روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثلاثون 30 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثلاثون 30 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثلاثون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الثلاثون

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثلاثون

“رسائل وصلـت لـ صاحبها ”
-أعلم أن الدستور يُكفـل حقي في الحيـاة ..
ولكني لم أكن أعلم بأن دستورك يعطيك حق قتـل مواطنك وأنت الوطن …
فـما حاجتي لوطن وأنا سأقتـل به؟!
وما فائدة قلبي حين يعشقك ، وأنتَ أكبر منه !
ما ذنبي حين أضع حبًا فوق حب لاشتري قلبك الذي لا يحب ..!
ما أغباني حين أضحي بحيـاتي ، لأجل حياة لا ترغبني !
ينص دستورك بأن لي ولك حق الرحيل في أي وقت .
لذا قررت ألا انتظر تطبيق قوانينك القاسيـة على قلبٍ أكبر مصائبه بالحياة أنه أحبك ..
وهـا أنا الآن ؛ المتمردة على حبي وقوانينك ، بتُ إمراة بلا قلب ، إمراة بلا وطن !
•••••••••
مالت شمس اليوم الثامن إلى الغروب ، حركة مُربكة بالقصـر حيث يستعد الجميع لإعداد التجهيـزات الخاصة بحفل يوم ميلاد عبلة المحلاوي لإتمامها السابع والخمسون من العمـر ، تُراقب حيـاة تلك الضجـة من أعلى ، حركة العمالة والطباخين وإعداد حفل أسطوري لا يليق بـتلك المناسبة الشخصية ، ولكن ما أدركتـه من عاصي أنه في مثل هذا اليـوم يتم عقد الكثيـر من الاتفاقات والمهام .
ضمت كفوفها كوب القهوة الدافئ بعد ما ارتشفت رشفة صغيرة منـه أحست بصخب بصدرها يحتاج لسيف قلمهـا كي يهدأ .. تركت الكوب على المنضـدة ثم ركضت بخفـة لتحضـر دفتر كتاباتها السـري ثم اتجهت لتجلس على الأريكـة التي لم تفتقد النوم عليـها بعد ..
فتحت دفتـرها وكتبت بأول الصفحة :
اليـوم الأول من تشـرين الأول لعامي الأول ..
أخذت نفسـًا طويلًا ثم أرسلت نظرة إلى مخدعــه الذي جمعهـم لأيام متتاليـة :
” لقد مضى ثمانية أيام على ذلك اليـوم الذي أصدر فيه فرمان عقـابي ، فما ذلك العقـاب الذي لم يزدني منه إلا قُربـًا ، كان يقضي يومـه عاصيـًا لقلبـه وكل ما يظهر وجهه الحقيقي ، وعندما يحل المساء وينغلق باب اليوم لينفـرد بي كحيـاته الخاصة من فوضى حياته العـامة ، تلك الحيـاة التي يهرب منها إلى حُضن حيـاة .. توالت الليالي وكنت أعد ساعات اليوم منتظرة روايته الجديدة عن ماضٍ لا يقلب في صفحاته إلا وهو مُستلقيًا بجواري ، أول مهمة كنت أفعلها صباحًا هي تدوين حديثًا ليلة أمس ، كان حضوره يدب الشهوة في قلب قلمي كي يكتب عنه بدون ملل .. لم أنكر إعجابي الشديد بشخصه الذي يُرافقني ظُلمة الليل ، وأيضـا لن أتبرأ من شوقي له الذي ينافس درجة حرارة الشمس نهـارًا .. اعترف انه حولني إلي شخصيـة لم أعرفها ولا أملك السيطرة عليها في حضرته ، والمخيف بالأمر أنني أحببت ما أنا عليه ولا أود التخلص منه حتى ولو فاتني العالم .. ”
استريح قلمها كي تتخذ نفسًا عميقًا ثم ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهها إثر تذكرها أمر ما ، عادت تلك المرة بحماس أكثر لتكتب :
“أي رجل أنت الذي تتقلب طباعه كتقلبات الطقس ، تحوي عيناه حنيـة تضاهي نسيم الربيع ، وتعكس قوته زعابيب أمشير ، وأنا كـ ريشة في هواك ، اتطاير هنا وهناك ولم أجد مستقري بعد .. إمرأة بعُمر ثلاث قُبلات ! الأولى بثت وميض من الذكرى بقلبي ! الثانية خدشت جدار ما بداخلي يبدو أنني تعمدت قفله طويلًا ! أما الثالثة كانت نار ورماد ، رغم رقتها بل أنها أشعلت بي ألف باب لا استطيع قفلهما حتى الآن ! أعدلٌ أن تراوغ بكل تلك القسوة إمراة ما زالت في مهدك صبية !
أقف اتسائل كيف سيكون مصيـري بعد القُبلة الرابعة ! ماذا أنت بفاعل في قلبي يا رجل ؟ كيف تحولت جميع حبال عُقدك بعيناي إلى وسيلة مساعدة كي اتسلق إليك ! من أنتَ ومن أي جهة تسربت إلىّ !
ياليني لم أعصي لك أمراً ! ويا ليتك طردتني من جنتك ! سبع ليالي فقط ملئت صدري برائحتها فكـم من العمر سيهدر كي اتخلص من كل ذلك ! ”
تراقصت ضربات قلبـها بقوة أرخت سدول أعصابها كي تتوقف عن البوح ، وضعت يدها على قلبهـا وقالت علنـًا لتغتال عواطفها :
-كل ما في الأمر إن قلبي مال لانه لم يجد غيرك أمامه حتى ولو كُنت سجانه ! فقط اعتدت وجودك وساتخلص منك مع أول نسمات الحُرية !
صوت طرق الباب قطع خلوتها ، قفلت دفترها بسرعة وأختفه تحت الأريكة بتوترٍ ثم قالت باضطراب :
-اتفضل !
دخلت سيـدة وخلفها اثنان من الخدم يحملان صندوقًا كبيرًا ، تُرك الصندوق بأحد أركان الغُرفة حتى قالت سيدة :
-فتسانك وصل يا ست هانم !
عقدت حاجبيها بامتعاض :
-فستان إيه يا سيدة أنا عندي كتير ! وبعدين أنا مش هنزل الحفلة دي !
أشارت سيدة إلى الخادمات أن ينصرفن ، ثم اقتربت منها متهامسـة :
-يا ست انزلي وانبسطي ومتفرحيش حد فيكي ! عارفـة ست هدير أول ما شافت الفستان مابقتش على بعضها كده ، يوووه بقيت عينها تطق شرار ! اسمعي مني ، متخليش حد ينتصر عليكِ ..
فكرت في نصائح سيدة للحظات ثم رجت رأسها مستردة وعيها وحدجتها :
-جري أيه يا سيدة ! خليكي في شغلك .
-أنا عايزة مصلحتك ! حكم الست هدير دي غلاوية ومش من توب سي عاصي ! أما انتِ اسم النبي حارسك وصاينك حلاوة طحنية ، تتاكل أكل .
ضحك وجها إثر الطريقة العفوية التي تتحدث بها تلك العجوز ثم قالت بنبرة ممزاحة :
-بردو خليك في شغلك ..
-طيب أنا قلت انصحك بس ، ده جزاتي إني عايزة مصلحتك !
ثم أخفضت نبرتها مالت إليها قائلة :
-تعرفي أنا حبيتك ليـه !
رمقتها بفضول :
-ليـه يا سيدة !
-أصلك من يوم ما جيتي القصر ده وعاصي بيه بطل يمشي في سككه البطالة ! مش عايزة أقولك كان قالب البيت كباريه ، ستات داخلة ستات خارجة ! مش عارفة ربنا مديه صحة لده كله منين !!
كظمت الضحك بفمها وتعمدت أن تصدر لها إزعاجها من الحديث فقالت :
-وبعدين يا سيدة ! قولنا نركز في أكل عيشنـا .
ما كادت أن تفشي ما في جوفها ولكن دخل عاصي متحمحمًا فاضطريت سيدة من مكانها وقالت برتابة :
-نورت يا عاصي بيه ، لسه كنت بقول للست هانم مفيش اطيب منك ولا هتلاقي ضفرك مهمـا لفت .. ربنا يخليكـم لبعض يابيه ، تأمر بحاجة !
أجابها باختصار :
-متشكر يا سيدة ، اقفلي الباب وراكي !
خرجت سيدة ركضًا من الغُرفة ، هنـا انكمشت ملامح حياة بضجر وفعلت الوجه الكاظم وجلست على المقعد المتحرك متأففة ، أخذ يستعد لمـا سيرتديه ثم أردف :
-عجبك الفستان !
-قُلت لك مش هنزل الحفلة دي ومش همثل على الناس أكتر من كده! مكنش له لزوم تكلف نفسك !
هز رأسه بغرابـة :
-زي ما تحبي ..
حدجته بصمت ثم قالت في نفسها بلوم :
-أيه ده يعني مش هيجبرني ويتخانق معايا ! أف أيه زي ما تحبي دي من أمتى الديمقراطية دي!
فاقت من تلك الضجة التي برأسها على صوت طرق الباب ، ما أن سمح للطارق بالدخول ، إذًا بهدير تتمايل بدلال في غرفته وتقول بصوت مسموع متعمدة أن يصل إليـه :
-يااه يا عاصي ، الأوضـة بتفكرني بأحلى ذكرى بينا ، كل تفصيلة فيها في قلبي ..
تأفف بضيقٍ :
-خيـر يا هدير !
أرسلت ابتسامة خبيثة إليها وأكملت :
-مش هعطلك ، هما كلمتيـن وهمشي !
قالت ” هدير ” جملتها وهي ترسل نظراتها الحارقـة نحو حياة التي تجلس على المقعد الخشبي المتحرك بزاويـة الغـرفة .. حاولت حياة أن تتجاهل وجودها ولكن جميع محاولاتها باتت بالفشل ، ترك عاصي ما بيده ثم قال باختناق :
-عايـزة أيـه يا هدير !انجزي
-عايزاك لوحدنـا ، عشان كلامي ممكن يضايق المدام .
عقدت ذراعيهـا أمام صدرها منتظرة خُروج حيـاة من الغرفة ولكنه لم يمنحهـا الفرصة لتحقيق مُناها بل أصر قائلًا :
-قولي اللي عندك يا هدير ، حياة مش هتروح مكان !
زفرت هدير باختناق وقالت :
-تمـام ، عمـوما أنا جاية أقولك إني موافقـة انزل البيبي ، بس ليـا شروط .
-كمان !!
انتظرت أن يهتم للأمـر ولكن لم يهتم لشأنهـا ، تنهدت هديـر ثم سألتـه :
-أيه مش عايـز تخلص !
نفذ صبره من تلاعبها بالكلمات ، انكمشت ملامحه بضجـر ثم قال :
-أنا سامع أهو ، هاتي اللي عندك .
تعمدت أن تقترب من مقعد حياة مع ارتفاع نبـرة صوتها :
-مشروع العلمين الجديد ، تتنازل عنـه ، ويكون تحت إدارتي، وأنا أوعدك هعيش هناك ومش هتشـوف وشي تاني ..
هز رأسه ليزن الحديث برأسه ، ثـم أصدر إيمـاءة خافـتة وقال :
-اللي بعده !
ابتسمـت بمكر ثم أشارت على حيـاة بتحقيـر :
-أنتَ عارف أن النهاردة في ناس مهميين ، مش عايزة البتاعة دي حد يشـوف وشهـا ، وتقدمني للنـاس كلها على إني مراتك ..أمم لحـد ما كله يعرف أننـا اطلقنـا .
-قصدك أنها تقعد هنـا ، وأنتِ اللي تبقي الكُل في الكُل !! قولتِ مُقابل أيه ؟!!
اقتربت منه متعمدة وضع كفهـا على صدره وبنبرة كـ فحيـح الأفعى همسـت :
-هترتاح من دوشتي أنا واللي في بطني بقيـة عمــرك !
عقد حاجبيـه ورسم علامات الإعجاب على وجهه :
-بصراحة عرضك عجبني ! وأنا اشتريت ..
لم تصدق ما وقع على مسامعهـا ، بل رددت :
-أنتَ بجد وافقت !
هز رأسـه بمكـرٍ :
-تصوري ! لأول مرة عاصي دويدار هيشتـري سمك في ميـه !
حدجته بشكٍ :
-يعني مراتك مش هتحضـر الحفلة !
أرسل لهـا نظرة غامضـة ثم قال بحدة :
-أنتِ عارفة إني مش بحب أكرر كلامي !
الفرحة لم تسع ملامح وجهها بل هللت بكلمات متقطعة وقالت بحماس وهي تعانقه :
-يعني هنكون في الحفلة أنا وأنت بس ! متتصورش أنا حلمت باليوم ده أد ايه ! وهنرقص سوا والناس هتفضل تبص لي وتحسدني عليك ! أنا موافقـة أعيش معاك كل ده حتى ولو كان ليـوم واحد يا عاصي .
يقال أن أعظم شواهد الحب هي الغيـرة ، الغيرة التي لا تشتعل إلا لشخص امتلكته الروح حتى أصبح أثمن ما لديها ، أخذت تقطم في أظافر يدها بنيران حارقـة لم تتوقف ، لم تخمد ، لم يمكنها إخفائها.. ألتهمتها فوضى المشاعر حتى أعلن قلبها ليحسم تلك الحيرة :
-أنا لم أقع بحبك ، أنا وقعت بداخلك ! اتري الفارق بينهم يا رجل !
عصرت قلبها بغضبٍ وهي تتعمد أن تسيطر على مشاعرها ، لاحظ عاصي تبدل ملامح وجهها حيث بات مُلطخة بجمر حارق على وشك الانفجار ، بعد هدير عنه وقال :
-يا دوب تلحقي تجهزي ، خلاص الساعة ٨ والناس هتبتدي تيجي !
هتفت هدير بفرحة :
-حالا …..
انتظرت حياة حتى غادرت هدير ، وهو الأخر تعمد ألا يمنح وجهها الكاظم أي أهميـة كي يعثر على حيرة أيامه ، اتجه نحو المرحاض وألقتى بملامحه أمام المرآة ، وقف لثوانٍ ثم تنهد بحيرة وقال :
-أنت عايـز أيه !
ثم أسهب عقله في الجواب عليـه :
-لقد قضيت أيامك صيادًا لأسماك البحر حتى منحك حوريته ! فـ ما بعد ! لِمَ لم تخبرها بحقيقة ما توصلت إليـه ! لِمَ لم تقل أن أخوتها لم يتم العثور عليـهم حتى الآن ! أنها فقدت أبيها في تلك الحادث المروع ! أن ابن عمها استولى على مالها ! أنها كاتبـة مشهورة ولديها العديد من الكُتب وأنك شرعت في قراءة أول كتاب لها ” خُلق القلب عصيًا ” ! لماذا تخفي عنها حقيقتها وأنها رفيقة البحر الأولى ! بل كُنت أنانيًا للحد الذي سلسلتها بجانبك كل ليلة لتشكوى لها من ظُلمة حياتك قبل أن تعثر عليها ؟ كيف كُنت انتظرها تغفو لأخبئها بين ذراعي وابتعد عنها قبل أن تكشف أمري و مُري من سُم عينيها القاتل في مسرح هواها! ماذا فعلت بقلبي كي تحول كل رغبتي بجسدها إلى شهوة لتغلغل بروحها ! أي النساء تلك التي أخذتك من يده ووصلت بك للسماء سيرًا ، فكل خطوة معها كانت بطيئة وبكامل وعيك ! آه لو يحنو القدر لأخبرك بأنك قتلتي هذا القلب العاصي ومنحتي له وسام حياة جديدة بين ذرعيك ! لم أملك قلبًا كي أحبك به ، ولكنك جعلتي كل ما بي يتمنى أن يرافقك طريق العُمر لأخره ..
بتُ أخشي الحقيقة التي حتما ستُبعدك عني ..
والكذب الذي لا يستحقه قلبك ، أيهمـا سأختار ؟
هنـا اقتحمت الحمام بدون سابق إنذار وما أن تلاقت أعينهم صمتت لا تعرف ما ستقوله ، تحمح بخفوت ثم سألها :
-أخدتي أدويتك !
حكت جدار عنقها وقالت :
-أنا هنزل الحفـلة !
طالعها بالمرآة بدهشـة :
-غيرتي رأيك يعني !
فجرت رماد نيرانها بوجهه متوارية خلف حجتها :
-عشان أنا مش هساهم في قتـل طفل ملهوش ذنب في أي حاجة غير أن باباه مش عايزه ومامته مستهترة وبتجرى ورا الفلوس!
استدار إليها عاقدًا ذراعيه أمام صدره :
-أنا مش عارف أنتِ مزعله نفسك ليه ؟
-هو القتـٰل عندكم سهل كده ! والله أنا قلت اللي عندي ، ومش هشارك في اللعبـة السخيفة بتاعتكم دي !
تبسم بمـكر مُتقبلًا قرارها المُفاجئ ثم دار نحو المرآة ليحلق ذقنـه وما أن تأهب لبدء عمـله ، اقتربت منه وسألته بغموض:
-أنتَ بتعمل ليـه كده ، قصدي لو مش عايز أطفال ليه اتجوزت مامتـه ، وليه حطيت نفسك في الحيـرة دي !
ألقى ماكينة الحلاقة من يده ثم رد بغضبٍ :
-كُنت يومها متقـل في الشُرب ، ومكنتش في وعيي ! وأنا مكنتش اتمنى ده كله يحصل ، هدير كانت جوازة مصلحة ، وغلطة وأنا مش مستعد اضيع عمري كله أدفع في تمن الغلـطة دي !
أغرورقت عيناها للحزن الذي انتشر بوجهه ثم قالت بنبرة مختنقة :
-وابنك ! أنتَ لازم يبقى عندك ابن يكون سند للبنات ..
فاض به الصبر فاندفع إليها بغتة مما جعل ظهرها يرتطم بالحائط ، صرخ بوجهها لاهثـاً:
-مش عايز ولاد منهـا افهمي بقى !
ثم مال بجبهته فوق جبهتها وباتت انفاسة الحارقـة تأكل بملامحها المصدومة ، كان صدره يعلو ويهبض كموج البحر حتى أطال النظر بعيونها ، بدأت أنفاسه تهدأ تدريجيًا خاصـة بعد ما مسك كفوفها المُرتعشة وقال :
-أنتِ عندك حق ، تاليا وداليـا محتاجين سند من بعدي في الحيـاة ، بس أنا بدور على الحيـاة نفسها ..
تنهد بقوة فأغمضت عيونها من هول زفيره :
-وخلاص لقيتها .. لقيتها ولسـه مستني منهـا اشارة واحدة وأنا عندي استعداد أخلف منها عشيرة تحمل اسمي واسمها طول العُمر ..
رفعت جفونهـا ببطء ثم قالت بنبرة هامسة :
-لقيتها فين !
لم يعلن اعترافه بأي مشاعر من الحب ، من التملك ، بل برر كل ما يعيشـٰه قائلًا :
-حياة ، أنا عمري ما اهتميت بالخلفة ، والعيـال ، بس لما شوفتك كل مشاعر الأبوة صحيت جوايا ، والمرة دي بقولهالك وللمرة الأخيرة أنا عايز يكون لي ولاد منك ! عايزك تشاركيني الباقي من عمـري ، حتى لو هبيع الغالي رخيص بس أنت قولي آه وساعتها هعيشك في الجنة ، جنـة مفهاش غيـرنا ، أنت متعرفيش الأيام اللي عدت وأنتِ جمبي عملتي في قلبي أي ! أنا شوفت ستات ملهاش عدد بس أول مرة قلبي يقف عندك ويسلم ، حياة انسي كل اللي فات ومن الساعة دي بسألك موافقة تبقى أم ليـا و لولادي !
تعمق بداخلها كأنه سكن جسدها على سهوة ، تنهِيدت بحرقة كادت من ألمُها أن تصمت القَلب ، طال حديث أعينهم ، وجف لعابهم من حرارة المشاعر المتقدة بمهب ضياعهم ! تأهبت أصابعهـا أن تضغط على يده مُعلنـة قبـول عرضه الذي اختبأ وراء الونس ، وأنه لا يُريدها إلا رحمًا في حياته تُنجب له ، في ذروة حيرتهم الناشبة اتاهم صوت تاليـا التي تُنادي عليـه :
-بااابي ! أنتَ فين ..
ابتعد عنها كي تأخذ أنفاسها بارتياح بعيدًا عن امتزاج أنفاسه وعاد إلى المرآة يلوم نفسـه عن كم الضعف الذي ظهر به أمامها ، غسل وجهه سريعًا ثم غادر المكان ليُلبي نداء صغيرته ..
أما عنها ، فلا حول ولا قوة لها ! ماذا تفعل ! أترفض امرًا اشتهته مع ولم تنفره ! أم تقبل وتبقى فريسة للندم بقيـة عمرها ! غسلت وجهها بالماء الفاتر عدة مرات ثم قال عقلها :
-لم يمنحني الفرصـة لتقبله حبيب ، بل قفز بمؤشر الروح إلى ساحة الحرب التي تفتقر الحُب ! أ تبع هواه أم اتمرد ! أخشى أن أسير وراء قلبي أرجع بدونه ؟ واخشى أن اكون مجرد ليلة ساومتني عليها لليالٍ عديدة ! أ حب أنت أم نزوة ؟! اختلط الأمر على قلبي وعقلي وبتُ صريعة الهوى !
تنهدت بزهد وهي تتفقد ملامحها بالمرآة :
-لا اللي طلبه ده مستحيل يحصل ! أنا مش هعمل كده ؟ هو له أسبابه ، أما أنا أيه السبب اللي يخليني أوافق أني احقق له مطالبه ! أنا مش هعمل كده ! أنا مش هدير يقضي معاها وقته وبعدين يرميها ! عاصي ملهوش أمان فوقي … الليلة دي أنا أخر ليلة ليـا هنا ، وده قرار نهائي !
•••••••••••
دخل مُراد شقتـه ومن خلفه عاليـة التي قطعت مسافة للسفـر من القاهـرة إلى الإسكندرية لانه طال الغيبـة ولم تطق الانتظار أكثر ، قفل الباب خلفهـا وهو يقول :
-بس أيه طلعها فـ دماغك تيجي اسكندرية !
لقد جاء سؤاله الذي شغل تفكيرها كل الأيام الماضية، أومأت بخفوت :
-كنت حابـه أغير جو ، وليـا كتير مجتش اسكندرية قلت فرصة بقا ..
رمى مراد مفاتيحـه على الطاولـة يقاوم الشوق المميت بصدره إليها وقال :
-اقعدي هجيب لك حاجة تشربيهـا ..
لبت طلبه وهي تكتسح الشقة الكبيرة بعينيها المضطربه حتى جلست على الأريكة بتوجس ، بات تفرك في كفيها بقلق ، من أين ستبدأ يا ترى ! لم تطق الانتظار بل اقتحمت المطبخ فوجدته يسكب كاسات العصير ، مسكت كفه بتردد وقالت :
-أنتَ ليـه قررت تبعد كل ده؟ ليـه فجأة اختفيت حتى من غير ما تودعني ، حتى ولو خد قرارك أنا كان لازم أعرفه ، مش عدل تسيبني كده وتهـرب !
كانت كلماتها مُبطنـة بالعتاب والوجع والحيـرة ، والدموع المسكوبة من عينيها ، ترك ما بيده بلهفـة :
-اشش ! أهدي وهنتكلم وهفهمك كل حاجة ، بس بلاش اشوف دموعك دي ممكن !
أومأت بخفوت وهي تكفكف عبراتهـا :
-أحنا لازم نتكلم !
شد المقعد الخشبي للسفرة الصغيرة بالمطبخ لكي تجلس عليه ، ومد لها كوب العصيـر بحنو حتى جلس مقابلها :
-أنا سامعك يا عاليـة وهجاوبك على كل كلامك ، بس أول حاجة لازم تعرفيها أنا مهربتش ، أنا عارف أن الفترة دي بتاعت امتحانات، محتاجة تركزي !
-مين أداك الحق تقرر بالنيابة عني ! مراد أنا حاسة أنك مخبي حاجة كبيرة أوي ، مش عارفـة أيه هي !
قدم لها كوب العصير وهو يربت على كتفها :
-اشربي طيب .. وشوفي حابة تقولي أيه وأنا سامعك !
بدأت ترتشف في العصير محاولة استجماع كلماتها التي أخذت أيام تعدها ، تتجاهل النظر إليـه كي لا تفقد صوابها وتضل طريقها ، ما أن انهت نصف الكوب تركته جنبًا ثم سألـته :
-أنتَ ناوي على أيه في مصير علاقتنا !
-ناوي علي اللي أنتِ عايزاه يا عاليـة ، أنا ماليش الحق في أجبرك على حياة أنتِ مش عايزاها !
وضعت كفها فوق كفه الممدود فوق الطاولة وقالت :
-مش عايـزة رد ولا موقف سلبي يا مراد ، عايزة أعرف أنتَ عايز أيه ! بس في كام حاجة لازم تعرفها قبل ما تقـول قرارك ..
شد المقعد الجالس فوقه كي يقترب منها أكثر ثم قال باهتمام :
-أنا سامعك يا عاليـة .
ارتشفت رشفة صغيرة من العصيـر بكفوف مُرتعشـة :
-كل اللي حصل في حياتنا ملهوش مسمى غير تحت بند القدر …. أنا عشت بكل المشاعر السيئة وكنت راضية ، على أمل أن وجودي مؤقت ، بس عمري مااتخيلت إني اتجوز بالطريقة دي ! كل يوم بيعدي كان بيبقى أسوأ من اللي قبله لحد ما اتختمت بقنبلة جوازنا .
تمتم بحيرة :
-ليـه يا عالية مصممة دايمًا تمشي في الطريق الصعب ! ليه مش بتعاندي وتقولي لا وتدافعي عن حياتك !
ألتوى ثغرها بحسرة :
-وليـه بتفرض أن عندي طريقين ! أنا عمري ما اخترت أي حاجة حياتي كُلها جبر ، غير الكليـة اللي بحبها .
كل مدى يتأكد أنها خصيصًا جاءت من عالمه ، جاءت لتسد فراغ قلبـه وأيامه ، عانت نفس الظروف نفس المشاعر ، كلاهما تغمدوا في رماد الماضي فـ لم يخلق وسيلة لتمرميم دواخلهم إلا قُربهم ، خلقا الاثنين ليكونا دواء لبعضهم البعض ، أكملت عاليـة ما جاءت لأجله :
-زي ما أنا بعلنها دلوقتي وبقول إني رضيت أكمل حياتي معاك ، عشان مفيش في أيديا حل تاني ولا طريق تاني أمشيه !
عقد حاجبيه مذهولًا :
-قصدك إنك مُجبرة عليـا .. بس أنا مرضاش بكدة .
هزت رأسها بالنفي وقالت :
-لا .. بس قررت أعيش واتقبل حياتي زي ما هي مكتوبة ، اه أجبرت اتجوزك ، بس مخيرة أكمل ولا لا ، وأنا اخترت أكمل معاك يا مراد ، بس قبل ما تقول قرارك في حاجة لازم تعرفهـا .
حاول استيعاب الالغاز التي تتفـوه بهـا :
-عاليـة استني بس ..
-اسمعني للأخر يا مُراد ، أنت عارف أن بداية الطريق لينـا كانت غلط ، وأحنا الاتنين فقدنا الثقة في بعض ، أنت اتجوزتني عشان فلوسي ، وانا اتجوزتك عشان نداري على الفضيحة ، وزي ما أنت قلبك اطمن من ناحيتي ، واثبتت براءتي للكل ، أنا كمان محتاجة اطمن ، اطمن إنك مش طمعان فيـا ، عشان كده أنا عملت تنازل لتميم وعاصي عن كل ورثي وفلوسي ، وجيالك عالية البني آدمة ، مش بنت شهاب دويدار …
توالت الصدمات على رأسه فلم يكن مستعدًا لكل هذا بل كان كل همه بالحياة أن ترمم صحتها النفسية قبل أن شيء ، لم يتفوه ببنت شفة ، بل أتبعت قائلة بحسرة:
-لو قابلني كده ، من الساعة دي أنا مراتك وحلالك قُدام ربنا ، لأ مش موافق وكان هدفك الفلوس ، فدلوقتي مفيش يعني وجودي مش مُجدي بالنسبـة لك ! اخترت أيه ؟!
في تلك اللحظة؛ اقتحمت جلسة عتابهم إمراة بملابس مُخلة تقف أمام باب المطبخ تتمايل وتتلوى كالحيـة حتى أردفت بدهشة زائفة :
-مش تقول أن معاك ضيـوف !
••••••••
” عودة إلى القصر ”
تجلس ” شمس ” بجوار” تميـم ” في شُرفـة غُرفتـه بعد مضي أسبوع مضطرب بينهم ، دومـًا ما كانت تتعمد أن تبتعد عنه ، ألا ينفرد بهـا فيجبرها على التسرع في قرار الانسحاب من حياته ، أخذت تشاهد حركة الحشود بالأسفل وسألتـه :
-مش هتنزل ؟!
رد بيأسٍ :
-ده عالم مُزيف يا شمس ، اتفرجي واستمتعي بالأقنعـة بتاعتهم ..
-أنت ليـه مطلعتش زيهـم !
-عشان ماينفعش أبقى زيهم ، هما أمهم عبلة المحلاوي أما انا أمى مديحة عبدالسلام ، الست البسيطة ، اللي جريمتها الوحيدة في الحياة كانت حبيبة شهاب دويدار ، فضل يطاردها لحد ما اتجوزها في السر ، وفهم الست عبلة انها مجرد نزوة لما لقيته عندها ..
تغلغلت في أعماقه كي ترى الجزء الممزق به ، شردت في حديثه مُقارنـة بما أخبرتها به عبلة من قبل عن أمه وعن حقيقته كون ابن زنـا ، ولت رأسها إليه وسألته :
-ليـه حياتك مليـانة أسرار !
-ده الطبيعي يا شمس ، مفيش حد واضح في الزمن ده ، كل واحد قفل على قبله وكمل مشواره عشان يعرف يعيش …
تنهدت بفتور :
-معاك حق ..
-بالحق أنا مزعلتش منك لمـا قولتي إنك وافقتي تتجوزيني عشان تنتقمي من عبلة .. بالعكس !
أصابت الربكة جسدها فقالت برتابـة :
-تميـم أنتَ شايف إننـا ينفع نكمل مع بعض بعد ما عرفت !
تلج الذكريات المحزنة كالمطارق في صدره وقال بيقين :
-أنا اتاكدت أننا ينفع نكمل مع بعض بعد ما سمعت كلامك يا شمس ، خاصة أن عدونـا واحـد .
ألتفت إليه باهتمام :
-قصدك أيه !
-هفهمك ، عبلة هي السبب اللي وصلتني للكرسي ده ، واتحرمت من الجامعة ، وهي اللي كانت السبب في الحادثة اللي ماتت في أمي ، اليوم ده كُنا رايحين أنا وهي مكان ، قالتلي في صندوق مهم أوي يضمن لك حقك من سم عبلة ، لازم تاخد وتحافظ عليـه ، هو ده ضمانك الوحيد يا تميم ..
برقت عيني شمس بغرابة :
-والصندوق ده فين وفيه أيه !
-كل اللي وصلت له من أمي ورقة جوازها الرسمي من شهاب دويدار ، بس أنا مفهمها أن معايا دليل يحرقها من على وش الأرض بس مش عارف ألقى الصندوق ده فين ، هتجنن يا شمس الست دي وراها مصيبـة كبيرة أوي ..
دب القلق في صدر شمس مع تنهيدة حارة خرجت من ثغرها :
-الست دي باين عليها حوار ، حاسة أن وراها مصيبة ..
تمسك تميم بكف شمس متوسلًا :
-شمس توعديني تفضلي جمبي لحد ما نعرف السر اللي ورا الست دي ! ووعد مني أنا اللي هجيبلك حق جدتك منها .. توعديني يا شمس !
••••••••••
تجلس ” نوران ” في منتصف فراشها بعد مرور أسبوع من المعاناة ، لم تجد الفرصـة المناسبـة كي تتحدث مع كريم ، فـ كانت شمس ترافق خُطاها كالظل ، رمت الكتاب من يدها بضيق إثر صوت الفوضى بالأسفل وقالت لنفسها :
-مش ناقص غير الكركوبة دي كمان تحتفل بعيد ميلادها ! يعني محدش هيعرف يذاكر في البيت ده !!
فجأة فُتح باب الغُرفة ، إذًا بكريم أمامها يتخذ أنفاسه كاللصوص ، فزعت نوران من مرقدها بثرثرة :
-أنتَ ! جيت لقضائك بقا .. أنا عملت لك أيه عشان تموتني ! ولا أنت قاصدني أنا وشمس ؟! خالتك اللي ورا الملعوب ده صح .. أنت عارفة إني ممكن اتكلم واوديك في ستين داهيـه !
كتم كريم شدقها بيده عندما فاض به الأمر من ثرثرتها المزعجـة ، وقال بجزع :
-افصلي شوية ، وافهمي الأول ..
ثم رفع يده من فوق ثغرها :
-شيلت أيدي أهو ينفع تسكتي وتسمعي للأخر !
-خطتك اتكشفت خلاص يا بيه !
تأفف كريم بامتعاض لحماقتها:
-أنا بجد تعبت ، ينفع تخرسي ! ويعدين لو عايز أموتك هجيب لك الأكل بنفسي قدام الخدم كلهم ! نخلي عندنا شوية عقل بقا ؟! وبعدين هتموتك ليـه ؟ أكلتي ورثي !
فكرت في جُمله المُتقطعه للحظات ثم أصرت على موقفها :
-شوف بقا مين دافع لك !
-تاني هتقول دافع لك ؟! يابنتي في مصيبة وانا ليا اسبوع بدور وراها عشان أعرف السبب ، قُلت أجي اسألك يمكن ألقى عندك حل ، لقيتك فالضيـاع خالص !
شرد عقلهـا على نواصي التييه :
-أنت قصدك أيه ؟ يعني أنت مكنتش عايـز تموتني !
زفر كريم بضيق :
-بردو اللي في دماغك في دماغك !
ثم مسكها من ذراعيها وأجلسها قسرًا :
-افهمي يا بنت الناس ، الصينية اللي أنتِ اكلتي منها دي ، كانت خالتي عبلة محضراها مخصوص لتميم ! معنى كده أن المقصود بالسُم كان تميـم ، السؤال هنا أيه اللي بين خالتي وتميم عشان تسممه !
تتشدق بقناعات لا تصدقها بل أردفت بصخب :
-أنا قولت الملعوب ده من تحت الحرباية خالتك ! هي سبب كل المصايب هنـا !! بس اشمعنا تميم ! ولا قصدها شمس ؟!
تنهد كريم براحة :
-أيوة كده شغلي دماغك معايا وسيبك من الهبل اللي في دماغك ، في سر في الموضوع ده وإحنا لازم نعرفه يا نوران ! أيه اللي بين خالتي وتميم يوصلها أنها تفكر تموته !
•••••••••
بدأ الحفل ، وبدأ توافد المعازيـم ، وتكدست السيارات الفارهـة أمام قصر دويدار ، انتشر الحراس في كل صوب وحدب لتأمين المكان ، وارتفع صوت الغنـاء والموسيقى والعزف ، تتنقل عبلة بين الضيوف بفستانها المُرصع عارٍ الصدر له ذيل طويل في الأسفل ، ترحب بالجميع وتشكرهم على تلبيـة دعوة حضورهم ..
تجلس هدير وجيهان على أحد الطاولات ، همست الأولى لأمها بغرابة :
-مالك كل شوية تبصي في الموبايل !
قفلت جيهان الهاتف ووضعته على الطاولة ثم قالت بسخرية :
-شوفتي اللي ما تتسمى عاليـة ، عملت تنازل عن نصيبها في ورث دويدار ! ومن وقتها وانا هتجنن ، بتضربنا في مقتل بنت شهاب .
ضحكت هدير بشماتة :
-قولت لكم دي بنت صفرا ، وميـة من تحت تبن ! فاكرين أنكم هتضحكوا عليها وتاخدوا فلوسهم ! العيلة دي أنا عارفاهم كويس ! لدغتهم والقبـر .
أيدت جيهان حديث ابنتها بإقتناع حتى قالت بفخر :
-بس على مين !! فاكرة أنها هتاخد أخوكي بلوشي ؟ مبقاش جيهان المحلاوي !
-أنتِ عملتي أيه !
-لعبت لها في الأزرق ، سيبك من ست عاليـة وركزي مع عاصي الليلة ، دي فرصتك .
تنهدت هدير بحيرة :
-تفتكري هينفذ كلامه ! حق لو شوفت طيف البنت دي في الحفلة ممكن ارتكب جناية !
-يا خبـر بفلوس ، بعد دقايق هيبقى ببلاش ..
على الجهـة الأخرى وصلت السيارة التي بها سوزان وخلفها سيارة أخرى مكدسة بالحراس ، هبطت من سيارتها ثم مالت متهامسـة لـ مساعدها :
-مش عايزة غلطـة واحدة .. عايزة البنت تختفي من الحفلة من غير نقطة دم !
أومأ الرجل بطاعـة :
-كُله هيتم زي ما حضرتك أمرتي يا هانم ، متقلقيش .
اندفعت عبلة نحوها لتُرحب بها :
-نورتي يا سوزي ، اتفضلي اتفضلي ..
قدمت لها سوزان هديـتها التي أحضرتها من أرقى محلات المجوهرات :
-مش هعرف اديهالك قبل الزحمة ، وكل سنة وانتي طيبة يا لبلبة ..
أخذت عبلة الهدية ثم حضنتهـا حضن جافي من اسمى المشاعر وقالت بامتنان :
-كلفتي نفسك ، مكنش له لزوم كفاية مجيتك ..
” بالأعلى ”
انتهى عاصي من قفل فستانها بعد ما طلبت منه المُساعدة ثم أرجع شعرها المُتحرر للوراء ، رفعت أنظارها بالمرآة وشكرته بخفوت ، لم يتوقف هنا بل تحرك نحو خزانة واخرج عُلبة قطيفة باللون الأسود ، اقترب منها وتركها على التسريحة ، وما أن فتحها إذًا بطقم ألماس فخم مرصع بلون فستانها ” التركوازي ” ، سحب العقد وأشار بعينه :
-تسمحي لي !
مازالت تحت تأثير صدمتها :
-ده غالي أوي !
-يرخص عشانك ..
استدارت للمرآة وشرع في لف العقد الماسي حول عقنها بتيهٍ ، ثم تناول الحلق بعد ما خلع حلقها الصغير ، ووضعه مكانه ، تقدمت تاليـا بحماس :
-يابابي الحفلة هتخلص ، يلا بينـا !
ضحكت حياة وضمتها إليها :
-هننزل أهو ، أنا خلاص خلصت ..
انتهى عاصي من قفل الاسوارة حول معصمها ثم مال متهامسًا :
-يجنن عليكِ !
تبسمت بخجلٍ ولكنـه أتبع :
-ده هديتي ليكي من وقت ما كُنا فـ الغردقة ، ككادوو لطيفة على تعبك معايا .
لم تمنحها داليا الفرصة لتعبر عمـا تشعر به فصاحت :
-يا بابي كفاية بقى الناس هتمشي قبل ما نرقص ونغني ..
-وأنا بقول كده بردو .
مد ذراعه لحياة كي تتعلق بساعده ، وتشبكت أيدي الأختين وتقدمن أمامهما، مشهد فخم يخطف الأنظار اقتحم به عاصي الحفل برفقة حوريته وبناته الاتي احتلن مكانة عظيمة بقلبه ، فلم يمضي ليله قبل تقبيلهم ومداعبتهم ، رفعت تاليـا رأسها ببراءة :
-بابي نروح نلعب !
-بس خلي بالكم من بعض ، ومتبعدوش عننا .
-حاضر
ما أن طاروا فراشات ، اقتربت منه هدير بذهول :
-أيه ده !
رد ببرود :
-هو أيه !
انفجرت هدير بوجهه :
-ده مش اتفاقنا ! أنا مش قولت لك متنزلش الحفلة !
رفع كف حياة إلى ثغره ثم طبع عليها قبلة رقيقة وقال :
-شوفي يا هدير أنتِ بنت خالتي ومش هكذب عليكِ ، وقت ما اتفقت معاكِ كنا متخانقين ، وواصلين للطلاق ، بس وشك كان خير علينـا وهي صالحتني وبقينا زي السمن على العسل !
صرخت هدير بغضب :
-الالعيب دي في شغلك مش عليا يا عاصي ده أنا حفظاك !
أرسل لها نظرة قويـة ثم قال :
-صوتك ميعلاش والا هنسى كل حاجة واحاسبك عليه !
شُحنت هدير بجمر الانتقام ، رمقت حياة بتوعد وقالت مهددة :
-أنت كده بتلعب بالنار !
تعمدت حياة أن تصمت ، الا تتدخل في شئونهم تركت له ساحة القتال وقالت بحنو قاصدة إثارة غضبها و رد الصاع صاعين لها :
-حبيبي هقعد هناك ، متتأخرش.
انصرفت حياة لتجلس على أقرب طاولة ، أما عنه احتدت نبرته اكثر مع هدير :
-اخزي الشيطان وخليكي عاقلة ، ومش عايز حركة كده ولا كدة يا هدير ، والأ هنسفك وأنتِ عارفة إني مابهددش .
ركضت سيدة إلى حياة الجالسة تتمايل مع الموسيقى :
-أيوة كده يا هانم ، انزلي وافرحي ونوري الحفلة ، بالك نورك مغطي على كل الانوار دي ..
ضحكت حياة من سجية تلك العجوز التي تطورت العلاقة بينهم في وقت قصير ، ربتت على كتفها وقالت :
-طيب ما تجيبي لي كوباية عصير وبعدين نشوف اي حكاية الأنوار دي !
-بس كده ، من عينيا الاتنين ..
ركضت سيدة لتحضر لها العصيـر ، واقترب عاصي منها بفظاظته ليجلس بجوارها وقال :
-مكنتش أعرف أن ليكي في كيد النسـا ده !
افتعلت وضع الغبـاء وقالت :
-أنا !! خالص ، ولا في بالي .
عقد حاجبيه بعدم تصديق وقال ساخرًا من طريقتها :
-حبيبي !! ومتتأخرش .. ده تسميـه أيه !
ضحكت بخفوت ثم قالت بكبرياء:
-حسيتها تقيلة علي قلبك بس ، قلت أما أقول كده ، عد الجمايل أهو ..
لمح قدوم شخصية مهمة للحفل ، مال على أذانها قائلًا قبل أن ينصرف :
-هستنى ردك الليـلة ..
خفق قلبها بجنون ، هنا أنقذت دوار عقلها وقلبها سيدة بكوب من عصيـر المانجو ، مهللة :
-أحلى كوباية عصيـر يا ست الستات .
شرعت حياة أن ترتشف العصير وهي تُراقب ذلك العالم الغامض حولها ، ثم انتقلت إلى قرارها المنتظر ، رغم كل ما بها خضع لعصيانه إلا أن عقلها ما زال عنيدًا لا يقبل الاستسلام .. مرت دقائق طويلة وهي تراقب البنات باهتمام وتشاهد لعبهم ومرحهم ، تجاهلت نظرات هدير وأمها الحارقـة ، وتلك الأفعى التي تجلس على طاولة لوحدها تشيعها بنظرات الانتقام ، فاقت على صوت ذكوري :
-برنسيس الحفلة كلها ، مش معقـول هو في جمال كده !
فزعت من مكانها وهي تردد اسمه بضيق :
-اااه هاشم بيه ، أهلا وسهلًا .
-تسمحي لي نشـرب كاس سوا ؟
تأهبت أن ترحل وقالت جملتها الأخيرة :
-سوري ما بشربش !
ابتعدت عنه وعن شره المُعلن واتجهت نحو البنات ، هنا انضم عاصي إليها وقال :
-تسمحي لي بالرقصة دي !
أعلنت ملامحها الرفض ولكنه همس محذرًا :
-عشان هدير وكده ! مش عايزينها تشمت فينـا !
يبدو أنه سلك طريقه الصحيح لقلبها وهو افتعال الغيرة ، لبت طلبه على الرحب والسعة ، حيث تقدم الثنائي لاداء رقصة على أحد الاغاني الإنجليزية.. ومن الجهـة الأخرى وصل فريد المصـري الحفل مُلبيًا دعوة عبلة التي ركضت لتُرحب به ، صافحها ثم طبع على كفها قبلة وقال :
-كوين عبلة ، كل سنـة وانتِ صغيرة !
وقف عاصي وحياة على المسرح لأداء الرقصـة ، ما أن لف ذراعه على خصرها الأشبه بعود الريحان وكأن شيء ناعم يشبه الحرير ألتف حولها ، أحست بدوار مفاجئ أصاب رأسها ، سألها بلهفة :
-أنتِ كويسة!
تجاهلت الألم الذي يصدح برأسها وقالت :
-تمام تمام ، دوخت فجأة بس ..
شبكت ذراعيها خلف عنقه وبدأت تتمايل على ألحان الغناء معـه ، كانت رجات الصداع تضرب في رأسها ولكنها تمكنت من الثبات في أوج الألم .. تمادي في النظر إليها وكأنه يعبـر لها عما يُعانيه بقُربها ، تهامس قلبه بترجي إلى عينيها ” خاطبني بِعناق فما عادت الكلمات تُسعف لوعتي ”
بدأ بالتحاور معهـا :
-أنتِ طلعتي لي منين !
أطرقت بثقة وهي تسحره بضياء عينيها :
-من البحر ..
ثم انطلقت منها ضحكة عاليـة غير مناسب للموقف ، وأحس باختلال اتزانها بين يديه ، سألها مرة أخرى :
-متأكدة إنك كويسة !
لم تكف عن الضحك بل وبخته كالسكير :
-أنا كويسة كويسة ..
ثم غاصت في غيبوبة الضحك مرة أخرى كمن فقد عقله ، تفحصت أعينه الحشود حوله وقال بحذر :
-حيااه ، فوقي مالك !
تمايلت بجنون وصاحت :
-أنا مبسوطة اوي !
دب الرعب في صدره من تلك الحالة التي انقلبت عليها فجأة حملها بين ذراعيه وهو يقول :
-لالا أنت فيكي حاجة .. ده مش طبيعي .
عارضته بإصرار :
-أنا كويسة مش هروح لحتة نزلني بقولك ..
أسرع الخُطى تحت أعين الحشود وركض بها ناحية غرفته وهي تهذي بخلل ، كلمات لا تشبه بعضها ، تصرخ تارة تضحك طورًا ، وعلى الجهة الأخرى ترتشف هدير كأسًا من النبيذ وتقول بشماتة :
-عشان تعرف تلعب مع هدير المحلاوي يا حلو .
وصل عاصي إلى غُرفته وأنزلها بعد ما ركل الباب بقدمه ، أخذت تتمايل كمن تجرع زجاجة من الخمر وتسأله بهراء :
-أحنا جينا هنا ليه ! يلا يلا ننزل ونرقص وننبسط .
صرخ بوجهها بقلق :
-حياة فوقي أنتِ شربتي أيه ..
انغلقت جفونها وهي تعانقه ، أهذرت في كلماتها المتراقصة :
-أنت جبتني هنا عشان الحفلة خلصت ! ولا عشان تعرف رأيي .. بص أنا موافقة ، موافقـة أجيب لك ولاد كتير كتير أوي ..
-أنتِ مش في وعيك .. تعالي
ابعدها عاصي عنه ثم سحبها من يدها إلى المرحاض وتعمد فتح الصنبور فوق رأسها وأخذ يغسل شعرها ووجهها وهي تتحرك بعبثٍ وبدون وعيٍ .. صرخت بوجهه مُعلنـة :
-خلاص خلاص أنا فوقت أهو ، أنا كويسـة ..
ما أن قالت جُملتها خرت ضاحكة ومنفجرة في غيبوبة قهقهاتها العالية ، نزع عاصي ملابسه العلوية التي ابتلت من الماء ثم عاد إليها محاولًا أن تسترجع وعيها :
-حياة فوقي ! بصي لي كده ..
رفعت جفونها الساحرة إليه وتأملت تفاصيل جسده الرياضي بحُرية ، ثم أطلقت العنان لأناملها أن تداعب صدره وما أن عادت النظر بعيونه قالت :
-فاكر لما قولت لي لمـا بتحب واحدة ست ، بتخليها عايشـة فوق السحاب ! أنا بقا عايزة أعيش معاك في السحاب دلوقتِ .
أرخى سدودله أمام جنونها ولكنه رفض قُربها قطعًا :
-حياة أنتِ مش في وعيك ، أنا هنزل اجيب لك سيدة !
تمسكت بيده ووقفت أمامه حيث قرأ الرفض بعيونها ، دنت منه وشرعت في تقبيله بتأني ، حارب جيوش قوته وجبروته كي يخالف هواه ولكن انفلت زمام القلب والهوى وهدمت مقاومتـه ، وحلت نيران الشوق ،فـ رد القُبلة منها بقُبلتين ، ألف قُبلة وقبلة كانت من نصيب شفتيها ، لقد فجر ليال صبره بهما ، طوق روحها التي أصبحت كدواء لفؤاده العليـل ، ضمها إليه فامتلك بهـا الحياة ، طاح العقل .. ولم يتبقى منها إلا بقايا أنثى بقلب عاطفي حد الجنون .. التقى رجل النار بأنثي الجليد كم كان اللقاء مدوي صداه لولا أصوات الغناء لجذب مسامع الجميع عن تلك الثورة المُندلعة بالاثنين ، كان قُربه كالموج وكل ما كان عليها أن تغرق أكثر وأكثر ، حلت بقُربها جميع عقده وطار بها وبحبها من القمـة الي القمة ، حتى جمعهم فراش القُرب وصدح القلب وأعلنت الألسن شوقها ، سار الثنائي في طريق لا رجعـة منه ، أخيرًا تجرع ملاذ الشهد من قُربها الذي روى كل عطشه ..واستكانت روحه في حرز حضنها ..
قضت لحظات بقربه بين آهات اللوعة وصرخات الوجع ونفس المشهد يتكرر أمامها ، تارة تصل لفوق سُحب الحب وتارة تهوى في جهنم ، فجاة تتحول صورته لقاتل عذريتها وتراه ” قاسم ” ، ومرة أخرى تعود لعناقه بلهفة أقوى عندما تتأكد من هويته ، صراع بين الماضي والحاضر ، نفس الحدث ولكن شتان بين المشاعر التي باغتت قلبها وكيانها ..
التحام روحي استمر لدقائق طويلة مسلوبـة من الزمن ، استرد عاصي وعيه تدريجيًا عندما لاحظ قفل جفونها وذهابها في سباتٍ عميق ، ابتعد عنها مصدومًا ، تبدلت ملامحه عما حدث ، تكفلت بالغطاء وسحبت في خلودها المُؤقت من ذلك الصراع الطاحن الذي أصاب الذاكرة .
” بالأسفل ”
-هدير عاصي فين ؟
باتت عبلة تبحث عنه بسبب اختفائه المفاجئ من الحفل ، ضحكت هدير بسخرية :
-معرفش آكيد مع الهانم بتاعته ..
••••••••••
يجلس على الأريكة قُراية الساعة أمام صورة بطاقتها الشخصيـة التي تحوي كلمـة ” عزباء ” والمعلومات التي وصلت لها عنه بأنها لم تتزوج بعد ، ولكن ما حل بعذريـة روحها ! باتت الأفكار السواوية تأكل في خلايا عقله حتى هب صارخًا :
-أنتِ طلعتي زيهم !
أما عنها غاصت في بحر كابوسها المفزع وتذكرت تفاصيل ذلك اليوم الذي طُبق عليها حكم الإعدام ..
-أنت جايبنا هنا ليه !
على شاطيء البحر وبمكانهم الفارغ من الحشود والهواء يداعب شعرها أردفت رسيل سؤالها الاخير ، اقترب قاسم منها وقال بمكر :
-عشان أودعك !
تشبث برأسها :
-قاسم انا مصدعة أوي ، من وقت العصير ده وحاسة إني دايخة !! يلا نروح !
مد ذراعه كي تستند عليـه :
-نروح أيه ، اسندي عليا بس واقعدي يلا اقعدي ..
لم تتذكر إلا آهات وجعها وعجزها عن المقاومة ، صوت صرخات البحر وتلاطم الموج غضبًا عن اغتصـاب روح حوريته ، سُلبت روحها وسُلب معها الحياة وباتت فريسـة لمكر ذلك الثعلب الذي تسلل إلى جسدها بدافع الحب ، ثار البحر بموجة قوية افزعتها من نومها وهي تصرخ مستغيثـة :
-لا .. أبعد عني .
في الأسفل انشروا رجال الشـرطة بالمكان حتى سأل الضابط عبلة قائلًا :
-فين عاصي شهاب دويدار !
-ليه ! ابني عمل أيه يا حضرة الظابط ؟
-متهم في قتـل قاسم ابراهيم صفوان .
***
إنتهت
نتقابل في الجزء التاني

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!