Uncategorized

رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم زيزي محمد

 رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم زيزي محمد

رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم زيزي محمد

خرجت شمس من المرحاض تخطو خطواتها نحو المرآة وكأنها رقاصة بالية تتعلم أولى خطواتها في الرقص، مثلها تمامًا كانت تتحرك بانسيابية في طريق العشق والغرام، ابتسامة بلهاء تزين ثغرها، بشرة صافية تتورد بفعل ذكرياتها الجديدة التي اكتسحت ذهنها مؤخرًا تضرب بالماضي وتطيحه من مكانته، وقلب ينتفض بعنف حينما تتذكره وخاصةً ما فعله لها بالأمس، فاستندت على الطاولة الملاصقة للمرآة بيدها واتسعت ابتسامتها أكتر وهي تطالع نفسها بالمرآة، تنغمس في تفاصيل ما حدث بينهما.
***
خرجت من إحدى المحلات الشهيرة الخاصة بالفساتين، وبيدها فستان بسيط اختارته بعد جدل طويل منه، عبست بوجهها كطفلة لم تريد تلك القطعة تحديدًا، وهو بجانبها يبتسم عبثًا لتحقيق ما أراده.
فتح لها باب السيارة وأشار إليها تحت نظراتها الحانقة منه، مجددًا فرض سيطرته وقوانينه عليها، جلست وانتظرته يجلس على كرسي القيادة حتى تنفجر به بعد ما التزمت الصمت طوال فترة وجودهم داخل المحل، وما إن أغلق الباب انفجرت بالفعل كقنبلة موقوتة.
– بردوا فستان زي اللي في البيت وكأني منزلتش ولا عملت أي حاجة.
كانت نبرتها مرتفعة لدرجة أنه نظر لها بطرف عيناه نظرات تحمل التحذير مما تقدم عليه وبنبرة صوته الخشنة:
– عايزة تدلعي براحتك، تفكري تعملي حاجات متعملتش حقك، تعيشي مشاعر مجربتيهاش زي ما بتقولي مع ان مش شايف كده وماله، لكن تتعدي حدودك معايا يا شمس فـ لا.
أشارت إليه بغيظ مكتوم حاولت تحجيمه بعد نبرته تلك:
– شوفت يا سليم بتتكلم معايا وكأني جارية عندك.
اوقف السيارة فجأة فجعلها تتمسك بالكرسي بخوف وأيقنت أن وصلته الجنونية ستنطلق الآن.
– متتكرريش كلامك تاني، علشان بجد مش همسك نفسي بعد كده، أسلوبك الجديد ده مش عجباني، في حاجات مينفعش اتخطاها زي صوتك العالي، وانتي عارفة إن مكرهش قد انك تعلي صوتك عليا.
عقدت ذراعيها أمامها وامتلئت الدموع بمقلتيها وبصوت خافت مختنق قالت :
– روحني البيت يلا.
لم يجيبها..ببساطة أشعل موقود السيارة وانطلق في جهته، بينما هي احتفظت بدموعها بقدر الإمكان وإن تمردت قطرة وتسقط في لحظة غافلة عنها، تمسحها بسرعة حتى لا يراها، فلن تظهر بمظهر الضعيفة بعد ذلك.
وبعد مرور وقت بسيط توقفت السيارة بمنطقة لا تعلمها، حركت رأسها ببطء وقالت بعبوس يخالف دموعها المسجونة بين مقلتيها:
– أنا عايزة اروح البيت.
– انزلي يلا مش أنا قولتلك هنعيد أمجاد الخطوبة.
تبرمت وهي ترد بنبرة حاولت بها كتم عصبيتها:
– انهي خطوبة دي، احنا لسه متخانقين.
راقبته وهو يدير حول السيارة وفتح الباب مشيرًا لها، فهبطت وهي ترمقه بنظرات الاستفهام.
– عادي المخطوبين بيتخانقوا كتير.
كان يجيبها ببساطة وهو يتمسك بيدها وينطلق صوب جهته، فقالت بتهكم:
– اه بس خناقات معاك مميزة بزيادة.
ضغط فوق يدها محذرًا إياها من التمادي،
فأردفت بحنق:
– ما هو مش أسلوب ده، الواحد عايز يقول كلمتين يخرج مشاعره المكبوتة.
فتح باب حديدي بمفاتيحه الخاصة، وأشار إليها بالدخول وهو يجيب بنفس نبرتها الساخرة:
– بقيتي تقولي كلام أكبر منك يا شمس!.
دخلت لداخل وأدركت انه محل جديد، لم تتفوه بأي كلمة حتى استمعت لصوت إغلاق الباب من خلفهما، ومن بعدها فتحت الإضاءة فجأة، فظهر أمام عينيها مباشرةً تصميم كبير على حائط أبيض اللون وفي المنتصف اسمها وأسفله شعار الذهب الخاص بعائلته وبجانب اسمها قلادة مصورة جميلة لدرجة أنها تمنت أن تكون بالفعل موجودة، اختطفت أنفاسها رهن تلك اللحظة، وتوقف العقل عن التفكير تاركًا للقلب المساحة الكاملة بالاستمتاع دون قيود قد تعرقل ما بدأ تشعر به للتو.
لم يكتفي سليم بهذا الحد، بينما انطلق خلفها يجذبها نحو صدرها فالتصق ظهرها بصدره العريض، وبيده أظهر أمامها تلك القلادة، توسعت عيناها وهي تدقق بمظهرها الفريد، فكانت سلسال صغير يتدلى منه حجر أسود على هيئة قلب ذو حواف ذهيبة رقيقة…تشبها في رونقها تمامًا وبهمس عاشق بجانب أذنيها أخبرها:
– زيك بالظبط.
التفتت له ترمقه بعدم فهم فقالت بخفوت مضطرب:
– أنا قلبي أسود!.
حرك رأسه بنفي وهو يشير نحو قلبه ووضع يدها عليه:
– لما شوفتها حسيت ان القلب ده زي قلبي، وحسيت انها ممكن تكون رابط بينا، جبتهالك كتير وكل مرة يحصل حاجة وفي الاخر مبتشوفيهاش، فقررت إن هخليها مميزة بذكرى حلوة.
صمت لبرهة ثم عاد العبث يتملك من صوته:
– بما ان مفيش ذكريات كتير ما بينا حلوة زي ما بتقولي.
نفت سريعًا حديثه ووجهها يتورد خجلاً منه:
– اكيد في ما بينا بس أنااا..
قاطعها وهو يفك قفل القلادة ثم وضعه حول عنقها متحدثًا:
– حاليًا مش جاهز اسمع اي مبررات..البسيها ومتفكريش تقلعيها لان اليوم اللي هتقلعيها فيه هعرف انك بطلتي تحبيني، اعتبريه قلبي بكل السواد اللي فيه وحافظي عليه.
لمست حواف القلب وأغلقت عيناها تستمع لكلماته التي بالرغم انها تفتقد للرومانسية إلا أنها كان واقعها فريد يمس القلب والعقل معًا، ناهيك عن مشاعرها المعبثرة في خضم تلك اللحظة، والتي كادت تقسم أنها افضل من احلامها التي ودت أن تنغمس بها كي تشعر بحبه.
سليم الشعراوي لم يكن مثل احدًا من قبل، حبه فريد يحتاج لقواميس كي تفك شفرة عشقه، حروفه الرومانسية قليلة ولكن إن خرجت تهلك هيكل ثباتها أمامه، فماذا هي بفاعله معه لقد احتارت أي منهما الطريق تسلكه، دائمًا ما يصيبها بحالة من الربكة والتي تجعلها تفقد صوابها، فبالنهاية وبأبسط الاشياء تقع في حبه مجددًا بجهد بسيط منه.
لمس ثغرها بشفتيه وكاد أن يتملك منه في لحظة من لحظاته الجنونية والتي تجعلها تخر مستسلمة له، ولكنها كانت في أمس الحاجة لسماع حبه بطريقة معلنه، فابتعدت مسافة صغيرة تنظر له بنظرات متطلبه لشيء هو أدركه بذكائه، فاقترب منها ثانية وهو يتلفظ حروف جملته بتروٍ وكأنه طفل يتعلم التعبير عن مشاعره:
– شمس..أنا بحبك.
وهنا انصهرت معه في عالمه الجديد نوعًا ما عن الصامت الذي كان يغرقها به، ورغم أن كلماته في الغرام كانت بسيطة إلا أن البداية كانت موفقة.
وبعد وقت احتاجت للتنفس بعدما حصارها بشفتيه التي لم تمل من تذوق شهدها، ابتعد رغمًا عنه ولكن من أجل صغيرته التي كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة، استندت برأسها فوق صدره العريض تستمع لدقات قلبه والتي كانت تطرق كطبول الفرح استعدادًا لعودتها له، كانت ستخر اثر لمساته لها والتي لم يفشل أبدًا في طريقه والتي اعتاد عليه في تفتيت تماسكها أمامه، ابتعدت برأسها تطالع المكان من حولها فوجدته خالي وبعض قطع البناء مرصوصة في الأرضية، فراحت تتذكر أسئلتها التي داهمتها منذ أن خطت داخل المحل.
– هو ده مكان جديد هتفتحه.
– اه بس مش هيبقى بتاعي.
أجابها بنبرة هادئة وهو ينظر في عمق عيناها المتسائلة بفضول، فأجاب:
– هيكون باسمك وكل حاجة فيه تخصك، علشان كده سميته على اسمك انتي.
– ليه، ليه تعمل كده.
– هتستغربي بس أنا حسيت إن لازم اعمل كده، أنا مأمن لاخواتي مستقبلهم وابني كمان، بس سبتك من غير مأمنك كويس، وفي اللحظة اللي انفصالنا فيها وبعدتي عني فكرتي تشتغلي عند الناس ودي حاجة جرحتني وموتتني، أنا اللي استغنيت عن حلمي علشان خاطر أهلي مخلهمش يشتغلوا عند حد، مراتي راحت واشتغلت علشان مكنش معاها اللي يأمنها، فقررت ان محل الاسكندرية وده كمان يكون تحت اسمك انتي وملكك علشان لو حصلي أي حاجة تقدري تعيشي مرتاحة من غير ما تحتاجي لحد.
إجابتها لم تكن شكرًا، فالشكر لم يكن كافيًا لحجم كلماته المهيبة والتي زلزلت قلبها وهي تستمع له، صمتت لثوان ثم انفجرت ببكاء وهي تحتضنه بقوة، تهمس بكلمات غير مفهومة كحال مشاعرها التي اهتزت بمفرقعات اثر حديثه لها، سيظل مالك قلبها وعقلها معاً حتى لو عاد لخصاله القديمة.
**
عادت من شرودها وهي تبتسم بسعادة لأول مرة تتذوق حلاوتها بهذا الشكل، وقع فوق عاتقها تغييره، فأقسمت على هدم أسواره العالية حتى يشعر بحب الجميع له، بعدما دخل في كنف الضياع والوحدة، هي لم تكن غبية عن ما يشعر به من ابتعاد عائلته عنه وعلاقتهما غير السوية، ولكنها لم تجرؤ يومًا على مصارحته، وبعدما قررت أن تعيد ترتيب حياته من جديد، اختلقت فكرة الخطبة كي يجلس مع عائلته أكثر وقت ممكن ويمر بأوقات عائلية هو افتقد لها.
**
تأفف سليم وهو ينظر ليزن الواضع أمامه العديد من القمصان بألوان مختلفة بينما هو يقف بمقابله يرتدى واحدًا ثم يخلعه ويلقيه ارضًا..
– قولي بقا أنهي واحد احلى.
– كلهم حلوين..اقعد عشان اتكلم معاك في كام نقطة.
اقترب منه يزن بملامحه التي لن تتخلى عن المشاكسة:
– نعم يا أبية.
– هتهزر.
قالها سليم بتهديد، فرد يزن بحنق زائف:
– عمال تقولي من الصبح، عيب احترمني انا أخوك الكبير، وابوك اداني دروس في التربية علشانك، وامك بصتلي بقرف وده كله علشان خاطرك، مستنى إيه مني غير اني هقولك يا أبيه.
– لو أبيه دي اللي هتخليك محترم ماشي.
– حاسس بنبرة تهزيق سيكا.
زفر سليم بضيق ثم تحدث في صلب حديثه مباشرةً محذرًا إياه:
– فرح سيف في منطقة شعبية، يعني النفس عليك بحساب، مش عايزين مشاكل يا يزن، عينك متروحش على بنات خالص، اولا فرح سيف مش عايزين نبوظه، تاني حاجة أنا هيبقى معايا امك وشمس يعني مش هبقى واخد بالي من حاجة.
كانت ملامح يزن غير مفهومة، وابتسامة غير واضحة على وجهه، فقلق سليم قائلاً:
– انت زعلت ولا إيه، متحسسنيش ان عندك مشاعر.
اندفع زيدان للغرفة بعصبية وهو يزمجر:
– فعلاً معندوش مشاعر، الجبلة اللي قولتله مية مرة هدومي متجيش ناحيتها خصوصًا لو في مناسبة.
أشار يزن نحو زيدان بحزن زائف موجهًا حديثه لسليم المصدوم من دخول زيدان للغرفة بهذا الشكل:
– شوفت اهو خليت اللي يسوى وميسواش يتجرأ ويتكلم عليا.
توسعت أعين زيدان، اما سليم فخص يزن بنظرات تحمل التوبيخ لما قاله، وفي لمح البصر كان يندفع زيدان نحوه يكيل له الضربات:
– أنا زهقت منك ياله، مش كفاية مصايبك مع اخوات اصحابي، كمان بتقل ادبك.
أبعده يزن عنه ثم نهض فوق الفراش وهو يحمل وسادة قائلاً بصوت متهدج كمصارع اجتمعت انفاسه رهن بداية المباراة:
– والله اديك واحدة دبل كيك تموت فيا يا زيدان الكلب انت.
صعد زيدان هو الآخر واتخذ وضع القتال مردفًا:
– لو جدع اعملها، ولا العضلات دي فشنك.
كانت أعين سليم تتوسع لنوعين مجهولين من الثيران يتصارعان أمامه فوق الفراش، والتحما معًا في شجار كان يتفوه به سليم بكلماته الغاضبة:
– السرير هيقع بينا..بس يا يزن ايه الجنان ده، انزل انت كمان مش بتضرب مجرم عندك..
وفي وسط كلماته ظهرت والدته أمامه تسأله بلهفة:
– مشوفتش المكوة يا سليم.
– نعم!.
كان متعجبًا من برود والدته التي لم تنتبه لشجارهم القائم بعنف فوق الفراش، حتى اندفعا نحو سليم بجسدهما، فأبعدهما بحنق، وتأففت والدته بضيق:
– يزن انت للي بتاخد المكوة وبتنساها هي فين.
– في المطبخ يا حجة..طب خد.
قالها يزن وهو يجز فوق أسنانه من هجوم زيدان الشرس، اكتسحت ملامح الصدمة وجه سليم من والدته التي خرجت وكأنها لم ترى شيئًا، وفي ظل صدمته تلقى وسادة بوجهه ومن بعدها هبط السرير فجأة بهم نحو الأرض..فابتعد زيدان عنه وهو يتنفس بصعوبة قائلاً بنبرة أشبه للطفولية حيث كان صوته يحمل الشماتة:
– الحمد لله سريرك اتكسر، نام على الأرض بقا يا حلو.
صمت لبرهة ثم حاول التنفس بطريقة سليمة قبل أن يوجه حديثه لسليم الجالس مكانه بزاوية غريبة وكأنه وقع فوق رأسه هالة جعلته كالصنم المصدوم.
– تعال انت يا سليم عندي في الاوضه، وسيبه هو زي الكلب لوحده.
ثم نهض وهو يجمع ثيابه، واتجه صوب غرفته، فهتف يزن بصوت مرتفع:
– أصلاً انت عيل حقود ياله.
ظهر صوت والده على الفور محذرًا إياه من التمادي:
– يزن..وطي صوتك ولم لسانك شوية أنا ساكت من الصبح.
ارتمى يزن بجسده للخلف زافرًا بحنق:
– كل شوية يزن يزن..مفيش مرة زفت يا زيدان.
وبصوت خافت خرجت كلمات السوقية لزيدان..فبتر حديثه فجأة حينما رأى سليم بجلسته المصدومة تلك:
– أنت كويس يا سليم.
كانت إجابة سليم هي الصمت التام عما مر به مع اخواته المجانين…فنهض يزن قائلاً:
– أكيد كويس، بس مصدوم، حقك من التور اللي كان على السرير.
لم يعد قادرًا على الجلوس معهم أكثر، سيصيبه جنون معهما، وخاصةً مع برود والديه، فنهض دون ان يتحدث وصعد شقته التي ما إن طرق الباب حتى ظهرت شمس أمامه بوجهها العابس:
– كنت هنزلك دلوقتي الفستان ده وحش عليا.
خرجت نبرة صوته متأرجحة وهو يقول:
– ماله؟.
– مش مناسب يا سليم للفرح، يعني هو ينفع للعشا كده، مش فرح بقا وهيصة..أنا مروحتش افراح قبل كده.
كانت تتحدث خلفه وهو يخطو باتجاه المرحاض، فأجاب بهدوء ينافي عاصفة مشاعره الآن حينما خاض أمورًا لم يكن أن يتخيلها.
– ده فرح في حارة البسك فستان من الفساتين اللي عايزاها علشان الفرح كله يتقلب عليكي، اعتبريها سهرة عادية.
رفعت جانب شفتاها بسخط وهي تتحدث بهمس:
– قال إيه لو فرح في قاعة كان هيوافق بردو.
وما إن رأته يتجه صوب مرحاض غرفتهما حتى استفاقت وصرخت:
– سليم، انت ناسي احنا مخطوبين.
– لا تنسى كلمة مخطوبين دي خالص، أنا مش هالبس تحت عند المجانين دول.
ثم دخل المرحاض وأغلق الباب خلفه بقوة، فضحكت عندما أدركت حالته المصدومة وقررت أن تزيد من ترابطه الأسري أكثر.
بينما كان سليم يهرب من مشاعر لم يعرف ماهيتها، رافضًا خوضها من الأساس حتى وإن وقع بها رغمًا عنه، شعر حينها وكأنه أله لا يستوعب مشاعرهما الأخوية، لا يتفهم ما يمران به حتى ينغمس معهما، فبدا وكأنه شخص غريب، لعن تلك الساعات المتأخرة التي كان يقضيها في شبابه بالعمل كي ينفذ رغبة والدته فقط، فسحبت منه أبسط حقوقه ومشاعره.
***
مساءًا..
وقف سليم أمام سيارته يتمم على عائلته التي لأول مرة منذ زمن بعيد يخرجوا معًا، انتظر خروج يزن مع زيدان واستمعا لحديثهما..
– يعني القميص ده أحلى من التاني.
أجاب زيدان بثقة:
– هو انا بجيب حاجة وحشة.
اوقفهما سليم متسائلًا باندهاش:
– هو ده قميصك يا زيدان..امال ايه الحوارات اللي حصلت دي.
رد زيدان ببساطة:
– اه ياخده عادي بس مش بقلة أدب.
وانطلق صوب سيارته التي كانت تقل والدته ووالده بينما مال يزن نحو سليم:
– متاخدش في بالك، ده هو جه اعتذرلي عن قلة ادبه بس وانا وافقت علشان ميحطش حاجة في نفسه يعني، الرفق بالحيوان بقا.
كان يتحدث بجدية خافتة ادهشت سليم، لدرجة أنه تساءل:
– انت عايز تجلطني يا يزن صح.
– والله كلكوا فاهميني غلط، انا ماشي.
توقفت سيارة اجرة أمام المنزل وهبطت منها نهى، أصيب زيدان بالذهول في سيارته وهو يراها تتقدم نحو يزن وسليم..وقبل أن تتحدث كان يزن يبرر لسليم:
– نهى لما عرفت اننا رايحين فرح فقالت تيجي تفك..
ومال عليه بهمس:
– اهلها خنقوها.
زم سليم شفتيه بمضض ولم يرحب بها، فاتجه صوب سيارته التي كانت تجلس بها شمس، حيث كانت تخرج رأسها من السيارة تراقب ما يحدث بفضول.
وحقيقةً لم تهتم نهى لسليم كثيرًا فكل ما يشغلها هو وجود زيدان:
– زيدان فين؟!
وقبل أن ينطق كان زيدان ينطلق بسيارته، فأشار يزن لها مجيبًا:
– طلع بعربيته.
وعندما لمح إمارات الحزن تسيطر عليها، قال مبررًا:
– معاه بابا وماما..علشان كده استعجل وطلع، يلا بينا احنا.
هزت رأسها باستسلام بعدما كانت تتخيل لقائهما بعد فراقًا لأيام عديدة، أصر زيدان فيها على البعد بعد محاولات كانت تحاول الوصول له بأي شكل، ولكنه كان يعرقلها بمعاملته الجافة والصارمة التى تغاضت عنها وراحت تبرر له من الضغط النفسي الذي يمر به.
بينما في سيارة زيدان كان يشعر بمراجل تغلي بها مشاعره من تصرفات يزن التي ستوقعه في هاوية الظلام، فهو كان يجاهد نسيانها حتى لا يتعلق بها بعدما لمست جزء بسيط من قلبه باهتمامها به، ولعقلانيته ولاستحالة تقاربهما بسبب الاشواك التي زرعتها عمته بطريقهما أصر على الابتعاد.
انتبه لحديث والدته الحانق:
– خلاص يا محمد هسكت اهو ومش هسأل ايه جابها.
– مالكيش حق اصلا انك تضايقي يا منال، دي بنت اختي وتيجي زي ما هي عايزة.
قالها بغضب، فردت بعصبية:
– اختك..اختك..نفسي مرة تشوف أختك على حقيقتها، روحلها وهي هتصارحك بكرهها ليك قبلنا، فوق من الوهم ده.
وقبل ان يتحدث محمد منفجرًا بها، ظهر صوت زيدان الصارم:
– ايه يا جماعة احنا رايحين فرح، في إيه مش مكتوبلنا نفرح شوية.
صمتا على مضض، وخاصةً محمد أجل حديثه المعاتب لوقت أخر، لن يفسد تجمعهم الذي افتقد إليه كثيرًا، بعدما توغل الفراق في قلوبهم، وأصاب الجفاء مشاعرهم، والعناد تملك من عقولهم في فترة زهقت روحه بها، متمنيًا أن يجمع شمل عائلته من جديد.
***
استعدت ليال للحفل القائم بالأسفل، لم يكن بتخيلها أن يبذل سيف مجهوده حتى يظهر بهذا الشكل، ورغم اعتراضها لم تكن تتخيل أنها ستشعر براحة وسعادة غير عادية وهي تنتظر ليلة زفافها التي انهزمت من أجلها أفكارها، وجود أهل الحارة حولها عوضها كثيرًا عن أمورًا كانت تعتقد أنها ستكون وحدها بها، لم تطلب منهم العون، ولكن كانت مساعدتهم نابعة من صميمهم، ظهر معدنهم الاصلي التي كانت غافلة عنه في ظل محاولاتها المستميتة للخروج من تلك المنطقة، التي أدركت فيما بعد أنها لن تقدر على التأقلم بمكان آخر غيرها، وكأنها سمكة لا تستطيع العيش خارج مياهها.
ربتت فوق يدها وكأنها تهدأ من قلقها ومشاعرها الخجولة التي ثارت حينما استمعت لصوت سيف المقبل نحوها ببذلته السوداء وشعره المصفف بعناية زاد من وسامة ملامحه.
ارتعشت ابتسامتها حينما انطلقت الزغاريد، ومرت بعينيها على نسوة الحارة وابتسامتهم المحلقة في سماء السعادة، بينما كانت تجاهد مشاعرها وسيف ينظر لها بحب وراحة شعر بها بعد رحلة طويلة من الاجهاد خاضها في طريقه ليحصل على جائزته في النهاية.
وبهمس اخبرها:
– هي الناس دي مش هتمشي.
ضحكت بخفة وقالت:
– لا هيفضلوا معانا.
– يعني مش هسلم عليكي قبل ما ننزل الفرح.
مطت شفتيها واخبرته بأسف مصطنع:
– للأسف هتستنى.
– واستنى ليه ما ممكن اعمل كده.
اقترب في غفلة منها، وقبل رأسها قبلة طويلة ثم بعدها همس بجانب أذنها:
– الحمد لله على نعمة زيك.
خفق قلبها بقوة ولجم لسانها حيث فقدت قدرتها على التعبير أمام واقع كلماته المبعثرة لمشاعرها، شعرت بيده تمتلك يدها في قبضته ثم انطلق نحو الأسفل تزامنًا مع انطلاق الطبول بموسيقي شعبية..تنذر الفرقة الموسيقية بمجيء العروسين.
وبعد ساعات من الحفل واجواء الفرح بفقرات متتالية لم تفصل، وانهاك سيف بالرقص مع رجال الحارة وليال التي كانت تقف فقط تصفق بخجل مع فتيات الحارة، بينما كانت تجلس شمس كالصنم حينما حاوطها سليم بيده كي لا تحرك كتفيها حتى على الموسيقي، محاوطًا إياها وكأنها ستهرب منه، فخرج صوتها أخيرًا يعترض:
– سليم عايزة اتنفس زي باقي الناس دي.
– ما تتنفسي هو أنا مانعك.
قالها باستنكار، فردت عليه بضيق:
– طب ابعد بجد أنا نفسي اقف مع فاطمه هناك، اسلم على العروسة حتى.
– لا.
رد بصرامة، فحاولت مجددًا:
– طب اخد معايا نهى.
– لا.
قالت بحنق:
– كده كتير اوي..
ولكن بترت حديثها بقولها المتفاجئ:
– الله محمود الليثي هيغني.
رمقها سليم باشمئزاز من فرحتها، وراح يمرر بصره على عائلته فوجد يزن يصفق بحرارة لأنس الذي كان يقف فوق الكرسي يرقص بحركات مثل الشباب التي دفعت سيف يرقص بما يسمى ” المطوة” في حركة جنونية انفلتت من عقلانية صديقه، جعلت سليم مصدومًا عكس سعادة عائلته به.
فركت نهى يدها وهي تحاول أن تتحدث مع زيدان، فقالت بنبرة رقيقة وهي تنظر له بهيام:
– زيدان انت زعلان مني؟.
رد بوجوم وهو يصارع مشاعره، فلم تستحق بروده هذا:
– لا.
– طيب ليه بتعاملني كده؟
– أنا عادي يا نهى، بس مركز مع الفرح شوية، ركزي انتي كمان واتبسطي.
قالها بحدة خرجت منه سهوًا، فلم يعد قادرًا على أن يعايش ذلك الضغط بسلاسة أرهقته،
ابتعد ببصره عنها فقابل نظرات سليم الجامدة والمتسائلة حول علاقته بنهى، لم يجد نفسه سوى وهو يتحدث مع نهى مرة أخرى بلطف كان منبعه عناد معه والذي جهل سببه من الأساس
يتبع ……
لقراءة الفصل السادس والعشرون : اضغط هنا
لقراءة باقى فصول الرواية : اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى