روايات

رواية جحر الشيطان الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الجزء الثاني والثلاثون

رواية جحر الشيطان البارت الثاني والثلاثون

رواية جحر الشيطان
رواية جحر الشيطان

رواية جحر الشيطان الحلقة الثانية والثلاثون

إهداء
إلى أقرب من أحب قلبي، إلى البعيدة القريبة، إلى حبيبة أيامي وبسمة فؤادي ( أسماء)
حزنٌ هائلٌ ذاك الذي ملأ آل الشرقاوي، حزنٌ لن يزول أبد الدهر!
فـ الراحلة ليست اي أحد إنها وتد العائلة الذي انقلع من مكمنة فتهاوى البيت بما فيه.
من قال إن الحزن قد يزول!
من قال إن الفراق هين؟
لو كان هينٌ لمَا صرنا كأننا في متاهة نبحث عمن فقدنا دون أثر، لأننا في قرارة أنفسنا نعلم إنه فارقنا بلا عودة.
المنزل كان يسوده الهدوء، السكون؛ لكن ضجيج الأفئدة فإنه عالي يصيبُ بالصم.
لم يبكي أحد على فراق لمار منذُ أن ذاع الخبر، كأنهم لا يصدقوا غياب من كانت السند لا أحد يدري!
ربما هي الصدمة!
وربما هو الأمل في عودتها!
سَرَت ارتجافة قوية في جسد ( هنا )، حين همس ( خالد ) و سبابته على فمه لها أن تصمت :
_ أشش، لا تتكلمي.
أشرائب ( خالد ) برأسه من النافذة ليتراءي له خمسةٌ رجال بمدافع رشاشة يتسللوا إلى المنزل.
هتفت ( هنا) بقلق :
_ ما بك، لماذا تبدو متوترًا؟
ألتفت إليها ( خالد) وغمغم في تهكم :
_ توتر ماذا يا عزيزتي؟، إني في انتظار زائرون غير مرحب بهم لأنهم أتوا دون دعوة.
أنهى عبارته وهو يسحبها من مرفقها ودفعها في إحدى الغرف وأغلقه قبل أن تستدرك ما الذي يفعله، وقال :
_ لا أريد لعيناكِ الجميلتين أن تريان شيئًا قبيح لن يروق لكِ.
وأستتر خلف أحد الحوائط وشاهد الرجال يتسللون في أنحاء المنزل، ثُم تجمعوا فاقدي الأمل في نقطة قريبةٌ منه، وقال أحدهما غاضبًا :
_ لماذا لا أحد في المنزل؟ إنه لم يخرج من ليلة أمس؟
فـ أجابه أحد الرجال، قائلًا :
_ لعله خرج دون أن نرآه؟
رمقه الرجل الأول في غضب وهو يلكزه، قائلًا بغلظة :
_ كيف خرج ولم نرآه أيها الغبي؟ والآن تُرى أين ذهب هذا الـ…
بتر عبارته عندما شعر بيد تخبط على منكبه، وسمع صوتًا ساخرًا يقول في تسلية :
_ هل تبحث عني أيها الأبله؟ ها أنا ذا لم أذهب لأيةً مكان!
أستدار الرجال سريعًا إلى خالد، وأُشهرت خمس مدافع آلية في وجهه، فتبسم قائلًا في استهتار :
_ يا له من عرض يا رجال، ويا لي من رجال عظيم حتى يأتيني خمس رجال لقتلي.
صرخ أحد الرجال في وجهه :
_ آراك تملك روحًا مرحة يا رجل وتسخر أيضًا؟ رصاصة واحدة ستنطلق من فوهة مسدسي سترديك قتيلًا وأسخر في الجحيم كما بدا لك.
رد خالد غامزًا :
_ ربما تذهب للجحيم أنت قبلي يا فتى.
ودار على عقبيه في رشاقة فـأطاح بإحدى المدافع بعيدًا، وأمسك أثنيين بقبضتيه، وركل إحداهما ليطيح به بعيدًا، ثُم جذب أدنى الرجال إليه وأحاط بعنقه بساعده في قوة، وغمغم :
_ هيا أيها الأوغاد القوا أسلحتكم وإلا حطمت عنق زميلك الجميل هذا!
_ وماذا لو فجرت أنا رأسك؟
جاءه صوت رجل من الخلف مع فوهة سلاح تلتصق برأسه، فلم يتخلى خالد عن بسمته وهو يستدير رافعًا كفيه في أستسلام، وما هم أن يرى الرجل إذ سدد له لكمة قوية في فكه جعلته يترنح، ويرخي قبضته على السلاح فسحبه خالد منه، وأشار لهم جميعًا قائلًا بصرامة :
_ هيا أيها الحمقى توقفوا بجانب بعضكم.
فعلوا الرجال ما طلب صاغرين و وقفوا جميعًا بجانب بعضهم في صفٍ واحد، فسار خالد أمامهما وهو يوجه فوهة السلاح عليهم، قائلًا :
_ والآن يا حلوين من أرسلكم؟
تعال طرق الباب في الحجرة التي أحتجز بداخلها هنا مع صراخها، فتراجع بظهره في يأس نحو الحجرة وهو ينظر للرجال ويقول محركًا المدفع :
_ إن لاحظت أي حركة سأطلق فورًا، فقفوا ثابتين خاضعين يا شطار.
تمتم أحد الرجال في حنق:
_ هل يحادث أطفال هذا؟ اقسم بأني لن أدعه ينجو من رصاصتي.
تناهى لخالد ما قال رغم خفوته، فرد عليه في تهكم :
_ يا لك من وغد يا صغير.
وقال وهو يفتح الباب لـ هنا التي أندفعت للخارج ذاهلة :
_ صرعتيني أيتها الحسناء، ألا يوجد صبرٌ لديكِ؟
نقلت هنا بصرها بينه وبين الرجال، قبل أن تهمس قي دهشة :
_ ما الذي يحدث هُنا؟
وكان هذا التشتت الذي صنعته هنا وهي تحادث خالد، كفيل لأن يبادروا الرجال إلى أسلحتهم ويطلقوا رصاصتهم في سخاء …
فجأة! دفع خالد هنا عن مرمى النيران لتخترق أحد الرصاصات كتفه، وتمرق أخرى جوار رأسه مباشرةً لو لم يميل برأسه لكانت اصابته حتمًا. ثُم قفز من مكانة لتتطيش رصاصات الرجال، ويتدحرج هو على الأرض وأطلق رصاصته لتطيح بمدافعهم جملةٌ واحدة، ثُم وثب في طرفة عين وسط الرجال وانهال عليهم بلكمات والركلات وشاركته هنا في ذلك، إذ ركلت أحدهم قبل أن يُغافل خالد ويهوى على عنقه بقبضته ثُم لكمه أخر لكمه تفاداها في ماهرة وكاد يصفعها لكن قبضة خالد خشبت ذراعه في الهواء وهو يهتف :
_ أكثر ما اكرهه في حياتي أن يضرب رجل إمراة، لذلك فـ أنت تستحق هذا!
لم يعرف الشاب ما حدث فقد هوت قبضة فولاذية على فكة أطاحت بأسنانه، أعقبها بأخرى كالصاروخ في معدته شعر على إثرها بكل اعضاءه تصرخ ألمًا وما كاد يصرخ المًا إذ هوت قبضة أخرى على عنقه فتكوم على إثرها فاقد الوعي.
نظر خالد إلى الرجال الخمس الذي لم يكن منهم إلا ثلاثة أحدهم ماسك معدته منحنيًا في ألم، والآخر يضرح ألمًا وهو يمسك بوجهه، والآخر تكوم على نفسه زائغ العينين والأثنيين الآخرين فاقدي الوعي، نفض خالد كفيه وتبسم، قائلًا في بساطة :
_ في رسالة أريدُ منكم أن توصلوها لمن أرسلكم؟
ثلث رؤوس أرتفعت إليه وهو يضيف :
_ أخبروه أن الجحيم آتٍ فلينتظرني فقط.
هُنالك قال احد الرجال في ضعف :
_ لن تنجو سرعان ما يشعروا رفقاءنا بتاخرنا ويأتون.
ولم يكذب الرجل خبر، فقد انهمر الرصاص على المنزل، وتبسم الرجل قائلًا في ظفر :
_ألم اقل لك؟ لن تنجو!
جز خالد على اسنانه وسمع صوت هنا وهي تجذبه بعيدًا محذرة :
_ ابتعد يا خالد.
فـ أمسك كفها وهو يعدو بها إلى باب خلفي للمنزل كان يعلم بوجوده حين فحص المنزل و كانت سيارة موجودة أمام الباب، فأمر هنا قائلّا :
_ اسرعي وأجلسي في المقعد الآخر.
فما كانا يستقرا بالداخل حتى صاحت هنا في جزع وهي تنظر إلى ذراعه النازف :
_ ذراعك ينزف لن يمكنك القيادة!
فجأة! ظهرت سيارتين أطلت رؤوس ومدافع من نوافذها فهتف وهو يدير محرك السيارة :
_ ليس مهم ذراعي الآن يا عزيزتي المهم هو الأفلات من هؤلاء، على ما يبدو إن أولآء يصرون على قتلي ولن اسمح لهم.
وأنطلق بسيارته وخلفه سيارتين وكلما اقتربت احدهم من سيارته حتى ينهال عليهما الرصاص فيسير خالد بأعوجاج يمينًا ويسارًا كالأفعى وبينما هو منغمسٌ في الأفلات من السيارتين، أخرجت هنا سلاحٌ من سترتها وعادت إلى المقعد الخلفي، فصاح فيها خالد وهو يشاهدها من المرآة :
_ ماذا تنوين يا عزيزتي، هل تجيدين استخدام السلاح؟
_سترى!
نطقت بها هنا وهي تضرب الزجاج الخلفي بكعب سلاحها فتشرخ وهوت عليه عدت مرات فتهشم الزجاج وتناثرت شظاياه وأخرجت سلاحها وصوبته على عجلة القيادة وأطلقت فأصابت رصاصتها هدفها في عجلة القيادة التي دارت سيارتها حول نفسها فأرتطمت فيها السيارة الآخرى، فصاح خالد من داخل السيارة مبهورًا:
_ أوه يا فتاة لقد فعلتيها يا لكِ من بارعة ما رأيك أن نجدنك لحسابنا؟
عادت هنا إلى المقعد بجواره، وغمغمت في ضيق :
_ كيف لك نفسٌ في الابتسام والمزاح في هذا الوقت العصيب؟
ثم أقتربت من ذراعه، وأردفت في لوعة :
_ يا إلهي لقد فقدت دمًا كثيرًا.
أجابها خالد وهو مرتكز البصر على الطريق امامه :
_ لا تقلقي ما زال لدي القدرة على القيادة لن تنقلب بنا السيارة، ولن تفقدي حياتك!
أنهى جملته غامزًا لها بعبث في مرآة السيارة فمطتت شفتيها، في ضيق وهي تقول :
_ لا اخاف على حياتي.
قالتها وهي تخلع الجاكت لتشق منه جزاءًا لكن … قبل أن تفعل كان خالد يجذب منها الجاكت، قائلًا في حزم ونبرة أرهبتها :
_ أرتدي الجاكت يا فتاة لن اربط ذراعي وتسيري معي هكذا؟
واوقف السيارة جانبًا ملتفًا لها بنظرة غاضبة، وقال وهو يتميز غيظًا:
_ والآن أريد معرفة من أنتِ، ومن أين تعرفيني؟
همت بأن تجيب ألا انها اطبقت شفتيها عندما صرخ فيها محذرًا بسبابته :
_ إياكِ والكذب يا فتاة فقد ناديتني بإسمي … إياكِ هل تسمعين؟
أذدردت هنا لعابها في خوف من لهجته، وخرج صوتها متهدجًا، متوترًا وهي تبوء له قائلة :
_ أنا … أنا اخت أراس زوج خديجة أختك!
تنفست الصعداء، بينما يجوس الشك في قلب خالد من معرفة اراس بأمره!
وادهشه أن يرسل أخته له؟ لماذا فعل؟ وكيف عرف؟ وما الذي سيجنيه من فعلته؟
الأسئلة تموج في نفسه بلى إجابات، وقد بلغ منه الجهد مبلغه، فقال في وهن:
_ إذن فـ أراس يعرف بأمري؟
اومأت هنا في تلكؤ متعجب من هدوءهُ، ففتح باب السيارة وقال قبل ان يغادرها :
_ إذا كنتِ تجيدين القيادة فتعالي مكاني.
تبادلا الأماكن وقال خالد بعدما استرخى في مقعده :
_ قودي إلى منزل أخيكِ أركان لا بد أنك تعرفيه!
رمشت هنا بأهدابها تستوعب ما تفوه بها و وودت لو تسأله عن كل ما يجوس في نفسها عن علاقته بأخيها لكنه أسبل جفنيه وأسند رأسه لظهر المقعد وقد بدا كأنه ذهب في سُبات عميق، فـ أدارت محرك القيادة دون أن تنبس.
🌾 إنما اشكو بثي وحزني إلى الله 🌾
إذن فـ أراس يعلم من أنت!
تساءل أركان بعدما تحسنت حالة خالد قليلًا، فرد عليه خالد وهو يعتدل في مجلسه :
_ السؤال هو كيف علم؟
تنهد أركان وأقترح وهو يحرك كتفيه :
_ ربما خديجة قد أخبرته؟!
نظر له خالد في استنكار، وقال في غلظة :
_ خديجة، محال أن تخبره ولو سهوًا!
توقف اركان أمام هنا التي لا تزل على سكونها المنكمش في آخر الآريكة دون أن يصدر عنها اي حركة او همسة، وغمغم في ضيق :
_ وأنتِ يا عزيزتي هنا ألن تخبريني كيف علم أراس!
زمت هنا شفتيها وهي تتميز غيظًا، وردت عليه ثائرة :
_ يا إلهي هل هذا جزات من يساعدكم؟ ما ادراني كيف علم أراس! كل ما قالُه ليّ أن خالد هُنا ينتحل شخصية ماهر.
حدجها خالد شزرًا حينما نظرت إليه وهي توجه حديثها عليه، ثُم أتبعت تقول وهي تحيد ببصرها إلى أركان :
_ أراد مني أن أفعل شيئًا حتى أظل معه وأرسل له بأخباره!
صرخ خالد قائلًا وهو يضرب راحته على الآريكة بجانبها :
_ لمـــــــــــــاذا؟ هل أنا صغير لتبقين معي هااا، هل ترضعيني أيضًا!
جزت هنا على أسنانها في سورة من الغضب وهي تشيح بوجهها عنه، هاتفة بضيق :
_ وقح!!
ردد خالد وهو يوليها ظهره :
_ يا الله، سأصاب بالجنون.
_ اتركينا بمفردنا يا هنا قليلًا!
قالها أركان مشيرًا لها بعينيه ورأسه إلى الأعلى، فهبت واقفة في اهتياج وهي تصيح كما الآسير الذي فُتحت له أبواب السجن :
_ يا الله أفراج أخيرًا، حمدًا لله.
ثُم ضربة كفٍ بكف وهي ترغي وتذبد فتبسم أركان هزًا رأسه بيأس، ودنا من خالد، وربت على كتفه وهو يسأل :
_ ما الذي يقلقك لهذه الدرجة يا رجل، ماهر ما يزل في قبضتنا!؟
نظر له خالد لوهلة في حزن، ثُم أبتعد جالسًا على أقرب مقعد ومال إلى الأمام و وضع رأسه بين كفيه كمن يحمل طنًا من الهموم، وغمغم أخيرًا بصوتٌ يقطر بالضيق قطرًا :
_ لا تظن الأمر هين، القضية ليست قضية شخصية، هذا الحقير يتلاعب بأمن مصر وسرق أسرارًا خطيرة يجب أن اجدها، كم إنه يسمم ابناء وطني بإدخاله هذا السم بينهم أنا لن أرحمه ولن أسمح لنفسي ان أفشل!
صوته يترعُ بالصدق، بالوفاء، بالحزن الدفين، الذي جعل أركان يتنهد أسفًا، متأثرًا، وجلس بجانبه وهو يأخذ نفسًا عميقًا، مستطردًا :
_ أنا أعلم يا خالد أنك تضحي بروحك لأجل حماية وطنك لا مرية في هذا قط، لكن لم نخسر شيئًا ما زال هذا الحقير ماهر معنا، وما معنى ان يعرف معاونُه؟ فليعرف ولكن لماذا لا نستغل هذا؟
قطب خالد حاجبيه وهو يلتفت إليه، فـتابع أركان في نبرة عميقة :
_ لا ريب ان هذا الشخص الذي يعاونه متخبط لا يدري ماذا يفعل، يتصرف دون تخطيط فنحن سنستغل هذا.
وصاح متذكرًا بغتة :
_ لا شك إن أراس لديه الحل لكل اسئلتنا فإذا كان هذا الشخص علم بشخصك عن طريقه فـ أن اراس يعرف من يكون.
أومأ خالد برأسه في أمل، فطمئنة اركان بعينيه التي أسبلتا في تطامن واثق، وتناول هاتفه ليجري اتصال على أخيه أراس.
🌾 اللهم أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين 🌾
كانت الشمسُ تتكبد عنانُ السماء، تُلقي بوهجها على ذاك القائم يصلي بخشوعٍ وسكينة ودموعه تسيلُ على وجنتيه تضرعًا إلى الرحمن، الغفار؛ بالمغفرة.
فما أن فرغ ونهض يطوي المصلية، إذ سمع صوتًا حبيبًا، عذبٌ يداعب قلبه واوتاره فيتبسم، صوتًا يغشيه بالسكينة، ويطيب دنياه، تناديه بأسمه:
_ أراس.
فأنفجرت أساريره وأترع فؤاده بالطمأنينة وهو يلتفت إليها متبسمًا في تساؤل، فـ أقبلت خديجة، تقول :
_ ألا أهديكَ بهديةٌ؟
فنظر أراس بحيرة إلى يديها الخاليتين، وهو يردف متعجبًا :
_ هدية! إية هدية تلك؟
عقد ذراعيه وهو يرفع إحدى حاجبيه فرنت خديجة إليه، وهمست :
_ هدية هي غالية بمقدار الدنيا وما فيها!
تهللت أساريره وذاد حماسه وهو يسألها بلهفة :
_ إليّ بها إذن.
تنهدت خديجة وأتسعت ابتسامتها مع همسها الخافت، ومقلتيها الامعتين :
_ هدية تجعل بينك وبين الجنة الموت فقط حائلًا!
علم فورًا أنها ستهديه بالفعل هدية هي كنزٌ عظيم سيحظى به بمفرده، فردد في شغف:
_ زدتيني شوقًا، هيا قولي!
أمسكت خديجة بكفيه في راحتيها، وقالت وهي تنظر في عينيه باسمةٌ:
_ آية الكرسي، أن قرأتها بعد كلُ صلاة لم يكن بينك وبين الجنة إلا الموت.
تألقت عيناه بجذل، وغمرته السكينة لم تفتئ أن تلاشت وهو يستدرك في أسف :
_ لكني لا أحفظها!
أجابته خديجة في حنان، وببسمتها البسيطة التي تأسرهُ، وهي تضع كفها على وجنته :
_ بسيطة سنقرأها معًا بعد كل صلاة!
دنا أراس برأسه ملثمًا جبهتها بأعتزاز، في حب، وتساءل :
_ أنا أطمعُ في هدية أخرى.
وحقٌ له الطمع! فمن ذا الذي لا يطمعُ في هديةٌ كتلك؟
أفتر ثغر خديجة عن بسمةٌ سعيدة، مرتاحة، وهي تغمغم في حماس :
_ إليكَ إذن، ألا تريد يومُ القيامة ذلك اليوم المهيب، العظيم، المهول، المخيف الحار شديدُ الحرارة إذ تدنوا الشمس من الرؤوس أن يكن لك غمامتان؟
كلماتها التي رددتها في غمرة حماسها ونشوتها، رجت قلبه رجًا لكن سرعان ما سكن حينما قالت غمامتان، فإذا به يقول بخفوتٌ :
_ أخبريني يا خديجة.
ردت خديجة في هدوء :
_ سورة البقرة وآل عمران من حافظ عليهما كانتا له غمامتان يوم القيامة فوق صاحبهما لقول الحبيب ﷺ قال : ” اقرأوا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ، اقرأوا الزهراوين : البقرة ، وسورة آل عمران ، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فرقان من طير صواف ، تحاجان عن أصحابهما ، اقرأوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة ” رواه مسلم .
ثم أردفت تقول :
_ اقرأوا القرآن إي أغتنموا قرأته وداوموا على تلاوته فإنه يشفع لقارئه يوم القيامة، والبقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة غمامتان لقارئهما، غمامتان يعني سحابتان تظلان صاحبهما عن حر الموقف، وسورة البقرة أخذها بركة أي المواظبة عليها فيها منفعة عظيمة، وتركها حسرة أي ندامة يوم القيامة.
تساءل أراس وهو يطوي المصلية على ذراع المقعد، ويجلس في اهتمام شديد، صابٌ جم تركيزه وحواسه وجوارحه عليها :
_ وما معنى كأنهما فرقان من طير صواف.
لاذت خديجة بالصمت لوهلة، قبل أن تستطرد قائلة :
_ فرقان أي طائفتان من طير ( صواف ) جمع صافة وهي الجماعة الواقفة على الصف أو الباسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض. … والله وأعلم.
أومأ وهو يسأل مرةٌ أخرى :
_ وتحاجان! كيف تحاجان لم أفهم!
_أي السورتان تدافعان (عن أصحابهما ) والله وأعلم.
لانت قسمات وجه أراس وهو يتنهد في أرتياح، ويقترح في ترقب :
_ ما رأيك إذن أن نقرأهما معًا؟
صاحت خديجة هاشةٌ وباشةٌ:
_ بالطبع، بالطبع هذه أمنيتي.
تأملها أراس لبرهة، وهو يطلب :
_ أطمح في هدية أخرى إذن.
لزمت خديجة السكون لهنيهة، قبل أن تردف في اهتمام هادئ:
_ يخافُ المرء من عذاب القبر ولا يدرك أن الله قد مَّن عليه بسورةٌ من ثلاثون آية تنجيه من عذاب القبر، فيفرط فيها ولا أعلم كيف بالله يفرط، وقد حق عليه أن يتخذ منها عادة يومية، وأن تكون أحب الأشياء إليه!
يا إلهي! ماذا بالله تفعل به خديجة؟
ماذا تفعل في قلبه فتجعله مضطربًا مطمئنًا في آن!
أنَّى هذا؟
يا فرحته أثمةُ سورة منجية من عذاب القبر ولم يكن يعرفها؟
ألهذه الدرجة عن بعيدًا عن ربه؟
كم الله رحيم لطيف بعباده، كيف للمرء ان يفرط في سورة تنجيه من عذاب القبر؟
كيف الأنسان بفقره لله أن يفرط ويهجر القرآن وهو الذي سيأتيه شافعًا يوم القيامة، بلى ويقال لقارئ القرآن ( اقرأ وارقَ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)
كيف يفرط ولا يغتنم في تلاوتة البقرة وآل عمران وهو يعلم أنهما ستظلانه من حر يوم القيامة؟
أنتبه أراس من شروده على صوت خديجة المنادي عابسة الوجه فتنبه لها متآسفًا في مرح، فتقبلت أسفه وتابعت :
_ أنها سورة الملك ثلاثون آية تنجى صاحبها من عذاب القبر
فقد قال: صلى الله عليه وسلم سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر. رواه الحاكم .
وقال صلى الله عليه وسلم قال: إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له.
_ أخبريني بالله كيف آتي بقلبٍ حتى أحبك به فقد فاض حبك في الفؤاد فيضًا؟
ماذا ستفعلين بقلبي وروحي التي تهيم فيكِ يا خديجتي؟!
تضرجت وجنتا خديجة في حياء وهي تغضُ الطرف، فتأملها ولهانًا، هائمًا، سعيدًا، مسرورًا!
لقد لونت حياته الحالكة … جعلتها بستانًا، وصنعت من قلبه روضة تثمر فقد ببذور حبها … حبها الذي تشعب بداخله فغمر السويداء، وتخلل ثنايا جوانحه وحناياه، وسرى مجرى الدم في عروقه وامتزج بدمه فصار يهواها.
يهوآها ولا يريد إلا رضاها، ومسكنها.
أنتبه من سرحانه الهائم فيها على صوتها وهي تقول :
_ سأذهب لزيارة منة في المستشفى، هلا أوصلتني!
_وهل هذا سؤال برأيك، بالطبع سأفعل.
فجأة! أحتد صوتها، وقست قسمات وجهها وهي تهتف متذكرة في وجهه :
_ هلا لديك تفسير للرجال الذين تضعهم وراءي، لماذا تراقبني يا رجل؟
راق له عصبيتها فعقد ذراعيه، وابتسم في عبث، وهو يقول في برود :
_ هذا شأني لوحدي، ثم لماذا تدخلين أنا أضعهما لحماية زوجتي من اي أذى.
لوت خديجة فمها ساخرة وهي تقاطعة قائلة في تهكم :
_نعم يا حبيب زوجتك، من تلك التي لا تتدخل، أتقصد ألا يعنيني.
أومأ في بطئ متلذذ، فضربته في صدره مغمغمة :
_ لا يا حبيبي لن تضع وراءي أحد!
قرص أراس وجنتها مغيظًا وهو يردد :
_ أسمعي كلام حبيبك يا حبيبتي وكوني زوجة مطيعة، تغض الطرف على ما يروق لها؟
تخصرت خديجة وقالت وهي تتميز غيظًا وتهز قدميها :
_ هكذا إذن؟
أومأ في بساطة، فرفعت قدمها لتهوى بها فوق أصابع ساقه وهي تفرد ذراعيها، هاتفة في بساطة :
_ هكذا أرتحت.
🌾 اللهم أصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما 🌾
وقف آجار خلف واجهة زجاجية يتطلع من خلالها إلى جسد منة في جهاز الرنين الذي راح يدخل ويخرج بها إلى داخل الأشعة وهي ممدة، بجواره جلس طبيب خلف كمبيوتر يظهر فيه الورم في المعدة، الدموع كانت تتلألأ في عينيه لكنها أبت الهطول، ظلت حبيسة داخل جدارن أهدابه، وما أن أنهى الطبيب عمله، وتوقف الجهاز ودلفت الممرضة لتساعدها حتى هرع إلى الحجرة، فتبسمت له منة بسمة شاحبة بدالها هو بآخرى جميلة وقبل أن تنهض كان يحملها بين ذراعيه، وتوجه بها إلى الغرفة الخاصة بها، و وضعها فوق الفراش برفق ودون أن ينبس ببنت شفة قرب مقعدًا وجلس بجانب رأسها وطفق يمسح على رأسها بحنان وهو يتأمل وجهها الشاحب، الذي بدا عليه الوهن والضعف والنحول جليًا.
فبادرته منة سائله في اهتمام وبصوتٍ ضعيف :
_ ألم تأتي خديجة بعد؟
فهز رأسه نفيًا وهو يتمتم :
_ أنها على وشك الحضور لا مرية في ذلك، متى تأخرت خديجة عنك؟ ولكن حذاري فأنا بدأت أغار منها .. ها!
قالها، وضحك في خفوت، فضحكت لضحكته وهي تردد في حب :
_ وهل يُغار من خديجة؟
_ أنا أفعل!
أطل الحزن والضيق والأسف في عينين منة، وأكتسى بهم وجهها، وقالت بصوت يقطر وجعًا :
_ أتعبك معيّ يا آجار، سامحني … أنت لست مضطرًا لهذا صدقني …
قاطعها آجار بضيق مماثل :
_ يا إلهي، لا تفتأي في حديثك الغريبُ هذا! هل أضرب رأسك حتى يعود لوعيه؟
قالها، وهو ينخز رأسها بسبابته في رفق، فزمت شفتيها، قائلة :
_ سأخبر خديجة حينها، وهيا أتصل ليّ بها لقد مللت الجلوس معك.
لوى آجار فمه ساخرًا وهو يقول في تهكم :
_ مللتي ماذا يا حبة عيني؟ إذن من ذا الذي كان يولول وهو يقول ” آجار إياك أن تتركني، آجار إياك أن تنهض من جانبي ”
قهقهت منة عليه وهو يقلدها، وضربته في ذراعه قائلة :
_ أنا لا أتحدث بتلك الطريقة!.
_ بلى تتحدثين كفاكِ كذبًا أيتها الأثمة …
بتر عبارته عندما لاحظ شرودها في اللاشيء، وهم أن يستفسر عن سببه، لكنها باردته قائلة بصوتٍ حزين شارد :
_ ماذا ستفعل عندما أموت؟ هل ستتزوج وتنساني؟
أعتصر الألم قلبه للهجتها، وأطل الدمع في عينيه فشاح بوجهه متنهدًا في حرارة، ثم ألتفت إليها، وأغتصب بسمة وهو يقول في مرح :
_ ماذا سأفعل؟ برأيك ماذا قد أفعل؟! سأتزوج بالطبع وهل سأظل أعذبًا وما زلت شابًا.
أدارت منة رأسها إليه وهبت جالسة فجأة، وطفقت تضربه بعشوائيه جنونية وهي تقول بغيرة :
_ ماذا ستفعل؟ ستتزوج؟ وهل سأتركك تتزوج سأقتلك قبل أن أموت حتى لا تفكر حتى.
صاح آجار وهو يتلقى ضرباتها ضاحكًا :
_ كفى جنونًا يا مجنونة، بالأساس سؤالك غريب! الأكيد اني سأتزوج غيرك!
قالها، بغية إثارة غيظها، لكنها بغتة أمسكت بذراعيها معدتها متألمة، فوثب فورًا ومدد جسدها وهو يقول في عتاب :
_ كفاكِ جنونًا حتى لا تتعبين، أستلقي هيا!
عاد لجلوسه وصمته، وغشاه السكون، وجعها، تأوهه كخنجرٌ يطعن فؤاده فيدميه ويرديه قتيلًا، أصطبغ صوته بألمٌ دفين، وحزنٌ سحيق وهو يهمس بجانب أذنها، وكفه يمسح على خصلاتها و وجهها :
_ يا ليتني أستيطع أن أأخذ عنك كل ألم تشعرين به ولا أراكِ هكذا؟
ليت بأمكاني أخذ كل تعبك وانقله لجسدي وتكونين بخير، فكل شيء هين لقلبي إلا وجعك، وتألمك … أعذريني على عجزي الذي يكبلني فما أقدر على تهوين، وتخفيف الوجع عنك، سامحيني رجاءًا.
طأطأ رأسه يخفي عن عينيها دمعة سالت رغمًا عنه، محاها لكن كيف يُمحي المرء بكاء قلبه؟ كيف يعبر عن ذاك الوجع الذي يمزق الفؤاد إربًا؟ كيف يكتم صراخه؟ كيف يداوي جرحًا غائرًا في السويداء.
غشى الدمع عينيه وهو يرفع عينيه إليها، وقسرًا خرج صوته متهدجًا، باكيًا كصوت من يموت ذبحًا، يطلب النجاة فما يلقى :
_ يا حبة القلب، قلبي يرفرفُ كالذبيح بين جوانبي خيفة من فقدك!
جفناي يخشيان أن يسبلا فلا يريانك مجددًا.
وفؤادي يهاب أن يغفل عنك فلا يجدك!
وروحي تجزع أن تغيب عن الطوف حولك فتنزلقين منها!
سكت هنيهة، بكت فيها عينيه المسبلتين وهو يتنهد في ألم، ثم قبل كفها ولثم عينيها الباكيتين، وهمس :
_ أخاف من رحيلك يا منة لا تسمحي للمرض أن يأخذك مني، لا تتركيني أعاني، لا تذريني لوحدتي فلو فقدتك ستلتهمني ولن أعود للحياة مجددًا … كوني بخير لأجلي.
رمت منة نفسها بين ذراعيه، فضم رأسها لصدره بقوة خوفًا أن لا يسمح له القدر بضمها مرة أخرى بين ذراعيه.
فجأة! دق الباب فابتعد فورًا عنها مكفكفًا دموعه، فأطلت خديجة وهي تقول ببشاشة :
_ كيف حال حبيبة قلبي اليوم.
أنفجرت أسارير منة، وأشرق وجهها …
لا غرو! فثمة أشخاص حين رؤيتهم يشع الوجه نورًا من شدة الفرح.
أشخاص رؤيتهم قادرة على تطيب قلوبنا من أوجاعها.
لا عجب أن كلماتهم بلسم، ولهم نورًا في القلب ينعكس على وجوهنا.
دلفت خديجة وسألت آجار عن حاله، فرد :
_ بخير حال يا خديجة، سأتركما وأخرج لـ أراس.
وغادر مغلقًا الباب خلفه، حينذآك قبلت خديجة وجنتاي منة، بعد ما رفعت نقابها، وجلست قائلة :
_ ألا تشعرين بتحسن اليوم؟
ردت منة مبتسمة :
_ حين رأيتك أصبحت أفضل. هل ليّ أن أسألك سؤال؟
في عتاب قالت خديجة :
_ وهل بيننا تلك المقدمات؟! أسألي ما تشائيين يا ابنني!
أدمعت أعين منة، وهي تسألها بصوتٍ باك :
_ ما هو الموت يا خديجة؟ هل سأعذب؟ أنا لم أفعل في حياتي أي شيءٍ صالح على العكس كنت أحادث شباب كُثر، لم أصلي يوماً ولم أقرأ القرآن ولا أعلم اي شيء عنه ولا عن نبي الله، ملابسي لم تكن مثل ملابسك فضفاضة قط، وشعري لم يُغطى أبدًا، هل سيغفر ليّ الله، هل مرضي هذا عقابٌ من الله.
لم تغب بسمة خديجة عن وجهها وهي تستمع إلى منة في اهتمام شديد، ثُم هزت رأسها، وهمست في حنو وهي تتكأ بمرفقيها على طرف الفراش وتميل على وجه منة :
_ نبي الله أيوب ظل ثمانية عشر سنة مريضًا …
قاطعتها منة ذاهلة :
_ نبي الله مريض ولثمانية عشر سنة؟! هذا لشيءٌ عجيب!
أردفت خديجة :
_ أستمعي إذن لقصته … لا غرو حينما أنهي ستلهمك بالصبر على كل بلاء، ستتعلمين أن بعد كل بلاء فرج، ومخرج، وعوض من الله الرحيم.
سكتت لبرهة ثُم أردفت تقول :
_ كان نبي الله أيوب عليه السلام صاحب أموال كثيرة، وله ذرية كبيرة، فابتلاه الله في ماله وولده وجسده، فصبر على ذلك صبراً جميلاً، فأثابه الله على صبره، بأن أجاب دعاءه، وأعاد إليه أهله، ورزقه من حيث لا يحتسب.
خسر نبي الله أمواله، وأولاده، ومرض مرضًا شديدًا، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبق له إلا زوجته دون ذلك فلا شيء فقد فقد كل ما يملك، وكانت زوجته تخدم الناس بالأجرة، وتطعمه، ورفض القريب والغريب نبي الله أيوب، إلا زوجته لم تفارقه لا صباحًا ولا مساءً إلا لخدمة الناس ثم ما تلبث أن تعود لرعايته، ولما طال عليه الأمر، واشتد به الحال، بعد ثمانية عشر سنة يدعوا أيوب ربه ويتضرع إليه { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين}
ران عليهما لحظة صمت، قبل أن تسترسل خديجة في جذل :
_ ولا عجب فدعاء نبي الله أيوب مثير للدهشة إذ أنه بعد ثمانية عشر سنة يقول إني مسني مجرد مسّ، طيلة هذه السنوات لم يجزع ولم ييأس بلى إنه حين دعا الله قال ” أني مسني الضر ”
عندئذ أستجاب له أرحم الراحمين، وأمره أن يقوم من مقامه، وأن يضرب الأرض برجله، ففعل، فأنبع الله عيناً، وأمره أن يغتسل منها، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر، فأنبع له عيناً أخرى، وأمره أن يشرب منها، فأذهبت ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً؛ ولهذا قال تعالى: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}.
ورزقه الله بالصحة وعفاه، ورزقه بالمال، والأولاد.
ربك رحيم رحمته واسعة، للصبر رحمة، وعاقبته الفرج، والمخرج، والراحة.
في قصة نبي الله أيوب نتعلم دائماً وأبداً في السراء والضراء، في العسر واليسر، أن نلجأ إلى الله، وأن نملأ قلوبنا صبرًا واحتسابًا على الله، فلا مجيب إلا الله عز وجل، ولا كاشف للبلاء إلا الله سبحانه وتعالى، فهو المعين والكافي، إن الله يختبر عبده في الصحة، والمال، والفقد ليعلم الصابر من القانط، كل ما يسلب منه هو خير لنا وسيرده الله بأحسن ما كان.
وقد ذكر حبيبًا قصة أيوب فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين، كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال: أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين. قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به، فلما راحا إليه، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غير أن الله يعلم أني كنت أمُرُّ على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله عز وجل، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق. قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام، أن {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} فاستبطأته، فتلقته تنظر، فأقبل عليها، قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان. فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك! هل رأيت نبي الله هذا المبتلى. فوالله على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك، إذ كان صحيحاً. قال: فإني أنا هو. قال: وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير – الأندر: البيدر – فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح، أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض). قال الهيثمي في “مجمع الزوائد”: رجال البزار رجال الصحيح.
يا منة ها هو نبي الله طال مرضه حتى عافه الجليس واوحش منه الأنيس وأُخرج من بلده وألقي بعيدًا، لم يكن له إلا زوجته تخدم الناس بالأجرة صابرة محتسبة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت:
“يا رسول اللّه، أي الناس أشد بلاء؟ قال: “الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وان كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ضمت خديجة كف منة في راحتيها وهي تستتبع، قائلة :
_ كوني صابرة محتسبة حامدة مثل نبي الله أيوب عليه السلام، يقول الله عن أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(44) }ص
فقد كان أيوب دائم العودة إلى الله بالشكر والصبر.
نهرين جاريين من الدمع على خدي منة، التي همهمت باكية :
_ يا الله أني راضية يا خديجة وسأصبر مهما طال وعظم البلاء.
أومأت خديجة بأهدابها، وقالت :
_ أن الله قريبٌ منكِ يا منة (عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)
مسحت منة دموعها، وقالت برفق :
_ يا الله من الجيد أنك بجانبي يا خديجة، منذُ عرفتك وأنا أشعر بأني لم اعد وحيدة في هذه الحياة … لو كان ليّ أخت لم تكن ستكون مثلك يا خديجة.
غمغمت خديجة ضاحكة :
_ أنا اختك يا فتاة ولن أتركك ابدّا ثُم سيصلن غدًا من سيصيبوكِ بالجنون أكثر وسيجعلوا كل تعبك كأنه غير موجود.
قطبت منة حاجبيها، وقالت في دهشة :
_ من هن؟
_ اخواتي … الصراحة هن أقاربي ولكنهم أقرب من اخواتي سنكون كلنا معكِ.
هتفت منة في حبور :
_ يا الله كم هذا رائع، لقد شوقتيني لرؤيتهن.
وقالت بصوت يموج بالأمتنان :
_ أشكرك على وجودك بجانبي رغم كل ما تمرين به ورغم كل من فقدتيه من أحبه.
غمزت لها خديجة، وقالت :
_ أنا لا اتخلى عنك مهمًا كان يا فتاة.
تنهدت منة وقد بدت عليها الراحة، ثم ألتفتت إلى خديجة قائلة في اهتمام :
_ كم أتحسر على كل ثانية مرت وأنا بعيدة عن الله، وعن لذة الصلاة وقربه، أتحسر لأني لم أهتم لأعلم سيرة رسولي.
هتفت خديجة سريعًا في حماس :
_ لم يفتئ لديكِ وقت يا حبيبة قلبي ما رأيك أن نسمع معًا سيرة الرسول للشيخ سمير مصطفى واعهدك على أنك ستعيشين في رحاب الرسول وزمانه وستهوين كل حرف سينطق به الشيخ سمير، لقد سمعتها قبلًا لكني لا أزل كل فترة يغمرني الشوق إليها مجددًا.
تراقص قلب منة في شوقٍ، وقالت في شغفٍ وهي تبعد طرف الفراش، وترفع الملآة، قائلة :
_ هيا، هيا اسرعي تعالي بجانبي وشغلي لنسمع معًا.
ضحكت خديجة في إنطلاق وهي تندس بجانبها ولم تلبث أن شغلت أول درس من ( السيرة النبوية للشيخ سمير مصطفى جزاه الله كل خير عنا، وفك أسره)
في الخارج صمت تام خيم على أراس وآجار الجلسان أمام الغرفة، قطعه أراس وهو يسأل آجار دون النظر له :
_ أتشعر أن الدنيا تضيق بك ذرعًا، مخنوقٌ كأن ثمة قبضة يد فولاذية تعصر عنقك؟ تريد البكاء، والصراخ، أثمة جرحٌ غائرٌ في القلب لا تدري كيف تداويه؟ تفرقت بك السبل؟ تشعر بالوحدة، والتوهة؟
ألتفت له آجار هادئ وتلاقت نظراتهما لبرهة قبل أن يؤمأ آجار في بطئ، فضمه آراس وتعانقا عناقٌ أخوي يشدُ فيه على أزره، ويشركه في ألمه، ثم ربت على ظهره مردفًا :
_ كل ما تشعر به سيتلاشى ما أن تسجدُ للرحمن وتبكي فينزع عنك هم الحياة وما فيها، حاشاه أن يردك خائبًا من امام بابه، حاشاه أن لا يطبطب على قلبك، سيسمع فهو السميع العليم، القريب منك يعلم بك وبما تشعر فاذهب إليه وادعوه وتضرع له وألح في الدعاء، ستجد راحة لم تذقها يومًا، وسيستجيب فقط أحسن ظنك فيه.
رفع آجار رأسه إليه، وقال :
_ بت تتكلم مثل خديجة!
_ ربما لأنها باتت محور أيامي وسحبتني من الضلال إلى الهداية.
_ليت كان ليّ نصيب من العيش معها!
أطلت الدهشة من عيناي أراس وهو يهتف :
_ ماذا؟
نفى آجار قائلة :
_ لا شيء، على ما يبدو إني أهذي.
نهض أراس وهو يقول:
_ ربما لو لم أن اثق بك لكنت فهمت جملتك خطأ …
بتر آجار عبارته بقوله :
_ إلى أين ذاهب؟
_طلب آركان رؤيتي فسأذهب لأرى!
هم بالرحيل لكن استوقفه آجار قائلًا في تذكر :
_ أنتظر.
قالها، وقام، و وقف بجواره وهو يسأل في همس خافت :
_ هل صحيح ما عرفته؟ هل بالفعل بلغت عن كل الرجال؟ بلى وهددت أدورد بالسلاح وأنت تسرق المستندات.
عقد اراس ذراعيه في هدوء، وقال في برود :
_ نعم فعلت ذلك، أبتلك السرعة وصلتك المعلومات؟
في غصب هتف آجار :
_ فيما تتحدث يا هذا؟ كيف تفعل هذا بمفردك؟ لماذا لم تأخذني معك؟ هل من عاقل يدعوا رجال بينهم قتالين قتلة ويسرق منهم مستندات واوراق ويأخذ منهم اعتراف ثم يهددهم بكبيرهم ويرحل.
في استهتار رد أراس :
_ كان نجيب معي لا تقلق، لقد حُل الآمر إلى الللقاء.
شيعه آجار بنظراته في تحسر وهو يغمغم :
_ يا لك من جريئ حقًا.
وفجأة! رأى ماهر الذي ينتحل خالد شخصيته يقبل فنفخ بضيق وهو يغمغم :
_ أوف، وهل كانت تنقصه هذا أيضًا؟
أقترب خالد حتى وقف أمامه، وسأله :
_ ما لي أراك ممتقع الوجه من رؤيتي!
تبسم آجار قسرًا، وقال من بين أسنانه :
_ ما هذا يا رجل وهل ليّ ألا أفرح؟
_لا ييدو ليّ هكذا؟ كيف حال زوجتك؟
رد آجار بحنق :
_ بخير، ما سبب مجيئك؟
رفع خالد إحدى حاجبيه وهو يرد عليه في مكر :
_ ما سبب مجيأي؟ ألم تسمع آخر الأخبار ام ماذا؟ لقد نفذت وعدي لك، وماتت لمار محروقة!
لم يُخفى على خالد أختلاج ملامحه على ذكر موت لمار، وذاك الوجع الذي مر في عينيه، فقال :
_ ماذا ألست سعيدًا؟ ألم تقتل هي والدك لقد اخذت أنتقامه!
هُنالك، أرتاحت قسمات وجه آجار وهو يرد في هدوء :
_ بالفعل!
عنذئذ فُتح باب حجرة منة وأطلت خديجة، قائلة :
_ هل غادر اراس يا آجار.
فألتفت لها مجيبًا، فعادت إلى الحجرة دون ان تغلقها وجلست قريبة من الباب وهي تنظر لخالد خلسة، الذي مال على أذن آجار، هامسًا :
_ لقد خلصنا على لمار، ما رأيك بي …
قالها، وأشار برأسه على خديجة فدفعه آجار بغلظة، صائحًا :
_إياك وأن تفكر من الأقتراب منها حتى.
فرفع خالد كفيه وهو يتقهقر إلى الوراء، مرددًا :
_حسنٌ حسنٌ، لن اقترب!
🌾 اللهم أغفر ليّ خطيئتي يوم الدين 🌾
دلف أراس إلى منزل أركان وقد علم إنه قد كُشف أمره بسبب إرسال هنا إلى خالد
فرحب أركان به هو وهنا وجلس ثلاثتهم وأركان يقول في غيظ :
_ أخبرني كيف علمت أن ماهر هو ذاته خالد منتحلًا في شخصه؟
زفر أراس في برود وهو يشبك أصابعه خلف رأسه مسترخيًا في مجلسه، وقال :
_ علمت في الحفل حين ألتقى هو وخديجة وأسفر عن نفسه!
ضرب أركان براحته على ذراع المقعد وهو يصيح فيه :
_ هل أنت غبي يا هذا لماذا ترسل أختك هلا أخبرتني؟
لقد كشفتنا بطريقتك تلك، أدلوا ليً الآن ومن يعرف غيرها؟ من اخبرت أيضًا؟
في شراسة التفت له أراس، هاتفًا :
_ صوتك لا يعلو عليّ يا أركان، ولم يعرف أحد غير هنا بالأساس، لست غبيًا لأخبر أيًا كان؟
في ثورة من الغضب قال أركان وهو يفتح ذراعيه متعجبًا :
_ لم تخبر احدًا؟ حسنٌ وكيف علم رجل ماهر إذن هلا اخبرتني؟
في برود مثير للغيظ هتف أراس وهو يهز كتفيه :
_ ما ادراني يا رجل.
وصمت متذكر حينما أخبر هنا، واوضح :
_لم يكن احد معنا حين أخبرتها!
أيدت هنا كلامه، بقولها :
_ معه حق بالفعل، لم يكن أحد موجودًا!
ضرب أركان رأسه في ظهر المقعد، قائلًا وهو يتميز غيظًا :
_ إذن كيف عرف يا رجل؟ سأُجن بحق الله.
فجأة! تبدلت ملامحه وهو يقول في تريث مخيف :
_ ما الذي فعلته اليوم؟ بالله هل تود أن تصيبني بجلطة تودي بحياتي!
نهض أراس في ضيق، قائلًا :
_ ماذا فعلت يا روحي؟ هل سوف أبرر لكم بالدور، أتركوني في حالي هذا شأني ما لكم بيّ.
ولم ينبس بكلمة أخره إنما غادر وهو يرغي ويذبد، جلس خلف عجلة القيادة وأمسكها بقبضتيه وارتسمت بسمة مخيفة على ثغره، ثم ضحك بغتة، واسترخي في مقعده متذكرًا :
” لقد أمر باجتماع عاجل حضر له جل الرجال الذين يعملون في اعمال غير مشروعة، في البيت الآمان المخصص لأجتماعهم وقد عكف على أن يجعلهم يجلبوا معهم مستندات ستدينهم أشد إدانة، وهنالك أشهر سلاحه على الكبير فيهم، فشهق الرجال خوفًا، وأشهاره كانت بمثابة بدأ لرجاله ونجيب أن يستلوا اسلحتهم ويسددوها على رؤوس كل الموجودين، وهتف في برود وهو يهز قدميه :
_ لا، لا لا تخافوا لن اقتل أحد منكم إلا إذ صدر منه مبادرة ستثير ريبتي، والآن مثل الشطار سلموا هذه المستندات إلى نجيب و…
قاطعة أحد الرجال مرتجفًا :
ما الذي تقوله يا سيد اراس، هل تعلم أن هذه المستندات ستوديني بنا إلى الجحيم!
رد أراس في برود :
_ أعلم يا رجل وانا الجحيم نفسه.
وألتفت إلى نجيب، مستطردًا :
_ ماذا تنتظر، هيا خذ منهم كل ما معهم.
سرى الخوف جميعًا في الرجال، وتسلل إلى أفئدتهم التي راحت ترتجف، وحين رفض احد الرجال الأنصياع، استدار أراس إليه وهو يقول في برود :
_ لماذا ترفض ان تعطيه يا عزيزي ألبرد هيا كن مطيعًا فأنت تعلم علم اليقين أنك لن تستطع مجابهتي!
قال ألبرد مرتعشًا وهو يتصنع الثبات :
_ لن افعل، أنت ستهلكنا جميعًا، ما الذي جرى لك؟ لن تسلم أنت تعلم هذا؟ أليس كذلك.
_اعلم يا روحي لا تخف بشأني!
قالها أراس، و في طرفة عين كان يطلق رصاصة على قدمه فسقط ألبرد من فوق المقعد وهو يصرخ من الألم ممسكًا بقدمه، عندئذ هاج الرجال جميعهم وسرى بينهم الأرتجاف، واطل الخوف من عيونهم وعلى الفور كانوا يسلموا كل ما يملكوا من مستندات، وأوراق.
نهض أراس وهو يلكز ادورد بفوهة سلاحه :
_ قم يا حبيبي، هيا.
طوق عنقه بذراعه وما زال فوهة السلاح ملتصقه بجبهته وتراجع به للخلف حتى خرج من الغرفة هو ورجاله، ثم دفعه للداخل وأغلق الباب في احكام، قائلًا :
_ اقضوا معًا يومٌ جميل يا رجال، وداعًا.
فاق من ذكرياته وهو يضحك ثُم ادار محرك القيادة مبتغي المستشفى ليعيد خديجة للمنزل، وبالفعل ذهبت معه وفي الطريق كان يسألها عن صحة وتقدم منة في العلاج حتى رن هاتفها، فردت متلهفة :
_ السلام عليكم، يوسف حبيبي عامل إيه؟
رد يوسف السلام، وقال في اشتياق :
_ الحمد لله وحشتيني يا خديجة اوي، البنات ركبوا وبكرا هيكونوا عندك، أنتِ هتيجي معاهم لما يرجعوا؟
رددت عليه خديجة بذات الأشتياق :
_ وأنت كمان وحشتني جدًا، إن شاء الله يا حبيبي، قولي محافظ على حفظ القرآن؟
أجاب يوسف في حماس :
_ ايوة طبعًا، بس أتوحشت اسمع عن الرسول والصحابة والأنبياء منك، وكمان انا دلوقتي بكلمك عشان عاوز اعرف قصة عبد الله ابن حذاقة السهمي فقد أثارني أمره مع ملك الروم وسمعت عنه فقولت لازم اسمع قصته منك .
استرخت خديجة في مقعدها، وهبت نسمة على قلبها روحت عنها أمر الدنيا وما فيها، وكأنما ذهبت في رحاب ذلك اليوم، وطافت روحها إلى ابن حُذاقة مع ملك الروم، وإذ بعينيها تتألق في جذل وتلمع، وقلبها يخفق في شوق لذاك المشهد العظيم ، فهمست بصوتٌ رخيم يستروح له الفؤاد :
_ ابن حُذاقة الذي قال عنه عمرو الفاروق.
ولم تدري أن يوسف يهمس مع همسها، ليقولان معًا:
_ حَق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حُذاقة، وأنا أبدأ بذلك.
سكتت خديجة هُنيهة أسبلت أهدابها وهي تستنشق الهواء، وتقول مأخوذة :
_ آهٍ من عبد الله بن حذاقة، إنه لبطل الأبطال وحق على كل مُسلم ان يقبل رأسه.
بطلٌ يحق على كل مسلم أن يذكره وبالأخص حادثته مع ملك الروم.
بطلٌ وجب على كل أهل أن يذكروه لأولادهم ليعلموهم البطولة الحقة.
إليك إذن بطل قصتنا عبد الله بن حذاقة لقد كان لإبن حُذاقة لقاء أتاح له الإسلام فيه بلقاء كسرى ملك الفرس، وقيصر عظيم الروم.
وإنهما حادثتين لم يزل يذكرها الدهر، ويرويها التاريخ، وترسخ في القلوب، ولنكتفى بحادثة ابن حُذاقة مع قيصر عظيم الروم.
لقد كان لقاؤه مع قيصر في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنها قصة من روائع القصص وأبهاها.
ففي السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث عمر بن الخطاب جيشًا لحرب الروم فيه بطلنا عبد الله بن حُذاقة السهمي … وقد كان تناهى لقيصر أخبار المسلمين، وشجاعتهم وإيمانهم القوي الراسخ، واسترخاص النفس في سبيل الله.
ربما كانت تناهت له وعلم لكنها حتمًا نُقشت في قلبه مع موقفه بابن حذاقة.
فأمر رجاله إذا ظفروا وامسكوا بأسير من أسري المسلمين أن يبقوا عليه، وأن يأتوه به حيًا له …وشاء الله عز وجل أن يقع عبد الله بن حُذاقة السهمي أسيرًا في أيدي الروم، فحملوه إلى ملكهم وقالوا :
إن هذا من أصحاب محمد السابقين إلى دينه، قد وقع أسيرًا في أيدينا، فأتيناك به.
نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذاقة طويلًا ثم بادره قائلًا :
_ إني أعرض عليك أمرًا؟
فقال عبد الله : وما هو؟
فقال القيصر : أعرض عليك أن تنتصر … فإن فعلت، خليتُ سبيلك، وأكرمت مثواك.
فقال الأسير عبد الله في حزم : هيهات … إن الموت لأحب إليّ ألف مرة مما تدعوني إليه.
فقال قيصر: أني لأراك رجلًا شهمًا … فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني.
فتبسم الأسير المكبل بقيوده وقال : والله لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت.
فقال القيصر : إذن أقتلك
فرد عبد الله : انت وما تريد …
هُنا وجب علينا أن نقف إزاء هذا الموقف مبهوتين، مذهولين، معتزين، فخورين بعبد الله
لا غرو إنه لشيءٌ عجيب، كم بقلبه من بسالة وجسارة عبد الله ألا يخاف الموت؟ وملك الروم يقول له ” إذن أقتلك؟ “ألم يتزعزع؟
ثُم ماذا! وهو يعرض عليه ان يشاركه في سلطانه فكان العجب أن ملك الروم بملكه وأماله لم تغر عينيه، ولو أحدٍ آخر لأغرت حتمًا، لكنه الإيمان الصادق في قلبٌ صاحب محمد ﷺ
حينذاك أمر القيصر أن يصلبوا عبد الله بن حذاقة وقال لقناصته: ارموه قريبًا من يديه.
وهو يعرض عليه التنصر فأبى.
فقال: ارموه قريبًا من رجليه، وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى.
فأمر أن يكفوا عنه، وطلب ان ينزلوه عن خشبة الصلب، ثم دعا بقدرٍ عظيم فصُب فيها الزيت، ورُفعت على النار حتى غلت، ثم دعا بأسيرين من أساري المسلمين، فأمر بأحدهما أن يُلقى فيه فأُلقى، فإذا لحمه يتفتت …
ثم التفت إلى عبد الله ودعاه إلى النصرانية، فأبى أشد من ذي قبل.
فلما يئس منه، أمر بأن يلقى في القدر التي أُلقي فيها صاحباه.
وُهُنا وجب علينا أن نغمض أعيننا ونتخيل، ونضع انفسنا مكان عبد الله، إذ الزيت يغلي أمامه، ورأى صاحباه الأسيرين يُلقوا بداخل القدر فإذا بلحم أجسادهم يتفتت أمام عيناه، ويرى العظم، لو أن أحدٍ غيره لخاف لكنه بطلٌ فاق كل الأبطال بساله، وشجاعة، بطلٌ جزعت الكلمات أن تجد له وصفًا.
فلما أقترب به من القدر دمعت عيناه، فقال رجال القيصر له: إنه قد بكى …
فظن إنه قد خاف وجزع، وقال : ردوه إليّ.
فلما وقف عبد الله بين يديه، عرض عليه التصرانية فأباها.
فقال : ويحك، فما الذي أبكاك إذن؟
قال : أبكاني أني قُلت في نفسي، تُلقى الآن في هذه القدر، فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهى أن يكون ليّ بعدد ما في جسدي من شَعر أنفُس، فتلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله.
يا الله من ابن حذاقة أيتمنى ان يكون له اكثر من نفس وتلقى كلها في هذا الزيت المغلي؟!
لا عجب إنهم أناس يأثرون دار القرار عن الدار الفانية.
لا غرو! أنهم علموا أن الآخرة خيرٌ وأبقى.
عند ذاك قال القيصر : هل لك أن تقبل رأسي وأخلي سبيلك؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أساري المسلمين أيضًا؟
قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله، أقبل رأسه فيُخلى عني وعن أسارى المسلمين جميعًا، لا ضير في ذلك.
ثم دنا وقبل رأسه فخلي ملك الروم أسرهم.
قدم عبد الله بن حذاقة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخبره خبره؛ فسر به الفاروق اعظم السرور، ولما نظر إلى الأسرى قال :
حق على مل مسلم ان يقبل رأس عبد الله بن حذاقة … وأنا أبدأ بذلك.
وقبل رأسه.
كانت مآقي خديجة تسكب الدمع بغزارة، حين قاطعها خالد قائلًا بصوتٍ متهدجٌ باك :
_ أنا حبيت عبد الله بن حذاقة اوي يا خديجة هو بطلي الحبيب، يا رتني كنت في هذا الزمن.
تماسكت خديجة وهي تردُ عليه :
_ سنراهم في الجنة إن شاء الله يا حبيب قلبي.
_إن شاء الله يا خديجة، مع السلامة هكلمك تاني بس هروح احفظ السورة اللي عليا.
ودعته خديجة وأغلقت، حين إذ تذكرت أراس الذي نسته في غمرة سيرة حُذاقة التي حلقت بها إلى السماء، فألتفتت إليه فوجدته أوقف السيارة أمام المنزل وأسند ظهره للخلف ويستمع إليها في اهتمام متأثر فتبسمت له حين بادر، قائلًا :
_ مما مصنوعة أنتِ يا خديجة؟ أأنتِ بشر حقًا أم ملاك أتاني لينير عتمتي، ويحلق بيّ في رحاب الصحابة؟
كيف كل أيامي تكون برفقتك شمسٌ وهاجة، وسراجٌ منيرًا، كيف أصبحت قلبِ الذي ينبض؟
أطرقت خديجة برأسها خجلة، ثم قالت متهربة :
_ هل تدري ماذا أتمنى؟
بدا التساؤل في عينيه، فاستطردت :
_ أن يكون ثمة من يعلم أطفالنا سيرة الرسول والصحابة والأنبياء جميعًا، يا ليت هُنالك من يجمعهم حوله ويعلمهم.
🌾 اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد 🌾
ترجلت شيماء من سيارة أجرة أمام البناية التي تقطن فيها من عودتها من منزل آل الشرقاوي في هذا اليوم الذي قضته برفقة البنات قبل أن يسافرن، ومشت داخل البناية وما همت أن ترتقى الدرج إذ شعرت بيد فولاذية تسحبها إلى اسفل الدرج في زاوية مظلمة، وكادت صرخة تفلت منها لولا ان كتمتها يدٌ قوية، وشعرت بصدرٍ صلب يحتك بظهرها، وصوتٌ سرى له الخوف في وجدانها، يقول بجانب اذنها :
_ إياكِ تفتحي بوقك عشان والله أأقتلك وأنتِ عارفة.
لم يكن إلا صوت عبد الله، صوت كان في السابق تهوى سامعه واليوم تبغضه، غريب امر المرء كيف لحبيب أن يصبح فجأة عدو، ومن قريب إلى غريب؟
لقد أحبته حبًا جمًا، حبًا كان في فؤادها وطنًا، حبًا ظنت أنه لن يطرقه باب الفراق فكانت واهمة تعيش في غياهب الظلمات والعمى، وحسبته حبيب لن يخذل، ولن يرحل، ولن يبتعد يومًا، فإذا به يطعنها طعنة لن تبرأ منها، لقد أتى الفراق قاسمًا قلبها إلى شظايا لم يعد لكسره إصلاحًا.
هوت دمعتين من عينيها في قهر وهي تحاول الأفلات.
وفجأة! سكن جسدها حينما أستشعرت فوهة سلاح في جنبها مع صوته :
_ هشش أهدي بدل والله أفرغ المسدس ده فيكِ ولا يرفلي رمش…

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية  كاملة اضغط على : (رواية جحر الشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى