل اللي معملتهوش خالتي وعيالها، كان عايش هنا هو وأمه قبل ما يمشي على بيت خاله، عمرنا ما سيبنا بعض، حتى لما مشي مقطعش علاقته بيا، حتى ساعة جواز أخته كنا هنحميها أنا وهو من الجوازة دي، لحد ما ضيعت نفسها.
هتفت “فاتن” بصراخٍ في وجهه:
_كنت هتعمل إيه ؟؟ ها ؟؟ لا أنتَ ولا هو كان في إيدكم حاجة تعلموها، كل حاجة كانت بإيد أمي، وأظن أنتَ عارف حصله إيه لما فكر بس يقف قصادهم.
عقد “يوسف” ما بين حاجبيه فيما اندفع “عبدالقادر” يهتف في وجهه منفعلًا بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_كنا هنقف في ضهرك، خوفتي علينا ليه هو احنا عيال؟؟ الراجل فضل شاريكي لحد أخر نفس فيه، “صديق” كان مستعد يفديكي بروحه، و “مصطفى” كان عنده استعداد يموت علشانك، بس أنتِ غبية أوي، ضيعتي كل حاجة وأهمهم نفسك، أخرتك دا ؟؟ “سـامي” ؟؟ اللي أمه كانت بتحيي أفراح الستات ؟؟ راح دفع لأمك وأخوكي بقى كدا راجل عندهم؟؟ عمري ما هسامحك لا أنا ولا “مصطفى” ولا حتى “صديق” نفسه.
سأله “يوسف” باستهتارٍ وكأنه يجاري المياه لتصل به إلى نقطة أمان معينة:
_مين “صِـديق” دا كمان ؟؟ هيطلع جدي في الأخر؟؟
كان يسخر منهما، حتى نظر له “عبدالقادر” وهتف بنبرةٍ جامدة:
_كان صاحبنا التالت بس حب الأستاذة وهي كمان حبته، لحد ما دخل تربية العوالم في الموضوع ودفع مهر محترم لأهلها خلاهم يجوزوها، أبوك كان عنده استعداد يجوزها ليه وكان هو هيشيل مسئوليتها، بس للأسف بقى كانت أضعف من إنها تحارب علشان حد.
رمقته “فاتن” بضجرٍ من عينيها الباكيتين، فرفع “يوسف” كفيه يقبض على خصلاته ثم تحدث بضعفٍ:
_أنا دماغي ورمت منكم، ياريت كان ربنا خدني أنا علشان ترتاحوا و أرتاح من صداعكم دا.
_لم يكن الحديث موجهًا لهما، بل لنفسه حينما ازداد الضجيج داخل رأسه، فارتمى على الأريكة يحاول التماسك وخاصةً حينما نزل الألم على عينيه فبات متعبًا بشكلٍ ملحوظ، لذا اقتربت منه “فاتن” تسأله بلهفةٍ وهي تبكي:
_”يوسف” ؟؟ أنتَ كويس ؟؟ مالك يا حبيبي.
نظر لها بنظراتٍ خاوية ثم انتفض واقفًا يقول بتهكمٍ:
_كويس أوي، يا سلام على الراحة اللي بعيشها؟؟ عرفت دلوقتي كان عايش شايل همك ليه، من يومك ضعيفة وسلبية وملكيش قرار في حاجة، من يومك وأنتِ تاعبة الكل معاكي، بس الوضع دا مش هيفضل كتير، من النهاردة أنتِ هتفضلي تحت عيني، مش هسيبك تضيعيني، و رجوعك هناك تاني بقى على جثتي، واختاري بقى تأمني شري ولا تعيشي في عداوتي ؟؟؟.
مسحت دموعها وهتفت بصوتٍ مُحشرجٍ:
_معاك في أي مكان هتكون فيه، بس بلاش أشوفك كدا.
تحدث “عبدالقادر” مقررًا بإصرارٍ:
_انتم هنا في حمايتي أنا، محدش هيقدر ييجي جنبكم ولحد الدنيا دي ما تتصلح مفيش حد هيهوب ناحيتكم، واسمع يابني، سواء بالرضا أو بالغصب أنتَ زي ولادي وأمانة عندي لحد ما أقابل وجه كريم، لكن غير كدا مش هوعدك بحاجة.
سار “يوسف” له حتى وقف أمامه يهتف بحدة:
_لو دا حصل هتوصلني باللي ليا ؟؟
حرك رأسه موافقًا واضاف مؤكدًا:
_آه…وهريحك من أي حاجة تتعبك خالص.
أبتسم “يوسف” بانكسارٍ وأشار على رأسه يقول بتهكمٍ يتوارى خلفه وجعه:
_طب ياريتك تقدر تربح اللي هنا.
رفع “عبدالقادر” كفه يربت على كتف “يوسف” ونطق يؤازره بقوله:
_سلم أمرك لله وأنتَ هترتاح، ربنا يريح قلبك يابني.
هذه المرة طالعه “يوسف” بنظراتٍ غير السابقة بعدما استشف الصدق في حديثه ونبرته، بدا وكأنه حقًا يهتم به ولربما هو معه الحق في الحفاظ على أسرة صديقه، لذا حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة وسكت عن الحديث، ليتحرك “عبدالقادر” من محله بعدما استأذنه بالرحيل والأخرى تنظر في أثره بتعجبٍ حتى سألها “يوسف” باهتمامٍ:
_ازاي كنتي عارفة مكانه ومستغربة من ظهوره؟؟
تنهدت بعمقٍ وردت عليه بقلة حيلة:
_علشان اللي أعرفه عنه أنه ساب الحارة من زمان لما اغتنى، معرفش أنه لسه هنا، وافتكرت إنك مستحيل تلاقيه.
أبتسم بسخريةٍ وهتف يرد عليها:
_دا تلاقيه كلام ابن الرقاصة جوزك علشان يتوهك، بس ماشي عاوزك تجهزي لبسك الأسود علشان هتترملي قريب.
اتسعت عيناها بهلعٍ فيما تحرك هو من أمامها يترك لها المكان بأكمله تاركها خلفه تشعر بالخوف عليه قبل الجميع.
_______________________
في محل “أيـهم”.
جلس “إياد” بجواره على مقعدٍ صغير يتابع تدوين والده لدفتر العمل حتى هتف بضجرٍ:
_ما تسيبني أكتب خطي حلو والله.
رد عليه والده بدون أن ينظر له:
_بس يالا…أخرس خالص.
زفر “إياد” بقوةٍ ثم مد يده في جيب والده يسحب منه الهاتف حتى قال “أيهم” بنفاذ صبرٍ:
_يابني بطل تفرك وترت اللي جابوني، عاوز إيه؟؟
جاوبه “إياد” بنبرةٍ ضاحكة:
_جعان وهطلب لينا أكل سوا، تاكل معايا ؟؟
عقد “أيهم” مابين حاجبيه وهتف بتعجبٍ:
_طب مافيه أكل في البيت، تاكل هنا ليه من الشارع وتتعب نفسك ويجيلك تلوث؟
زفر “إياد” بقوةٍ وهتف باستياءٍ حينما تذكر طعام البيت:
_عاملين في البيت لحمة وفاصوليا خضرا.
رد عليه “أيـهم” بلهفةٍ:
_إيه ؟؟ فاصوليا خضرا ؟؟ أطلبلي أكل معاك يالا.
ضحك “إياد” وسأله بنبرةٍ ضاحكة يقصد ممازحته:
_طب والتلوث ؟؟ هتاكله برضه ؟؟
حرك رأسه موافقًا وأضاف مؤكدًا:
_أنا بعشق التلوث، بموت فيه، أهون عندي من الفاصوليا الخضرا، أكيد دي عقاب من جدك لينا سوا.
أرتفع صوت ضحكات الصغير وكذلك والده حتى قطع ضحكهما سويًا صوت إمرأةٍ تقول بأدبٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتبه كلاهما إلى حيث الصوت وكانت هي “نهال” تقف على أعتاب المحل، فاندهش كلاهما من تواجدها في مكانهما لذا انتفض “أيهم” يرحب بها بقوله:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، المكان نور اتفضلي.
اقتربت منهما تبتسم لهما وقد لفت نظرها الصغير فاتسعت ابتسامتها أكثر ومالت عليه تمد يدها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_إزيك يا “إياد” ؟؟ عامل إيه.
رد عليها بوجهٍ مبتسمٍ وهو يهتف بمرحٍ يستفسر منها:
_كويس الحمد لله، أنتِ فاكرة اسمي كمان؟؟
حركت رأسها موافقةً وهتفت بصدقٍ وهي تطلع إلى ملامحه بشوقٍ كبير:
_بصراحة كلك على بعض متتنسيش، وفرحانة أوي أني شوفتك هنا أكيد دا من حسن حظي.
اتسعت ابتسامة الصغير وبات قلبه يرقص فرحًا بين ضلوعه، فيما هتف “أيـهم” بنبرةٍ مرحة:
_ابسط ياعم، أظن بعد الكلمتين الحلوين دول مش محتاج تاكل خلاص، أنتَ كدا أكلت وشبعت كمان.
اعتدلت “نهال” في وقفتها وهتفت بطريقةٍ عملية:
_أنا أسفة أني جيت من غير ميعاد، بس كان لازم ضروري.
هتف هو بثباتٍ يرد عليها بقوله:
_ولا يهمك المكان تحت أمرك تيجي في أي وقت، اتفضلي.
ابتسمت له بمجاملةٍ ثم أخرجت ظرف أبيض من حقيبة يدها ومدت يدها له به وهي تقول بتفسيرٍ:
_دي فلوس الرخام، طبعًا مش كلهم بس دي فلوس الدُفعة الأولى لحد ميعاد تسليم الدفعة التانية، تمام كدا ؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها وقبل أن يمد يده يأخذ النقود هتف بمجاملةٍ عملية معروفة في سوق العمل:
_طب خليهم لحد ما الرخام يوصلكم من المصنع، لسه بدري أوي على التعاملات المادية وبعدين يعني الحج طول عمره تبعنا يعني مش غريب عننا.
مدت يدها أكثر ليصبح ذراعها مشدودًا وهي تقول بإصرارٍ كبير:
_صدقني لازم تاخدهم علشان بس أكون مرتاحة، بعدين التجارة مفيهاش خلي ولا لأ، مفيهاش عشم دي.
حرك رأسه موافقًا وأخذ منها النقود وهو يبتسم ثم قال بعمليةٍ:
_طب اقعدي اشربي حاجة طيب، الكلام على الواقف كدا مش هينفع.
حمحمت بهدوءٍ وهتفت بثباتٍ:
_للأسف مضطرة أمشي علشان فيه ورايا كام مشوار مهم، مرة تانية إن شاء الله.
هتف “إياد” بحماسٍ يعرض عليها:
_طب اقعدي كلي معانا وابقي أمشي، أنا هطلب أكل لينا سوا.
التفتت نحوه تقول بودٍ وحبٍ يفيض من عينيها له ولاتدري سبب هذه المشاعر نحو الصغير:
_وعد مني مرة تانية إن شاء الله، وياريت تبقى تيجي تزورنا في المحل شكلك تاجر صغير كدا وهتسد في السوق.
هتف “أيهم” ساخرًا من ابنه:
_هو بس ينزل السوق بعدين نشوف هيتاجر ولا لأ.
رد عليه الصغير بمعاندةٍ بعد حديثه:
_هنزل وهبقى شاطر زي ما جدو قال، اديني فرصة بس.
ضحك الإثنان له، فيما قالت “نهال” بوجهٍ مبتسمٍ تستأذن بالرحيل قائلةً بلطفٍ:
_طب استأذن أنا بقى، السلام عليكم.
التفتت تغادر المكان فأوقفها “إياد” بلهفةٍ:
_هشوفك تاني ؟؟.
التفتت له بعينين دامعتين وهتفت بتأثرٍ:
_يا رب نتقابل تاني إن شاء الله، عن إذنك.
تحركت من المكان فيما نظر “أيـهم” في أثرها بتأثرٍ وقد علم أن مشاعرها تتجه نحو الصغير وباتت واضحةً له لكنه لم يملك لها سوى الدعاء أن يلطف المولى بقلبها.
________________________
كانت “أسماء” تسير بجوار “قمر” تقوم كلتاهما بشراء الطلبات للشقتين معًا، فهتفت “أسماء” بمرحٍ تحذرها بقولها:
_عاوزاكي تبقي ناصحة يا بت أنتِ، مش عاوزاكي كدا لبخة زي ما أنتِ، صحيح هو “أيوب العطار” بس أنتِ “قمر الراوي” يعني مش قليلة برضه، والجدع شكله طيب ومحترم، وأنتِ متتخيريش عنه، ماشي يا حبيبة خالتو؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_حاسة ناحيته بحاجة غريبة أوي مخلياني مطمنة، تحسي كدا إني هكون متطمنة معاه، مش عاوزة أعيش معاه في صراع، عاوزة أكون متطمنة وأكون كسبت معاه الجنة والدنيا، أنا من مجرد ما شوفته بس حسيت أني محتاجة أغير من نفسي، ما بالك بقى لو عيشت معاه ؟؟
ابتسمت “أسماء” لها وهتفت بنبرةٍ ضاحكة:
_أنتِ واقعة فيه، لو من ومن خالك نعمل كتب كتاب علطول.
ابتسمت “قمر” هي الأخرى وسألتها بتمني:
_تفتكري “يوسف” لو كان معايا كان هيفرح بيا ؟؟ مش قادرة استوعب فكرة أنه مش معايا في خطوة زي دي، كان نفسي اشاركه كل حاجة قبل الفرح مع بعض وألاقيه واقف كدا يحميني، لسه جوايا أمل إن أخويا راجع.
ربتت “أسماء” على كفها وهتفت بتأثرٍ:
_المفروض أقولك خالك هنا و “عدي” هنا بس أنا عارفة إن مفيش حاجة هتعوض فقدان أخوكي، ربنا يا بنتي يجمعكم سوا ويرجع ليكم، محدش عارف برضه هو فين ولا اتقاله إيه.
همت “قـمر” بالرد عليها لكن هناك إمرأةٍ وقفت أمامهما تعترض عليهما الطريق تهتف بتهكمٍ:
_مساء الخير يا أم “عُـدي” أخبارك إيه يا حبيبتي ؟
ردت عليها “أسماء” بعدما رمقتها بازدراءٍ:
_بخير يا أم “علاء” ازيك يا اختي عاملة إيه ؟؟
لوت شفتيها بتهكمٍ وهتفت بضجرٍ:
_ياختي من يوم ما النسب بينا اتفك، ومحدش بيعرف عنكم حاجة، والود بينا اتقطع، طب ابقي أسألي.
ردت عليها “أسماء” ببرودٍ وثقةٍ تعلم مدى تأثيرهما على الواقفة أمامها:
_لامؤاخذة يا حبيبتي أصل عقبال عندك كدا، عندنا فرح، “قـمر” هتتجوز ابن الحج “عبدالقادر العطار” الأستاذ “أيوب” أكيد عارفاه محدش في المنطقة كلها ميعرفهوش، انشغلنا يا حبيبتي معلش.
اتسعت عينان المرأة بدهشةٍ وهتفت باستنكارٍ:
_الحج “عبدالقادر” بتاع الرخام ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بتأكيدٍ:
_آه يا حبيبتي هو، إن شاء الله لما ربنا يكرمك كدا علشان تعملي عتبة لبيتك ابقي عرفينا علشان نقوله يكرمك، العواف بقى مش فاضيين.
سحبت “قـمر” من يدها فيما نظرت المرأة في أثرهما بدهشةٍ يخالطها الحقد وهي تقول بغير تصديق:
_يا بنت المحظوظة !! وقعتي واقفة في حارة العطار ؟؟
على الجهة الأخرى سألتها “قـمر” بتعجبٍ من حديثها:
_يا خالتو ليه قولتيلها كدا ؟؟ هو لسه الموضوع تم؟؟
اتكأت على كفها وهي تنطق من بين أسنانها:
_بس يابت، الأشكال دي أنا عارفة علاجها، هتفضل تعمل زي البطة الجعانة فوق السطح هي وابنها المعفن، علشان تعرف بس لما العرر اللي زيهم بيخرجوا من حياتنا بييجي مكانهم مين.
ضحكت “قمر” رغمًا عنها وهي تسير إلى جوار خالتها التي أمسكت يدها تعبر بها الطريق.
_________________________
فوق السطح وقف “يوسف” يدخن سيجارته وهو يقف بـ جوار الزرع يطالع المنطقة من فوق سطح البيت والبنايات المتكدسة بالسكان وتلتصق ببعضها في تلاحمٍ يشبه ازدحام رأسه بالأفكار والحديث، شعر بعبير احداهن يعبر إلى أنفه فالتفت برأسه للخلف ليجد “عـهد” تقترب من الزرع وهي تقول بسخريةٍ:
_رجلك خدت على هنا خلاص ؟؟ مش واخدة على كدا.
عقد ما بين حاجبيه في استفسارٍ لم يتفوه به، لكنها استشفته من نظراته لذا هتفت بتوضيحٍ:
_اقصد يعني واخدة إن دا مكاني محدش بييجي هنا، خصوصًا إنك بتشرب سجاير جنب الزرع، يعني ربنا يصبرني ويصبر الزرع بقى.
هتف ساخرًا بعد حديثها:
_عاوزة ربنا يصبرك عليا وعادي إنك كنتي مخطوبة للجاموسة اللي كان هنا امبارح ؟؟ مصدقة نفسك؟؟
انقبض قلبها تلقائيًا عند ذكره وبدت أمام “يوسف” مضطربة فلاحظ هو خوفها لذا هتف مستفسرًا:
_للدرجة دي سيرته بتخوفك ؟؟ اتخطبتيله إزاي دا ؟؟
سحبت نفسًا عميقًا داخل رئتيها وردت بنبرةٍ واهنة وكأنها مُرغمة على التحدث في هذا الموضوع:
_مكانش بإرادتي، الحج “عبدالقادر” أجبرني اتخطبله علشان يبطل يضايقني والناس تبطل تتكلم عني بعدما هو بقى بيجيب في سيرتي، للأسف متلمش بعدها دا وسخ وقل أدبه أكتر، لو عليا كنت قتلته وخلصت بس اللي بيوقفني ماما و أختي ملهمش غيري.
انتبه لما تفوهت به وتذكر هيئة والدتها لذا اندفع يسألها:
_هي إزاي الست اللي كانت هنا دي مامتك ؟؟ وازاي اسمها “مـي” ؟؟ الموضوع مرعب أوي ومش راكب على بعضه.
ابتسمت له وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_للأسف ماما اتجوزت وهي قاصر، أخوها لقاها كبرت قالك بس هتخرج عن طوعنا وجو الصعايدة دا، راح مجوزها لصاحبه اللي هو بابا.
حرك رأسه بتفهمٍ وهتف بتهكمٍ:
_عالم غبية بتتحكم في حياة غيرها وخلاص من غير ما يشوفوا الوضع مناسبهم ولا لأ، حكم على طفلة صغيرة تبقى صاحبة بيت وشايلة طفلة على أيدها، لو كان فكر يحتوي أخته ويحافظ عليها في بيته مكانش خلى الأفكار دي تيجي في راسه، لكن إزاي بقى ؟؟ نرمي الذنب على اللي ملهوش علاقة بالليلة دي كلها، ويبقى هو المذنب في الأخر.
حركت رأسها عدة مراتٍ وهي تضم شفتيها معًا ثم هتفت بمزاحٍ طفيفٍ:
_ما شاء الله على الفلسفة العميقة، واضح إنك كاره البشر أوي.
حرك رأسه موافقًا ثم ألقى سيجارته ودهسها بقدمه ثم ابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_تلاتة ربنا يبعدهم عنك؛ الناس و البني أدمين والبشر.
ضحكت بخفةٍ ثم اقتربت من الطاولة تأخذ من عليها الكوب الخاص بها وهتفت بنبرةٍ هادئة ودودة:
_أنا مضطرة أمشي بقى علشان متأخرش على العيادة أكتر من كدا، سلام عليكم.
عقد مابين حاجبيه وسألها بتعجبٍ من ذكر عملها:
_عيادة !! أنتِ دكتورة ؟؟
حركت رأسها نفيًا ثم أضافت مُعدلةً على حديثه:
_لأ، أنا سكرتيرة في عيادة نسا على الشارع العمومي من برة، بشتغل فيها بقالي كام سنة حلوين كدا من أول ما جينا هنا، بصراحة بحسه مكاني أوي.
حرك رأسه بتفهمٍ وهتف بوجهٍ مبتسمٍ:
_ربنا يوفقك يا “عـسولة”.
طالعته بيأسٍ ثم زفرت بقوةٍ وتجهزت للرحيل وهي تقول بنفس طريقته:
_و يكرمك إن شاء الله يا “قـمور”.
أبتسم بعد رحيلها من المكان وبعد تلك الكلمة تحديدًا ثم نطق بمرحٍ بينه وبين نفسه قائلًا:
_طب والله العظيم “عسولة” ودمها خفيف بجد.
انتبه لما تفوه به وعلى الفور تلاشت بسمته ليذكر نفسه أن تواجده بهذا المكان ماهو إلا لأجل مهمةٍ محددة يقضيها ويحصل على مراده ويرحل من هنا إلى حيث أتى، وخاصةً أنه التزم بعهدٍ قطعه على نفسه فيجب عليه الالتزام بالعهد حتى يستطع العيش كما خطط في الحصول على حقه المهدور على أيديهم جميعًا.
جلس على المقعد ثم فتح دفترًا صغيرًا وضعه على الأريكة وبجواره القلم ثم فتح إحدى الصفحات الفارغة واغمض عينيه وبدأ في اللعب بالقلم على الصفحة الفارغة كما اعتاد في الشعور بالغضب ورغبته في إفراغ طاقته، بدات حركة كفه تزداد في السرعة والقوة و تزداد معها الرسومات الغير مفهومة المبهمة التي تشبه ضجيج رأسه الممتليء، وقد أغمض جفونه ورسم في خياله أن رأسه تشبه الكأس الممتليء وبتلك الطريقة يقوم بإنقاص الزائد عن الحد، في شكل طاقةٍ سلبية يفرغها في صفحات الورق كما سبق وأخبره أحدهم ذو الأهمية الكبرى في حياته والذي كانت مقابلته به نقطة فيصلية في الحياة.
هذا الغامض الذي يُخفي خلفه الكثير والكثير؛ فإذا كنت تظن أنك تعلم عنه أي شيءٍ، فمن المؤكد أن هذا الشيء هو نقطة ضئيلة من بحرٍ عملاقٍ يُدعىٰ “يوسف الراوي”.
_________________________
في بيت “العطار”
جلست “آيات” تمسك في يدها ورقة وقلم تدون عدة ملحوظاتٍ تعلمتها من الدرس الديني عبر إحدى قنوات التواصل الإجتماعي الذي تتلقى به الدروس الدينية في حياتها وتحاول مذاكرتها في استغلالٍ منها للوقت والموارد المتوفرة لها في شيءٍ ينفعها كإمرأةٍ صالحة تسعى لتكوين أسرةً مسلمة وبيتٍ يحبه الله ورسوله الكريم.
تعمقت في الكتاب ثم تذكرت أمر صفحة “غـوث” لذا أغلقت الدفتر ثم أمسكت الهاتف تفتح الصفحة تتابع أحوالها ثم همت بكتابة منشورٍ عن أهمية الاذكار كما طلب منها أخوها، لذا قامت بتجهزه ثم بدأت في النشر بكتابة:
فوائد المواظبة علي اذكار الصباح والمساء
من يرغب في الحفاظ على ترديد الأذكار اليومية وخاصة أذكار الصباح والمساء فإن لهما أوقات خاصة بهما ويجب استحضار القلب والعقل والشروع في هذه الأذكار لكي يبقى بحِفظ الله ورعايته، وينال بإذن الله كُل الخير والفضل الذي يترتب على هذه الأذكار، فقد قال الله تعالى ” أذكروني أذكركم ” فذكر الله عِبادة وطاعة ويترتب عليها ذكر الله لنا وحفظنا ورعايتنا، ومما جاء في فضل قراءة اذكار الصباح والمساء ما يلي:
– كسب رضا الله عزّ وجلّ.
– حفظ المكان الذي يبيت فيه الإنسان.
– دوام الصلة بالله – عزّ وجلّ- والقرب منه والأنس به.
– ذكر الله عزّ وجلّ للعبد في الملأ الأعلى.
– الحفظ من الحسد والعين.
– إمداد الجسم بالقوة والطاقة.
– مغفرة الذنوب والسيئات.
– زيادة الحسنات والثواب.
– دخول الجنة بفضل الله وكرمه.
– الحفظ من شر الإنس والجنّ وشر كلّ المخلوقات.
– التمتع بحفظ الله عزّ وجلّ وحمايته.
– دوام نعم الله – جلّ وعلا- والبركة فيها.
– كفاية الهم والغم والحزن في الدنيا والآخرة.
– طمأنينة القلب وانشراح الصدر.
– التحصن من الشيطان ومكائده.
أنهت كتابة المنشور ثم قامت بكتابة الأحاديث والوصايا الصادرة من علماء الإسلام عن فضل هذه الأذكار.
فضل اذكار الصباح والمساء:
▪قال ابن القيم رحمه الله : أذكار الصباح والمساء بمثابة الدرع كلما زادت سماكته لم يتأثر صاحبه ، بل تصل قوة الدرع أن يعود السهم فيصيب من أطلقه ..
▪ويقول ابن عثيمين رحمه الله : أذكار الصباح والمساء أشد من سور يأجوج ومأجوج في التحصن لمن قالها بحضور قلب
▪ويقول ابن الصلاح رحمه الله : من حافظ على أذكار الصباح والمساء، وأذكار بعد الصلوات، وأذكار النوم، عُدّ من الذاكرين الله كثيراً ”
▪قال ابن القيم رحمه الله:”من فوائد الذكر أنه يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل به مع الذكر ما لم يُظنّ فعله بدونه”.
▪وقال ابن_كثير رحمه الله
إلبسُوا مِعطَف الأذكار لِيقِيكم شُرور الإنْس والجَان ،،،
ودثّروا أرواحَكُم بالإستْغفار لتَمْحي لكُم ذُنوب اللّيل والنّهَار ،،،
وإن أصابكم ماتكرهونه فسترضون وتتيقنون بأنه خير من ربكم لأنكم قد تحصنتم بالله.
أنهت الكتابة ثم أضافت من جديد كما المعتاد منها في نهاية المنشورات الدينية:
_اللهم اهدنا واهدى بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى
_اللهم صلَّ وسلم على سيدنا مُحمد ﷺ
#غَــوث.
تنهدت “آيات” بعمقٍ وهي تشعر براحةٍ كبرى في استغلال وقتها بما يفيدها ويفيد غيرها ثم ابتسمت بحماسٍ ازداد حينما وصلها صوت “تَـيام” يدلف الحديقة ناطقًا بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رفعت رأسها نحوه بوجهٍ مبتسمٍ فقال هو ينفي أي اتهامٍ عن نفسه قد يجول بعقلها:
_أنا والله جاي هنا بأوامر من الحج، قالي إنك عاوزة تتكلمي معايا وقالي إن “وداد” هتراقبني، خير إن شاء الله.
أشارت له بالجلوس أمامها وهي تبتسم حتى جلس هو ورافق جلوسه قوله بنبرةٍ مرحة:
_أدي قاعدة، لسه بنقول يا هادي.
كتمت ضحكتها ثم نطقت بلطفٍ وأدبٍ:
_أنا طبعًا آسفة أني خليتك تيجي لهنا بالطريقة دي، بس أنا كان لازم أتكلم معاك ضروري قبل أي حاجة رسمي، وهكون صريحة شويتين، هتسمعني ؟.
كانت تسأله بحذرٍ جعله يجاوب بصدقٍ لعله يزيل عنها أي شكوكٍ تساورها حول طبيعة شخصه:
_العُمر كله ممكن أفضل اسمعك فيه عادي من غير زهق.
رغم فرحتها بجوابه إلا أنها قررت الاتصاف بالحكمة والهدوء وقالت بنبرةٍ هادئة:
_دا شيء يشرفني طبعًا، بس أنا عاوزة اتكلم معاك عن طبيعة العلاقة اللي هتكون بينا، أنا ليا شرط وهو إن كل شيء يكون بشكل ملتزم، يعني الخطوبة تمشي بشكل ملتزم، آه هيكون فيه كلام بيننا نعرف بيه شخصيات بعض، بس من غير أي كلام حرام، وأكيد عارف اني كنت مخطوبة قبل كدا.
زفر بقوةٍ وهتف بنبرةٍ جامدة رغمًا عنه:
_عارف، كنتي مخطوبة للزفت “أيمن”.
ابتسمت له وهي تقول:
_هو خلاص مبقاش موجود يستحسن محدش فينا يجيب سيرته علشان منشيلش ذنب، بس أنا هقولك بصراحة أنه كذا مرة يحاول يغير من شخصي، يعني يعترض على كلامي وعلى طريقة تفكيري وعلى أني شخصية معقدة متشددة، فمن دلوقتي لو هييجي يوم يتقالي فيه كدا منك، يبقى بلاش نكون سوا أحسن خصوصًا إنك من زمان معانا هنا وفيه عشرة أصيلة بينا.
أبتسم لها بتفهمٍ وهتف بلباقةٍ يحاول الاتصاف بها:
_بصي يا “آيات” أنا فاهم كويس شخصيتك وعمري ما اقدر أقلل منك ولا من صفاتك اللي بقت ناردة اليومين دول، بالعكس يابنت الناس هشيلك فوق راسي، بس عندي ليكي سؤال واتمنى تجاوبيني عليه بمنتهى الصراحة.
حركت رأسها موافقةً وقد ظهر القلق من سؤاله ولا تعرف لماذا، حتى أزال هو قلقها بقولها المُضجر بنبرةٍ حانقة:
_بعد كتب الكتاب علاقتنا هترحرح شوية؟؟
صدمها بقولها حتى انفلجت شفتاها عن بعضهما وفرغ فاهها من هول الصدمة، ليضيف هو بعدها:
_يعني لما تكوني مراتي، هقدر أقل أدبي عادي ؟؟
تدرج وجهها بحمرة الخجل واخفضت رأسها للأسفل تهرب من جوابه فيما ضحك هو رغمًا عنه ثم قال بمشاكسىةٍ:
_أحمر على أبوه يا بطيخ.
ازداد خجلها أكثر منه ورفعت كفها تكتم ضحكة أوشكت بالاعلان عن نفسها، ليقف هو ناطقًا بنبرةٍ جادة:
_ربنا يقدرني وأكون ليكي الشخص اللي أنتِ عاوزاه، زي ما أنتِ كنتي وهتفضلي البنت اللي عاوزها ومش شايف غيرها، لو أنا ليا نصيب فيكي وأنتِ نصيبي، يبقى ربنا هيوفق بين قلوبنا سوا، عن إذنك.
تحرك من أمامها لتنظر في أثره بوجهٍ مبتسمٍ ثم رفعت رأسها تقول بكبرياءٍ:
_صبرك عليا هوريك فترة خطوبة تلففك حوالين نفسك، علشان تقل أدبك كويس.
________________________
نزل “يوسف” من البيت دون أن يمر على عمته بل قرر التوجه إلى الأسفل حتى يذهب إلى مكانٍ يجب عليه التوجه إلى هناك، نزل وتقابل في الأسفل مع “أيوب” الذي أوشك على دخول البيت فهتفت بلهفةٍ من رؤيته:
_طب كويس إني لقيتك، كنت جايلك.
هتف “يوسف” بسخريةٍ:
_ياترى المرة دي جايلي ليه؟؟ ليا عندك طاجن مسقعة؟؟
حرك رأسه نفيًا بوجهٍ مبتسمٍ ثم سأله بُغتتة:
_اللي اسمه “سـعد” دا أنتَ اللي عملت فيه كدا؟؟
ضيق جفنيه فهتف “أيوب” بتوضيحٍ:
_الجدع اللي برة بتاع الموبايلات دا، أنتَ ؟؟
رد عليه “يوسف” بثباتٍ وكأنه يخبره عن إنجازٍ قام به:
_آه أنا، حاول يضايق بنت ساكنة هنا وحظه الأسود وقعه معايا وأنا مخنوق خد اللي فيه النصيب، خير ؟؟
رد عليه “أيوب” مُستحسنًا ثم ربت على كتفه وقال:
_عاوز أقولك تسلم إيدك، عاش يا بطل.
عقد “يوسف” مابين حاجبيه فرد فعله يتنافى مع توقعه هو من شخصٍ كـ “أيوب” الذي قرر العودة إلى حيث أتى والتفت يغادر المكان فهتف “يوسف” بما أوقفه محله حيث خرجت نبرته مُحشرجة وكأنه يستعطفه لكنه قرر النطق بما يريده هو:
_”أيـوب” !! أنا عاوز حضن أمــي.
على الفور عند ذكر الأم لمعت العبرات في عينين “أيوب” والتفت له يقول بصوتٍ مختنقٍ وقد انتقل له الحزن هو الأخر وقد أكله الشوق لوالدته هو الأخر لكن اجتماعه بها بات مستحيلًا سوى في دار الآخرة:
_طب والله العظيم أنا كمان عاوز حضن أمـي.
وقف كلاهما أمام الأخر بتأثرٍ يعلن عن ضعفه وقد قرر “أيوب” الانسحاب من المكان بعدما زاد حزنه على فقيدته المحبوبة التي لازال أثر حُبها وصوتها ورائحتها الطيبة وعناقها باقيًا في قلبه الذي تشبث بذكرياته معها، بينما “يوسف” قرر الذهاب إلى وجهته المحددة.
رحل “أيوب” إلى بيته وتوجه إلى غرفته بحزنٍ جليٍ على ملامحه و هيئته ثم جلس على طرف الفراش يتذكر فقدان والدته على يده وأخر ذكرى أليمة جمعته بها.
(منذ عدة سنواتٍ كثيرة)
كانت “رقية” تنام على الفراش بهيئةٍ مُتعبة بعدما انتشر ذلك المرض في جسدها وأكل أحشائها حتى الكيماوي لم تعد تنفع جسدها بشيءٍ، كان “أيوب” يلازمها منذ تعبها وفي يده المصحف الشريف يرتل منه بجوار فراشها، حتى صدح صوت الفجر عاليًا فنظرت له بوهنٍ وهي تقول بنبرةٍ منهكة:
_روح…. روح علشان تصلي يا حبيبي.
اقترب منها يقول بتأثرٍ وحزنٍ أكل ملامحه البشوشة لتصبح ملامحه ذابلة وحزينة:
_لما حد ييجي هنا علشان متكونيش لوحدك، بابا في الجامع وزمانه جاي، هصلي في البيت هنا قصادك.
حركت رأسها موافقةً وسحبت نفسًا عميقًا وأشارت له حتى اقترب منها يجلس بجوارها على الفراش فهتفت بنبرةٍ متقطعة:
_عاوزاك….تخلي بالك من نفسك يا “أيوب” تفضل زي النور طول عمرك تنور ضلمة الكل….حط أختك وأخوك في عينك….عاوزاك توعدني إنك متسيبش طريق ربنا…. أفضل زي ما أنتَ….احفظ ربنا يحفظك….خلي بالك من دينك ومن يوم السؤال…. توعدني؟؟
نزلت دموعه وهتف بلوعةٍ بعدما سكن القلق قلبه:
_أوعدك….بس أنتِ معايا أهو، هتشوفي كل دا بعينك، قومي بس يا ست “رِقـة” أنتِ بتقلقيني ليه ؟؟
نزلت دموعها وهي تقول ببكاءٍ:
_علشان خلاص…خلاص يابني.
نزلت دموعه وتأكد إنها أوشكت على المغادرة فهتف بلهفةٍ:
_لأ….قومي طيب شوفي “آيـات” هتعيط من غيرك.
أبتسمت له ورفعت كفها تمسح على وجهه وقالت بنبرةٍ متقطعة:
_حطهم في… عينك… وخلي بالك من نفسك.
ارتمى عليها يحتضنها وهو يبكي ليجدها ترفع ذراعيها تطوقه بهما وهتفت جوار أذنه بنبرةٍ خافتة واهنة:
_أشهد أن لا إله إلا الله….وأشهد أن سيدنا محمد….رسول الله….خلي بالك من نفسك ومن اللي ليك يا “أيوب”.
كان هذا أخر ماتفوهت هي به وأخر الكلمات التي علقت بأذنه في صغر عمره ليعيش صدمة مثل هذه في صغر عمره ومن ضعفه وصغر عمره على التحمل صرخ باسمها عاليًا وهو يتعلق بها لتصبح تلك الليلة هي الأصعب مهما مر عليه من صعابٍ، فيكفيه فراق والدته وحبيبته بين ذراعيه ليصبح من بعدها كما الجسد بلا روح، وكأن روحه رحلت مع رحيل والدته.
خرج من شروده باكيًا على صوت الابتهال الذي أخذ يرتفع في غرفته من تلفاز الغرفة المفتوح على إذاعة القرآن الكريم ليتنهد بعمقٍ وهو يردد:
_وماليَ غيرُ بابِ اللهِ بابٌ
و لا مولى سواهُ ولا حبيبُ
كريمٌ منعمٌ برٌّ لطيفٌ
جميلُ السترِ للداعي مجيبُ
حليمٌ لا يعاجلُ بالخطايا
رحيمٌ غيثُ رحمتهِ يصوبُ.
تنهد بعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة محشرجة في محاولةٍ منه للتماسك حتى لا يبكي من جديد:
_الله يرحمك يا نور عين “أيوب” وضي لياليه.
____________________
في شقة “مهرائيل” كانت “مارينا” شقيقتها تتحدث في الهاتف مع زميلها في الجامعة وشقيقتها تجلس تتابعها من على بعدٍ بنظراتٍ ثاقبة وما إن أنهت المكالمة اقتربت منها “مهرائيل” تقول بنبرةٍ جامدة:
_أنا مش عاجبني حالك، الواد دا مستفز ورخم، علاقتك بيه هتأذيكي يا “مارينا”.
زفرت شقيقتها بضجرٍ وقالت بنبرةٍ يائسة:
_خوفك هو اللي موترني يا “مهرائيل”، “روماني” مش وحش كدا، هو شاب مكافح أوي وبيحاول يجتهد علشان يعتمد على نفسه، مش عارفة مشكلتك معاه إيه ؟؟
هتفت “مهرائيل” بنفاذ صبرٍ:
_مشكلتي معاه أنه عيل صغير، المثل بيقولك صاحب بالين كذاب، ودا صاحب ٢٠٠ بال في بعض، لا هو بيتخرج ولا هو بيشتغل ولا هو حتى بياخد خطوة في علاقته، واقف محلك سر فرحان بوجودك جنبه، دا غير أنه مرح أوي وبيهزر مع دي ويضحك مع دي أنا بشوفه في الكنيسة، وكل مرة مش بتصدقيني.
تنهدت “مارينا” بضجرٍ وهتفت بنزقٍ:
_قريب إن شاء الله هنبقى نشوف الموضوع دا عن إذنك نازلة الكنيسة صحابي مستنييني.
نظرت “مهرائيل” لها بحاجبٍ مرفوعٍ فيما هربت الأخرى من براثن شقيقتها وسُلطتها عليها خاصةً وهي تعلم أنه هناك جانب من حديثها صحيحًا ولم تقو هى على تكذيبه.
في محل “جابر” جلس يشاهد المباراة في تلفاز محله فدلف “بيشوي” يصفق بكفيه معًا وهتف بنبرةٍ مرحة:
_جامد أوي الواد بيجيب الجون في ثانية.
رفع “جابر” حاجبيه مستنكرًا فسحب “بيشوي” مقعدًا يجلس عليه ثم أخرج من جيبه نقودًا تصل تقريبًا إلى ٣٠٠٠٠ جنيه وهو يقول بثقةٍ وشموخٍ:
_دا حقك اللي كان هيضيع عليك في مصلحة الرخام، إحنا عالم عينيها مليانة مبناكلش حق حد، ودا حقك أهو، عقبال ما ترجع للناس حقوقها كدا أنتَ كمان.
شبك “جابر” كفيه ببعضهما وهو يسأله بعمليةٍ:
_وياترى بقى مين ليه حقوق عندي؟؟ أنا عمري ماجيت على حد وعلى قربت ناحية حقوق مش بتاعتي.
هتف “بيشوي” بثباتٍ يتكيء على أحرف كلماته:
_حــقي…. جيت على حقي في اللي ليا عندك، وأنا راجل ابن سوق حقي ميباتش برة البيت، بس سايبه بمزاجي، علشان لو حطيت الموضوع في دماغي أنا هقلب عليك وهزعلك، تسمعنا مبروك يا حمايا ؟؟
أبتسم له باستفزازٍ ثم حرك رأسه نفيًا فابتسم “بيشوي” هو الأخر ثم وقف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_خليك فاكر إني قدرتك ١٠٠ مرة بس المرة الـ ١٠١ بقى….
بتر حديثه وتركه مفتوحًا ليترك لعقل الأخر المساحة في التخيل وقد حدث ما أراده لذا ابتسم بخبثٍ وقال بمراوغةٍ:
_هقدرك برضه…علشان خاطر عيون “هـيري”.
تحرك “بيشوي” من المكان فأمسك “جابر” زجاجة المياه يضربها في الحائط من فرط غيظه الذي ألهبه “بيشوي” بحضوره أمامه.
______________________
عند القرب من الأهرامات وخاصةً في محل “يوسف” الذي يحمل اسم “Moon_Jo” تولى “إيهاب” مهمة الإشراف على المكان بأكمله ومراقبة كل زاويةٍ به حتى وصل له “إسماعيل” ومعه “مُـحي” لكن ملامحهما كانت جامدة تخلو من المرح، فسألهما بتعجبٍ:
_مالكم ؟؟ جايين لاويين خلقتكم علينا ليه ؟؟
هتف “مُـحي” يجاوبه بقوله:
_”سراج الموافي” عامل يومين للخيل ببلاش عند الكافيه بتاعه، في نفس اليوم اللي عملنا فيه عرض العيلة والصحاب، وبكدا هيحط علينا حطة جامدة.
تدخل “إسماعيل” يقول بضجرٍ:
_مش دي الفكرة، الفكرة إن الخيل اللي هيطلع كله درجة تانية بس هو هيخم ناس بالمستريح والشباب هتجيله من كل حتة علشان يركبوا خيل بنص التمن، سواء في الشرق أو الغرب واحنا هنتعك في النص.
نظر “إيهاب” خلفه من زجاج المحل يراقب الوضع ثم رفع أنامله يحك ذقنه وسألهما باهتمامٍ وهو يطالع المكان بنظراتٍ ثاقبة:
_الجهة اللي ورا دي بتاعة مين؟؟ وهتبقى تبع الليلة دي؟؟
رد “مُـحي” مُخمنًا ينفي حديثه:
_دي تبع الحج “وحيد” وهو بيمر بظروف صعبة شوية علشان قضية ابنه ومن ساعتها موقف كل حاجة، بتفكر في إيه يا “عـمهم” ؟؟
أبتسم “إيهاب” بغموضٍ وهتف بحديثٍ توارى خلفه الكثير:
_أنتَ قولت أهو….عـمـهم، يبقى ننزل بعمهم كلهم.
_______________________
وصل “يوسف” أمام بيت الزمالك وصف سيارته ونزل منها يدخل البيت بخطواتٍ ثابتة كما خطوات الملوك الواثقة، وصل لردهة البيت فقابله السكان بالطريقة المعتادة وهتف “سامي” بنبرةٍ جامدة يحاول بها التواصل مع برود الأخر:
_مراتي فين يالا ؟؟ إيه اللي جابك من غيرها؟؟
أبتسم له باستفزازٍ وقال:
_مراتك عندي يا “سـامي” وفكرة إنها تجيلك تاني دي بقت بمزاجي وكيفي، وبصراحة كيفي مش جايبني اجيبهالك.
هتف “نادر” باندفاعٍ في وجهه:
_الكلام دا لما تكون ضارب سيجارة من بتوعك وتيجي تطلعها علينا، إنما أمي هجيبها حتى لو هقتلك في أيدي.
التفت له “يوسف” يطالعه بازدراءٍ وهتف يهينه بقوله:
_ليك عين تتكلم ؟؟ أمك اتضربت قصادك يا *** وأنتَ بتتكلم أصلًا ؟؟ أنسى يالا، مش هتشوف أمك تاني غير لما يهفني الشوق، على الأقل هي مع راجل بيحميها مش مع لامؤاخذة.
تحدث “نادر” بنفاذ صبرٍ منه وغضبٍ جام:
_ما تبطل تعيش الدور بقى وتلبس دور المثالية دا.
حرك “يوسف” كتفيه وهتف ببرود أعصاب يبرع هو في الاتصاف به:
_ما ألبس عادي هو أنا بلبس من دولاب أبوك؟؟.
تدخل “عاصم” يقول بثباتٍ منهيًا هذا الحوار:
_عمتك فين يا “يوسف” ؟؟ ياريت تبقى فاكر إنها برة كل الحسابات والانتقامات وإنها ست.
أبتسم بسخريةٍ وهتف بوقاحةٍ:
_شوف مين بيتكلم ؟؟ أسكت يا لساني أحسن.
همَّ “عاصم” بالرد عليه فدلف “فـيصل” العامل بالمكان وهتف بنبرةٍ ظهرت بها اللهفة:
_أستاذ “ناجي” المحامي برة في الجنينة مستنيكم يا بيه.
انتبهوا له فخرج “عـاصم” وخلفه “سامي” وابنه، فيما اقتربت “شـهد” منه تسأله بحزنٍ:
_طنط فين يا “يـوسف” ؟؟.
انتبه لها وسألها بوقاحةٍ:
_أنتِ مالك هي فين ؟؟ تخصك ؟؟
ردت عليه بإصرارٍ وتأكيدٍ:
_آه…لو مش واخد بالك هي حماتي وأم جوزي.
أبتسم بزاوية فمه وهتف بتشفي:
_طب لو مش واخدة بالك يعني، هي عمتي و وقفت هنا قصاد الكل تقول إنها هتيجي معايا، يعني مش طايقة خلقتكم كلكم بما فيكم ابنها، ياريت تريحي.
سألته هي بنبرةٍ أظهرت يئسها منه:
_للأسف أنتَ بقيت لا تُحتمل، عداوتك صعبة أوي، بس هقولك حاجة كمان طول عمرك كبير في نظري، لو بتستغل عمتك علشان ترد ليهم أي انتقام هتبقى سقط من نظري اوي.
ازداد برود ملامحه وهتف بلامبالاةٍ:
_طب ما نسقط من نظركم عادي يا جماعة، هو إحنا يعني سقطنا في جامعة أكسفورد البريطانية ؟؟ مافي داهية.
نظرت له بعينين مُتسعتين، فيما تحرك هو نحو الحديقة يتجه لجلستهم مع المحامي الذي ما إن رأه وقف يقول بلهفةٍ:
_تعالى يا “يوسف” علشان تمضي على الورق يلا.
أقترب “يوسف” منهم وأمسك الورق يقرأه بعينيه سريعًا ليطمئن أن كل شيءٍ على ما يرام وما إن تأكد من ذلك أمسك القلم يُدلي بامضته على الورق لينتقل كل ما يخص المرحومة إلى حوزته وسط نظرات الحسرة منهم جميعًا حتى “شـهد” التي وقفت تطالع الوضع بغير رضا، فهتف “يوسف” لهم بعدما طوى الأوراق في يده يتشفى بهم:
_ الحج “نَـعيم” الله يبارك في عمره لما روحتله وأنا عيل صغير خارج من الإصلاحية قالي كلمتين مهمين، منهم بقى إن الزمن كاس وداير على الكل بحساب، وإن اللي بعيشه صعب و ممكن ناره تكويني وتبرد غيري، نفس النار دي هييجي عليها يوم تبرد ناري وتكوي غيري.
أوقف حديثه ثم التفت لـ “شهد” يطالعها بخيبة أملٍ ثم نظر لزوجها يقول بنبرةٍ واثقة وثابتة:
_جدتك الله يرحمها يوم ما راحت تطلب العروسة ليك اللي أنا كنت عاوزها، قالتها كدا بمنتهى الصراحة والفخر عاوزينها لحفيد العيلة الوحيد وقالت اسمك أنتَ، رغم إني أنا هنا الكل في الكل، ساعتها الكلام كان نار بتاكلني، بس شوف يا أخي، نفسها جدتك دي ماتت ووصت إن كل حاجة تروح للوريث الوحيد اللي هو أنا….”يوسف مصطفى الراوي” يعني الكاس دار عليكم يسقيكم المُـر.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى