روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء التاسع والعشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت التاسع والعشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل التاسعة والعشرون

الفصـل التاسع والعشرون
” الجزء الأول من الفصل ”
(29)
” رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
-حتى ولو جف حبر قلمي فلم يجف حُب قلبـي ، لن أعلن ظمأي لرؤياك لأن وجودك كان بالعمـر مُجرد سـراب ، ولكن ‏ذلك لا يمنع إعلان إلى أي درجة خذلتني ..
لأنك كُنت سبيلي الوحيد للنجاة ..
كُنت أذهب إليك كلما أردتُ العزلة، واتحدّث إليك عندما أود الصمت، و أحبك عندما لا أطيق الآخرين .. كُنت قمري المُستنير في ظُلمة أعوامي .. والآن بتُ أنا والنجوم نبحث عنك .
ماذا فعلت بـ ضي العُمر يا ليـل ؟!
نهال مصطفى.
•••••••••
” مصيبتي العظمى بالحيـاة أنني واجهتها بقلب سليـم ووجه واحد ، بينمـا الجميـع يمتلك وجوه كثيرة ومتلونـة ”
حل المساء وما زالت ” عاليـة ” تنتظر قدومه على مراجل من نار ، كل ما بها يغلي كفقاقيـع المـاء ، لم تُفارق المرآة وهي تتفقد زينتها ، محو تفاصيلها الحزينة ، تأليف مائة ” سيناريو ” لإظهار قبولها له كزوجًا حقيقيًا ، رمت الفرشاة من يدها متأففـة :
-أيه الجنـان ده يا عاليـة ! فوقي لنفسـك ، أنت أغلى من كده .. لالا مستحيـل الهبـل ده يتم ، أنا لازم أغير هدومي بسرعـة ، زمانه على وصول .
كادت أن تحطم جدران مخططها ولكنهـا تراجعت إثر كل الأحاسيس المتدفقـة بقلبها ، تقلصـات الاعتراض توسطت بطنهـا وهي تتذكر رحيق أول قُبلة من ذلك الشخص الذي كانت تخشاه ، عطر الأمان المُعلق بظله ، معه يخشى الخوف أن يقترب منها ، ارتمت نظراتها الى ذلك الفراش الذي شهد على قبلة طويلة لاذعـة فضت بقلبها حيرة من المشاعر ، تناولت هاتفها وكلمته مرة ثانيـة ، رد عليـها وهو يقود سيارته :
-اتفضلي يا عاليـة .
ظهر الضياع بصوتها حتى استجمعت نفسها قائلة :
-أنا كُنت عايـزة اتكلم معاك في حاجة مهمة ، وأنت قلت جاي ومجتش و ..
-أسف يا عالية ، بس في مشكلة في فرع اسكندرية ولازم أحلها بنفسي ، واضطريت اطلع على هناك ، أنا حاليـا في الطريق .
أصدرت إيماءة خافتـة :
-تمـام ، هتتأخر ، قصدي هتقعد كام يوم ..؟
-يوم أو اتنين بالكتيـر ، المهم أنتِ خلى بالك من نفسك ، وانا هحاول أرجع على طول ..
لقد تعوّدت على دفن جراحها العميقة ، والسير لكل شيء بخطواتٍ ثابتة وكأن لا شيء يهتز بداخلها ، ما عدا تلك المرة ؛ باتت محاطة بالتشتت والضياع أكثر من أي وقت آخر وباتت تفتش الأركان على ظله حتى ولو كلفها الأمر عذريـة روحهـا التائهة .. فاقت من شرودها على صوت ندائه ، فـ تمتمت :
-أنا كويسـة ..
ثم انتفضت من مكانها قائلة بقلقٍ :
-البـاب بيخبط .
-طيب شوفي مين قبل ما تفتحي ، وأنا معاكِ على التليفون .
ارتدت إسدال الصلاة بسـرعة وهو يتابعها عبر الهاتف ، اقتربت من الباب ونظرت من العين السحرية ثم همست له عندما ابتعدت بخطوات عن الباب :
-واحدة ست ، بس أول مرة أشوفها ..
-خلاص متفتحيـش .
ترددت عالية وهي تقترب نحو الباب :
-يمكن غلطانة في الشقـة أو حاجة ، أنا هفتح أشوفها خليـك معايـا كده ..
فتحت عالية الباب ثم ارتسمت ابتسامة مجاملة :
-اتفضلي !
سيدك في منتصف الثلاثين من العُمر ، ترتدي بدلة أنيقة وشعرها كستنائي يغطى نصف وجهها ، أزاحت خصـلة وراء أذنها وقالت بشكٍ :
-مش دي شقة الباشمهندس مراد !
تفقدتها عاليـة من رأسها للكاحل بعيون فاحصة وهي ترد بضيق :
-آه هي .. أنتِ مين بقا !
-أنا المهندسة ريناد شكري ، صديقته المُقربة وشريكته في مشروع التجمع الجديد .. أنتِ مين !
تبدأ عذابات المرء عند أول دقة حُب للأشياء التي يملكها ، أحست عاليـة بالاختناق المجهول ولكنها رسمت ابتسامة زائفة وقالت بنبرة حازمة :
-أنا المهندسة عاليـة ، مراته .
لم تتغيـر ابتسامة ريناد بل اتسعت أكثر وقالت بلطفٍ :
-أيه مش هتقوليلي اتفضلي !
فتحت البـاب أكثر وأشارت بكفها :
-لا ازاي اتفضلي طبعـا ، ده حتى مراد معايا على التليفون تحبي تكلميـه !
-أحب جدًا ..
قالت ” ريناد ” جملتها وهي تتقدم بدقات كعب حذائها داخل الشقة ، وضعت عالية الهاتف على آذانها وسألته :
-أنتَ تعرف المهندسة ريناد شُكري ؟
رحب مُراد مجرد سماعه للاسم وتحمس وقال بلهفـة :
-طبعًا أعرفها ، دخليها بسرعة يا عاليـة وأدهاني اسلم عليها .
تبدلت ملامح عاليـة بامتعاض ثم مدت لها الهاتف وقالت بفتور :
-كلمي ..
-شفت أنا أجدع منك أزاي ! أيه يا هندسة كده غبت وقُلت عدولي !!
ثم أطلقت ضحكة مرتفعة وهي تجلس على أقرب أريكة :
-أنا هشتكيك لمراتك ، تشوف حل بقى .. متقلقش باين عليها حد لطيف وهناخد على بعض بسرعة ….
تلك المرة لم تستطع عالية وصف حالتها ولكنه شعور أشبه بالجنون ، أنتهت ريناد مكالمتها الوديـة مع مراد ثم ألتفتت إلى عالية وقالت :
-مُراد حكالك عني !
رسمت ضحكة مزيفة وقالت متعمدة :
-خالص ، قصدي لا ، يعني محصلش وقالي أن عنده صحاب بنات وحلوين كده زيك ..
تبسمت ريناد ثم قالت :
-ده طبع مراد ، كلامه قُليـل ، وفي مكانه لا بيزود ولا بينقص ..
وضعت عالية ساق فوق الأخرى وهي تخفي لهب الغيرة وراء وجهها المتمدد و
-لا ده أنتِ تحكي لي بالتفصيـل بقى …
•••••••
انتهى يوم مُهلك بالنسبـة للجميـع ، مع حلول الساعة الحادي عشر ، عاد عاصي إلى القصر بعد ما لبى كل متطلبـات بناته على الرحب والسعة ، لم ينكر تلك الأحاسيس المتولدة من فطرته الأبوية نحو صغاره ، خوفه الشديد عليهم ، مُراقبتهم بعيونه التي لم تغفل ، بالعالم النقي الذي انتقل إليه ، عالم مُحاطة بالفراشات والضحكات ورائحة الورد وكل ما هو نقى .. اكتشافه لهوية حياة الجديدة ، تلك الصغيرة الكبيرة المُعاندة معه ، صاحبة الجمال الساحر والروح الخفيفة ، صف أمام باب القصر حتى أسرع إليه الحارس ليفتح البـاب وما أن هبط من سيارته تابعته حياة ثم الفتيات .. شرع الحارس في حمل الحقائب من السيارة وفي تلك اللحظة نادت تالـيا على أبيها :
-بابـي ..!
توقف ثم دار إليها صامتًا حتى اقتربت منه ووقفت أمامه ، أشارت له بكفها الطفولي كي يتدلى لمستواها وما أن لبى طلبها فوجئ بعناق قوي منها ، تعلقت الصغيرة بعنقه ودفنت وجهها بكتفه وهي تخبره بحنـو :
-أنا بحبگ أوي ، النهاردة كان أحلى يوم ، أبقى أخرج معانا على طول ..
للمـرة الأولى يضـم ابنته إلى صدره فتحولت كل صخور الجليد بـ قلبـه إلى سيول تروي كل أطراف جسده ، انضمت داليـا إليهم بكفوفها الصغيرة ولكن سرعان ما سد فراغ الجهة الأخرى من صدره بضمها وتقبيلها وهي تعلن بمرح :
-وأنا كمـان بحبـك يا بابـي .
أنه لعمل بطولي أن تقوم باستعادة الحيـاة للمرء بعد أن ضل بين ثناياها ، أن تحسسه بقيمـة ما لديه من نعمٍ حتى لا يتوه في خرائط النقـم .. أغرورقت عيني ” حياة ” ببريق الفرحة وهي تشاهد تلك العاطفة الجميلة التي غابت عنهم ، حمل عاصي بناته ودخل القصر ، اتبعت حيـاة خُطاه بارتياح حتى وقف بالقُرب من الجالسين حيث فوجئ بوجود خالتـه تقترب منه بفرح :
-جوز بنتي وأبو حفيدي اللي جاي ، ألف ألف مبـروك يا عاصي يتربى في عزك يا حبيبي ..
أنزل البنات برفق فـ انطلقن نحو حياة وتشبثن بكفوفها ، راقبت ” عبلة ” الموقف بحقد وبغض حتى أكملت خِطة أختها :
-بكرة ينور ولي العهد اللي هينسيك الدنيـا كلها ، ما أنت في الأخر مالكش غير مراتك وابنك ..
كادت حياة أن تنصرف برفقة الفتيات ولكن أوقفها صوت عاصي الحاد :
-أنا مراتي واقفة ورايا مع بناتي .. غير كده بلاش نسبق الأحداث ..
انزعجت جيهان من تلك النبرة التي يتحدث بها ولكن الغاية دومًا ما تبرر كل شيء ، اقتربت منه وربتت على كتفه :
-وماله يا حبيبي ، محدش أنكر ده ، وبردو هدير مراتك واللي في بطنها ابنك ، على فكرة هي مستنياك فوق عشان لو في حسابات ما بينكم تصفوها والميـه ترجع لمجاريها ..
هنـا عزمت حياة على الرحيـل من تلقيحاتهم السخيفة ، اقترب عاصي من عبلة وقال بحدة :
-أنا سايبك تعملي كل اللي عايزاه ، بس مش هيحصل غير اللي عايزو وبس ..
ألتوى ثغر عبلة بسخرية وهى تضرب كف على الأخر وتصيح :
-وخف دلع شوية للست هانـم ، عشان شوية ومحدش هيعرف يكلمها .
-ممكن تشيليها من دماغك خالص ! لأن اللي هيزعلها كأنه زعلني بالظبط ..
ثم ألقى نظرة ساخطة على خالته وأكمل :
-وكمان محدش هيقعد في بيتي غصب عني ، بس مسألة وقت ..
تلك الجملة الأخيرة التي أخرجها عاصي مُغلفـة بشرار عينيه التي كانت جميعهـا من نصيب جيهان التي اهتزت من مكانها ، ولى ظهره منصـرفًا إلى غُرفته بخطوات ثابتة ولكن ذلك لا ينفى بركانه الثائر بجوفه ، مالت جيهان على أختها هامسـة :
-ابنك مش ناوي يعديها على خير يا عبلة ، والبت اللي معاه دي لازم نخلص منها قبل أي خطوة .
أجابتها عبلة بشرود في ضباب شرها :
-هو اللي ابتدى الحرب دي ، نعدي بس الحفلة وكل واحد هياخد اللي يستحقه …
قد يحدث وأن ترفض كلَّ الكؤوس الممدودة إليك، وتبقى وفيًا لعطشك العنيد ، وصل عاصي إلى غرفته التي خبط بابهـا بقوة أسقطت فرشاة الرأس من يد ” حياة ” ، حتى هبت زعابيب غضبـه قائلًا :
-أنتِ بأي حق تكسري كلامي ! أنتِ فاكرة نفسك مين عشان تتصرفي من دماغك .
كادت أن تتحدث ولكن ثورته العارمة كانت أحر من أن تقف أمامها حتمًا ستحترق ، تلك التنهيدة التي اندلعت من صدرها أوشكت أن تخنقها ، اقترب منها ونهرها :
-يعني أيه أقولك لا على حاجة وترجعي تعمليها !
-عشان مش شرط تبقى دايمًا أنت اللي صح ، وأنا معملتش جريمة لده كله كـ…
ضرب الخزانة بقبضـة يده بانفعال هزها وصرخ بوجهها :
-وهو في جريمة أكبر من أنك متنفذيش كلامي !
ساد الصمت للحظات تعلق غضبه بوميض عينيها الثلجية حتى تحولت عواصف لنسيـم ورفع حاجبه متسائلًا :
-هااه .. ردي !
رغـم هدوئها أمامه إلا أن داخلها يفيض حيرة حول هوية ذلك الرجل متقلب المزاج ، غاصت في محاولة فك شفرته للتعامل معه ولكن كل مرة كانت تنتهي بالفشل ،قطمت شفتها السفليـة بتوتـر :
-تمـام ، وأنا جاهزة لأي عقـاب ، ما دام ده هيرضي غرورك يعني ..
ما زال محتفظًا بمعالم وجهه المنكمشـة رغم ليونة كل دواخله وقال بنفس بنبرته الجافيـة :
-أسبوع كامل ممنوع تنزلي من الأوضة ولا تشوفي البنات .. والأكل هيوصل لحد عندك .
أعلنت تعابير وجهها الاعتراض على حكمـه :
-بس أنت كده مش بتعاقبني لوحدي ! البنات أيه ذنبهم ، أنت عارف همـا اتعلقوا بيـا أد أيه .. وبعدين أنا ممكن اتجنن لو فضلت محبوسة هنـا أسبوع بحاله .
ثم هبت من مكانها ووقفت أمامه بعد ما ارتدت درع العِنـاد :
-وبعدين أنا عملت أيه لكل ده ! خرجنا وانبسطنـا حتى أنت كنت مبسوط ، ودي كانت أول مرة أشوفك فيها شخص عادي زينـا ..
رسى فكرة فوق شط جملتها الأخيرة :
-أومال الأول كُنتِ شيفاني أيه ؟
-ده مش موضوعنـا …
قالت ردها الأخير بعد إيماءة طويلة كأنها تبحث عن جوابٍ لا يزيد الأمر سوءًا ، تراجعت خطوة للوراء وكأن بعينيها مغناطيسًا جذبه إليها خطوتين وهو يقول :
-في حل تاني ، وأنتِ اللي هتختاري عقابك بنفسك ..
-حل أيه ؟!
أشار بطرف عينيه إلى مرقده الفخـم ، اتبعت نظرته لوهلة ثم عادت إليه بتشتت :
-مش فاهمـة .. يعني أيه !
لانت نبرة صوته وارتاحت ملامحه الغاضبة وهو يحاورها بهمسٍ :
-يا أما تنامي على سريري لمـدة أسبوع ..
أردفت بجزل طفولي :
-وأنتَ هتنـام على الكنبة !
تبسم بمكـر :
-وده ينفع بردو !
-أومال ..؟
-هتنامي جمبـي ، أو متشوفيش البنات لمدة أسبـوع .. فكري لحد ما أخد شاور ، هسيبك تختاري عقابك بنفسك ، وده أوبشن مش بديـه لأي حد !
انصـرف من أمامها عندما انتهى من قول جُملته ، تناول ملابسـه ثم اتجه نحو المرحاض وهو يدندن بلحنٍ ما لأحد الأغاني ، أخذت تقطم في أظافرها بغيـظٍ حتى قالت بتوعد :
-مش أنا اللي يتلوي دراعها يا عاصي بيـه .
••••••••
وقفت عالية على أعتاب الشقـة تودع رينـاد التي جلست معها قرابة الساعتين قدرت بهمـا أن تكسب القليـل من ثقتها ، لوحت لها عاليـة متقبلة الأمر بعد ما قربت من شخصية ريناد وعملت أنها سيدة لطيفة وأن العلاقة بينها وبين مراد لاتتعدى حدود الصداقة :
-هستنى اتصالك ..
تبسمت ريناد وهى تفتح باب المصعد وأردفت بخفة روح :
-أحنا خلاص بقينـا صحاب ، وكل يوم هتلاقيني عندك..
بادلتهـا بابتسامة تدل على الرحب والسعة :
-تنوري ، باي باي ..
قفلت عالية الباب بعد مغادرتها ثم أخذت نفسًا طويلًا :
-البنت لطيفـة أهي ، روقي يا عاليـة روقي وبلاش دماغك دي تسوحك ..
في الأسفل؛ صعدت ريناد سيارتها وهى تجري مكالمتها التليفونية مع مراد الذي كان ينتظر اتصالها على نار ، رد بلهفـة :
-أيوه يا دكتور ..
ارتاحت ريناد بداخل سيارتها وهى تخبره :
-أنا اتكلمت معاها ودردشنـا كده ، متقلقش معرفتش حاجة واتعمدت مجبش سيرتك خالص ، بس عاليـة جواها تشتت وتوهان فظيع يا مراد ، وبجد كويس إنك فكرت في الطب النفسي لانها محتاجة ده أوي …
تنهد مراد بارتياح وهو يستنشق هواء بحر اسكندرية ثم قال :
-طيب لازمها أودية أو علاجات ؟!
-لالا ، عاليـة في المرحلة دي محتاجة بس تحس أنها محبوبة ، في حد مهتم بيها ، ثقتها في نفسها ترجع ، وبعدين أنا أخدت بالي من حاجة ..
خطى مراد خطوتين أمام البحر وقال باهتمـام :
-حاجة أيه ..
-على حسب كلامك ؛ أن علاقتكم بعيدة ، مش زوج وزوجة ، بس لما روحت لها لقيت عكس كده خالص ..
مراد بتعجب :
-مش فاهم .. قصدك أيه يا دكتور !
فكرت ريناد للحظات ثم قالت :
-مش هنسبق الأحداث ، بعدين هفهمك المهم أنت خليـك بعيد اليومين دول ، عايزة أتاكد من مشاعرها ناحيتك الأول عشان أقولك قرب أو أبعد ..
شكرها مراد بامتنان وعلى وقتها وتقبلها لمساعدته بهذه الطريقة ، لانها صاحبة الفضل عليـه في تجاوزه فترة مهمة في حياته فنشأت بينه وبين طبيبته النفسيـة علاقة طيبة بالإضافة إلا أنه ساهم في إنشاء مقر عيادتها العلاجية بأقل تكلفة فأرادت أن ترد له الجِميل ، قفل مراد معها ثم زفر غاز حيرتها للبحـر وقال :
-أهم حاجة عندي تبقى كويسـة يا عاليـة ، حتى ولو مقررة منكملش !
ثم وضع كفه على قلبـه إثر تلك النغزة المفاجأة وتنهد بتشتتٍ :
-أنت حبيتهـا ولا أيه !
••••••••
خرج عاصي من المرحاض بعد ما أنهى حمامه وحلق ذقنـه القصير ، وما أن خرج فوجئ ببناته يركضن إليـه ، رفع عينيه بتخابث وقال بفتـور :
-مش المفروض ده وقت نوم !
هزت تاليـا رأسها وقالت :
-بابي ممكن نذاكر معاكـم ..
رفع حاجبه ممتعضًا :
-تذاكرو أيه ياحبيبتي ؟!
تقدمت داليـا ببراءة :
-مش حضرتك قلت أنطي حياة بتذاكر لك ! أحنا كمان عايزين نذاكر معاكم !
ربت على كتفها بغلٍ وهو يتوعد لحياة بنظراته الحارقـة :
-مش نفس المنهـج يا عسـل .
-يعني أيه يا بابي !
ركضت حياة إليهم وتعمدت تحاشي نظراته الشرسة :
-مش مهـم ، أحنا هنـام دلوقتـي ، والصبح نذاكر سوا .
هلل الفتيات بفرحة وهن يركضن نحو الفراش ، بينما عنه اصطاد فريسته من معصمها وشدها إليه متسائلًا بغيظ :
-مين جاب العيال دي هنـا !
لم تظهر ملامح خوفها بل كانت تطالعه بانتصـار :
-ما قولولك جايين يذاكروا !
ثم تنهدت بارتيـاح وأكملت :
-أنا عارفة أني معاقبـة ومحرومة من نومة الكنبـة ، عشان كده أنا هنـام على السريـر وأنت نام على الكنبـة .
ما أن أنهت جملتها فرت من يده هاربـة كالفأر الخائف من قطه المتوحش واختبأت بالحمام ظنًا منها بأن ذلك سينجيها من براثينه الطائلة ، هز رأسه بعِناد :
-لا عجبتني لعبـة القُط والفـار دي ، بس على مين !
••••••••
-أنتَ ممكن تروح ، وأنا هنـام هنـا !
تلك الجملة التي أردفتها شمس لتـميم بعد قضاء يومًا مهلكًا بالمشفى ، أعترضت ملامحه قبل لسانه وهو يقول :
-سيبك مني دلوقتي ، هي عاملة أيه !
جلست شمس بجواره على أحد المقاعد بممر المشفى وقالت :
-لسـه تعبانة وفي الرعاية ، قالوا الصبح هتنزل أوضتها ، بس الممرضات طمنوني وقالولي أنها بخير وده كله إجراء روتيني .
ربت على ركبتها بحنـو :
-يبقى اطمني قلقك ده مفيـش منه فايدة ! تحبي نروح ونيجي الصبح .
تلهفت برفض قاطع :
-لأ ، مش هقدر اسيبها لوحدها ..
ثم ألقت نظرة إلى كريـم :
-خلي كريم يروح ، باين عليـه التعب هو ملهوش ذنب .
أطرق بنبرة أحن من الحرير :
-كريـم لو تعبان كان روح ، متفكريش في أي حاجة أنتِ بس ..
هزت رأسها بخفوت ثم فزعت كالملدوغة :
-تميم بس أدويتك وو
-أهدي يا شمس ، السواق راح وجاب لي الدوا ، أنتِ اللي مصممة تقلقش نفسك .. يلا قومي نروح الأوضة عشان ترتاحي وتعرفي تقفي مع نوران بكرة .
لبت طلبه باستسلام بعد ما مسحت وجنتيها من إثر الدموع واصطحبته إلى الغرفة التي حجزها كريم ، أقترب الأخير منهم وقال :
-تمـيم أنا هنزل أنام في العربية تحت لو احتجت أي حاجة كلمني .
تدخلت شمس بامتنان :
-تقدر تروح ، كفاية تعبك معانا .
حدجها بلوم ثم قال لتمـيم بمزاح :
-أنت مفهم مراتك أننا ما نعرفش في الأصول ولا أيه !
تبسم تميم كي يخفف من الضغط النفسي عليها وقال :
-قلت لك يا شمس أن كريم راجل وأدها ، هي بس اللي مش عايزة تريح دماغها يا عم .
••••••••
“هناك أمر لا تستطيع أن تجتازه بسهولة ، هناك شعور لا يجديه التغاضي عنه ، هناك عتاب طويل في صدرك كتمانه صعب و إفصاحه إهانة ، هناك أشياء لا تبدو بتلك البساطة ، شعور إني أمتلك عشرين يومًا من العُمر ، هو نفسه شعور طفل حديث الولادة فتح عيناه فلم يجد سوى عيني أمه ، يتعايش معها ويصنع الذاكريات والأيام دون التفتيش عن ذاته بالماضي ، ماذا يفعل المرء عندما يُولد من رحم البحر على يدي صياد ماهر مثله ! ”
أخذت تمسح وجهها عدة مرات كي تفتت ذلك الجبل المنيع بين ذاكرتها والماضي ، تفقدت ملامحها في المرآة وهى ترجع بالذاكرة عن أحداث اليوم الذي ولد بداخلها روح جديدة أحبت ذلك القدر الذي جمعها به ، اقتحامه لخصوصيتها أثناء قياسها للفستان ، تفقدت خيوط يدها التي لم يتركها طوال اليوم ، رجلها التي خدعتها وكادت أن تهوى أرضًا ولكن جاءت يده إليها كطوق نجاة .. تبسمت عندمـا تذكرت تلك الصغيرة التي أصرت أن تلتقط لهم صورة معًا .. وهي تخاطب أباها أن يقترب أكثر ! استغلاله للفرص التي كانت تجمعهما معًا ، لأول مرة خفق قلبها وتمنت ألا يتحرك عقرب الأيام عن رائحة عطره .. زفرت باعتراض :
-أنتِ اتعلقتي بيه ولا أيه ! ده مجرد يوم كان بيمثل فيه قدام بناته ، ورجع تاني الشخص اللي معاه مفتاح سجنك ، بطلي هبل واركني قلبك ده على جمب ده شخص ما يعرفش الحُب .
سحبت المنشفة وجففت وجهها من أثار قطرات المياه طردت جميع الأفكار الشيطانية بزفيرها القوي وقالت لنفسها :
-أنا تمام ، أنا تمام ، أجمدي كده ..
خرجت بعد وقت طويل قضته بالداخل مرتدية ( بيجامة ) من الستان باللون الأخضر ، تسمرت في منتصف الغرفة عندما وجدت الفتيات يسبحن في أعماق نومهم ، وتدلت أنظارها نحو المرتبة التي تتوسط الغرفة وهو يقترب منها قائلًا :
-أنا قلت نسيب البنات على راحتهم وننام هنا !
زمت شفتيها بامتعاض :
-هنا فين ! على الأرض !
-مش أريح من نومـة الكنبـة !
ثم مال على آذانها هامسـا :
-متحاوليش تشغلي دماغك عليـا ، لأن اللي في دماغي هو لازم يتنفذ !
ثم تبسم بانتصار وأشار بعينه نحو المرتبة :
-قولتِ أيه !
هزت رأسها بتقبـل :
-موافقـة .
تقبلها للأمر لم يكن للهزيمة ، ولا لأنها فقدت قُدرتـها على المقاومة ، ولكنها وقفت في ساحة المعركة تتساءل ؛ عمـا أقاتل يا تـرى ؟!
سبقها عاصي ومدد جسده فوق المرتبة بعد ما تحرر من الروب الذي يرتديه ، لـم يُخيفها الأمر مطلقـا بل سبق وعهدها أنه لا يقوم بفعلٍ لا تريده وهنـا رُج قلبها من مكانه حد الإنخلاع حتى تمسك به كي يهدأ ، وأخذت تتساءل لِمَ هذا الصخب ! إعتراض أم عتاب ؟ ولت رأسها إليه فوجدته يتفحص هاتفه ، أكملت طي شعرها ثم خطت تجاهه بخطوات بطيئة حتى رقدت بجواره مستسلمة .
ترك الهاتف من يده ثم امتد ذراعه كي يغلق النور الخافت ، مدد كل منهما على ظهره وعيونهم تحملق في السقف بصمت لا يقطعه إلا صوت تنهيداتها العاليـة ، ولت رأسها نحوه متعمدة خلق حديث جديد معه ولكنها لا تعرف السبب وراء ذلك :
-مرسي لأنك مبوظتش اليـوم ، وشاركت في فرحة البنات .
ما زالت عيناه مُعلقة بالسقف ، فأردف بهدوء :
-أنا النهاردة رجعت عاصي اللي بدور عليه من خمس سنين ، تعرفي إني أول مرة أحضن فيها البنات كانت النهاردة !
تقبلت جملته بدون أي معالم للدهشة بل سألته :
-طيب ليـه ! على فكرة أنتَ اللي محتاج الحضن ده أكتر منهـم .
-معاكِ حق ..
ثم صمت طويلًا حتى فتح أبواب قلبه على مصرعيـه :
-الموضوع ابتدى لما كُنت شاب مدلع بزيادة كل البنات بتجري وراه وهو مش بيحب يزعلهم ، لحد ما قابلت مهـا ، كانت ابن مدير أعمال شهاب دويدار ، البنت كانت دماغها ذريـة ، صاحبة فضل كبير أوي في مجد دويدار ، عشت معاها أحلى عشر سنين ، لحد ما جيه الوقت وقالت لي أنها عايزة تخلف ..
تقلبت ” حياة “في نومتها بخفة وهى تولي وجهها إليه ، أكمل عاصي حديثه :
-طبعًا فرحت ، دي أحسن ست ممكن تبقى أم لولادي ، وكانت الكارثة لما روحنـا للدكتورة وقالت لها أن موضوع الحمل خطر على حياتها ، وتشيل الفكرة دي من دماغها خالص ..
أردفت حيـاة باهتمام :
-وبعدين !
-اتفقنـا أننا نقفل الموضوع ، وننساه ، بعد اربع شهور جات تقولي أنها حامل ، وخبت عليـا عشان مش أجبرها تنزل الطفل ، بعد مجادلات كتيـر اقنعتني وسافرنا بره وتابعت مع أكبر دكاترة ، ونزلنا مصر وكنا متفقين هنرجع ترلد هناك ، لكن ارادة ربنـا ولدت في آخر السابع ، ومكنش في وقت للسفـر .. لأول مرة أعرف يعني أيه شعور العجز ، بتسيب أيدي عشان تروح للموت …
صمت عاصي لدقيقتين حتى تفوهت حياة بفضول شديد :
-وبعدين !
تنهد بارتياح ثم أتبع :
-عشت أصعب كام ساعة لحد ما الدكتور خرج وقال لي مبروك المدام والبنات كلهم بخير ، وقتها زي اللي كان في سابع أرض وفجأة وصل لسابع سمـا ، كنت ماشي في المستشفى زي المجنون ، كنت اوزع فلوس على الممرضات ملهاش عدد ، فضلت في حضني لحد بالليـل ، غبت عنهـا بس أروح اشوف البنات رجعت عشان أفرحها قالولي المدام حصل لها نزيف ومعرفناش نسيطر عليـه ، شد حيلك .
مهمـا قيـل من المواساة لم يعد كافيًا ووافيـا عن لحظة فقط أغلى شخص بالحيـاة ، توقف لسـانه عن سرد الآلم وتوقف لسانها عن الخوض في تفاصيل أكثر ، صمت استمر طويلًا حتى ظنت أن النوم خدر أوجاعـه .. أخذت تتأمله بفوضى المشاعر وهي تشد الغطاء فوق صدره العارٍ فألتقت أعينهم لدقيقة وقف بها الزمن ، بررت موقفها:
-افتكرت انك نمـت !
ثم عادت لمكانها وهى تتحسس قلبها الذي يخفق بشدة ولكن انفلت زمـام لسانهـا بسؤال آخر :
-طيب كل ده مش مبرر تنسى في بناتك ! وتقضي كل ليلة في حضن واحدة تانية ! اللي بيحب حد مش بيعرف يشـوف غيـره !
-كنت بنتقـم منهـا في كل واحدة ، مهـا مشيت بمزاجها ، كان في ايدها تفضل وكنت هبقى مبسوط ..
فكرت قبل أن تتفوه بردٍ يغير من رأيه :
-أنا ست زيها ، وكلنا فينـا غريزة الأمومة ، مهـا فكرت بواقعيـة ، رضيت بنصيبها بس قررت أنها تسيب لك هدية حلوة ، المفروض تحافظ عليـها مش تهملها !
هز رأسه متفقًا معهـا :
-مشكلة مهـا الواقعيـة ، كانت واقعية بحتة ، كل حاجة عندها محسوبة بالورقـة والقـلم .
ثم انقلب للجهة المُطلة إليهـا وقال بغزل صريح :
-عكسك تمـامًا ، أنت ست جاية من الخيال … تعرفي !
بللت حلقهـا الذي جف خاصة عندما تغلغلت أصابع يده الكبيرة بفرغات كفها الرقيق :
-أول ما بصيت في عيونك ، شوفت البحر والسما والنجوم ، شوفت عالـم اتمنيت إني أعيش فيه .
ولت رأسها نحوه وسألتـه بفضـول أنثوي :
-بس حُبك لمهـا يدل أنك شخص واقعي وبتميل للست الواقعيـة .
-والست الخياليـة الواقع بيجي قدامها ويخضع لهـا .
لا تعمل ما سبب القشعريرة التي دبت في جسدها بمجرد سماعها لتلك الجملة التي اختتمها بضمة قوية على كفها ، فسألته بشفاه منتفضة :
-يعني أيـه !
-يعني تصبحي على خير .
تعمد أن يغلق بوابات الحديث معهـا لأنه بمجرد ما غرق بضياء عيونها تناسى نفسه وعالمه الذي ينتمى إليه ، والعهد الذي قعطه على نفسه ، تاهت في ملامحه التي اتخذت وضع النوم وقالت بخفـوت :
-وأنت من أهله .
•••••••
تسللت ” جيهـان ” إلى غُرفة ابنتها التي تحترق بالداخل ، وما أن قفلت بابهـا قالت :
-أهو ده اللي أنتِ فالحة فيـه !
انفجرت هديـر بوجهها :
-يعني أنتِ مش شايفة عمايله يا مامي ! ده حتى مكلفش خاطره يجي يسأل عليا انا وابنه وجري ورا الهانم .
شوحت جيهان بيدهـا :
-وكمان ما شوفتيش الشيء والشوايات اللي جايبهملها ، ولا الماركات ! دي سيدة اتهدت من شيل الشنط ..
زفرت هدير بغضب :
-يعني أنتِ جايه تفرسيني أكتر منـا هطق .
جلست جيهان بجوارها وقالت بخبث :
-لا ، ومش جاية أندب حظي جمبك ، بس اللي هيجنني ليـه البنات بيناموا معاهم فوق !
التفتت هدير إليها بدهشة :
-نعم ! ازاي ؟!
-طبعًا وانتي دريانة بحاجة ! أنا حاسة كده انهم متخانقين وبيمثلوا ، أو في لعبـة وأحنا لازم نفهمـا ، أصل بالعقل لو روحه فيها زي ما باين لنا ، البنات بيعملوا أيه في اوضتهم فوق !
ثنت هدير ركبتها التي استندت بمرفقها عليـها وقالت بحيرة :
-غريبـة ! ومن أمتى عاصي مهتـم ببناته كده !
-الموضوع ده وراه لغز وانا لازم اعرفه ، المهم دلوقتي فتحي ودانك عشان الحفلة دي يا هتكوني أنتِ الكل في الكُل ، ياما هتفضلي تندبي حظك كده على .
هديـر بجهلٍ :
-تقصدي أيه ! مش فاهمة .
-قصدي أن البت دي كفاياها أوي كده ، ونهايتها قربت ، تعالى أقولك تعمـلي أيه بالظبط .

الفصل التاسع والعشرون
” الجزء الثاني من الفصل ”
(29)
“رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
أعلم أن الرسائل التي بيننا لن تعود وأن الأغاني التي أدَمْنا سماعها ستصمُت، أن المساء لن يأتي بك مرة أُخرى، وأن غيابك إن كُنت حاضر قد تَعمق إلى غِياب الشعور، أعلم أن اللهفة في قلبك قد ماتت والمواعيد التي بيننا أُغتيلت، وأن كُل المُسميات العاطفية لم تعُد تليق ..
ولكن ما السبيل لقلبي كي أقنعه بهذا الهراء ؟!
••••••••
” صباحــًا ”
بات قلبه لا يهتـم بكون الأشياء عادية أو مُميزة ، بقدر اهتمامه بكونها حقيقية ، حقيقية فقط يستطيع المـرء لمسها دون
أن ترتجف يداه قلقًا من تلاشيها ، اقترب تمـيم من الأريكة التي غفت فوقها شمس وظل يتأملها بأعين حائرة ، أيهما ستتبع يا ترى ، دقات القلب أم مخاوف العقل !
كانت ملامحها هادئة كهدوء شروق شمس الشتاء ، قرص مستدير خافت الضياء ، يغارلها سُحب خصلات شعرها المُبعثرة ، أخذ يتسائل في نفسه ما الدافع كي اتبع خُطاكي مهمـا استحالت ! ما بملامحك كي تُغيـر خريطة أعوامي ! لِمَ تلك السعادة التي كست قلبي بقُربك ! لماذا افتعلت من الانتقام حجة كى أبرر لعنادي وجودك !
أطلق زفير حيرته بخفوت ثم تسائل :
-يا تـرى أيه اللغـز اللي بينك وبين عاصي يا شمس ! حاسس إنك مُفتاح لصندوق أسرار عاصي .. بس مصيري هعرفـه !
ثم تمنى في نفسه :
-يا رب تطلعي بعيـد عن كل شكوكي ، والمرة الوحيدة اللي اتحرك فيهـا قلبي ما يكذبش !
صوت طرق خافت على الباب قطع حبال فكره ممـا جعله يربت على ذراعها برفقٍ كي تنهض ، ما أن فتحت جفونها وجدته يقول :
-أسف صحيتك ، بس ده كريم جايب الفطار ، وشعرك مش متغطى ..
شرعت تلملم في شعرها المبعثر بسرعة ثم غطته بحجابها وفي تلك اللحظة التي أنهت فيها ، سمح تمـيم له بالدخول ، تقدم إليهم حاملًا حقائب الطعام وقال بفرحة :
-نوران خرجت من الرعايـة ، ونزلوها أوضـة تانيـة ، أفطري بقا عشان نروح نشوفها ..
تلهفت شمس لرؤية أختها :
-أنا هروح اطمن عليـها ..
وقف كريم أمامها بمزاحٍ :
-يا ستي أهدي ! أنتِ محدش يعرف يتكلم معاكي كلمتين ! عموما هي لسه نايمـة ، ساعة كده وقالوا هتبدأ تفوق .
مسك تميـم كفها وقال :
-شمس استريحي ممكن ! زي ما قالك كريـم كُلي الأول وهنروح نشوفهـا كُلنـا .. يالا أقعدي ..
••••••••
تفتحت عيون عاصي في تمام الساعة التـاسعة على بستان يضـم أندر الزهور ، رائحـتها تفوح بالمكـان مما سرب وميض البهجة لصدره ، تحرشت أنامله بأطراف شعرها الذي ينتشر على الوسادة وأصاب برغبـة عارمـة للمسها ، ملامحها النائمـة من فرط رقتها تنضـح نورًا ، أخذ يتفحص تفاصيلها للحد الذي أقـر فيه بأن كل النساء التي مرت عليـه كانت جحيمـًا مقارنة بجنتك !
تحركت غرائزه الأداميـة كي يقطف زهور بستـان ولكن تراجعت يده في أخر لحظة وهو يلعن ذلك الحظ في سره :
-أنا أيه اللي عملتـه في نفسي ده !
غادر خائفًا من مواجهة عيونها في تلك اللحظة بالأخص ثم وثب قائمـا بحرص كي لا يزعجهـا وتمتم لنفسـه :
-أنا كده بعاقب مين فينـا ؟
ما وصل إلى المرحاض حتى واجه ملامحها بالمـرآة وقال بصوت خفيض :
-البنت دي وجودها خطر ، وأنا لازم أشوف حل ، بس دي أي حل ينفع معاها ! قدام عيونها بتحول ببقى واحد أنا بكتشفه من أول وجديد معاها .
أحست حياة بفراغ المكان بجوارها وما أن فتحت جفونها تأكدت ، برزت بحيرة عينيها وهي تتذاكر تفاصيل أمس ، ومن أين حلت بها الجراءة كي توافق على الخلود بجواره ، ضمت الوسادة إلى صدرها الخافق بشدة وقالت بلوم :
-الاستهبال اللي أنا فيـه ده ما ينفعش ، حاسـة إني مش عارفـة أسيطر على قلبي ، وده في حد ذاته مصيبـة !
لم تجد فائدة من الاستلقاء ، فنهضت متأففـة :
-أنا لازم اتجنبـه ، ويبقى كلامي معـاه بحدود ، لأن حالي ده ماينفعش ..
ألقت نظرة للوراء كي تشاهد بناته ، فـ تبسمت برتياح وقالت :
-أنتوا الحـل لحد ما أسيب البيت ده وأمشي ، أنتوا اللي هتحموني من قلبي ومن أبوكم اللي مش ناوي يجيبهـا لبـر .
خرج عاصي من الحمـام ، فوجدها جالسة وتضم ركبتيها إلى صدرها وشعرها يغطي ظهرها بالكامل ، حدق بتلك اللوحة الفنية التي وقعت عيناه عليها وقال بصوت خفيض :
-صبـاح الخير .
تبسمت بهدوء وردت :
-صبـاح الخير .
شرع في ارتداء بدلتـه السوداء وقميصه الأسود تحت أنظارها الفاحصة التي لم تغمض للحظة وهي تراقب أدق تفاصيله ، ما أن لف حزامه الجلدي نظر إليهـا :
-نمتي كويس !
-أمبارح كان صعب بصـراحة ، نمت محستش بحاجة .
تفقد هيئته بالمرآة ثم قال :
-ارتاحي النهاردة .
قفزت من مكانها ثم اقتربت منه وقالت بصوتٍ منخفض :
-أنا فكرت في موضوع الشغل معاك وكده ، ولقيت أنها فرصـة كويـسة ..
لوهلة تبخرت جميع قراراتها ، وتعمدت فتح موضوعًا من أول فكرة قفزت برأسها ، من أين ستتجنبه ومن أين قررت أن تشتغل معه ! تعمد تصديـر الوجه الخشب وقال بحزم :
-عظيم! قرار سليـم .
تحمست أكثـر :
-بجـد ، طيب أمتى .
ارتدى ساعته المعدنيـة وقال :
-لمـا تخلصي السبع أيام عقـاب .
-أنتَ مصدق نفسك ولا أيه !
هرب اللفظ من بين شفتيه بدون وعي مما جعله يرفع حاجبه مندهشـا :
-نعـم !
حاولت تبرر موقفها فزادت من الأمر سوءًا :
-مش أنتَ بردو نفس الشخص اللي كان بالليل !
لعب على أوتار قلقـها :
-هو حصل أيه بالليل ، عشان أنا مش فاكر حاجة ؟
-هاه ..! لا محصلش ، أنا هروح أغسل وشي ..
من كثرة اضطرابها هربت من أمامه كي لا تهذي بالمزيد من العبث ، التوى شدقه بابتسامة خفيفة ختمها بزفيـر قوي :
-واضح أنها مش ناويـة تجيبهـا لبـر ..!
” في الطابق السفلي ”
تجلس عبلة برفقة ” سوزان ” يرتشفان قهوتهم الصباحيـة ، فـ أردفت سوزان بسخطٍ :
-يعني حتـة بنت زي دي عبلة هانم المحلاوي مش عارفة تخلص منهـا !
زفرت عبلة باختناق :
-بيحبهـا يا ستي ، وواضح أنها ماليـة دماغه !
-طيب وأنتِ ناوية تعملي أيه !
هزت عبلة ساقها بتوتر :
-هصبـر لحد ما يزهق منها ، ولو مزهقش يبقى هو اللي حفر قبـرها بأيديه .
فكرت سوزان للحظة ثم قالت بتفاخر :
-واللي يخلصك منهـا من غيـر نقطة دم واحدة !
تلهفت عبلة لجملتها :
-بجد عندك حل ! قولي لي أزاي !
تبسم ثغر الحيـة وهي تقول :
-يوم حفلة عيـد ميلادك هناكل التورتـه على روح المرحومـة .
تشتت تفكيـر عبلة :
-بردو مش فاهمـة ، أنت بتفكري في أيه !
-هقــولك ، وعدي الجمايـل .
تقف ” حياة ” أمام رُكن القهـوة تصنع فنجانين بناء على طلبه ، أحضرت كأسه وجلست بجواره ترتشف قهوتها تراقب انغماسه في العمـل وتفحص الملفـات حتى فتح رسـالة ” آندور ” ، نادى عليـها بتلقائية :
-حيـاه !
-ليـه مصمم تناديني بالاسـم ده ، حتى بعد ما عرفت إني رسيـل .
تناول فنجانه لكي يكتسب وقتًا أطول ليُفكر في إجابه مناسبة لسؤالها الذي لم يخطر بباله من قبل ، وبعدما أنهى فنجانه قال بثباتٍ :
-عشان أنا عرفتك و أنتِ حياة ، مش رسيـل .
-هتفرق يعني !
مط شفتيه بشكٍ بعد ما قفز الرد برأس ” رُبمـا رسيـل لما تجذبني إليهـا كمـا فعلت حيـاة ” ، هنـا طرقت سيدة البـاب بخفة حتى أذن إليها بالدخول ، ألقت التحية ثم وضعت مائدة الإفطار وقالت :
-سوزان هانم تحت مع ست عبلة ، وعايزة تسلم على معاليك .
هز رأسه :
-شوية ونازل يا سيدة ..
تأهبت للذهاب ولكنه أوقفها متسائلًا :
-تميـم صحى !
-سي تميم من امبارح في المستشفى ، أخت الدكتورة شمس تعبت فجاة ، ومن امبارح مفيش لا حس ولا خبـر .
انتفض عاصي من مكانه وهو يتأكد مما سمعه :
-تعبت ازاى يا سيدة ! ايه اللي حصل .
تعجبت سيدة وحياة لفزعه الغامض الذي أخفاه بسـرعة وهو يفرغه بقبضـة يده القوية التي برزت عروق ، ارتبكت سيدة وهي تقول بثرثرة :
-علمي علمك يا بيه ، بس سي كريم معاهم هناك وهو الاخر مظهرش ، ده يا حبة عيني شال البنت الصغيرة على قلبه وطار بيها على المستشفى ، وأهو ربنا يقف معاهم ويجيب العواقب سليمـة .
كظم غضبـه وقال بضجر :
-طيب امشي انت يا سيدة ..
نهضت حياة من مكانها ووقفت أمامه بدهشـة :
-مالك اتخضيت كده ! ان شاء الله حاجة بسيطة وهتبقى كويسة .
يسهب بـ الكلمات ليغطي فجوة في أسراره ، هز رأسه متقبلًا الأمر خاصة بعد مواساتها ثم تعمد إخفاء الأمر عنها وطلب منها :
-البسي عشان تنزلي معايا تحت !
-ليـه ..
-من غير ليـه ..
بشكل ما، ظلت ملامح الصخب على وجهه .. تجاوزت حياة الموقف وهزت رأسها بالموافقة ثم فتشت بأحد الحقائب واخرجت فستانًا بسيطًا باللون الأبيض وتحركت ناحية الحمام امتثالا لأوامره الغامضـة ، جلس عاصي على الأريكة يضرب كف على الأخر حتى فاض به الحال وهاتف كريم على الفور الذي طمئنه وأخبره أن الجميع بخير ، بعدها عاد إلى رشده وهدوئه وألقى نظرة سريعـة على ساعة يده ، نهضت تاليـا في ذلك الوقت بتكاسل وما أن وقعت عينيها على أبيها تبسمت بإشراقة ، فارقت فراشهـا وركضت إليـه بلهفة مرتميه بحضنه بعد ما قالت له :
-Good morning papi .
كان الأمر أشبه بضماد لجميـع جروحه وترميـم روحه التي لا تدرك معنى السكن طويلًا ، وظل يبحث عنه في جميع النساء ولكن لا يعلم أن بين ذراعي تلك الصغيرة حياة قلبه ، حملها لتجلس على ساقه وهو يداعب خصلات شعرها حتى سألته :
-حضرتك هتروح الشغل في الويك آند !
-للأسف بابي معندوش ويك آند .
وضعت سبابتها على شدقها مفكرة حتى قالت بفضول :
-بابي ، أقولك سـر .
ألتفت إليها باهتمام :
-طبعـا قولي .
تمتمت بنبرتها الطفولية وكلماتها المتقطعة والناقصة :
-أنطي حياة قالت لنـا أن حضرتك مش هتعرف تنام من غيرنا ، عشان بنوحشك ، وكمان هتودينا الملاهي تاني لو وافقنا ننام معاكم ..
ثم عدت الصغيرة على كفيها وأشارت له برقم سبعة :
-7 days
رفع حاجبه بتخابث :
-7 days!!!!!
ثم غمغم بمكـر :
-أنطي حياة هتشوف مني 7 دايز مش هتنساهم في حياتها .
فجهـر بصوته :
-تيجي نفطـر سوا ..
أومأت رأسها بالإيجاب حيث شرعت في تناول وجبة الإفطار معه بسعادة وهي تتعمد صنع بعض اللقيمات وتضعها بحب في فمـه ، خرجت حياة آنذاك رافعة شعرها على هيئة ذيل حصان ، وفستانها الذي يجعلها كفراشـة بيضاء ، قَبل عاصي ابنته ثم حملها برفق كي يجلسها على الأريكـة بجواره :
-بابي مضطر يمشي بقى ، افطري كويس .
أومأت الصغيرة رأسها بالموافقة ، وثب قائمـًا بعد ما أخذ هاتفـه ومفاتيحه وأمسك بيدهـا بغتة وسحبها خلفه ، عارضته بصوت حذرٍ :
-أيه المعاملة دي ! موديني فين طيب !!
-هتفهمي دلوقتِ .
نزل الثنائي إلى الطابق السفلي ، حيث تعمد عاصي أن يُظهر حياة أمـام سوزان كي يتخلص من ألاعيب تلك المـرأة ، وصل إلى مجلسهم برفقة حياة وقال باتزان :
-منورة يا سوزان هانـم .
نهضت سوزان بلهفـة عندما رأته ، واقتربت منه بخُطى متمايل وهي تتفقد تلك الفراشة التي تقف بمحاذاته وقالت بسخط :
-مش صغيـرة عليك دي يا باشـا ؟!
ضم حياة من خصرها إليه ونظر إلى سوزان بخبث :
-بالعكس ، دي على مقاس قلبي بالظبوط !
اشتعلت النيـران بصدر سوزان العاشقـة له والتي لم تكف عن ركضها الدائم خلفه ، بصعوبـة رسمت ابتسامة مزيفـة على وجهها ، فهمت حياة الملعـوب والرسالة التي أراد عاصي أن يوصلها لتلك المرأة الغامضة صاحبـة النظرات الخبيثة ، تمتمت سوزان بحقد :
-خلينـا نشوفك ، بلاش الغيـبة دي ..
اكتفى بهز رأسه دون الهمس ببنت شفة ، بل تعمد ضم حياة إلى صدره مع دفن وجهه بجدار عنقـها طابعًا قُبلة حنونة ثم همس لها مداعبًا :
-فاكـرة بتاعت النادي ! أهو دي مكان دي .
تركها في غياهب الدهشـة من فعله المفاجئ الذي دب نوع غامض من الأحاسيس بجسدها ، بلعت ريقها حتى برزت عروق عنقها وهى تحت تأثير مُخدر ما فعله ، فـكيف يمكن للإنسان أن يهرب من بركان مشتعل في صدره ، تحمحم عاصي بفظاظة ثم مسح على رأسها وقال بحنـو :
-ممكن تخلي بالك من نفسگ ، وأنا مش هتأخر عليكِ .
تاهت في خيوط تلك النبرة الحنونة الزائفـة ، والنظرات المصطنعة التي تسربت لـ صميم فؤادها ، فـما يمكن أن يفعله بقلبها هذا الإحساس إن كان صادقـًا ؟! فما هو مذاقه يا ترى ، اكتفت حياة بهزر رأسها بهدوء فاقدة النطق في حضرته ، تدخلت عبلة بينهم عندما لاحظت غضب سوزان :
-جرى أيه يا عاصي ، الحاجات دي فوق مش هنـا ..
لأول مرة تراه يضحك بصوت مسموع وقال :
-الحاجات دي ملهاش لا مكان ولا زمان يا عبلة هانم ، عمومًا هسيبكم أنا تقضوا وقتكم ، بعد أذنكم .
بعد أن اشعل النيران بصدر سوزان ، انصرف وترك حياة بمفردها في مهب ريح لعبـة لا تدرك عنها شيئًا ، ما أن رحل من المكان وجهت أنظارها إلى تلك البنادق القناصة التي صوبت من أعينهم نحوها ، انتفض جسدها وقالت بارتباك :
-أنا همشي ، البنات .. قصدي هروح اطمن عليهم ..
فرت حياة من شـر نظراتهم وما أن أكلت خطاوي السُلم ركضًا انفجرت سوزان بوجه عبلة :
-شايفة عمايله ! ده لو قاصد يفرسني ما هيعمل كده ، عبلة البنت دي لو ممشتش من هنـا أنا اللي هزعل ابنك وهزعله بزيادة ، بقا أنا يرفضني مرتين وفي الأخر يختار العيلة الملونة دي !
-روقي دمك وكله هيتحل ، تيجي نروح النادي نغيـر جو !
••••••••
لقد حل وقت الظهيـرة وعادت نوران إلى وعيها وباتت بصحة أفضل ، تجلس شمس بجوارها وتضمها إلى صدرها وهي تكرر اسئلتها بلهفـة :
-حاسة بحاجة ، في حاجة وجعاكي طيب !
أردفت نوران بخفوت :
-أنا كويسـة يا شمس ، متقلقيش .
تدخل تمـيم في حوارهم مُتسائلًا :
-ايـه اللي حصل يا نوران ، اكلتي أيه عمل فيكي كده !
حدقت النظر بكريـم ثم قالت بجفاء :
-مش عارفة ، أنا بعد ما فطرت محستش بنفسي من الوجع .
-مين جاب لك الفطار!
ظهرت على كريم معالم التوتر وبعد ما ارسلت له نظرات الاتهام قالت :
-واحدة من الشغالين ..
تدخلت شمس مبررة :
-عشان لما احذرك من أكل اللانشون وأنتِ مصممة تاكلي منه ، أدي النتيجة ..
تميم بحكمة :
-خلاص يا شمس، مش وقته الكلام ده ، المهم أنها بخير ..
لم يتحمل كريم نظرات الاتهام القاسية من أعين نوران ، تحجج للهروب منها قائلًا :
-أنا هروح أشوف الدكتور المفروض تخرج أمتى ..
••••••••
” في النادي ”
تجلس سوزان بجانب عبلة يكملان الحديث نحو طهي وجبة الشر الدسمة التي أعدوا تفاصيلها بحكمـة ، وفي تلك اللحظة ضاءت شاشـة هاتفها باتصال خاص بالعمل ، أطرقت مستأذنة :
-سوري يا عبلة ، هنكمل كلامنا على التليفون ، في اجتماع مهم كنت نسيته ، أووف الله يسامح البيه ابنك مخلاش فيـا عقل .
تبسمـت عبلة بتفاخر :
-متزعليش نفسك ، زي ما قولت لك مسألة وقت ..
-أهم حاجة يا عبلة ، تخلصي من الحمل بتاع بنت أختك ، عشان الجولة كلها تتلعب لحسـابي بس .
هزت عبلة رأسهـا :
-متقلقيش ، كله هيتحل وهيمشي زي ما اتفقنا .
-بالحـق ، هي عاليـة أخبارها أيه ، البنت دي بتوحشني دايمـا معرفش ليه !
رُج كوب العصيـر من يدها إثر حالة الارتباك التي أصابتها وقالت بشكٍ:
-اشمعنا عاليـة !
-عادي يا عبلة مالك اتوترتي كده ليـه !
-هااه لا أبدا ، قصدي أقولك أنها مستقرة مع جوزها ومبسوطة جدًا ..
-لازم أشوفها في عيد الميلاد ، بحب اتكلم معاها أوي ..
-آكيد .. آكيد يا حبيبتي .. يلا أنتِ عشان ما تتأخريش على الاجتماع بتاعك ..
لملمت سوزان أشيائها ثم ارتدت نظارتها الشمسية وانصرفت ، تنهدت عبلة بضجـر :
-مالك يا عبلة ! أهدي كده محصلش حاجة لكل ده ..
قطع حبـل تفكيـر صوت رجولي يقف أمام الطاولة التي تجلس عليها مما حجز عنها أشعة الشمس وقال بثقـة :
-مكنتش أعرف إني هتعب كده لحد ما أوصل لك !!
طالعته عبلة بغرابة :
-نعم ! أنت تعرفني ؟
شد المقعد وجلس مقابلها وهو يخلع نظارته الشمسية عرف نفسه :
-فريـد المصري ، حوت البحر الأحمـر ..
•••••••
” مساءً ”
مرت ساعات اليوم على قلب عاليـة ببطء شديد وملل حتى باتت تتنقل من الشرفة للغرفـة تبحث عن شيء لا تجرؤ أن تعترف عنه لنفسها ، تعمـد مُراد ألا يُهاتفها طول اليوم كي تتخذ قرارها الصائب بدون أي ضغط أو تأثير خارجي منه ، في الوقت التي كانت تنتظر اتصاله على أحر من الجمر ، عند سماعها صوت رنين الهاتف اندفعت إليه كمجنونة ، حتى ردت بلهفـة :
-مُراد !
ساد الصمت للحظة حتى أتاها صوت ريناد قائلة :
-هو مراد لسه مرجعش من اسكندرية !
شبهت على نبرة الصوت حتى قالت بشك :
-المهندسة ريناد !
ضحكت ريناد بهدوء ثم قالت :
-عشان أنا بس اللي أخدت نمرتك امبارح ، وأنت لا ، قلت أكلمك تسجيلها ..
-تمـام ، هسجلها حالًا .
تعمدت ريناد أن تحاورها في تفاصيل علاقتها بمراد حتى قالت :
-أنتِ ليه مسافرتيش مع مراد !
ترددت عاليـة في الجواب حتى قالت بتوجس :
-عادي سفريته جات فجأة وو
تحمست ريناد في اقتراحها خاصـة بعد ما سمعت لهفتها عليـه في أول المكالمة وقالت :
-طيب ما تروحي له ، وتعملي له مفاجأة حلوة وغيري جو في اسكندرية !
-نعم ! أروح له .. لا ماينفعش .
كان رد عاليـة اندفاعي وبدون تفكير ، فـ استغلت ذلك رينـاد وقالت بلؤمٍ :
-ماينفعش ليـه يا عاليـة ؟!
-أصل ، يعني علاقتنا لسه في البداية ومش متظبطة وو ، هو آكيد هيخلص شغله ويرجع ، بس اللي مزعلني أنه مفكرش حتى يطمن عليـا ! معقولة مشغول للدرجة دي .
كانت كلماتها ترتجف قبل أن تخرج ، كل كلمة تائهة وعشوائية ، كانت تفصل بين كل جملة والأخرى بلحظات صمت تقطم فيها أظافرها ، تفهمت ريناد بحكم خبرتها تلك الحالة التي وصلت إليها عاليـة ، والضياع والتشتت المبطن بنبرتها ، كتبت ريناد عدة ملاحظات أمامها ثم أردفت :
-فكري ، على الأقل تشمي هوا البحر ، وتغيري جو ..
••••••••
-ليـه يا أنطي ، الـ snake بيخسرنـا الجيـم !
تجلس حياة بصحبـة الفتيات فوق الفراش وهن يلعبن لعبـة السُلم والثعبـان ، فأردفت داليـا جُملتهـا الأخيرة عندما حُكم عليها بالهبوط لمستوى أقل ، فكرت حيـاة في سؤالها قبل أن تُجيب ثم قالت :
-علشـان زي ما السُلم بيكسبنا ، لازم يبقى في حاجة بتحاربنا طول الوقت ، لأن هي دي الحيـاة ! مش في اللعب وبس .
-بس هو شكله جمـيل ، وألوانه حلوة ..ليـه يبقى evil!
مسحت حيـاة على جدائل شعرها وقالت :
-وده يعلمنـا إننا ما نحكمش على الشخص من مظهره ، يعني مش عشان الثعبان لون جميـل يبقى لازم يكون كويس !
تبادل الفتيات النظرات لبعضهن البعض ، حتى تفوهت تالـيا ببراءة :
-يعني أيه !
امتدت نظرات حياة إليه ، هو الذي تعمد أن يفارق غرفة مكتبه ويحتج بإتمام عمله بغرفة نومـه ، يجلس على الأريكة ورغم تكدس مهامه إلا أنه يتبع الحوار الدائر بينهم بعناية ، تحمحمت حياة بخفوت ثم وضحت جملتها بصيغـة أسهل :
-يعني منحكمش على حد غير لمـا نعاشره ، ونفهمـه ، ماينفعش نقول ده كويس وده شرير من شكله ..
ثم أسهبت في الحديث عنه متناسية نفسها عندما تذكرت عطر قُبلته الصباحيـة المفاجأة وقالت بشرود :
-ممكن شخص نشوفه نتخض ونتخدع في الوش اللي مصدره طول الوقت ، بس لما نقرب من الشخص ده هنعرف أد أيه هو حنين وجواه طاقـة حُب هو نفسه مش عارفها ..
-زي بابي كده !
ببراءة طفلة تفوهت تاليـا بتلك الجملة الصغيرة التي تردى صداها بصدر حيـاة ، ففاقت من شرودها وقالت باضطراب :
-هاه ! ومال بابي بينـا ، أحنا بندردش بنات سوا … على فكرة الوقت اتأخر جامد ، وأنتوا لازم تناموا ..
لملمت حياة اللعبـة بعجل وغطتهن برفق ثم طبعت قبلة رقيقة فوق رؤوسهن وقالت بهمس :
-good night..
بمجرد ما أنهت مهمتها تلاقت أعينهم للحظات أربكتها ، فهرولت نحو المرحاض كي تتوارى من عينيه الفاصحة ، قفل عاصي جهاز الحاسوب ثم خرج من الغُرفة ليُجري مكالمـة هاتفيـة ، فـ عندمـا خرجت حياة من الحمام وجدت الغـرفة خاليـة من طيف وجوده المُربك ، تنفست بارتياح ثم نزعت ” روبها ” القصير مكتفية بـ ” التوب ” ذى حمالات رفيعة وبنطال واسع من الستان ، تحركت نحو الأريكة لتنـام ولكنها تذكرت عقابها ، فتراجعت وفرشت تلك المرتبة بالأرض مرة أخرى ومددت فوقها .
كأنها وصلت للنقطة التي لا تُريد بها أي شيء ألا الهدوء ، أسهبت التفكيـر به ، وبشخصه الحنون الذي رأته ليلة أمس ، وهو نفسه ذلك الشخص صاحب تلك النبـرة الجافـة والوجه الصلد ، وضعت كفها على قلبـها وتنفست بعمق متسائلة :
-لماذا يزاولني طيفك لهذا الحـد !
ولكن فجأة دق ناقوس التغيـر بفكرهـا لينذر قلبها بـ أنَّ هذا الأمر يجب أن يتوقف لأنه لا يليق به ، قفلت جفونها لحسم تلك المعركة الدائرة داخلهـا وتركت نفسها للنوم ظنًا منها بأنه سلاح نصرها لتقتل هذه الأفكار ..
مرت قرابة السـاعة حتى عاد عاصي إلى غُرفته ، شيء ما بقلبه جذبه كي يتأكد من دفء صغاره مع طبع قبلة حنونة على كف داليا الصغير ، وقبلة رقيقة مثلها على جبهة تاليـا ، ثم تقدم نحو تلك الحوريـة النائمة بارتياح تتوسط المرتبة ، تصلب مكانه وهو يتأمل تفاصيلهـا حتى جلس على الطرف يتأمل كل إنش بها فشل الغطاء أن يُخفيه ..
قيل أحد الحكماء من قبـل
-“‏الحبيبُ الأول ليس أول شخصٍ تُعطيه قلبكَ ‏ولكنه أول شخصٍ لا تستطيعُ أن تستردَّ قلبكَ منه .. ‏الحبيبُ الأول ليس أول شخصٍ يصلُ إليكَ ، ‏ولكنه الشخص الذي لا يسبقه أحدٌ في قلبكَ
‏وإن وصلَ الآخرون قبله ”
تحرش ذلك الحوت المطبوع على كتفها بقلبه ، فأغراه كي يتحسسه ، ويتحسس حرارة جسدها مقارنة بتلك الثورة المشتعلة بجوفه ، أخذت أنامله تتنقل بحُرية حتى وصل إلى أنفاسها رائحة عطره فـ تحركت جفونها دون أي حركة أخرى بجسدها الذي استسلم إليه كُليـا ، قفلت جفونها مرة أخرى كي تعيش معـه ذلك الحُلم اللطيف ، سرحت أنامله إلي جدائل شعـرها وهو يهمـس باسمها :
-حيـاه …!
تململت في فراشهـا بدلال قطة شقية مفتعلة وضع النوم وأصدرت إيماءة خافتـة ، مما جعله ينادي باسمها مرة أخرى فـلبت النداء هذه المرة وفتحت جفونها على نجوم عينيه اللمعـة بنور اللهفة وقالت بنبرة مبطنـة بالنوم :
-نعـم !
توقف على الحديث ولكن لم تكف يده عن مداعبة خصلات شعرها حتى تدلت تدريجيـاً الى رسمتها التي تصيبه بلعنة الغيرة والإغراء فمال أكثر نحوها حتى عاد لرُشده قائلًا :
-اتغطي كويس .
ثم تحمحم بصوت عالٍ وتحرك لينام في مكانه المعتاد بجوارها ، ما ارتكبـه في حق مشاعرها جريمـة لا تُغفر كن أن عود كبريت مشتعل في حقل بترولها المضطرب وفجأة أخمده بثلج الندم كي لا يحترق بحقلها أكثر ، أما عنه قرر ألا يساوم بكرامته من أجل مشاعره التي رُفضت لأكثر من مرة ، قرر أن يفقد شيئًا من قلبـه أهون من بعثرة كبريائه لأجل لحظات لا يعرف عما ستنتهي !
ساد الصمت بينهم طويلًا حتى استعادة نفسها وسيطرت على قلبها المائل لقُربه دومًا وقالت بنبرة خفيضة :
-كُنت قاعد كده ليـه !
-عادي ، كُنت بطمن على الحوت ، أشوفه لو عطشان ولا حاجة !
نظرت له فجأة محاولة استيعاب كلماته مقارنـة بهذه الجدية التي يتحدث بها :
-شايفني عيلة صغيرة بتكلمها بالطريقـة دي !
-أي طريقـة بس ؟! أنا عملت أي لكُل ده !
تنهدت بنفاذ صبـر من اسلوبه الثلجي :
-خلينـا متفقين أنا نايمة هنا بس كنوع من العقاب اللي فرضته عليـا ، مش عشان حضرتك تستغل ده !
تقلب على جنبه حتى بات مُقابلًا لوجهها وقال :
-وأنا استغليت عملت أيه بس !
-شوف نفسك بقا عملت أيه الصُبح ودلوقتِ !
رفع حاجبه بتخابث :
-معنى كده إنك كنتِ صاحية ! وعارفة عملت أيه ؟
توترت واحمرت وجنتها وردت بقلق :
-لا كنت نايمـه وصحيت يعني ، أنت صحيتني ؟
هز رأسه بعدم تصديق ثم غيـر مجرى الحوار بينهم وقال بهمسٍ :
-المهم ، جهزتي هتلبسي أيه للحفله !
-حفلة أيه ؟! ومين قالك إني هنزل الحفلة دي من أصلو ؟
-لازم تنزل ، عشان ناوي أقدمك للناس كلها على أنك مراتي ..
تأرجحت عيونها بتوتر :
-بس أنا مش مراتك .. أنت عارف أن الموضوع ده كله مؤقت وهينتهي !
وضع كفه على وجنتها بحنو :
-مفيش حاجة هتنتهي غير بإذني ..
-نعم ! بس ده مش اتفاقنـا ؟ أنت ناوي على أيه !
تسللت أصابعه إلى خصلات شعرها وقال بهيـام :
-كل خيـر ..
-يعني أيه ؟! لا فهمني .. !
أصدر إيماءة خافتة ثم قال بمزاح :
-متزعليش أوي كده ، لو أنتِ مش موافقة أهي هديـر موجودة .
دفعت يده بعيـدًا عنها وقالت بغضب لا تعلم سببه :
-تمام ، لو سمحت متقربش مني تاني ، ويا ريت تحاول تنهي العبث ده في أسرع وقت .
هز رأسـه متفهمـًا :
-معاكِ حق ، العبث ده لازم ينتهي في أسرع وقت .
راقبت ملامحه بتوجس حتى سألته بتردد :
-أنتَ ليه اتصرفت معايا كده قدام الست دي ، هي عايزة منك أيه !
في تلك اللحظة أضاءت شاشة هاتفة برسالة نصية وما أن فتحهـا وقرأ ما بها تبدلت ملامحه :
-عاصي بيه ، لقيـوا قاسـم صفوان مقتـٰول في مركب في البـحر ولسـه التحريـات مكملة !!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!