روايات

رواية غوثهم الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء الثامن والعشرون

رواية غوثهم البارت الثامن والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثامنة والعشرون

كُتِبَ عليَّ التعلق بالأشياء دون نَيلها…
فأشعر دومًا بعد فقداني لها بأني غريبٌ، أنا دومًا في المنتصف لا أصل ولا أعود، لكنني أشعر هذه المرة أن الخطأ يقع عاتقه عليَّ، هل يحق لأحدهم بحجم عقلة الاصبع أن يتمنى كوكبًا أو لربما نجمة في سماءٍ ساطعة؟ وعند ذِكر النجوم تذكرتُ نجمتي المنطفأة، وتذكرتُ أيضًا أن النجوم لا تنطفيء بل هي سرمدية مُضيئة للأبد، فمن ذا الذي يُطفيء نجمة سرمدية مُضيئة وأنا من فنيتُ عُمري لأجل إضائتها ؟ ثم تذكرت من جديد أنني عالقٌ في المنتصف، فسكنتُ وسكتُ أراقب البساط يُسحب من تحتي ووقعتُ على أرضٍ لا بها سماءٍ ولا نجومٍ ولا حتى منتصف…أين أنا منها والأهم أين أنا مني؟.
<“حُــرٌ كـمـا الطـيـر”>
_طب أنا الحمد لله خلصت الشقة وكل حاجة فيها جاهزة من بعدما جوزت أخواتي البنات وكنت طالب من الحج أنه يسأل الآنسة مستعدة للخطوبة الفترة دي ؟؟.
لاحظ “يوسف” الحديث وظنه عن ابنة “عبدالقادر” لكن قول “أيهم” أثبت عكس ذلك حينما قال:
_للأسف ممكن متوافقش، بس ممكن اسأل والدتها طالما واخد الموافقة المبدئية خلاص متشيلش هم.
حرك رأسه موافقًا بقلقٍ فسألهم “يوسف ” بحيرةٍ:
_هو مش المفروض أنه خطيب الآنسة “آيات” ؟؟.
تحدث “عبد القادر” معلقًا ومعدلًا في آنٍ واحدٍ:
_لأ، دا خطيب الآنسة “عهد” جارتك.
حرك رأسه نحو الشاب المبتسم بعنفٍ غريبٍ فمن أين ومتى وكيف أصبح خطيبها ؟ كيف هذا ؟ ومن هذا ؟؟ حالة ذهول غريبة تلبسته وسيطرت عليه جعلته يبدل نظرته للشاب فكيف يترك خطيبته للدنيا والناس تفعل بها ما حدث لها ؟ كيف أصبحت كما الطير مكسورة الجناحِ وهو موجود؟ لما لا يدافع عنها ويحميها إن كانت خطيبته بحق ؟ ثم إنها لم تذكر هذا الموضوع وعمته سبق وأخبرته أنها لم توافق بعد على عروض الزواج المتكررة، الكثير من الغوغاء سكن رأسه مما جعله يسأله بنبرةٍ مُحتدة وكأنه على وشك الاصطدام:
_خطيبها إزاي يعني ؟ اللي أعرفه إنها مش مخطوبة.
هتف الشاب بنبرةٍ هادئة بعدما حمحم بصوتٍ هاديءٍ:
_الحقيقة أني متقدم من بدري لعرض الجواز دا، والآنسة “عهد” بعد فترة من الكلام وافقت أخيرًا إنها تقبل بالموضوع بس كان شرطها أخلص كل الالتزامات اللي عليا، وعدم ظهوري أو تدخلي دا كان بطلب منها هي.
ابتسم “يوسف” بتهكمٍ وهتف بنبرةٍ جامدة يستفسر منه:
_وهو إزاي حضرتك بتحبها أو حتى عاوز تتقدملها وسايبها كدا من غير ما تكون متابعها أو متابع حاجة عنها شخصيًا؟
لاحظ “أسامة” تدخله بالموضوع على حد علمه أنه جارها فَلِما يُدخل نفسه في هذا الموضوع بهذه الطريقة المُحتدة لذا سأله هو بنبرةٍ تهكنية وكأنه أحد الضُباط يسعى للإمساك بمجرمٍ:
_وهو حضرتك مالك ومال الموضوع مش مجرد جار؟.
لاحظ “يوسف” سؤاله وأنه ربما يكون تدخل فيما لا يُعنيه بحقٍ، فأين لامبالاته وعدم اكتراثه بالغير كما وعد نفسه أن يهرب من أي تدخل قد يطفو على سطح بحره، لكنه أيضًا لازال يشعر بالضيق والضجر من هذا الجالس أمامه ولايدري السبب، هذا لا يناسبها لذا وجد الرد عليه سريعًا وهو يقول:
_الفكرة كلها أني لو مجرد جار بس أنا شايف إنها للأسف واجهت حاجات كتير لوحدها والمفروض إن حضرتك خطيبها زي ما بتقول أو حتى عاوزها يبقى تتابعها وتشوفها متسيبهاش للدنيا تخبط فيها، دا ضعف.
تحدث “أسامة” بنبرةٍ محتدة هو الأخر وقد طفق غيظه يعلن عن نفسه من تدخل وتطفل “يوسف” هذا الغريب الذي يجلس أمامه:
_وأنا شايف إن دي تفاصيل حضرتك ملكش دخل بيها، كل الحكاية أسبوع وأخطبها وساعتها يحقلي أتدخل براحتي، لكن حاليًا بصفتي إيه وهي اللي طلبت مني عدم التواجد في حياتها أصلًا.
كور “يوسف” قبضته ونظر لـ “عبدالقادر” الذي رمقه بعتابٍ منطوقٍ قرأه هو على الفور فوجده يقول مبتسم الوجه من بعد احتداد حديثهما ووقوف كلٌ منهما بالندِ للأخر:
_وحدوا الله يا شباب، دا مجرد حديث بيتم بيننا مالكم قفشتوا كدا ليه؟؟ إن شاء الله يا “أسامة” هسألها ولو واقفت يبقى الجمعة الجاية تلبيس الدِبل لو هي موافقة.
نظر له “يوسف” بعينين مُتسعتين لا يُصدق حديث “عبدالقادر”، يرى أن “أسامة” لا يستحقها، هي تحتاج للقوة، تحتاج لمن يأخذ بيدها ويعلمها كيف تقف في وجه من يُعاديها، تحتاج لمن يجعلها تواجه بثباتٍ ولا تهرب بعد ذلك، تحتاج لمن يدافع عنها باستبسالٍ، لكن هذا ؟؟ لا يستحقها، إن كانت تحتاج القوة فيلازمها أيضًا السعادة، هل هذا يقدر على توفير الشيئين لها ؟؟.
وجد نفسه ينتفض من محله هاتفًا بنبرةٍ جامدة يهرب من هذه المقابلة السخيفة مع شخصٍ يكاد يكون هو الأسخف على الإطلاق، لذا تحدث بوجهٍ مقتضبٍ وبحديثٍ موجزٍ هتف:
_أنا مُضطر اتحرك عن إذنكم، فرصة سعيدة يا أستاذ “أسامة” إن شاء الله نتقابل على خير يا رب.
تحرك من المكان بغضبٍ يشبه غضب الطفل الصغير حينما يعارض والديه رغبته فيترك كل شيءٍ ويرحل غاضبًا من أمامهم متجاهلًا نظرتهم له، لايدري سبب غضبه لكنه في يومٍ كان في حاجةٍ للحمايةِ مِثلُها والآن هو يراها على وشك الدخول في علاقةٍ ربما تكون عبئًا عليها إن لم يكن مؤكدًا أنها ستصبح كذلك.
لاحظ “أسامة” ضيق “يوسف” وتدخله وأول قرارٍ قرر أن يتخذه أن يبعد هذا المتطفل، من هذا ولما يتحدث بهذه الطريقة ؟؟ بدا له وكأنه أخوها يحاول حمايتها أو كأنه حبيبها يصد هجومًا من قِبل الطرف الأخر، لذا تحدث مع “عبدالقادر” قائلًا:
_معلش يا حج إن شاء الله لو وافقت يبقى الأسبوع دا نجيب الدهب لأن الفلوس ممكن تتصرف، وطبعًا كله بموافقة حضرتك الأول.
حرك “عبدالقادر” رأسه مومئًا له ثم نطق بنبرةٍ خافتة يعلن إذعانه له:
_اللي تشوفه يابني، ربنا يكرمك من وسع إن شاء الله.
خرج “يوسف” من محل “عبدالقادر” بعدما تمالك نفسه بصورةٍ لم يعهدها من نفسه، ففي السابق إذا حدث هذا وزعم أحدهم أنه يراه مُتطفلًا لكان قطعه إربًا وألقاه في الطرقات، لكن الأمر أصبح مُختلفًا، اللعنة عليه وعليه وعلى المتسبب في تغيره بهذا الشكل.
مر أمام “محل” أيوب الذي وقف على أعتابه يراقب تحرك العُمال بالمواد الفُخارية وبين اللحظة والأخرى يعاونهم رغم رفضهم لهذا لكنه كما أعتاد أن يفعل كما يفعلون، لم يمنع “يوسف” نفسه من الدخول له وما إن رأه “أيوب” حرك رأسه مُستفسرًا باستنكارٍ غلف نظراته، فوجد “يوسف” يتحدث بنبرةٍ جامدة لم يقصدها قائلًا:
_ممكن أتكلم معاك كلمتين ؟؟ لو فاضي.
لاحظ “أيوب” طريقته الجامدة لذا تحدث هو بنبرةٍ خافتة بعدما بدل سُبل التحدث وكأنه هو صاحب الزمام:
_لو مش فاضي، افضالك تحت أمرك.
تنهد “يوسف” ودلف يجلس على المقعد فاستأذن “أيوب” من العُمال وسحب سترته يرتديها وجلس أمامه يقول بنبرةٍ هادئة وقد خمن أن السبب هو مجيء “قمر” إلى هنا:
_اتفضل، أنا سامعك أهو.
تنهد “يوسف” وحاول بقدر الإمكان ترتيب الأحاديث وبرمجة القول على طرف لسانه لكن طبيعته المندفعة أبت هذا وتحدث بضجرٍ وضيقٍ:
_هو “أسامة” اللي عاوز يخطب “عهد” دا يعرف حاجة عن موضوع “سعد” ومضايقاته ليها ؟؟.
رفرف “أيوب” بأهدابه عدة مراتٍ خلف بعضهم وسأله باستنكارٍ لم تفارقه الدهشة:
_وهو أنتَ عارف “أسامة” منين؟؟ ومين قالك على الموضوع أصلًا.
جاوبه “يوسف” بنبرةٍ جامدة وكأنه فقد آخر ذرات صبره:
_مش مهم، بس أنا عاوز أعرف هو عارف ؟؟ والأهم هو يعرفها منين أصلًا؟!
لم يجد “أيوب” بُدًا من مماطلته في التحدث لذا تحدث بقلة حيلة قائلًا بتفسيرٍ:
_كل الحكاية إن أخته الكبيرة بتروح العيادة اللي الآنسة “عهد” شغالة فيها وهو راح مع أخته مرة وشافها هناك وسأل على أهلها والناس دلوه على أبويا وقال إنه بقى كبيرها وهو اللي هيتعامل، بعد فترة من التفكير والاقناع من والدي هي وافقت بس كان شرطها أنه ميظهرش من غير أي حاجة رسمي ولحد ما يخلص جهاز أخواته، بس أنتَ شاغل بالك ليه ؟؟.
جاوبه الأخر بنفس الضيق ونفاذ الصبر:
_علشان الطريقة غريبة، لما هو واحد عاوز واحدة بعيد عنها ليه، مبيحاولش علشانها ليه؟؟ سايبها للدنيا تخبط فيها إزاي ؟؟ والاسم أنه عاوزها؟ إيه المنطق الغريب دا ؟
سأله “أيوب” باهتمامٍ وهو يتابع ملامحه:
_وبأي حق يتدخل في حياتها ومفيش بينهم أي رابط أو علاقة شرعية أو حتى مُسمى بينهم، واحد طالب واحدة وهي كانت بتفكر وهو بيجهز نفسه.
فهم “يوسف” طريقة تحدثه وأنه يحاول تبرير موقف الأخر فاقترب منه يقول بدهاءٍ وتهكنٍ لم ينفكا عن طبعه:
_بنفس الحق اللي خلاك تحمي أختي وتدافع عنها قصاد “علاء” وبنفس الحق اللي خلاك تدور ورايا قبل ما توصلني ليها وبنفس الحق اللي خلاك تطلبها لما حسيت بخطر إنها هتروح منك، وبنفس الحق اللي خلاك تدافع عن “عهد” بمسمى الشهامة يا شيخ.
حل الذهول على ملامح “أيوب” وقد فهم أن “يوسف” ماهو إلا شخصٌ يتمتع بأطنانٍ من الدهاء لكي يفهم طبيعة الأشخاص حوله، لذا ابتسم بزاوية فمه وهتف بسخريةٍ:
_الله ؟؟ دا أنتَ جامد أهو وفهمت الليلة كلها، أومال مبانش عليك ليه كدا في الأول؟؟ كنت فاكر إني قاريك.
غمز له كدلالةٍ على النفي وأصدر صوتًا من حلقه ينم على النفي وتبعه بقوله يزهو بنفسه ويعتز بصفاته:
_أنا بوريك اللي عاوزك تشوفه فمتفكرش إنك قارح وقاريني.
أبتسم “أيوب” باتساعٍ عن السابق وقال بإعجابٍ حقيقي:
_عظيم، طب بما إني مش قارح ومش قاريك تقدر تقولي بقى شاغل بالك بـ “عهد” ليه ؟؟ مالكش دعوة بيها لأنها مجرد جارة مش أكتر، ولو في جوازة المفروض تشغلك تبقى جوازة أختك إن شاء الله.
عاد “يوسف” للخلف يهتف بضيقٍ وقد عاد الفكر من جديد يسيطر عليه:
_علشان هي ضعيفة، وعلشان لازم تتقارن بحد قوي، الضعيف لو قعدته مع ضعيف تاني عمرهم ما هيقوا بعض، لازم حد فيهم يكون قوي يقدر يقف في وش الدنيا، إنما دا ضعيف، وهي مش عاوزة ضعف فوق ضعفها، هي عاوزة حد قوي يعلمها لما تاخد حقها متهربش، تقف تقول إنه حقها، اللي جرب إحساس الضعف عمره ما هيحبه لغيره وأنا متأكد إن ضعفها قصاد “سعد” هو اللي هيخليها توافق على “أسامة” دا، عرفت ليه شاغل بالي؟؟ علشان أنا شوفت ضعفها قدامي.
تنهد “أيوب” مرغمًا على هذا وهتف بقلة حيلة:
_الحاجة الوحيدة اللي نقدر عليها هي إننا ندعي ربنا يوفقها في حياتها، إنما القرار الأخير ليها هي، أنا دوري أني أدور ورا “أسامة” وعرفت أنه لا غُبار عليه شاب محترم ومسئول وعنده وظيفة، وبار بأهله وأخواته، محدش جاب سيرته بأي حاجة وحشة، يبقى ليه أظلمه؟؟.
اغتاظ “يوسف” من حديثه وشعر أنه يصرخ وسط عالمٍ أبكم لم يستمع لصراخاته، بل أيضًا يغمون أعينهم حتى لا تشاهد ملامحه الصارخة أيضًا لذا وقف وهو يقول بضيقٍ منهم:
_أنا مالي كدا كدا اللي بيشيل إربة مخرومة بتخر على دماغه، بس المهم أنه ميرجعش يبكي على الأطلال.
تحرك من المكان و “أيوب” يتابع تحركه بعينيه وقد غلفت الحيرة ملامحه، لم يفهم عليه ولم يدرِ لِما يشغل باله بها، ومن أين نشأت العلاقة التي تجعله يفهم قوتها وضعفها ؟؟ هناك ألغاز كثيرة يصعب عليه حلها وكل ما عليه فقط فعله التضرع للمولىٰ أن يطلف بهما.
________________________________
<“أنا بنفسي اتجه للسقوط في الهاوية، فأين هي؟”>
هذا الشعور ونقيضه دومًا تكرهه هي، جزءٌ منها يفرح بسعادةٍ لما هي مقبلة عليه وجزءٌ أخر يرفض ويأبىٰ ويود منها المطالبة به، لم تعلم كيف ارتدت هذا الفستان الأسود وفوقه الحجاب وخرجت بملامح وجه ذابلة وعينين يحاوطهما السواد من الخارج والاحمرار من الداخل، ووقفت أمامه تُخفض رأسها للأسفل هاتفةً بكلمةٍ واحدة قالتها بوجعٍ:
_أنا جاهزة.
تحرك هو يمسك مرفقها بجمودٍ وخرج بها من البيت وأشار لها على السيارة لكي تلج بداخلها فركبت بصمتٍ وبآلية شديدة وكأن الروح غادرتها وبقى منها فقط حطامٌ حتى أن الشعور قُتل، ركب هو بجوارها بصمتٍ بملامح وجهٍ أقسمت أنها أرعبتها، ماهذا ؟؟ ألم يحاول لأجلها مرةٍ أخرىٰ ؟؟ ألم يتمسك بها ؟؟ يبدو أن قرار الإنفصال أتى له على طبقٍ من الذهب وكأنه في أوجٍ من غمرة السعادة بهذا القرار.
بكت بحرقةٍ وقهرٍ على نفسها وهي ترى تخليه عنها ببساطةٍ أدمت قلبها، حظها العثير يجعلها تتمنى الموت ثم تسخر من نفسها وهل هي حية لكي تتمنى الموت؟ هي فتاةٌ يتيمة لاقت الصعاب الكثيرة والكثير من المواجهات الصعبة والكثير من الآلام، ظنت أنها وجدت الحياة أخيرًا حينما وجدته، وها هو يخبرها أنه شكلٌ أخر من أشكال الموت التي تعيشها.
لاحظ “إيهاب” بكائها وحارب تلك الرغبة التي تلح بداخل قلبه أن يخطفها بين ذراعيه، لكن كبرياءه سيطر عليه وأكد له عقله أنها ترفضه وهو لن يُضعف من نفسه أمامها، أين الثقة وأين الحب؟ لقد أخبرها أخوه بما فعله لكنها لم تصدقه واتهمته بصراحةٍ أنه ذهب ليرضي رغباته، تلك الغبية التي لم يرغب سواها تتهمه أنه يخونها ؟؟.
وقع كلاهما في صراعٍ بين العقل والقلب ويصرخ فيهما الحب يبحث مكانه بينهما، ويتحدث قلب كليهما ناطقًا بوجعٍ للأخر:
“لقد أقسمت إنكَ تسير معي في نفسي الدرب وتكون آمانًا لي في الحرب، فأين أنتَ الآن وأنا وحدي في عتمة الليل أبحث بداخل قلبك عن الحُب”
سمعها كل قلبٍ من الأخر يتهمه بأنه لم يحبه وقالتها النظرات، لكنه تهرب من هذه النظرات وركز بصره على الطريق حتى أوقف السيارة عند مكتب المأذون وهتف بإيجازٍ:
_وصلنا، يلا انزلي.
حركت عينيها نحو اللوح المُعلق فوق المكتب لترى اسم المأذون مدونًا عليها، حينها بكت بقلبها ومزقت روحها واحترقت النيران بداخلها، وعلى النقيض تمامًا هيئتها الخارجية، صمدت وسكتت ورفعت رأسها بشموخٍ رغم أن عينيها الباكيتان نطقا برفضهما لما يحدث لكنها مدت كفها تفتح الباب وقبل أن تفعلها أوقفها قائلًا:
_أنا عارف إنك مش واثقة فيا وعارف أني لو عارضتك هتعاندي وتمشي وتسيبني، بس أنا جيبتك هنا علشان أطمنك أني هنفذ طلبك بما أني خاين وراجل مش كويس، بس قبلها هتيجي معايا مشوار مهم ودا أخر مشوار بيننا.
ارتخى كفها فوق مقبض السيارة وزاغ بصرها بتيهٍ ليستقر أخيرًا على ملامح وجهه حاول بؤبؤاها التحرك هروبًا من نظراته المتوسلة أن توافق رغم خشونة الملامح واقتصاب الوجه إلا أن صدق العينين جعلها تستكين عن المقاومة وحركت رأسها موافقةً بحركةٍ خافتة ورافقها سؤالٌ توقعه هو:
_طب…طب هنروح فين؟.
أدار محرك السيارة بعدما هرب من نظراتها التي أراد أن يغرق بهما أكثر، لم يعتاد على هذه الطريقة معها ولا هذا الاقتضاب منها، لذا نطق بجمودٍ:
_مشوار مهم ولو عندك نقطة ثقة فيا استني لحد ما نوصل.
اندفعت تبريء نفسها من إتهامٍ مُبطنٍ نطقه هو يواريه خلفه حديثه وطريقته التهكمية دون أن تحسب حساب حديثها:
_أنا لو مش واثقة فيك مش هركب معاك عربية واحدة لحد هنا.
هذه الغبية جعلته يحصل على مايريد بدون أي مجهودٍ يُذكر من قِبله، نطقت بما يخبرها به قلبها ويمنعها عنه عقلها، جاهد لكتم ضحكةٍ كادت أن تظهر نتيجةً لفرحته بقولها وقد نجح في هذا حينما حرك السيارة واتجه بها نحو طريقٍ أخرٍ يأمل منه أن يكون به الخير.
كانت فترة القيادة صامتة ومملة وقد رافقها مشاعر أخرى متناقضة، التأهب والأستعداد من جهته والترقب والخوف من قِبلها، لما لم ترفض عرضه وتعلن عصيانها عليه، لما توافق على طلبه حسنًا ثمة بعض اللحظات وتتحرر من قيده للأبد.
أوقف السيارة أخيرًا في مكانٍ لم تعلمه هي وحينما صدح صوت هاتفه برقم “ميكي” فتح السيارة ونزل منها بلهفةٍ جعلتها تفعل مثله وتنزل هي الأخرى خلفه من سيارته وبعد مرور ثوانٍ معدودة اقتربت سيارة شرطة مليئة بالرجال وصفت في منتصف الشارع ثم نزل منها الرجال خلف بعضهم مما جعل “سمارة” تشعر بخوفٍ غريبٍ من اقتحامهم للمكان بهذه الطريقة وتلقائيًا اقتربت منه تتمسك بذراعه وكأن الأمان في تواجده أمرًا محتومًا لا جدال فيه.
لاحظ هو فعلتها هذه فتمسك بها وهمس لها بنبرةٍ هادئة:
_أنا متخافيش.
حركت رأسها موافقةً بصدقٍ فوجدت صرخات عالية تخرج من المكان يتبعها خروج عدة نساء شبه عاريات تلتف أجسادهن بشراشف وملاءات وخلفهم رجال تمسكهم رجال الشرطة، فشهقت “سمارة” بحدة وهي ترى “تهاني” تصرخ بصوتٍ عالٍ تريد منهم التوقف لكن لا حياةً لمن تُنادي، استمر صراخها بدون توقف، وهي تُسحب كما الماشية نحو السيارة وسط غيرها منن يفعلون الفواحش غير عابئين بعقاب المولىٰ لهم، يستهانون بالله ونسوا أن من جعل الله أهون الناظرين إليه لاقى العذاب الأبدي.
بكت “سمارة” وهي ترى هذا الوضع المشين الذي أثار حفيظتها وجعلها تتمسك به أكثر فسحبها هو واقترب من السيارة يطالع “تهاني” بتشفٍ بها حتى وقع بصرها عليه وفهمت أنه يرد لها صفعتها بأخرىٰ أشد قسوة، وأخبرها بصراحةٍ عن فعله قائلًا:
_أظن دلوقتي عرفتي الفرق بينك وبينها، إنها غالية ومكانها فوق راسك العمر كله واللي زيك تتحط تحت الرجل ويبقى دا أخرها، لو فاكرة إن عمهم هيسيب حق مراته واللي عملتيه فيها تبقي عبيطة، وزي ما اتبليتي عليها أنها بتروح مكان مشبوه، بقيتي أنتِ صاحبة المكان المشبوه، صباحية مباركة يا عروسة.
رماها بغمزة وقحة فهمت هي مقصدها وهو يشير إلى هيئتها ثم رفع ذراعه يضم “سمارة” إليه بتملكٍ واضحٍ جعلها تبتسم من بين دموعها، فيما صرخت “تهاني” باهتياجٍ وهي تحاول الركض إليه والفكاك بنفسها من حصارهم المقيد لها وهي تقول ببكاءٍ:
_لأ يا “إيهاب” علشان خاطري خليهم يسيبوني، ورحمة أمك تخليهم يسيبوني، هعيش خدامة تحت رجليك يا “إيــهـاب” صرخت باسمه لكنه أغلق باب السيارة والتفت للضابط يقول بنبرةٍ هادئة:
_شكرًا يا “ماهر” بيه، الجميل دا في رقبتي العمر كله.
هتف الضابط بتفهمٍ ورفع عنه الحرج بقوله:
_متقولش كدا، أنا برد جميلك اللي عملتهولي في السجن، رغم إنك ندل ومعزمتنيش على فرحك بس ماشي، هطلع أجدع منك أنا واباركلك.
رد عليه “إيهاب” بقلة حيلة مرغومًا على فعله:
_ما أنتَ عارف الحج بقى، عملهالي مفاجأة، المهم ألف شكر نردهالك في الفرح يا رب، ربنا يكرمك إن شاء الله.
ودعه الضابط وركب السيارة بجوار السائق، فيما تنهد “إيهاب” مُطولًا وهو يرى تحرك السيارة وكأن هناك جبلٌ ازاحه أحدهم من فوق صدره، وقد التفت ينظر لزوجته التي وقفت تبكي بحيرةٍ ولم تفهم ما يصير حولها وحينما التفت نظراتها بنظراته تذكرت ماضٍ يُشبه هذا ولكن الفرق أنها كانت المجني عليها التي ظهرت بصورة الجاني لذا قالت بوجعٍ وهي تهرب من الذكريات القاتلة:
_يلا نمشي من هنا، مش عاوزة أفضل.
فهم هو سبب حديثها وأن لربما الذكرى حضرت بقسوةٍ أشد من سابقها لذا نحى كبريائه وعنفوانه وشموخه واقترب منها يحتضنها وهو يقول بنبرةٍ هادئة رخيمة يبثها الأمان بها:
_أنا معاكِ يا “سمارة” مش هسيبك، متخافيش طول ما أنا هنا، اللي بتفكري فيه دا فات ومشي وملهوش رجعة تاني، خليكِ واثقة فيا وأنا والله عمري ما أسيب حاجة تزعلك.
حديثه طمئنها إلى حدٍ كبير لكنها لم تنسى وجعها منه وهي ترى الصور فابتعدت عنه تقول ببكاءٍ وكأنها تشكو له من فعله:
_بس أنتَ زعلتني والله، وهي في حضنك وهي حاطة راسها على كتفك، غصب عني مش هعرف أنسى حتى لو كان السبب في دا حقي علشان أنا قولتلك مش عاوزة حقي، بس عاوزاك أنتَ، ليه كدا ؟؟ هي لو مش عارفة إن دا هيكسرني مكانتش بعتتلي الصور دي، ليه يا “إيهاب”؟؟.
هتف بصدقٍ يرد على سؤالها بوجعٍ هو الأخر:
_ والله العظيم علشانك أنتِ، أنا معملتش حاجة، دي مش بتحبني قد ما بتكرهك يعني لو واحدة رجالتها دول كان شك فيا ديتها كانت طلقة منه في راسي، بس أنا حالف أني أجيب وبعدها إن شاء الله حتى أولع في نفسي قدامك لو دا هيريحك، ولسه عند وعدي اللي أنتِ عاوزاه هيحصل.
تبدلت تعابير وجهها إلى الصدمة من جديد فوجدته يهتف بنفس الوجع وهو يحاول الهروب من نظراتها:
_هطلقك، علشان أنا مش هقبل أفضل واحد خاين في نظرك، وطالما جيبتلك حقك منها يبقى خلاص كدا أنا ارتحت.
نزلت دموعها من جديد واقتربت منه تقول بنبرةٍ عالية:
_بس أنا عارفة إنك معملتش حاجة وقلبي مصدقك، بس في نفس الوقت عقلي مش راضي ينسى صورك معاها مش قاردة أصدق غير إنك بإرادتك خليت واحدة غيري تاخد مكاني أو حتى تقرب منه، يمكن يبان كلامي كبير بس أنا موجوعة منك وأنتَ أكتر مكان كنت برتاح فيه يا “إيهاب” ويمكن دا اللي حارق قلبي…
لم يقف كما هو متصلد المشاعر بل سألها بنبرةٍ مبحوحة:
_إيه اللي يرضيكي طيب وأنا أعمله؟؟.
ضغطت على جفونها ثم تنفست بشهيقٍ متطقعٍ وقالت:
_تسيبني في بيت الحج كام يوم كدا أحاول اهدا فيهم ولو قدرت أنا بنفسي هاجي الشقة، بس أنا معنديش مكان تاني أروحه دلوقتي، وصعب عليا امشي كدا والحج مش هيرضى
نظر لها بعينين مُتسعتين وحيرةٍ من إتخاذ القرار لم يفهمها، هل يوافق على طلبها ويجاريها أم يسحبها ويعود بها إلى بيته أم يأخذها بين ذراعيه كما كانت منذ قليل، لكن طالما لم تطلب الطلاق من جديد ولم تطلب الانفصال عنه فلازالت الكرة في ملعبه.
________________________________
<“لم تقتلني الذكرى بقدر ما قتلني شعورها من جديد”>
وصل لأمانه ودربه المحبوب، وصل لمكان راحته الذي يخشى فراقه، يحب هُنا ويفضل هُنا منذ أن علم بمكانهما، كان يجلس و “قمر” أسفل ذراعه تضع رأسها على صدره كما يحب هو وكانت تفعل هي في صغرها ويداعب خصلاتها بأنامله، التواجد بجوار قمره اشهى من كل مذاقٍ تذوقه في حياته، لما لا يظل هكذا يحتضنها صغيرته ويراقب والدته بنظراته.
وجد “قمر” ترفع رأسها تسأله باهتمامٍ:
_تعبت ؟؟ اسيبك ترتاح شوية ؟؟.
حرك رأسه نفيًا بوجهٍ مبتسمٍ ثم رفع ذراعه الأخر يضمها إليه بتملكٍ لينفي ظنونها بتعبه، فوجد “غالية” تخرج من المطبخ بصينية كبيرة معدنية ممتلئة بالطعام وقلبها يتراقص فرحًا، لقد أعدت كل الطعام المفضل له بنفسها، لم تقبل المعاونة من “أسماء” بل أصرت أن تصنع له الطعام بنفسها، جلست مقابلةً له تضع الصينية فوق الطاولة فابتسم هو بحماسٍ فور وصل الرائحة لأنفه وترك “قمر” مندفعًا للأمام فوجد “غالية” تقول بحبٍ ومرحٍ:
_الأكل أهو يا نور عيوني، يلا بقى قرب.
اقترب منها يجلس بجوارها بلهفةٍ وهو يتتوق لمذاق طعام والدته، هذا الطعام المفضل والرائحة الطيبة يكاد يجزم أنها لم تتغير مع مرور الزمن، وجدها تمسك الطعام بين أناملها وهي تقول بتأثرٍ وتشبع نظراتها من ملامحه:
_يلا يا حبيب ماما ولا أقولك حبيب عيوني ؟؟.
لمعت العبرات في عينيه واقترب منها برأسها يلتقط الطعام من بين اصبعيها وفور ابتلاعه الطعام وجد نفسه يبكي، كل المُفضل أمامه، والدته وطعامها ورائحتها ودلالها المفضل له، كل شيءٍ معه وهو هنا !! ألم يكن حُلمًا كما اعتاد والأمر يتطلب عدة دقائق لكي يفيق ويتذوق الحرمان من جديد ؟؟ لن يقدر بالله هذه المرة لن يقدر على هذا.
ازداد بكاؤه كما الطفل الصغير بوجعٍ خشيًا من الاسيتقاظ من حلمٍ جميلٍ يكاد يدفع عمره بالكامل لكي يعيش بداخله لحظاتٍ أخرى وتفارقه الحياة من بعدها، وجد والدته تنهار باكيةً هى الأخرى وخطفته في عناقٍ أمومي وهي توقفه عن البكاء بقولها:
_بس علشان خاطري، أنا معاك هنا أهو وأنا هنا معايا وبقيت في حضني يا حبيب عيوني، بس علشان خاطري متوجعش قلبي عليك أكتر من كدا، بس يا “يوسف”.
كانت تتوسله بالحديث أن يتوقف عن البكاء أما هو فتحدث من بين دموعه هاتفًا بصدقٍ أوجع قلبها أكثر:
_خايف…خايف يطلع حلم زي كل مرة وأفوق منه لوحدي وأنتم مش معايا…أنتِ هنا صح؟؟.
سألها بتوسلٍ أن تكذب أفكاره التي تحاربه فوجدها تحتضنه من جديد وتربت على ظهره بكفٍ وتمسح بالأخر على رأسه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا هنا معاك وفي حضنك وجنبك وهأكلك من اكلي دلوقتي، الملوخية اللي بتحبها والمخلل أهو، علشان خاطري كُل يلا وخلي أختك تاكل.
كانت تهدهده كما تهدهد الطفل الصغير وتسايسه بدلوماسية العاطفة حتى وجدته يبتسم لها وحرك رأسه موافقًا ثم أدارها لـ “قمر” التي كانت تبكي هي الأخرىٰ على الأريكة فسألها بنبرةٍ مختنقة من البكاء:
_أنتِ بتعيطي ليه طيب؟
مسحت دموعها بظهر كفيها وهتفت بنبرةٍ بها أثر البكاء:
_علشان ورق العنب بِرد وأنا بحبه سخن.
ضحك رغمًا عنه فوجدها تقترب منه ثم احتضنته من الخلف وهي تقول بصدقٍ وحبٍ له:
_أنا مش مصدقة إنك معايا ومش مصدقة إنك جنبي هنا جيبتلك هدية وعاوزاك تقبلها ممكن ؟؟.
حرك رأسه موافقًا فقاطعتها “غالية” بلهفةٍ تقول:
_مش وقته يا “قمر” بعد الأكل أحسن.
نطق “يوسف” بلهفةٍ:
_لأ خليها تجيبها تفتح نفسي أكتر.
ركضت “قمر” فور استماعها لحديثه فيما ابتسمت “غالية” بيأسٍ وهي ترى صغيريْها مع بعضهما في حبٍ كما تمنت بعدما كانت تظنه كما عائلة والده، ظنت أنه تربى وسطهم على الكره والحقد لكن يبدو أن حياته كانت قاسية عليه بالقدر الكافي لتجعله رحيم القلب محب لمن حوله.
اقتربت “قمر” منه تقول بحماسٍ نتج عن فرحتها بما فعتله:
_بص جيبتلك هدية من السعودية مش أنا طبعًا بس دي هدية جاية من هناك مخصوص علشانك، شوفها ويارب تعجبك.
أمسك الحقيبة من يدها وسألها بتعجبٍ:
_هو أنا شوفت الشنطة دي قبل كدا ؟؟ حاسس إنها كانت قدامي من شوية أو حد كان معاه زيها.
اتسعت عيناها بدهشةٍ وبدت أمامه متوترةً فهل من الممكن أن يكون رآها عند “أيوب” ؟؟ لا من المؤكد لا فمن أين له أن يراها ؟؟ لكن هناك جزءٌ غبي في طبعها اندفع يقول ببلاهةٍ:
_هو أنتَ روحت عند “أيوب” ؟؟.
نظر لها بتفرسٍ وفور أن نطقت اسم الأخر نطق هو بلهفةٍ:
_”أيوب” !! صح الشنطة دي كانت على مكتبه هناك.
حسنًا جائك الموت يا تارك الصلاة، وقفت في الأرضِ مُتسمرةً بحالة صدمة شلت حركات جسدها فيما سألها هو باندفاعٍ:
_أنتِ جايبالي هدية زي “أيوب”؟؟.
هتفت بتلجلجٍ:
_لأ والله أنا جايباها ليه أشكره علشان جابك لينا.
سألها هو بسخريةٍ من بعد جوابه الغير مقنع:
_يا شيخة؟؟ وجايبالي هدية ليه أنا بقى؟؟
_علشان أشكرك إنك جيت لينا، مش مستاهلة.
رفع حاجبيه وهو يسألها بوقاحةٍ:
_وحياة أمك ؟؟ أنتِ هتشتغليني ؟؟.
جلست بجواره تحاول ارضاءه فوجدته يضع الحقيبة بقلة حيلة ثم رفع ذراعه يقربها منه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_المهم “أيوب” جاي يوم الخميس يطلب إيدك مني، طبعًا مش محتاج رأيك الجواب باين من عنوانه، صح؟؟
ابتسمت بخجلٍ واخفضت رأسها للأسفل مما جعله يبتسم هو الأخر ثم ضمها إليه من جديد يقول بنبرةٍ هادئة رخيمة:
_”قمر مصطفى الراوي” حبيبة قلب “يوسف مصطفى الراوي” كبرت وبقت عروسة، لو سامحت في اللي فات كله أكيد أنا مسامح علشان هحضر معاكِ كل اللحظات دي، كفاية عينك وهي فرحانة بيه.
وضعت رأسها على كتفه وتشبثت به تهتف بصدقٍ:
_أنا حاسة أني لقيت بابا، مش “يوسف” بس.
ابتسم هو بحنين وهو يدعو له بالرحمة ثم شهق بدهشةٍ وهو يقول:
_ورق العنب !! يا شيخة أقول عليكِ إيه أنتِ و”أيوب” بتاعك ؟؟ غوري إلهي يارب ييجي ياخدك بكرة الصبح.
ضحكت وهي ترى غضبه العفوي، فيما اقترب هو من الطعام مُجددًا و “غالية” تضحك عليهما والأخرى تعانده وتجلس بجواره فيما أمسكت الأخرى الطعام تطعم كلًا منهما على حدة وهي تبتسم بحنينٍ لهما وهتفت بنبرةٍ خافتة:
_الحمد لله يا رب، الحمد لله أني شوفته قبل ما أموت وأروح لـ “مصطفى” ربنا يرحمك يا غالي.
__________________________________
<“أين الحرية وأنا مُكبل الأيدي في أرضٍ واسعة”>
عادت “عهد” من عملها اليوم في وقتٍ باكرٍ عن المعتاد ثم دلفت شقتها لتجد والدتها بمفردها مع “وعد” التي جلست تلعب على هاتف “مَـي”، جلست بارهاقٍ بعدما تحممت وبدلت ثيابها فيما سألتها والدتها بتعجبٍ:
_مالك يا “عهد” ؟؟ أنتِ كويسة يا حبيبتي ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت فجأةً بما هو غير متوقعٍ:
_آه يا ماما الحمدلله أنا بخير، وعلشان افرحك أنا موافقة على “أسامة” كمان.
تبدلت معالم والدتها إلى الفرح وهي تسألها بتعجبٍ:
_بجد ؟؟ خلاص اقتنعتي؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ خافتة:
_آه، مش علشان حاجة بس الحل الأنسب هو دا علشان الحياة تمشي، أول مرة أحس أني مش كفاية علشان أحمي نفسي، “وعد” لازم تبقى في أمان عن كدا، حاجات كتير لازم تتربت وربنا يكرم إن شاء الله.
اقتربت “مَـي” منها تربت وعليها وتشدد من آزرها قائلةً:
_عين العقل ربنا يكرمك ويسعدك إن شاء الله، والله حاسة إن الموضوع دا خير ليكِ وهو شكله طيب وابن حلال، أقوم أجيبلك الأكل ؟؟.
حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة ثم هتفت بنبرةٍ خافتة:
_هطلع السطح أجيب ورقتين نعناع علشان الشاي، لحد ما الأكل يجهز، ماشي؟؟.
تحركت من بعد موافقة والدتها نحو سطح البيت تقطف الوريقات الخضراء الصغيرة بعدما فرغت الشقة منه وقد وقع بصرها على اللوح المُعلق وجملة “يوسف” التي أضافها أسفل عبارتها:
_كدبت لما قولت هنسى، أنا لسه زي الغريق مش لاقي مرسىٰ.
لمعت العبرات في عينيها وهي تتلمس صدق العبارةِ بنفسها، هي لم تنس بعد ولم تتخطى بل هي هنا أسيرة ذكريات قديمة تشبه في حدتها نصل السكين الذي يمزق في نياط القلب كما تتمزق قطعة اللحم الحمراء.
أمسكت القلم من جديد تسحب خطًا تفصل بين العبارات وأضافت أخرًا كتبت أسفله:
_ حلمت أكون حُـر زي الطير.
وقفت أمام العبارة تتابعها بعينيها ثم اتخذت القرار وسحبت خطًا أسفل هذه العبارة في دعوةٍ منها أو كانتظارٍ لرده عليها فبماذا سيرد ؟؟ وهل يملك من الأساس الرد ؟؟.
سحبت جُرعة لا بأس بها من الهواء الطلق وخرجت من السطح لكي تنزل شقتها، وقد دلفتها بهدوءٍ فوجدت “وعد” في انتظارها وما إن اقتربت منها ركضت نحوها وهي تقول بحماسٍ:
_بصي جيبتلك إيه ؟؟.
انتبهت “عهد” لما تمسكه شقيقتها فأخفضت نفسها لتصبح في مستواها تسألها بملامح وجهٍ ظهرت عليها الفرحة:
_إيه دي ؟؟ علشاني أنا بجد ؟؟.
حركت رأسها موافقةً عدة مراتٍ لتبكي “عهد” بفرحةٍ تشبه فرحة الصغار، ثم عانقت الصغيرة وهي تقول بصوتٍ مخنوقٍ:
_ليه طيب تعبتي نفسك كدا ؟؟ دي من فلوسك اللي كنتي محوشاها صح ؟؟.
حركت رأسها موافقةً بكذبٍ فازداد العناق قوة والبكاء فرحًا والقلب نبضًا وهي ترى ملاكها الصغير يُضيء حياتها كما النجوم في ليلٍ قاتم معتمٍ، بينما الأخرى ما إن رأت فرحة شقيقتها شعرت بالامتنان لـ “يوسف” وهي تراه السبب الرئيسي في فرحة شقيقتها البائسة.
في شقة “فاتن” كانت تتحدث مع ابنها وقد أخبرها برحيله إلى عمله في رحلةٍ بحرية عن قريب ويحتاج منها أن تكون معه، لم ترفض ولم تقو على رفض مطلبه بل أخبرته بالموافقة وأنها ستبقى مع زوجته في شقتها، وحينمت أخبرته بهذا سألها هو بلهفةٍ:
_بجد يا ماما ؟؟ هتيجي ؟؟.
مسحت دموعها وهتفت باستسلامٍ له:
_آه يا حبيبي، هاجي علشان أشبع منك قبل ما تسافر.
تحدث “نادر” بأسفٍ لها وقد أدرك شوقه لها:
_ماما أنتِ وحشتيني اوي عارف إن علاقتنا علطول متوترة وعارف إن فيه حواجز كتير بينا بس أنا عاوز أشوفك ونفسي تحضنيني ينفع ؟؟.
عند هذا الحد وانفجرت تمامًا وتلاشى صمودها لتهتف بلهفةٍ:
_أنا لو عليا مخرجكش من حضني، بس أنتَ عارف مين السبب إن علاقتنا تبوظ كدا، كام مرة أجيلك وكام مرة احايلك وكام مرة أراضي فيك، بتكرهني ليه؟؟ علشان كنت عاوزاكم أخوات؟؟ كان نفسي تكونوا سند بعض، بس فشلت.
أغمض جفونه يسيطر على عباراته وهتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_مش وقته الكلام دا، أنتِ فين علشان أجيلك ؟؟.
انتبهت لسؤاله وتوقف عقلها عن العمل للحظاتٍ هل تخبره بمكانها ويخبر هو أبيه وخاله، أم تصمت ؟؟ تلجلجت في ردها عليه وهي تقول:
_ها ؟؟ أنا…أنا في فندق جديد كدا مع “يوسف” بس أنا هاجي لحد عندك متتعبش نفسك، الليلة دي هكون معاك.
أغلقت معه الهاتف هربًا من إلحاحه عليها وأخرجت الهاتف لكي تتحدث مع “يوسف” وتخبره عن رحيلها طالما هو لم يبقى معها فتتركه أفضل من البقاء هنا.
أغلق “نادر” الهاتف وجلس على طرف الفراش يفكر هل ستأتي بحق أم أنها للمرةِ التي لا يعلم عددها تتركه وتبقى مع “يوسف” ؟؟.
وجد “شاهي” تقترب منه وهي تقول بلهفةٍ:
_بنادي عليك أنتَ فين ؟؟.
انتبه لها ففاجئها بقوله:
_ماما هتيجي تقعد معاكِ هنا، وطول فترة غيابي هي هتفضل هنا معاكِ لحد ما أخلص الرحلة دي.
اندهشت من حديثه وقالت بتوترٍ:
_ماشي تيجي تنور بس أنا كنت قولت لبابا أني هسافر معاه لما ترجع شغلك، كدا مش هعرف أسافر صح؟؟
سألها بنبرةٍ جامدة من بعد حديثها:
_هو أنتِ مبتشبعيش سفر ؟؟ سافرنا كتير ولفينا العالم أظن يعني دي مش نهاية العالم، ولا مش عاوزة ماما تيجي هنا ؟؟
ردت عليه تدافع عن نفسها بقولها:
_أنا مقولتش كدا دا بيتها، خلاص لما طنط تيجي نبقى نشوف صِرفة متقلقش نفسك تعالى بس نشوف البيت كدا ونحضره علشان طنط، يلا.
تحرك خلفها فيما فكرت هي في القيد الذي فُرض عليها من جديد كانت تنتظر سفره لتذهب مع والدها في رحلةٍ ترتاح فيها قليلًا من عبء الحياة والفترة السابقة وهي لم تعتاد على كل هذه المعاناة، بينما هو شعر بحماسٍ غريب فور تذكره لمجيء والدته إلى هنا.
_________________________________
<“لم أكن بحرية الطير…لكن قلبي به الخير”>
هاتفته عمته لتخبره بقرارها الأخير فقرر هو الرحيل إليها ليفهم منها الأمر ويعلم ما تسبب في هذا، نعم رحيلها من هنا يزيح عبئًا من عليه، وفي نفس الآنِ يقلق عليها، وصية أبيه أن يحافظ عليها تجعله دومًا في حالة نزاع إن كان يقبل بها ويحميها أم يفرض عليها كرهه كما يفعل مع البقية ؟؟.
تحرك من شقة والدته ووعدها أن يعود لها الليلة ويقضي ليله بين ذراعيها، وحينما حصل على صك الموافقة رحل إلى بيته فوجد عمته سبقت وقامت بجمع اشيائها، حينها ابتسم وعلق بسخريةٍ:
_دا أنا تحصيل حاصل بقى !!.
ردت عليه بقلة حيلة وهي تحرك كتفيها:
_للأسف أنا في صراع مش مكتوبله يخلص، بس أنا مضطرة أمشي علشان أبني اللي لوحده، أنتَ مش مركز معايا وكتر الف خيرك لحد كدا، هريحك مني شوية وكمان أنا تقلت على “عهد” ومامتها أوي.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة فوجدها تقول بحزنٍ:
_أنا عملت أكل هنا ومستنياه يستوي علشانك وبعدها نتحرك يمكن لما أمشي تقدر تنام هنا، عن إذنك هدخل اتطمن على الأكل.
تركته ودلفت للداخل فيما تحرك هو خارج الشقة وصعد لسطح البيت ينفث هواء سيجارته كما أعتاد وأنه يعلم أن عمته تتعب من رائحتها، وقف في الأعلى فوقع بصره على الجملة التي أضافتها هي فاقترب يقرأها هو الأخر وابتسم بسخريةٍ على هذه الطريقة التي تشبه مراهقين الفترة المدرسية وهم يختلسون الأحاديث مع بعضهم.
أمسك القلم وأضاف أسفل عبارتها:
_معرفش إزاي بقيت متكتف زي الأسير.
أكمل العبارة الخاصة بها بأخرى منه هو ووقف يقرأهما أسفل بعضهما بصوتٍ مسموعٍ:
_ حلمت أكون حُـر زي الطير..معرفش إزاي بقيت متكتف زي الأسير.
تنهد مُطولًا والتفت لكي يهرب من المكان قبل مجيئها فوجدها أمامه فور أن التفت لكي يخرج من المكان، ابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_كنت هستغرب لو مجيتيش هنا.
نحت حديثه جانبًا ولم تعطيه أي أهتمامٍ بل سألته بجمودٍ:
_أظن كتبت على السبورة وضيفت جملتك زي كل مرة صح
حرك رأسه موافقًا ووضع سيجارته بين شفتيه ثم امسكها بسبابته وابهامه فيما وقفت هي تقرأ ما دونه هو لتبتسم بإعجابٍ وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_حلوة، الجملة بصراحة حلوة أوي.
رد عليها بزهوٍ في نفسه:
_كدا كدا “يوسف الراوي” مبيعملش غير كل حاجة حلوة
ابتسمت من جديد بسخريةٍ وهي تراه يحب نفسه إلى حدٍ كبيرٍ، لا يترك فرصةً واحدة إلا وانتهزها يحب نفسه ويثني عليها، قطع الصمت هو بقوله:
_صحيح نسيت اقولك مبروك، ابن حلال أوي خطيبك.
اتسعت عيناها بدهشةٍ وسألته بحيرةٍ أخرجت حديثها مندفعًا:
_أنتَ عرفت منين؟؟.
ترك الجواب وسألها سؤالًا غيره:
_يعني الكلام بجد بقى ؟؟ وافقتي عليه فعلًا ؟؟.
حركت رأسها موافقةً ونطقت بنبرةٍ جامدة:
_آه وافقت، أنتَ بقى عرفت منين؟؟.
رد عليها بلامبالاةٍ تنافي غيظه منها:
_عادي كنت عند الحج وحضرت قعدتهم سوا، بس الغريب بقى إنك توافقي علشان تهربي من ضعفك، فتروحي لحد ضعيف تاني مستنية منه الحماية، الضعيف هيفضل طول عمره ضعيف طالما معاشرش ناس قوية.
بدل لامبالاته بحديثٍ أخر يرسل لها رسالةً يتمنى أن تفهمها ولا تُعاند معه بها، لكنها ردت عليه بنبرةٍ جامدة تهرب من صدق حديثه:
_وهو فين الضعف دا ؟؟ أنا بوافق علشان هو إنسان محترم وأنا شايفة فيه بذرة خير أنا محتاجاها تكبر معايا في أيامي اللي محاوطها الشر، بتفسر الكلام إزاي بمزاجك أنتَ ؟؟.
ألقى سيجارته في الأرض ودهس عليها بقدمه ثم أشار عليها وهو يقول بنبرةٍ جامدة هو الأخر وقد أوشك على الاندفاع غاضبًا:
_شايفة السيجارة دي ؟؟ طول ما أنا بتكيف منها مقدرش ارميها ولا حتى يجيلي قلب أدوس عليها، علشان عارف إنها فيها اللي أنا عاوزه، بس لما بتخلص كدا دا مكانها علشان اللي عاوزه منها خلص، نفس الحكاية الشخص الضعيف أول ما ضعفه يبان يتداس عليه، يتفرم تحت رجل الناس، بتاخدي قرار متهور علشان شوية ضعف بتزويديهم بضعف تاني؟؟ دا اسمه غباء.
اقتربت منه تشهر سبابتها في وجهه قائلةً:
_لو سمحت !! أنا بحذرك إنك تتمادى في الحديث بالشكل دا !! وياريت متتخطاش أي حدود بينا وشكرًا علشان مواقف شهامتك عرفت أني ضعيفة ومش قد حماية نفسي، ياريت متدخلش في شيء ميخصكش.
لم ينتبه لما تفوهت به بل ظل تائهًا في عمق عينيها السوادوتين، ماهذا ؟؟ أهما مجرد مقلتين؟؟ أم أنهما حبتين من اللؤلؤ؟ لقد برع في إخراج الوحش الكامن بها حتى وجدها تهتف بغيظٍ لمعت به عيناها:
_تصدق أنا وقتي غالي على أني أهدره معاك هنا ؟؟.
التفتت لكي تتحرك بينما هو لم يتجاوز هاتين المُقلتين بل ظل كما سبق وكتب أنه وقع أسيرٌ هنا، أين الحرية من قيدٍ أراد هو برغبته أن يبقى متغلغلًا به؟؟.
بعد مرور بعض الوقت خرج بسيارته من حارة العطار لكي يقم بتوصيل عمته إلى ابنها، وبعد فترة من القيادة الصامتة أوصلها أخيرًا إلى هُناك حيث البوابة الرئيسية للمبنى الشاهق المجمع من عدة مباني بجوار بعضها ذات تصاميمٍ رائعة على الطراز العالمي، في واحدة من أشهر المدن السكنية الموجودة بالدولة.
خرج “نادر” من المبنى الخاص به وخرج للبوابة لكي يأخذ والدته بعدما هاتفته وأخبرته أنها على وشك القدوم فاقترب منها بلهفةٍ لكي تعانقه ولم تخيب أمله بل حاوطته بذراعيها وهي تبكي من شوقها له، لاحظ “يوسف” هذا فابتسم بسخريةٍ وهتف لنفسه:
_برميل الطرشي بقى بيحس؟؟ عَجب.
ابتعد عنها “نادر” يحمل الحقيبة الخاصة بها ثم هاتف “يوسف” بتهكمٍ:
_متشكر لافضال سعادتك إنك جيبتهالي هنا، جميلك فوق راسي.
أبتسم “يوسف” باستفزازٍ وهتف ببرودٍ:
_دا كدا كدا وغصب عن عين أبوك.
قرر “نادر” إثارة غيظه أكثر بقوله:
_براحتك كدا كدا رجعتلي أنا في الأخر ياعم اعتبرها جاية يومين تريح منك ومن صداعك.
ابتسم “يوسف” بمراوغةٍ وهتف يرد له الاستفزاز بكتلة برودٍ ثلجية:
_وماله كدا كدا أنا ملك الساحة طول الأسبوع مفيش ضرر لما أسيبهالك يوم، سد بس أنتَ كويس، وبالنسبة ليكِ أنتِ بقى لما “نزيه” يقفل البيت وياخد بنته ويسافر ابقي كلميني علشان أجي أخدك.
ألقى الحديث لعمته وركب سيارته عائدًا من جديد إلى والدته كما عادت عمته الى حضن ابنها وهو فكر أن الأمور بهذه الطريقة في نصابها الصحيح، هذا حلمك يا “يوسف” كلما رأيتها تعانقه وتدلله وهو يعاندك بها كنت تتمنى لو تنطق فقط كلمة “أمي” والآن هيا أيها الغريب عُد إلى وطنك الغالي بقمر الليالي.
__________________________________
<هو كابوسٌ مروعٌ….فقط استيقظ منه”>
دلف مُجبرًا على هذا في مكانٍ يشبه الزقاق الضيق في سردابٍ أضيق نهايته في أحد البيوت القديمة، ما إن دلف هذا المكان وصلته أصواتٌ مُرعبة تشبه الهسهسات الخافتة في الأذن، المكان ضيق ومظلم أنفاسه أوشكت على المغادرةِ، الأصوات المرعبة تزداد بداخل أذنه كما طنين الأذن الوسطى المكتوبة، هناك صوتٌ يناديه لكي يذهب إليه، صوتٌ نبرته خشنة وغلظة ولغته لم يفهمها البشر، بل هو من مَنَّ عليه الله أن يفهم هذه اللغة.
وجد نفسه يعبر زقاقًا غير الذي دلف منه وحينها تبدلت معالم وجهه لتصبح أخرى أشد خوفًا وقد اتسعت عيناه بشكلٍ ملحوظٍ وكذلك بؤبؤاه كبرا في الحجم ليصبح لونهما الأسود يُغطي المقلتين وهناك أفعى عملاقة كبيرة الحجم تركت الصندوق الذي كانت تحميه وسارت على بطنها حتى ارتفعت وواجهته وقبل أن يتحرك التهمته بداخل فمها حينما فتحته على وسعه فصرخ “إسماعيل” بأنفاسٍ لاهثة وصرخ وهو يتألم بوجعٍ شعر به في أنحاء جسده وخصيصًا قلبه الذي نبض بعنفٍ وضاقت عليه الضلوع.
تفحص المكان بعينيه فوجد نفسه بغرفته وماهذا سوى كابوسٍ مروعٍ كاد أن يموت بداخله، جلس هذا المسكين يلهث بأنفاسٍ مُتقطعة ثم خطف علبة سجائره يعرب من نوبة الهلع التي داهتمه، رعشية كفيه وخلل ركبتيه وضيق ضلوعه ووخز دموعه، هو هنا يُعاني من كل شيءٍ.
طرق “إيهاب” فوق الباب الخاص بغرفته فحاول هو تحريك جسده المشلول وتحرك أخيرًا نحو الباب يفتحه فوجد أخيه أمامه يقول بتعجبٍ:
_لسه نايم لحد دلوقتي يلا ياعم ورانا شغل الضهر قرب.
ازدرد لُعابه ولم يجد حروفه لكي يجاوبه فقط صمت عن التحدث وهو يشعر بالآلام تتفرق في أنحاء جسده وقد لاحظ “إيهاب” حالته فسأله باهتمامٍ وهو يتفحصه بنظراته:
_”إسماعيل” أنتَ كويس؟؟
حرك رأسه موافقًا يوميء له بخفوتٍ فتحرك “إيهاب” لكي يعود إلى الأسفل فوجد أخيه ينطق بلوعةٍ أخرجت صوته مهتزًا:
_”إيهاب” !!
التفت له شقيقه يطالعه بنظراتٍ مُتفرسة فوجده يطالعه بخوفٍ وهو يقول وكأنه طفلٌ صغيرٌ يخشى دخول غرفته في الليل:
_خدني في حضنك، أنا خايف.
ذَهُلَ “إيهاب” من طلب أخيه وعلى الفور أقترب منه يحصنه بذراعيه وقد فهم حالة أخيه وأنه رأى الكابوس المزعج من جديد، شعر بارتجافة جسد “إسماعيل” بين يديه فهمس له يُطمئنه بقوله:
_بس أنا هنا معاك أهو، أنتَ خايف ليه يا واد؟؟ محدش يقدر يقرب منك وأنتَ معايا، بس يا حبيبي متخافش.
تمسك به “إسماعيل” وهو يحاول التهرب من خوفه وآلامه فلازال الكابوس يملك أثرًا قويًا عليه، لم يكن مجرد شعور بالخوف، إنما هي مشاعر قاتمة سكنته وتوغلت بداخله حتى أن الضوء إذا وضع أمامه لن يفيد.
________________________________
<“حديقة ممتلئة بالزهور اليافعة لكن هناك زهرة مضيئة”>
كان “أيوب” جالسًا مع مع أخته ومع “إياد” الذي جلس متوترًا يتلو آيات الذكر الحكيم بعدما أخبره عمه بضرورة التسميع، وقد أنهى”إياد” التسميع على الرغم من توتره من هذه اللحظة، وبعد نهايته من هذا الفعل الجميل وفخر عمه به وعمته التي احتضنته بحبٍ بالغٍ فسألهما “إياد” باهتمامٍ:
_عمو “أيوب” هو يعني إيه غليظ القلب؟؟ أنا مش فاهمها.
تحدث “أيوب” مفسرًا بعدما جلس أمامه:
_غليظ القلب دول يعني الناس اللي قلبهم قاسي وبيتكلموا كلام صعب يجرحوا بيه الناس علشان يبانوا مبهرين وناس جامدة، دول ماس قلبهم قاسي والعياذ بالله ربنا ينجينا.
تحدث “إياد” مستفسرًا:
_يعني ناس دبش صح؟ زي ما جدو بيقول؟؟ بس كان فيه مستر قال إن الدبش قلبه طيب.
حرك “أيوب” رأسه نفيًا وهتف بتفسيرٍ أكثر:
_الناس الدبش مش اطيب قلوب ولا حاجة، الناس الدبش مش طيبين أصلًا واللي عنده المقدرة انه يأذي الناس نفسيًا كل يوم بكلامه من غير ما يحس بتأنيب ضمير ويبرر لنفسه إن دا شيء راجع لطيبة قلبه يبقى مستحيل يكون طيب، ربنا قال في كتابه العزيز:
“وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ”
ربنا ربط غلظة القلب بفظاظة اللسان، يعني اللي لسانه صعب ومتقدرش تتفاهم معاه، هتلاقي طبعه صعب برضه والناس كلها بتخاف تقرب منه، مش شطارة هي أني أبقى الشخص الجامد اللي مفيش منه اتنين وكدا أنا جامد أوي، لأ مننساش إن سيدنا “محمد” ﷺ:
” ليقل خيرًا أو ليصمت”
_يعني لو مش قادر أكون شخص لسانه طيب بينطق بالخير اسكت أحسن ودا أفضل شيء أني اقتدي بسيدنا “محمد”ﷺ،
بعدين المبررات كلها غير منطقية، يعني أصل أنا بتكلم بتلقائية مببقاش عارف ان حد هيتأذي من كلامي، وناسيين إن ربنا قال:
“وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه لا يُلقي لها بالا يهوي بها في جهنم”
(لا يلقي لها بالا) يعني : لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئًا وممكن يكون عاقبة ماتفوه به أكبر بكتير من قدرة تحمل اللي قدامه، يعني لو أنتَ شخص صعب وغليظ وفرحان بحاجة زي دي، حارب علشان تكون شخص عنده أدب وذوق وتبقى من أهل الأخلاق واللي يسألك ترد عليه إنك بتقتتدي بخير الأنام، وتذكر قول “خالد بن الوليد” حين قال:
_”إنها صحيفتك…املؤها بما شئت”
ابتسم”إياد” له بفخرٍ فدلف “أيهم” معهم يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_الجنينة كلها ورد مفتح بس فيكم وردة منورة.
ضحك الثلاثة له فجلس هو معهم وقال بإعجابٍ صريح:
_سمعت الكلام كله وبصراحة لمسني، ربنا يهدينا إن شاء الله، ابقى نزله على صفحة “غوث” علشان أعمله شير.
تحدث “إياد” بلهفةٍ قبل أن ينسى من جديد:
_طب يعني إيه نميمة وغيبة وبَهتان.
تحدث “أيهم” بسخريةٍ:
_بَهتان ؟؟ دا في حبل الغسيل يا حبيبي مش هنا، اسمه بُهتان ودي هتشرحها ميس “آيات”
كتمت “آيات” ضحكتها ثم بدأت الحديث بقولها:
_الإساءة في حُضور الشخص تُسمى
= شتم و سب
الإساءة في غِياب الشخص بِصفةٍ فيه تُسمى
= غيبة
الإساءة في غِياب الشخص بصفةٍ ليست فيه تُسمى
= بُهتان
نقل الإساءة و الكلامّ من شخص لشخص يُسمى = نميمة
إمام يقول (لو إغتبت فى كل يوم شخصين فقط) وعشت بعد سن البلوغ سِتين سنة معناه يوم القيامة راح يكون عندك 32400 خصم أمام الله هل انت مستعد!!
“وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عظيم”
للمعلومة من تخلص من الغيبة و النميمة تخلص من ثلث عذاب القبر
كفارة الغيبة :
اللهم اغفر لي ولمن اغتبتُه و ظلمته وأسأتَ إليه وتجاوز عنّي وعنه. ربنا يعافينا من الكلام السيء ويعافينا من فظاظة اللسان وقسوة القلب.
دلف “عبدالقادر” لهم يبتسم بحبٍ وما إن وقع بصره عليهم مع بعضهم جلس وسطهم بعدما ألقى عليهم التحية ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_النهاردة عاوز “أيهم” و “أيوب” معايا علشان “أسامة” جاي يقرأ فاتحة “عهد” وطبعًا لازم نحضر علشان إحنا أهلها ولازم يعرف إن وراها رجالة، تمام ؟؟.
حرك كلاهما رأسه موافقًا فيما هتفت “آيات” بحبٍ وطيبة قلبٍ:
_جماعة أنا فرحانة علشانها أوي ممكن أجي معاكم أكون معاها هساعدها ونجيب “مهرائيل” كمان ؟؟ ممكن؟
تحدث “عبدالقادر” بخضوعٍ لها كعادته:
_من غير طلب تيجي تنوري، وهي طلبت إنك تيجي.
__________________________________
<“الأمر مجرد لعبة لما أصبحت حقيقة؟”>
قامت “مارينا” بسرد كافة التفاصيل على “مهرائيل” وموقف “يوساب” الشجاع معها وتوصيله لها إلى المنطقة هنا، فضحكت شقيقتها بمرحٍ وفرحةٍ غريبة جعلتها تسألها باستنكارٍ:
_أنتِ بتضحكي على إيه؟؟ دا موقف يضحك؟؟
حركت “مهرائيل” رأسها نفيًا واضافت تعدل على حديثها:
_لأ دا موقف عاوز رقص وغنا وفرح، أخيرًا لولا الملامة والله كنت خدت فرقة طبل بلدي وأروح الجامعة ازفه ابن الهطلة دا، بس عارفة اللي هيمنعني إيه ؟؟
ردت عليها الأخرى بتيهٍ:
_إيه؟؟.
ردت عليها بتفسيرٍ وقد توسعت ضحكتها الفرحة أكثر:
_إن الفلوس دي خسارة فيه وهروح أجيب بيها شيكولاتة كيت كات وفشار، أما الواد “روماني” دا فحطوه على رومان بلي يمكن يتعلم اللف والدوران كويس.
في محل “بيشوي” كان جالسًا يتصفح هاتفه وهو يرى بعض الخطوط الجديدة التي يتعلم هو طريقتها ويتعملها ويكتبها على خامات عملهم، فدلف له “يوساب” يرحب به بفرحةٍ شديدة لاحظها “بيشوي” على الفور فسأله عن السبب وكان الجواب بما حدث بالأمس وموقفها معه وموقفه معها.
لم يُنكر “بيشوي” فرحته بهما لذا هتف بدهاءٍ يغلفه الغموض المُريب:
_بقولك إيه ؟ تيجي نلعب لعبة حلوة ونتسلى شوية.
نظر له “يوساب” باستنكارٍ شديد فهمه “بيشوي” ففسر سابق قوله بحديثه هاتفًا:
_يعني نروح لـ “جابر” نهزر معاه شوية نستفزه نخليه يرفضك أنتَ كمان وأهو تبقى تسلية ورمي كلام نشوف رأيه بيه، تعالى بس خليك معايا ها ؟؟.
لم يقو “يوساب” على الإعتراض ووافق على الرغم من القلق الذي ساوره وبلغ أشده في قلبه، لكن أذعن ووافق على هذا الفعل، وبعد مرور دقائق وصل الاثنان للمحل الخاص بوالد الفتيات الذي نظر لهما بتعجبٍ وابتسم متهكمًا وهو يقول:
_خير؟؟ إيه سبب الزيارة الكريمة دي؟؟ لعل المانع خير.
ابتسم له “بيشوي” وقال بسخريةٍ:
_والله يا عمو “جابر” كان نفسي يكون خير بس أنا عارف إنك مش طايقني ولا أنا طايقك بس قولت يمكن تكون بطيق “يوساب” اللي جاي يقولك حاجة مهمة أوي.
انتبه لهما “جابر” فلكزه “بيشوي” حتى انتبه وتحدث بنبرةٍ هادئة أعربت عن توتره:
_أنا…أنا جاي أقول لحضرتك أني عاوز أطلب أيد الآنسة “مارينا” بس لما تخلص جامعتها أنا مش مستعجل أنا….
وقف “جابر” وأدرك سبب المجيء إلى هنا فنظر إلى “بيشوي” الذي تيقن من رفضه فتفاجأ به يقول بوجهٍ مبتسمٍ ومرحبًا بفكرتهما:
_بس كدا ؟؟ وطبعًا أنتَ جاي فاكرني رافض، بس أنا موافق ومرحب جدًا هو أنا أطول يعني إن دكتور زيك يطلب أيد بنتي، لو عاوز تعمل نص إكليل كمان وتتمم الجواز بعد آخر سنة ليها أنا موافق، دا يوم المُنى يابني.
نظر كلاهما للأخر بتعجبٍ تلاشى من قبل “بيشوي” الذي فهم أن “جابر” يهينه بصورةٍ غير مباشرة وأنه لا يليق بابنته الكبرى وأن هذا الشاب الصغير أحق منه في نسب هذه العائلة، ألم تكن مجرد لعبة ؟؟ لما انقلبت عليه؟ ام أن اللعبة لم تبدأ بعد ؟؟.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى