Uncategorized

رواية وصية والد الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم علي اليوسفي

 رواية وصية والد الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم علي اليوسفي

لم يزل الجمود هو كل مااستطاعت أن تمنحه اياه، رغم وضوح كلماته إلا أنها مبهمة بالنسبة لها، نظراتها إلى ملامحه الواثقة كانت حَذرة، لذا تساءلت بحيادية: مالذي تقصده أنت؟؟
سرط ريقه بامتعاض ، فعلى مايبدو هو اليوم مضطر للاعتذار والتبرير أكثر مما تخيل ، زوى مابين حاجبيه مجيبا بتقطع، وقد انقبضت ملامحه: خطأي آماليا ، إبعادك عن أدهم….
– أنا ابتعدت بإرادتي مجد.
كانت نبرتها حاسمة وهي تقاطعه بثبات ، وقد فهمت آلامَ يرمي، لم تقبل كرامتها أن تسمع منه أكثر بعدما أهانها ، فأضافت بقسوة فاجأته: لكنك كنت السبب ، فلا ترتدي الآن قناع البراءة أمامي ، وتُمني عليّ محاولتك جمع شملنا، لأنه ببساطة أمر مستحيل.
زادت عقدة حاجبيه فيما هي توليه ظهرها ، متابعة مسيرها بخطوات ثابتة، غاضبة، تدبّ الأرض بقوة،وتشعر الآن بكل كراهية العالم حيال نفسها ، هل تركت الأيام جميعها، واختارت اليوم بالذات لتترك سيارتها في المنزل؟؟
حقا أكثر قراراتها غباءً، إلا أن تفكيرها الأجرد لم يمنعها من متابعة سيرها الحثيث بسرعة، قرار الهجر اتخذته بعد سلسلة عذابات متتالية ، لم يكن سهلا البتة ، وتعلم ماينتظرها من ألم وتنكيل في الفراق، لكنها لن تتراجع….
ظل يتابعها حتى اختفت عن نطاق رؤيته، فليكن صريحا ، لم يتخيل ردة فعلها تلك، كان الذهول الإحساس الوحيد الذي شعر به الآن ، اترفض عرضاً كعرضه هو؟؟
ياللعجب !!!
…………………………………
وصلت منزلها أبكر من العادة مع شعور رهيب بالتضخم في كاحليها ، حسنا ، نظرا لمسيرها المتعجل مسافة طويلة لن تتوقع أقل من هذا !!!
تحاملت على هذا الألم الفظيع لتصل إلى باب القصر، وقبل أن تطرق الجرس كان الباب يُفتح تلقائياً ، عادت للخلف بتفاجؤ لتقابلها نور، والتي لم تتوقع قدوم آماليا للمنزل الآن ، استعادت الأخرى ثباتها لتعيد جمود ملامحها، فتجاوزت نور تخطو إلى الداخل.
ضغطت نور على شفتيها لتلتفت صوب أختها قائلة بإصرار: يحب أن نتحدث آماليا.
توقفت آماليا عن المسير، لكنها ظلّت تعطيها ظهرها، أغمضت عينيها وهي تستمع إلى حديث نور المُستجدي: أرجوك آماليا ، اسمعيني فقط….
قاطعتها وماتزال على حالها، بنبرة لا إحساس فيها: لا تحاولي نور، لا حديث بيننا .
رغم تأهبها مسبقاً لرد فعل غير متوقع منها، لكنها تعترف ، صدمها جمودها، فيما اردفت الأخرى بمسحة تهكم ، غير عابئة بدهشة شقيقتها الصغرى: لن ينفع اعتذارك عزيزتي ، فأنتِ لم تكسري ظفري ، لقد دمرتِ الجسور التي بيننا….
رمشت عيناها بجزع محررةً دمعة ، فرت من بين جفنيها، يا لهذا العناد، لا بل يا لتلك القسوة ، أين آماليا الطيبة ؟ ذات القلب النقي والتي كانت متسامحة دوما؟ ؟؟
لم تجدها الآن ، فقدتها ببساطة….
تابعت آماليا طريقها صوب المطبخ، لم يكن بها من طاقة لتصعد إلى الأعلى ، فلم تلحظ عليا التي كانت قد خرجت من غرفتها لتوّها ، وقد رأت وسمعت ماحدث بينهما ، لم تعرف بعد أصل الخلاف وهذا الجفاء بين الشقيقتين، إلا أنها لم تخفي دهشتها من تصرف آماليا ، ترى مالذي حصل لتصل آماليا إلى هذه الدرجة من بلادة المشاعر ؟؟؟
أعادت انظارها إلى نور التي سالت عبراتها بعد رحيل أختها ، ربما لا يجب أن تندهش لهذا الحد، فأخطاؤها لا تعد، ويبدو أن آماليا قد نفذ رصيد التسامح لديها ، أفتلومها وهي الملام الوحيد هنا ؟؟؟
……….. …………………………….
ترجلت ريما من سيارة أدهم قبل أن تستقر في مكانها ، حثت خطاها السريعة إلى المنزل يتبعها أدهم الذي ترك بابه مفتوحا ، لم يصدق أذنه عندما هاتفته أم ميسر وهو يدخل إلى المطعم لتوه، برفقة ريما ، لتخبره بأن مجد قد عاد ، حقا متى عاد؟؟ بل وكيف خرج بحق الله؟؟
ألم يكن عنده منذ بضع ساعات فقط؟؟
لا يعرف حقا، الا أنه لم يكن مطمئناً البتة ….
ذُهل حالما دفع الباب المفتوح، ليرى مجد واقفاً هناك في منتصف الصالة ، أفاق من دهشته على صراخ ريما السعيد ، ثم قفزت لتعانق مجد بحرارة ، كأنها لم تره منذ سنين، إنها فقط عاطفة أمومتها الجيّاشة…
تقدم الآخر من مجد ، وفي عينيه سؤال ، وعلى تعابيره شك وريبة، قرأها مجد بذكاء فابتسم بحزن هامساً: لقد أخذت الإذن من الطبيب أدهم ، لم أهرب فلا تقلق.
رمقته ريما بنظرة مؤنبة ، فتلاقى حاجباه باستهجان، هل أخطأ حقاً بشكه بمجد؟؟ ألا يجب ان نأخذ حذرنا؟؟ ألم يخدعنا من قبل؟؟
رغم أن فؤاده آلمه على ملامح شقيقه الخائبة، إلا أنه ظلٌّ محافظا على جموده، وضع كلتا يديه في جييبي معطفه متسائلاً ببرود: إذاً ، لماذا خرجتَ ؟؟؟
رفعت ريما حاجبيها وهي تطالعه باستغراب مختلط بإدانة ، قابلها هو بأخرى باردة مستنكرة ، أما مجد فقد فهم ما عنى شقيقه ، وللحق فهو لا يستطيع لومه، مافعله من قبل كان كفيلا بزعزعة أدهم فيه، اجترع ريقه المرير بانكسار ، وابتسامته الشاحبة مرتسمة على محياه، ثم تحدث ببساطة: لقد خرجت لتصحيح ما فعلته أخي.
لم تفهم ريما مقصده بالضبط ، فيما ضاقت عينا أدهم بتخمين مريب، وقبل أن يسألاه عن مغزى حديثه أضاف ، بظهر مصلوب وكتفين مفرودين بثقة: أريد تقويم أخطائي أدهم ، ساعداني أرجوكما….
بان الذهول مختلطا بحيرة على محياها، تطلعت بغرابة إلى أدهم ، والذي لم يحد عن وجه مجد قيد أنملة ، يبحث فيه عن أي إشارة تجعله يشكك في صدق أخيه، لكن الثقة المرتسمة على وجهه جعلته ينفي أي ريبة قد تراوده في جدية مجد، تساءلت ريما بارتياب: مالذي تقصده مجد ؟؟ إلى أين تريد الوصول ؟؟
اتسعت ابتسامته وهو يجيبها بكل ثقة وهدوء: يجب أن تتطلقي من أدهم……
…… ………………. ……………
جالسان على الأريكة العريضة في الصالة، والصدمة حليفهما بعدما اخبرهما مجد بتفاصيل لقائه بأيمن ، وكذلك آماليا.
رمشت ريما بدهشة وهي تتطلع صوب أدهم الجامد، لا تعرف حقيقة مشاعرها الآن ، رغم طيف السعادة الذي تراه قريبا، إلا أنها تشعر بغصة خانقة لأجل أدهم ، ساد الصمت التام، إلا أنه كان مخيفا ، كالهدوء ما قبل الانفجار، حتى قطعه أدهم نفسه عندما ضرب على فخذيه ، نفخ بامتعاض قبل أن يختلق بسمة هشة قائلا: حقا كما قلت مجد، حان وقت طلاق ريما.
تطلع نحوها ، وهو حقا لا يرغب برؤية الشفقة في ملامحها، فهمس ببساطة: أنتي طالق ريما.
انتفض واقفا في اللحظة التالية، حوّل بصره صوب شقيقه الذي تساءل بشك: ماذا عنك أنت أدهم ؟؟
تنهد بأسى أخفاه خلف سعادة كاذبة مهلهلاً: ماذا عني ؟؟ ألم تقل أنها رفضت؟؟
حرك مجد رأسه موافقا بحذر ، فرفع أدهم كتفيه مصطنعا اللامبالاة قائلا: إذاً كما تشاء، فلتفعل مابدى لها..
تحولت ملامحه إلى القتامة تالياً وهو يضيف ، بتعابير واجمة بتوعد: وانا سأفعل ما يحلو لي.
غادر عقبها بوتيرة متسارعة، ودون شك هو كان يهرب منهما فقط، ومن نفسه كذلك.
تنهدت ريما وقد تهدل كتفيها بحزن ، فركت كفيها ببعضهما وهي تفكر في حل لمعضلة أدهم ، وكمن قرأ مايدور في ذهنها همس مجد: لا تفكري في الأمر كثيرا ريما.
رفعت رأسها إليه ، وقد تلاقى حاجباها بعدم فهم، بينما أكمل مجد بإنهاك: الزمن كفيل بمداواة الجراح ، وترميم الفوهة بينهما فلا تجزعي.
طالعته بإعجاب مخلوط بفخر، متى كبر مجد وصارت كلماته رزينة هكذا؟؟
فطنت لتوها إلى وقوفه ، فقابلته متسائلة باستغراب: إلى أين تذهب مجد ؟؟
تبسم ببساطة ليجيب مربتاً على كتفها: سأعود إلى المصحّة ريما، لقد تأخرت على موعد عودتي.
تنهد قبل أن تتسع ابتسامته هامساً: سأخبر أيمن بآخر التطورات.
احمرّ وجهها وأطرقت باستحياء، تأملها للحظة بسعادة غامرة، رغم ذلك الجزء المظلم داخله، الذي وعلى مايبدو لن يتركه بسلام، سار أخيرا صوب الباب تاركاً إياها بغبطتها ، تبعته فورا لتردف باستغراب: ستعود ؟؟ دون أن ترى نور؟؟
توقفت يده على مقبض الباب، ارتسم الأسى والحزن على تعابيره التي لجَّ بها الشوق ، هفا قلبه بمجرد سماع اسمها ، زفر من أنفه مغالباً حنينه، قبل أن ينطق بجمود مصطنع: لا أريد رؤيتها ريما، على الأقل الآن.
تجمدت مكانها هذه المرة ، دون أن تتمكن من اللحاق به وهو خارج من المنزل، أيعقل؟؟ أمجدٌ ذاته من تلفظ بتلك الكلمات ؟؟
خرج من منزله ليهيم على وجهه في الطرقات ، أيحسبون أنه عليه هيّن؟؟
لا وحق الله !! روحه تحوم حولها، وخافقه ينبض باسمها وحدها، حتى عيناه تراها في كل لوحة خلابة أو حوض زهور يانعة، لكنه لا يريد العودة إليها قبل أن يشفى تماما، قبل أن يدفن مجد القديم، ليكون رجلاً بمعنى الكلمة ، لتنيره هي بنورها……
……………………..
_ حمقاء ، غبية، ستكونين سبب مقتلي يوما لا محالة….
دمدم أدهم بتلك الكلمات ، وهو ينظر إلى الصورة الوحيدة التي يملكها لأماليا ، لماذا يجب أن تكون بهذا العناد ؟؟
نفخ بضيق كمن عرف الجواب، لأنها جُرحت أكثر بكثير مما ينبغي ، لكن ماذنبه هو؟؟ بل ماذنبها هي ؟؟ لماذا تعاقب نفسها بتلك الطريقة المجحفة؟؟
أغمض عينيه ليلقي بالصورة إلى الصندوق الأزرق ، ثم اعادهما إلى خزانته الحديدية ، أغلقها كما أغلق قلبه عليها ، أخفض رأسه بثقل عظيم، يبدو أن الأمر كما قالت هي، حبهما لعنة !!!
عقله يحرضه على تفاهات كثيرة، وصراع مهول نشب بين قطبيه المتناقضين، فقط رنين هاتفه من أنقذه من هذا الصراع……
………………………………..
كانت ريما قد انتقلت إلى غرفة أخرى منذ أن انكشف المستور، وقفت على نافذة غرفتها الجديدة، شاردة في الافق المعتم، لا تنكر أنها سعيدة مبتهجة، لكن مشكلة آماليا وأدهم تؤرقها، حسنا كما وصفتهما من قبل، عنيدان يليقان ببعضهما !!!
أضواء السيارة الكاشفة جذبتها من تفكيرها ، إنه أدهم ، لكن إلى أين هو ذاهب بمثل هذا الوقت؟ ؟؟
أيعقل أنه متجه الى منزل آماليا ؟؟؟
لا، لا تظن هذا ، فكبرياؤه لن يسمح له بالتذلل إليها أكثر من ذاك ، فقط تخشى أن يتهور…..
قررت المكوث بانتظاره، لكن ترقبها طال حتى غلبتها عينها، فغفت على أريكتها ملتفة بغطاء ثقيل، رنين متتابع أيقظها من غفلتها القصيرة ، فتحت مقلتيها بتثاقل وقد استغربت موقعها بداية ، بحركة عصبية حركت رقبتها المتشنجة عندما فطنت لأمر أدهم ، تأوهت بألم وهي تدلك رقبتها من الخلف ، ثم انتفضت لترى صاحب الاتصال المزعج.
_انه رقم إيمان !!
تمتمت بها ريما باستغراب وهي تطالع رقم صديقتها ، زاد قلقها عندما انتبهت لتوها إلى الساعة المدونة على شاشة هاتفها، لقد تجاوز الوقت الساعة الواحدة!!
لم تفكر مرتين وهي تحادث إيمان المنهارة من البكاء ، وتعدها بالقدوم إليها ، ارتدت أقرب ما وقعت عليه يديها من الثياب ، حملت حقيبتها لتبحث فيها عن مفتاحها، لكنها لم تجده، أغمضت عينيها ونفخت بامتعاض، فسيارتها بقيت أمام المحل ، كونها تركتها هناك قبل أن تأتي مع أدهم…
لم يمنعها ذلك من حمل معطفها ، ثم الخروج من المنزل باتجاه منزل رفيقتها، رغم قلة السيارات في هذا الوقت المتأخر ، لكنها لن تخذل إيمان وقد لجأت إليها ، ربما لم تعرف السبب الحقيقي لبكائها، لكنها لم تتردد أبدا في تلبية النداء .
لحسن حظها، وجدت سيارة أجرة اقلتها إلى حيّ إيمان ، كان الشارع معتماً ، وهذا أمر غريب بعض الشيء، فأين انوار كشافات الشوارع التابعة للبلدية؟؟
لم يشغلها السؤال كثيرا، قطعت ريما الطريق لكن أمرا مريبا جعلها تتوقف في منتصف الشارع تماما، سيارة ما كانت تواجهها ، تقف بشكل موازي للمسار المفترض، أليس هذا غريبا ؟؟
خفق قلبها بهلع وهي تنتبه إلى سيارتين إلى جانبيها، متعاكستين متقابلتين، كأنها حُجزت بين السيارات الثلاث ، توجست خشية من الأمر الغير مريح البتة، شارع مظلم ، مكان خالٍ من البشر ، وأخيرا ثلاث سيارات تبدو كأنها على استعداد أن تنقضّ عليها، ألا يبدو الأمر مخيفا؟؟
اشتعلت أضواء السيارات الثلاث دفعة واحدة ، مما جعلها تتلفت حولها كالمجنونة، خطت للخلف بضع خطوات حذرة ، ثم استدارت للخلف لتهرب، لكنها فوجئت بلوحة معدنية كبيرة معلقة على الرصيف المقابل، أضواء صغيرة متعددة شكلت حروف اسمها، وبجانبها شكل قلب صغير يخترقه سهم، ابتسمت بغبطة لتلك المفاجأة ، استدارت مجددا لترى أدهم يقف بقرب إحدى السيارات ، كيف لم تنتبه لكونها سيارته هو؟؟
رمقته بنظرة مدينة، فرفع كتفيه بقلة حيلة ، مبتسماً باتساع ، نقلت عيناها إلى السيارة على جانبها الأيسر ، حسنا هذه المرة لم تستغرب فتلك سيارتها هي، وايمان المجنونة تقف بجانبها بابتسامة بلهاء.
أشارت لها إيمان بحب ، فأمالت ريما رأسها بتأنيب، سمعت خطوات خلفها، التفتت لترى أيمن يتقدم ناحيتها، وفي يده ……زهرة ضخمة !!!
لا !! إنها عدة زهور من نوع البنفسج ، بجانبها كرة بلورية كتلك التي كانت بحوزتها وقد اهدتها لابنته يوما ، وقد تم تثبيتها على عصا صغيرة محاذية لساق الزهور ، حسنا كل تلك التفاصيل لم تلهيها عن ابتسامته العاشقة وملامحه الوسيمة ، كان يرتدي بذلة رسمية بلون أسود فزادته جمالا ، وقف أمامها في تلك اللحظة، تلاقت المُقل المُتيّمة بحديث لم تنطقه الألسن ، ابتسمت فلمعت عيناها بالدمع من فرط السعادة .
تنهد أيمن بقوة ثم ابتعد خطوة للخلف ، سحب إحدى الزهور من مكانها ، ليفصلها عن ساقها القصيرة، رفعها أمام عينيّ ريما المُغتبطة، لترى ذلك الخاتم الألماسي المعلق بين بتلاتها الندية، ابتسم ليهتف بحشرجة: دائما ماكنتُ أراك تشبهين هذه الزهرة، رقيقة، نديّة ، تُسعد من حولها لكنها في الحقيقة، حزينة.
رمشت عيناها بتأثر ، حتى تمردت عليها عبرة فسقطت على خدها ، أخرج أيمن الخاتم من الزهرة ، ليتابع حديثه بحنين: هل تقبلين أن تكوني زهرتي البنفسجية، ريما؟ ؟؟
ارتجفت شفتاها وفكها السفلي، ابتسامة سعيدة شقت ثغرها الحزين ، ليزدان محياها الغزلاني ببهاء ساطع يسحر من يراه، مدّ أيمن كفه ليمسح عبراتها بإبهامه هامساً بعشق صادق: لا دموع بعد اليوم ريما ، هناك فقط السعادة بانتظارنا.
ضحكت من بين دموعها وهي تشير له بالإيجاب موافقة، غرس الزهرة أولا بين خصلاتها ، ثم ألبسها خاتمه في بنصر يدها اليمين ، تطلع إليها ومقلتاه تنذران بأمطار البهجة، تهلل وجهه الحزين ليجذبها إلى أحضانه، مقبلا أعلى رأسها مغمضا عينيه براحة.
بعد ليل طويل قد أسدل سُدوله على عشق المراهقة السامي، بزغت أخيرا شمس سعادتهم……
…………………………..
شهر كامل انقضى في التجهيز لحفل الزفاف رغم بساطته وقلة المدعوين ، إلا أن أيمن اصر على أن يخرج في أبهى صوره….
، أحداث متتالية غير ذات أهمية حدثت خلال الشهر ، فمنذ عودة مجد إلى المصحّة ، بدأ جلساته النفسية فورا، وقد عاد الطبيب لمنع الزيارات عنه ، واكتفى ببضع مكالمات هاتفية مع أدهم وريما ، وتحت إشرافه هو، لم يخبره أحدهما عن حزن نور وبكائها عندما علمت بخروجه وعودته إلى المصحّة مجدداً ، ودون أن يراها ، مع ذلك فقد عذرته…..
اما آماليا فما زالت علاقتها بكل من حولها رسمية محدودة، تغرق نفسها في العمل نهارا، لتعود ليلاً فتعتزل الجميع في غرفتها ، رافضة الحديث مع أحد ، حتى والدتها قد انعدم حديثها معها إلا قليلا ، فقط بضع كلمات لتطمئن على صحتها لا أكثر ، شعرت عليا بجفاء ابنتها المقصود ، فأنبأها قلبها بما لا يُحمد عقباه……
وقفت ريما بفستانها الأبيض البسيط أمام مرآتها الكبيرة، تفحصت شكلها للمرة الألف ربما، رفضت الذهاب إلى مركز التجميل ، فاستعانت بصديقتها الوفية إيمان لتساعدها في هذا اليوم المميز، إنها باختصار الليلة المنشودة…
رغما عنها ، حلق بها تفكيرها إلى أحداث الشهر الماضي ، حاولت ريما ، وكبادرة خير منها ، أن تتحدث مع آماليا و تدعوها إلى حفل زفافها، علّ الجليد بين القلوب يذوب .
……………………………….
دلفت ريما إلى العيادة النسائية ، أخبرت الممرضة برغبتها في رؤية آماليا للضرورة ، ولحظها الجيد فلم يكن أمامها سوى مريضة أخيرة ، خرجت آماليا لتودعها ، وعلى محياها بسمة مزيفة، اختفت حالما تقابلت عيناها بعينيّ ريما .
للحظات طالعتها بحزن ، ثم عادت إلى مكتبها دون حديث، فتبعتها الأخرى وفي نفسها بعض الأمل ، جلست قبالتها بينما آماليا تلهي نفسها في أي شيء ، حتى تمالكت نفسها فأكسبت محياها الجمود وهي تسألها برسمية زائدة: كيف أستطيع أن أخدمك انسة ريما ؟؟
امالت ريما رأسها للجانب ، مبتسمة بلطف مجيبة: أودّ لو تجيبيني عن سؤالي آماليا، لماذا ؟؟
اصطنعت عدم الفهم ، مرددة خلفها بغباء وحاجبين مرفوعين باستغراب: لماذا ؟؟
عرفت أنها تراوغ فقط، رفعت يدها لتسندها على الطاولة ، غير قاصدة ظهور خاتمها في وجه الأخرى ، تحدثت ريما دون تردد: أنت تعلمين مقصدي جيدا آماليا ، لماذا رفضتِ العودة إلى أدهم ؟؟
علمت آماليا من خلال الخاتم ، أن ريما قد خُطبت إلى أيمن ، سمعت سؤالها لتخفض رأسها قائلة بهمس، متجاهلة سؤالها أساسا: مبارك.
قطبت جبينها لثوان قبل أن تتدارك الأمر؛ أخفضت يدها بارتباك ، فيما كانت آماليا تضيف بشبح بسمة متهالكة : أتمنى السعادة لقلبك ريما، حقاً…
ازدردت ريقها بحرج، إلا أنها أجابتها بسؤال موارب: وأنتِ؟؟ ألا ترغبين بحياة سعيدة ؟؟
حافظت على ابتسامة خالية من معاني الحياة، مردفة ببساطة: الحياة التي اريدها تكمن في النسيان، والنسيان يكمن في الابتعاد.
لم تفهم ريما إلامَ ترمي ، فتنهدت الاخرى بحسرة قبل أن تضيف: الحب آذاني كثيرا ريما، طيلة سنوات وانا أتعذب بالحب ، ولأجل الحب، فلم يعد بي من طاقة لأحتمل عذابات أكثر.
شعرت بما يعتري فؤادها من حزن ووجد، نعم تعذرها لكنها لا تؤيدها بالطبع، حاولت استجداءها فسألت: ماذا عن أدهم ،،؟؟؟
الحق يقال، عرفت كيف تضغط على جرحها فتدميه، ارتسم الألم واضحا على تقاسيمها، وهي تجيب بنبرة حاسمة ، ناظرة في عمق عينيها لترى عذابها الكامن داخلها: عليه أن يمضي في طريقه، الحب الذي بيننا شقاء ريما، شقاء لي وله ولكل من حولنا، لذا لا أمل.
نطقت آخر كلماتها ، ثم أخفضت رأسها إلى الأوراق أمامها مضيفة ببرود: أهناك شيء آخر قد أساعدك فيه انسة ريما ؟؟
فهمت أنه حقا لا أمل ، على الأقل الآن ، فجراحها مازالت حديثة ، ونفسها ثائرة؛ استسلمت ريما للأمر الواقع، تهدل كتفاها بخيبة ، متسائلة ببسمة لطيفة : وحفل زفافي؟؟
رفعت اماليا رأسها وقد خاب ظنها عندما اعتقدت أن ريما لن تدعوها إذا سمعت قرارها الحاسم، فتابعت: لا أعتقد أن زفافي له ذنب بكل مايجري ، صحيح ؟؟؟
وقبل أن ترفض تلك العنيدة قالت: أرجوكِ آماليا ، لن يكون زفافا كبيرا ، سيقتصر على بعض الاصدقاء، وأنت من بينهم ، لا ترفضي لو سمحتِ.
ضغطت على شفتيها بحرج ، لم تترك لها ريما أي منفذ للهرب، حركت رأسها موافقة بتردد ، إلا أنها فكرت في منفذ لها، ستذهب لدقائق ثم تغادر بأي عذر، تماما كحفلة خطبة نور ومجد.
……………………..
،
أخرجها أدهم من شرودها ، بعدما طرق على الباب مرتين فلم تستجب ، وقف يطالعها بفستان زفافها البسيط ، والذي كان رائعا دون تكلف، فتحة صدره المثلثة ازدانت بفصوص لامعة ، وعند خصرها كان حزام حريري مزين بالفصوص ذاتها، وفي نهايته انشوطة متقنة ، ذو أكمام تصل إلى مابعد المرفقين، شفافة بغير ابتذال، لم يكن منفوخا من الأسفل ، و لم يكن ذو حاشية طويلة ، أما شعرها فقد عقصته إلى الأعلى بتاج رقيق على شكل نصف دائرة من زهور البنفسج ، وقد حررت خصلتان منه على جانبي وجه المها ، والذي لم يحوي إلا على كمية صغيرة من مساحيق التجميل.
ناظر أدهم الأميرة التي تقابله ، وهالة سحرها الأخاذ ، فأطلق صفيرا خافتا مبديا إعجابه بما يرى، فتزينت وجنتيها بوردٍ جوري آلهي.
اقترب منها ليقبل أعلى رأسها قائلا بغبطة: مبارك عزيزتي، ارجو لك السعادة الكاملة.
أخفض صوته ليضيف بمزاح : وإن ضايقك أيمن فقد أخبريني ، لأحضر وأربيه من جديد.
قهقه بسعادة يحاول إظهارها للجميع، بادلته بأخرى إلا أن ضحكتها هي كانت ناقصة، فسألها بشك: مالأمر ريما ؟ هل ضايقك احد؟؟؟
نظرت إلى عينيه تجيب بصدق: نعم ، أنت ؟
رفع حاجباه للأعلى بدهشة حقيقية ، لتضيف بعد أن بللت شفتيها: ألا ترى أن ما أفعله الآن فيه نوع من الخيانة؟؟؟
رمشت عيناه مرددا كلمتها باستهجان: خيانة ؟؟
بلا تردد أجابت: نعم خيانة، أن أكون أنا سعيدة وانت لا ، فبمَ يدعى ذلك؟؟
جالت بعينيها داخل مقلتيه الحزينة ، رغم رداء الفرح الكاذب الذي يرتديه، إلا أنه لم يفلح في إخماد التعاسة المتآكلة داخلهما، غابت تلك البشاشة المزيفة عن محياه، طرح زفيراً ثقيلا من أنفه ، ثم سار حتى بات يقف أمامها تماما، بسمة أخرى ارتسمت على شفتيه ، إلا أنها كانت باردة لا رونق فيها، تنفس بعمق قبل أن يتحدث برصانة جادة: اسمعيني ريما، لقد آمنت أن الحب يصنع المعجزات ، إلا أنني أؤمن أيضا بالنصيب ومشيئة القدر…..
سارعت لتقاطعه بتصميم : لكن آماليا تحبك أدهم ، وأنت مازلت تعشقها فلا تنكر، الأمر فقط أنها ما تزال مجروحة الكبرياء.
عقد حاجبيه متسائلا باستنكار: أأنا من جرح كبرياءها ؟؟
ضغطت على شفتيها قبل أن تجيب بخفوت هادئ: أنت ساهمت في ذلك بشكل أو بآخر ، كان يجدر بك إخبارها منذ زمن طويل.
طالعها لثانية بجمود، كأنها مفصولة عن الواقع ولاتعرف حقا ماحدث؟؟!!
لكنها سارعت لتبرير حديثها: أعلم أن الظروف كانت تأتي دائما ضدك، لكن هذا ليس عذرا قد يقنع عاشقة هائمة كآماليا.
أغمض عينيه لثوان، حتى أجاب أخيرا بقلة حيلة: نعم أعلم هذا ولن أنكر، لن اقول بأنني سأنساها ، لكني أعلم بأن الوقت كفيل بتحجيم ذلك الحب داخلنا.
حقا ؟؟
أكثر من عقد لم تستطع أن تزيح عن فؤاده هيامه بها ، كان هو الصَبُّ الساهر بانتظار الفجر الذي سيبزغ على أرض عشقه فيملأ كونه ضياء، أفسينسى أدهم حقا ؟؟ بتلك البساطة؟؟
لا، لا تظنّ هذا !!
مرت ثوان أخرى حتى نطق أدهم بابتسامة متسعة: ثم لا تفرحي بهروبك كثيرا، ماهي إلا بضعة أسابيع وسألحق بك إلى القفص الذهبي.
زوت ما بين حاجبيها ، ضيقت عيناها وهي تطالعه بريبة ، كانت ابتسامته الخبيثة تتسع شيئا فشيئا ، ثم نطق أخيرا ناسفا كل أفكار ريما وآمالها : سأخطب عمّا قريب……..
يتبع..
لقراءة الفصل الثالث والثلاثون والأخير : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
نرشح لك أيضاً رواية أنتِ لي للكاتبة سمية عامر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!