روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الرابع والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الرابع والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الرابعة والعشرون

تسلل لغرفتها دون أن يراه أحدهم، لا يهتم إن كان ذلك يُمثل خطرًا أو لا، هو حتى لم يفكر بالأمر، لم يفكر سوى أنه يحتاج أن يراها، يحتاج أن يتحدث معها حتى وإن لم تكن تسمعه، هو يحتاج الأمر وبشدة .
تقدم مختار من فراشها يتأمل ملامح وجهها الشاحب الفاقد للحياة، تلك الملامح الحبيبة التي كان يستمتع بكل لحظة تمر عليه وهو يتأملها بجمود ظاهري وهيام باطني .
تنهد بصوت مرتفع، يتحرك صوب الفراش لا يجد مقعدًا في الجوار فهذه ليست غرفة يُستقبل بها أية زيارات .
جلس ارضًا على ركبتيه يستغل طول قامته ليرفع أكتافه وينظر لوجهها يبتسم بسمة صغيرة، وتمنى أن يعود صوته ثواني فقط، ثواني معدودة تمنحه رفاهية التلذذ بأحرف اسمها الحبيب .
سقطت دمعة مختار وهو ينظر لها بعجز، يتذكر أول مرة رآها بها، وكيف كان يقاوم نظرات بلاهة وانبهار بملامحها الطفولية وقتها، كان فقط متعجبًا كيف يمكن لمراهقة كتلك تحمل اسم أكثر رجل يمقته أن تكون بمثل تلك الملائكية والغباء..
ابتلع ريقه يقترب برأسه منها يتحدث لها بقلبه لا بفمه، لا يصدق أنه مر بكل ذلك معها وكان من القوة أن يمتنع عن النظر لها بأي نظرة عشق، سقط في عشقها منذ وجدها تزهر وتنمو أمام عيونه، ربما فعل مع عيد ميلادها الثامن عشر حينما كان هو في الثانية والعشرين، لكن هل كان الأمر منذ ذلك الوقت فقط ؟؟
لا يدرك ولم يهتم وقتها أن يفعل، هو فقط كان في حرب طاحنة مع نفسه ليخفي كل مشاعره عنها خلف قناع الجمود واللامبالاة، فما لها من شاب أبكم لا يستطيع أن يُسمعها من الكلمات ما تريد كما أي فتاة؟! هو حتى لا يملك ابسط الأمور وهو مناداتها باسمها، لا يستطيع أن يمنحها شيئًا سوى حزن وماضي اسود يهرب هو منه .
بكى مختار يدفن وجهه في الفراش أسفله يترجاها بصمت أن تكون بخير، امسك كفها يتواصل معها بالشكل الوحيد المتاح لها يهمس بما لا يجرأ على النطق به، أو يقدر حتى على نطقه :
” بحبك ”
شدد ضمه لكفها يرفع لفمه يقبله وهو يشير لها بأصابعه على الأقل يعبر عن القليل في صدره لها :
” من زمان وانا بحبك، وعمري ما كنت باكل مكرونة ولا بحبها، بس حبيتها عشانك أنتِ بس، وكنت بعمل نفسي مش عايز أكل واول ما تمشي أكلها بكل سعادة، كنت بفرح لما تلزقي فيا وحابب تكوني جنبي اكبر وقت، لكن …”
توقف عن تحريك أصابعها ليرتجف فمه معلنًا انفجار آخر وشيك، وقد كان..
انفجر في بكاء عنيف وهو يتخيل استحالة الحياة بينهما، هو ملئ بالسواد وهي صغيرة نقية يخشى أن تعاني معه، هو لن يسعدها يومًا، حاول، يقسم أنه حاول أن يتحدث مئات المرات لكنه …فقط فشل .
رفع أصابعه يحركها في شكل كلمات صغيرة تعبر عن جزء صغير منه :
” أنا كنت بغير من رامي الدكتور بتاعك، وبغير من أي شخص يقرب منك، وبغير من أي حد يقدر ينطق اسمك وانا لا، أنا آسف اني كنت غبي ”
امسك يدها يضعها أعلى كفه يحرك أصابعه عليه في رسالة صامتة :
” كان نفسي اقابلك في زمن تاني، كنت هحبك واجبلك هدايا كتير واشتغل أي حاجة وكل حاجة عشان بس اسعدك، كنت هعاملك زي الاميرة، لأنك أميرة رقيقة وجميلة يا نيمو ”
قبل كفها وهو ما يزال يبكي يكمل حديثه باستخدام أصابعه :
” كنت هبقى وقتها نادر مش مختار، كنت هحبك بقلب نادر الصافي، هشاركك كل لحظة بسعادة واعملك كل اللي تحبيه، لكن مبقاش ينفع لأن نادر مات في حريق من عشر سنين وللاسف متبقاش غير بقايا نادر على هيئة شخص اسمه مختار، وده أنا متمنهوش ليكِ أبدًا ”
ترك يدها ببطء لتسقط على الفراش، ثم نهض ببطء شديد يرمقها من علياه يمسح دموعه، قبل أن يتحرك خارج الغرفة وبمجرد أن أغلق الباب أبصر ميمو التي كانت تنتظر في الخارج لمعرفتها أنه مع نيرمينا .
ابتسمت له بسمة صغيرة تفتح له ذراعيها، ليلقي بنفسه بينهما وهو يبكي دون صوت، وهي فقط تربت فوق ظهره تعده أن القادم افضل لهما وللجميع ..
لكن هو فقط لا يظن ذلك، لا يوجد افضل له، فالافضل هو أن يكون مع نيرمينا، لكن ذلك أشبه بمهمة مستحيلة .
___________________
” معلش بس منين جه خطيبك ده وامتى ؟! أنتِ غطستي مرة واحدة وهوب طلعتي بخطيبك ؟!”
” طب هو عامل ازاي ؟؟ معاكِ الاكونت بتاعه فيس ؟؟”
” وأخواتك وافقوا كده عادي ؟؟”
كانت تلك هي بعض الجمل المتراشقة التي وصلت لرانيا بمجرد أن فجرت في وجه رفيقاتها أمر خطوبتها القريبة، كان الجميع يجلس أعلى فراشها يحدقون فيها مترقبين إجابة منها، لكن هي فقط لا تستطيع أن تستوعب شيء ..
زفرت بضيق لكل تلك الأسئلة التي احاطوها بها :
” يا جماعة هو فيه ايه ؟! هو أنا مش انسانه طبيعية ممكن تتخطب عادي زيها زي أي بنت فيكم ؟؟ أنا إنسان عادي يعيش ويتعايش، ليه بقى الاسئلة المريبة دي كأني خرقت قوانين الكون كله؟! ”
تحدثت صديقة لها وهي تقترب منها بشك :
” ما هو ده اللي حصل يا رانيا يا حبيبتي، لأن في شرع اخواتك اللي زي القمر دول أنتِ كده خرقتي قوانين الكون، بعدين تعالي هنا وقوليلي عرفتي منين الشاب ده ؟؟”
ولم تكد رانيا تجيب بكلمة حتى ارتفع رنين هاتفها بقوة جذبت انتباه الجميع له، فقد كان يتوسط الفراش بينهما لتتوجه له جميع الأنظار ببطء شديد وقبل أن تمسكه رانيا هجمت عليه كل الفتيات حينما أبصروا اسم ( صالح ) يجاوره قلب أحمر يعلو شاشته .
لكن وبسبب كثرة عدد الأيدي التي تحاول الوصول له انزلق الهاتف من بين أيديهم وسقط أسفل قدم محمد الذي اقتحم الغرفة بعد طرقها عدة مرات وعدم وجود استجابة منها جاهلًا وجود أحد مع شقيقته، ولم يكد يعتذر ويخرج حتى شعر بشيء يصطدم بقدمه .
نظر ببطء للاسفل وكاد ينحنى ليرى الأمر، لولا صرخة رانيا التي انتفضت عن فراشها تقول وهي تمسك رأس محمد ترفعها مجددًا:
” لا لا اوعى ترد ده …ده خطيب رشا اللي هي متخانقة معاه وعاملة نفسها مقموصة منه، وكده هتبوظ القمصة مش كده يا رشا؟! ”
في تلك اللحظة انتفضت المدعوة رشا عن الفراش تتحدث بجدية كبيرة ولهفة شديد تنتزع الهاتف والذي لم يتبين محمد أنه تابع لشقيقته بعد :
” أيوة صح يا باشمهندس ده …ده خطيبي الحيوان وانا مش بكلمه حاليا ”
وضعت الهاتف بسرعة خلف ظهرها ورانيا تقف أمام محمد بشكل مثير للريبة، ومحمد يبتسم بسخرية لاذعة يبعد يد رانيا عنه قائلًا بهدوء :
” طب قولي لخطيبها الحيوان إني محتاجه يتنيل يجي أقابله قبل الخطوبة عشان عايزة في حوار ”
صمت ثم مال عليها يهمس بنبرة مريبة :
” ولينا كلام طويل بعدين ”
هزت رانيا رأسها بقوة لا تستوعب ما يرنو إليه من حديثه، كل ما تستوعب أنه غادر الغرفة لتبتسم باتساع شديد تضع يدها أعلى صدرها براحة شديد :
” الحمدلله فلتنا منه ”
ضربتها رشا أعلى رأسها بغيظ صارخة في وجهها وهي تشير للباب حيث كان يقف محمد منذ دقائق :
” فلتنا مين يا متخلفة؟؟ اخوكِ قفشك ”
صمتت ثم رفعت الهاتف بتحذير في وجه رانيا :
” ومرة تانية لاقي حد غيري تلبسيه بلاويكِ، اهو بسبب كلامك اخوكِ هيفكرني مخطوبة وتوقفي سوقي ”
لكن رانيا كانت لا تستوعب كل ذلك بل فقط ترى أحرف اسم صالح تنير الشاشة لتلتقط منها الهاتف وهي تتحرك بسرعة صوب مرحاض غرفتها تسجن نفسها به تجيبه بعيدًا عن ضوضاء الجميع :
” الو يا صالح ”
وصل لها صوت صالح من الجهة الأخرى وهو يقول ببسمة واسعى لسماع صوتها بعد ليلة مليئة بالصرخات والبكاء :
” صباح الخير يا رانيا ”
ابتسمت رانيا بخجل شديد وهي تستعيد مكالمة البارحة حينما ارسل لها الفستان وكيف أغلقت الهاتف خجلة في وجهه :
” صباح النور يا صالح،عامل ايه ؟؟”
” أنا الحمدلله بخير، خير يعني عمري ما شوفت رقمك بيرن عليا مرة، يعني عمرك كده متوغوشتي عليا وقولتي أما اروح اتصل بصالح اشوفه عامل ايه، ولا دي حركات كده عشان اشحنلك أنا رصيد ترني ؟؟”
نعم يا صالح هيا عد لما كنت عليه علني أتمكن من الإجابة عليك دون أن أغلق الهاتف في وجهك كل ثانية ..
” تصدق بالله ”
ابتسم صالح يجيب :
” لا إله إلا الله”
” محمد كان عنده حق لما قال عليك حيوان من شوية ”
” محمد قال كده ؟؟”
هزت رأسها بحنق شديد :
” أيوة ”
” عشان بس لما اقولك اخواتك كلهم بما فيهم أنتِ متربتوش تصدقيني، عيلة غجر من اكبركم لاصغركم ماعدا الحاج رؤوف”
شعرت رانيا بأنه تمادى أي حديثه وقالت بغيظ شديد وغضب واضح في أحرف كلماتها :
” وأنت ايه اللي يجبرك يا دكتور تناسب عيلة متربتش ؟؟ ما نفضها سيرة بقى طالما كده ”
أجابها صالح بكل بساطة ويسر :
” ما هو عشان أنا كمان متربتش ”
صمتت رانيا وقد تبدد غضبها فورًا ولم تدري هل تضحك ام تستمر في الغضب، إلا أن صالح تحرك وجلس على أحد مقاعد الحديقة يقول بجدية :
” اصل انا هحكيلك، ابويا اول ما صلاح اتولد من فرحته نسيوني دقيقتين في بطن امي، وبعدين انشغل هو في تربية صلاح وسابني أنا اربي نفسي تربية ذاتيه، وعشان الحق أميرة حاولت تربيني شوية، وكادت تنجح لولا اصدقاء السوء في مدرسة الشهيد الاعدادية ”
صمت ثم أردف بجدية كبيرة :
” تخيلي يا رانيا العيال الفاسدة كانوا بيشربوا سجاير في الحمامات ويخمسوا قدام مدارس البنات بالموتوسيكلات ؟!”
تساءلت بفضول كبير رغبة منها في كشف المزيد مما يحمل ذلك الصالح الذي لا يحمل من اسمه سوى احرفه فقط :
” وأنت كنت بتشرب سجاير معاهم ؟!”
انتفض جسد صالح بقوة يدافع عن نفسه :
” اقسم بالله ولا لمستها في يوم، أنا بس كنت بخمس معاهم قدام مدرسة البنات ”
” أنت كنت من النوع ده يا صالح ؟؟ وأنا اللي قولت أنك معقد وملكش في البنات ”
نظر صالح حوله بسرعة خوفًا أن يكون هناك من يجاوره ويستمع لكلمات تلك البلهاء التي لا تدري ما تقول :
” اششش ايه مليش في البنات دي الله يسامحك، الدنيا لبش اليومين دول، اسمها محترم مش بيحب يرفع عينه في بنت ”
ضحكت منه رانيا ساخرة :
” محترم ايه ده أنت كنت بتخمس قدام مدرسة البنات يا صالح ”
” والله هما مرتين وفي المرة التانية أنا اللي كنت بخمس والحماس زاد والجلالة اخدتني وعملت حتى عرض خمسات قدام البنات كانوا بيترموا في الأرض كده من الانبهار، الحمدلله في الاخر جابونا بالونش من الترعة اللي قصاد المدرسة ”
صمتت رانيا ثواني قبل أن تستوعب كلماته لتنفجر في الضحك وهو أخذ يتذكر ماحدث معه :
” من كتر الحماس ما اخدتش بالي اني بقرب من الترعة وفضلت اخمس واخمس لغاية ما لقيت الموتوسيكل بيبقلل في المايه وخرجت بكسر في دراعي اليمين، وروحت الحاج الله يكرمه كسر الشمال ”
لم تتوقف رانيا عن الضحك وهو يقص عليها الأمر وقد انقلبت ملامحه للحزن فجأة وكأنه تذكر مقدار الألم في تلك اللحظة وقتها، يقول بحسرة شديدة :
” يلا مش مشكلة باذن الله في الفرح بتاعنا اعوضها ونعمل خمسات بالعربية بتاعتنا ”
رفعت رانيا حاجبها ساخرة :
” نعم ؟؟ تعملي خمسات عشان نقع في أي بلوة؟؟ أنت بتهزر يا صالح ؟!”
” متقلقيش ما أنا هجيب صاحبي اللي بيعرف يعمل خمسات وهو يهمس بالعربية بتاعتنا ”
صمت قليلًا ثم ابتسم فجأة يقول :
” ولا اقولك أنا اجيب عربية اركب اخواتك كلهم معايا واخمس أنا بيهم ”
” صالح …”
” ايه ؟؟”
تنفست بصوت مرتفع وصل له واضحًا ليكبت ضحكته عليها :
” أنا هقفل عشان ميحصليش حاجة، الظاهر أنك بليل بشخصية والصبح بشخصية تانية، المهم قبل ما اقفل محمد كان عايز يقعد معاك قبل الخطوبة ”
” ايه خلاص عرف هيخلص عليا ازاي ؟؟”
” صالح أنا مش بهزر ”
” وهو أنا يعني اللي بهزر ؟؟ ما اخواتك عايزين يخلصوا مني يا رانيا ولا أنتِ مش شايفة بيبصوا ليا ازاي ؟؟ طب ده اخوكِ اللي اسمه جبريل آخر مرة كان هيقوم يخنقني وسطيكم ”
ابتسمت رانيا تقول بحب شديد :
” بيحبوني ويخافوا عليا يا صالح ”
زفر صالح بصوت مرتفع :
” يا ستي هما هيزفوكِ لقاتل متسلسل؟؟ اعملهم ايه يثبتلهم اني هحافظ عليكِ اكتر من اني جبتلك عدة دفاع عن النفس ؟؟ اوقفلك فرقة مكافحة شغب قدام اوضتك، ولا اجيب المطوة بتاعتي واجي ابات قدام باب بيتكم ”
ابتسمت رانيا يعجبها ما يحدث مع صالح، أن يعاني حتى يصل لها، كل ذلك ينعش روح الانتقام داخلها وكأن اخوتها يعيدون لها حقها من صالح المتشرد سابقًا .
أفاقت على صوت صالح الذي قال بهدوء :
” قولي لاخوكِ اني هحاول اجيله، بس الاقي يوم إجازة في الشغل عشان لو قولت للمدير أخد إجازة تاني الفترة دي هتطرد ”
اومأت له تقول بهدوء :
” تمام هبلغه، أنت خد بالك من نفسك يا صالح ”
” وأنتِ يا رانيا خدي بالك من نفسك لغاية ما يجي الوقت واخد أنا بالي منك، اتفقنا ؟؟”
صمتت رانيا بخجل شديد وهناك بسمة واسعة ترتسم على شفتيها ليجيب صالح من الجهة الأخرى نفسه يقول ببسمة واسعة :
” اتفقنا …”
__________________
كانت زهرة في حالة صدمة تامة، تسمع ولا تفقه، ترى ولا تدرك، تلك الكلمات التي ينطق بها سعيد بالطبع هي أضغاث احلام، هي ما تزال في مكتبها تجمع اشياءها للرحيل، ربما غفت على المقعد ورأت ذلك الكابوس المتمثل بسعيد وهو يقص عليها ما لم تتوقع أن تسمعه يومًا منه، لا هو لم يصل لتلك المرحلة، هو لم يتخطى تلك الحدود …
هبطت دموع سعيد وهو يكمل دون أن ينظر لها كي لا يضعف، هو اقسم على إنهاء كل ذلك، هو سيتحدث معها كما يتحدث مع نفسه، سيخبرها بكل ما يؤرقه :
” أنا …أنا بس فكرت …أنا ”
صمت لا يستطيع أن يتحدث بكلمة ودون أية مقدمات انفجر في البكاء يقول بصوت مختنق ونبرة مقتولة :
” نيرمينا، أنا شوفتها كانت بطنها مفتوحة، كانوا عايزين يقتلوها وياخدوا أعضائها زي ما أنا بعمل ”
شهقت زهرة بقوة لتشعر بالأرض تدور بها وقلبها يضرب بعنف شديد، استندت على المقعد جوار المكتب الخاص بها تحاول التنفس من تلك الكلمات، ليقول سعيد بحسرة وهناك شخصان يتصارعان داخله وقد تحدث الصوت المتجبر داخله :
” زهرة أنا وِحش صح ؟؟ بس أنا… أنا مكنتش الوِحش الوحيد، هما كمان كلهم كانوا كده، كلهم عملوا كده واكتر مني، اشمعنا أنا ؟؟ اشمعنا أنا الوحيد اللي اتعاقب وهما لا؟؟ كلهم كان لازم يتعاقبوا زيي ”
بكى بصوت متقطع وهو يقول من بين شهقاته :
” اشمعنا نيرمينا اللي يحصل فيها كده؟؟ ليه أنا اللي بيحصل معايا كده؟؟ أنا بس كنت …أنا بس كنت عايز ..”
صمت ثم نظر لها بأعين حمراء زائغة يقول بصوت كما لو أنه جاء من بعيد :
” أنا مش عارف، أنا مش عارف كنت عايز ايه من ورا ده كله، أنا بس كنت حاسس اني محتاج اعمل كده، أنا بس كنت عايز …كنت عايز اوري جاد إني مش ضعيف وإني مش خايب وإني اقدر اعمل كل اللي عمله واحسن منه، بس هو …هو متعاقبش وأنا اللي اتعاقبت، هو عمل حاجات اسوء مني وأنا… أنا بس كنت بساعد الناس ”
شعرت زهرة بقرب انهيار سعيد لتزيح صدمتها جانبًا وهي تحاول التماسك لاحتواء حالة الخلل التي اصابته، وبوادر صدمة عنيفة تتحكم في ردات فعله .
” طب …طب سعيد أهدى بس، أهدى أنت شكلك مش واعي ”
هز سعيد رأسه بقوة وهو يقول ببسمة وكأنه وجد أخيرًا مبرر له يقف وهو يتحرك لها لتتراجع زهرة لخلف بخوف وهو لم يبصر نظراتها تلك يمسك كتفها ببسمة مختلة :
” أنا كنت بساعد الناس يا زهرة، هما كانوا بياخدوا مني فلوس، أنا عمري ما اذيت حد، هما كلهم ميتين كده كده وأهلهم محتاجين فلوس فكنت بساعدهم، والمخدرات ..المخدرات أنا بس مكنتش بتاجر فيها، أنا … أنا بس كنت بخليهم يخزنوها عندي ويوزعوها هما أنا مليش دعوة، بعدين هما اللي بيشتروا وكل ده بإرادتهم يعني أنا مليش دخل صح ؟؟ أنا مغلطتش مع حد يا زهرة”
صمت يقول بأمل أن توافقه :
” صح يا زهرة ؟؟”
ارتجفت زهرة بين يديه ليهزها هو بقوة قائلًا ببكاء حاد حل محل بسمته الواسعة :
” صح أنا مأذتش حد، أنا بس كنت ….ليه يحصل كده مع نيرمينا، تعرفي نيرمينا في المستشفى دلوقتي، شالوا كليتها واخدوها منها، اخدوها منها يا زهرة ”
واخيرًا انهار جسد سعيد ارضًا وبقوة لتشعر زهرة بجسدها يرتجف من قوة السقطة وسعيد أخذ يبكي وينتحب :
” أنا مكنتش عايز كل ده يحصل، أنا كنت هخلص العملية دي واخدك ونروح نعيش بعيد عنهم كلهم، مكنتش عايز كل ده يحصل ليا، أنا مكنتش عايز اعيش كل ده، أنا كنت عايز اموت زي جاد، اشمعنا هو مات وارتاح وأنا اللي بتعذب هنا ”
شعرت زهرة بدموعها تسقط وهي ترى علامات الانهيار والمرض تظهر جلية أعلى ملامح سعيد الذي كانت إصابة شقيقته القشة التي قسمت ظهره .
انحنت زهرة تحاول تدارك حالته :
” اششش اهدى يا سعيد، اهدى، أنت بس اهدى وكل حاجة هتكون بخير ”
هز سعيد رأسه بقوة باكيًا، يشعر بقرب توقف قلبه :
” لا ..لا مفيش حاجة هتكون بخير، نيرمينا لما تفوق هتكرهني حتى أنتِ هتكرهيني، كله بيكرهني ومحدش هيكون جنبي، أنا أنا..”
صمت فجأة قبل أن يرفع عيونه لزهرة يردد بصوت خافت وكأنه يخشى أن يستمع له أحدهم :
” زهرة أنا فيه صوت جوايا بيقول إني صح، وصوت تاني بيقول إني غلط، أنا مين فيهم ؟؟ أنا مش وحش أنا … أنا وأنا صغير كنت بصلي وكنت بصوم مع ماما، بس حتى هي سابتني، سابتني لأن جاد قتلها ”
بكى بقوة وهو ينوح بصوت مرتفع وقد صدح صوت الضحية داخله :
” قتلها ومحدش كلمه ولا حد حاسبه، وأنا أنا عمري ما قتلت حد والله، عمري ما قتلت حد ورغم كده بتعذب، هو ممكن يكون ربنا بيحاسبني على اللي جاد عمله، زي ما بيحاسب نيرمينا على اللي انا عملته ؟؟ هما كلهم اذوني وانا اللي بتعذب”
وصل سعيد لنقطة بعيدة لم تتمنى زهرة أن يصل لها، لتقترب منه وهي تتحدث بصوت خافت :
” سعيد محدش بيشيل وزر حد، ربنا حاشاه يكون ظالم، أنت بس .. أنت بس بعيد عن ربنا يا سعيد ومش عارف بتقول إيه، أنت محتاج تتعالج، محتاج تقرب من ربنا وتتعالج وتتصالح مع سعيد، أنت مش جاد ولا هتشيل ذنب جاد، أنت سعيد، صاح حياتك عشانك ”
صمتت ترى نظراته التي ثبتها على وجهها يستمع لكلماتها بأعين خاوية .
بينما هي أكملت :
” كل الأصوات اللي جواك دي بتشتغل ضعفك عشان تتحكم فيك، اوعى تسيبهم يتحكموا في سعيد، أنت مش جاد ولا زي جاد، ولا عمرك هتكون جاد فاهمني يا سعيد ؟؟ أنت سعيد وبس، سعيد الشاب اللي شاف ظلم وحاول يطلع الظلم ده على الناس كلهم، سعيد اللي شاف أن الكل لازم يعانوا زيه، لكن رغم كده كان جواك سعيد تاني مش حابب حد يعيش اللي هو عاشه ”
سقطت دموع سعيد أكثر وهو يقول بوجع :
” هو …هو أنتِ ممكن تفضلي معايا ؟؟ ممكن تساعديني ؟؟ والله يا زهرة هبقى كويس خلاص، أنا …أنا روحت لشيخ قبل ما اجيلك و..سألته بس ”
صمت لا يدري كيف يبلور كلماته المبعثرة في جملة مفيدة:
” هو قالي إن ربنا ممكن يغفرلي فيه حقه، بس حق العباد لا، أنا المفروض اعمل ايه ؟؟ أنا معملتش حاجة وحشة، هما اللي كانوا بيقبلوا هما اللي وافقوا اعمل كده مقابل فلوس، يعني أنا مش غلطان صح؟؟ ”
” بس أنت اعنتهم على أذية نفسهم وغيرهم يا سعيد، يعني شايل ذنب برضو ”
سقطت دموع سعيد وقد شعر بالدنيا تظلم أي وجهه بضع يده أعلى فمه يكتم شهقات وصرخات كادت تحرك منه مقهورة :
” طب أنا عملت كده ليه ؟؟ أنا مستفدتش أي حاجة ليه حصل كل ده؟؟ دي كانت تاني مرة اعمل عملية زي دي، والله تاني مرة ومكملتش، أنا معملتش ليهم حاجة ”
كان يستمر بالإنكار يحاول البحث في عقله عن مبررات لأجل نفسه، يبكي حياته وما ضاع منها هباءً ما الذي جناه سوى كوابيس واحزان ومخاوف وضياع شقيقته منه والفتاة التي أحب ..
صمت فجأة قبل أن ينظر لزهرة بأمل شديد يقول مبتسمًا وهو يفرك كفيه في بعضها البعض :
” هو أنا لو سلمت نفسي واتحكم عليا واتعدمت ممكن تسامحيني وتحبيني ؟؟”
هنا وشعرت زهرة بكامل طاقة تحملها تتبخر وتماسكها يتلاشى، نسيت عهدها ونسيت كل ما تعلمته، أصبحت فتاة ضعيفة وهي تنفجر في البكاء أمام سعيد بقوة لا تستطيع الحديث، كادت تفقد أنفاسها لشدة البكاء ..
وسعيد يناظرها لا يفهم سبب بكائها، لكنه استحسن فكرته الأخيرة، يمكنه أن يفعل ذلك، بل هو يتوق لذلك سوف يموت ويرتاح من كل ذلك العذاب، وحينها ربما ينتقم من نفسه للجمي، وتغفر له زهرة وكذلك نيرمينا العزيزة، لكن قبل أن يفعل لديه حساب سيقوم بتصفيته .
وقبل أن يندمج في أفكاره سمع صوت زهرة تقول من بين شهقاتها تترجاه ألا يفعل ذلك كان يمكن أن تنفر منه بل وتهرب من أمام، لكن هي أكثر شخص في هذه الحياة يدرك ما يعانيه سعيد وما يعايشه في تلك اللحظة :
” لا لا سعيد أنت… أنت مش … أنت مش هتسيب نيرمينا لوحدها صح، وأنا…سعيد أنا بحبك يا سعيد ”
ولأول مرة تنطقها، عشر سنوات كاملة مرت قبل أن يسمع الكلمة التي سعى لها في حياته، ابتسم بسمة سعيدة لا يصدق أنها أخبرته بما تمنى وحلم .
نظرت له زهرة تحاول أن تجد له شيئًا يريحه، هي ستساعده حتى وإن كان آخر شيء ستفعله :
” أنا … أنا ممكن اشهد معاك في المحكمة أنك مكنتش في وعيك، سعيد أنت فعلا مكنتش في وعيك أنت.. أنت مريض يا سعيد وده هيخفف الحكم، بس لازم تتوب لازم توعدني أنك تتوب، وتندم وتصلح كل ده وتتعالج يا سعيد، بلاش ترمي نفسك في التهلكة وأنت لسه متوبتش، بلاش تقابل ربنا وأنت لسه متوبتش يا سعيد ..عالج نفسك وصلح حياتك عشان نفسك ”
كانت تتحدث بسرعة تحاول أن تجد له حجج ومبررات، هي ستتحمل أن يُسجن، بل تشجعه على أخذ عقابه والتوبة، لكن أن يُعدم فهذا يقتلها، هي ستقدم كل ما تستطيع لإثبات أنه لم يكن بوعيه، هو مريض فعل كل ذلك لأجل مرض ربما لم يكن يعلم بوجوده، بل ويكابر …
فجأة اقتحم المكان ميمو وخلفها صلاح الذي كان يرافقها في كل خطوة ..
رفعت ميمو حاجبها وهي تنظر لسعيد بيأس وتوبيخ:
” برضو جيت تحكيلها ؟؟ كده تخوف البنت منك يا سعيد ؟؟”
رفع سعيد رأسه لها يرمقها بتعجب من بين دموعه، لتتحرك له ميمو وتنحني تجلس القرفصاء أمامه وهي مبتسمة تردد :
” فاكر يا سعودي لما قولتلك أن صلاح هيربيك معايا ؟؟”
رفع سعيد رأسه صوب صلاح الذي كان يلوح بيده له مبتسمًا، ثم عاد لميمو التي قالت بغمز واحرف تقطر خبثًا :
” استعد عشان هنبدأ يا سعودي، بس قبل ما تتربى محتاجين نربي واحد كده صاحبنا اسمه غانم، تعرفه ؟؟؟”
___________________
تلك كانت الليلة الأطول في حياته كلها، قضى ليلة كاملة مع القوات في تمشيط المنطقة التي تقع بها المشفى محاولين البحث عمن هرب، جمعوا جميع الجثث وارسلوها للمشرحة، ورفعوا البصمات وهو فقط يراقب دون أن يتدخل فذلك ليس بعمله البتة، لكن ما كان يؤرقه هو اتصال صلاح به وأمره ألا يتحدث بكلمة قد تدين سعيد وهو سيخبره لاحقًا بكل شيء .
أمر آخر غير قانوني يُضاف لسجله المهني، لكن هو يثق بصلاح ويثق أنه لن يضره في أمر كهذا .
دخل المنزل الخاص به بعدما رفض أن يقتطع إجازة زواجه لأجل أمر كهذا لن يفيده على أية حال، فربما يحب اللواء أن يعطي شرف تلك القضية لأحد أفراد عائلته الموقرة .
بحث بعينه عن أي أحد في المنزل، لكن ما أبصر من سكان المنزل سوى زوجته التي رآها تخرج من المطبخ تحمل بين يديها صينية ممتلئة بالطعام والعجيب أنها كانت تسير بلا نقابها في المنزل وبكامل حريتها، اتسعت بسمته بسعادة كبيرة لظنه أن تسبيح قد ألفت منزله وأضحت تسير بين جدرانه بكل حرية دون خجل منه أو من والده .
اقتربت ببطء منها وخطواته كانت غير مسموعة لها، ليفاجئها من الخلف ممازحًا إياها :
” صباح الخير يا توتا ”
انتفض جسد تسبيح تضع الصينية على الطاولة، مطلقة صرخة مرتفعة تركض عائدة صوب المطبخ بسرعة لولا يد رائد الذي امسكها وهو يطمئنها موبخًا نفسه على اخافتها :
” ايه يا توتا اهدي، ده انا رائد متخافيش ”
وبمجرد قوله لتلك الكلمات حتى سارعت تسبيح تمسك بطرف حجابها تخفي به وجهها ليعلو الاستنكار وجه رائد الذي قال :
” نعم؟؟ ده ايه ده؟؟ اول ما عرفتي أني رائد غطيتي وشك ؟؟ ده على اساس اني لو حرامي اشوفه عادي ؟؟”
استدارت له تسبيح تترك طرف الحجاب بسرعة مبررة لنفسها الأمر :
” لا والله مش كده انا بس …بس اتخضيت ومعرفتش اعمل ايه، بعدين أنا اساسًا لسه مش متعودة تشوفني من غير نقاب، ينفع البس النقاب واحنا قاعدين لغاية ما اتعود عليك ؟؟”
ضرب رائد كف بالآخر متهكمًا :
” وكان لازمته ايه الجواز يا تسبيح، ما كنت وفرت حق الجلبية والمأذون وشوفتك بالنقاب برضو عادي ”
نظرت له تسبيح بخجل شديد، ليقترب منها رائد وهي بدورها تراجعت، ارتفع حاجب رائد يبتسم لها بسمة صغيرة متهكمة قبل أن ينقض عليها ممسكًا إياها على حين غفلة منها قائلًا بحنق :
” يابت هتغابى عليكِ، أنا لو مُحصل النور مش هتعامل المعاملة دي ”
نظرت له تسبيح بريبة من نظراته وحديثه المخيف ليتركها هو ببطء دون أن يفك أسرها بشكل كامل :
” بصي يا تسبيح يا قلبي ممكن نتكلم بهدوء وبراحة لأن احنا الاتنين اساسا طينة في الكلام واحنا هاديين، مش عايزين نطينها أكثر واحنا متوترين، تمام ؟!”
نظرت له تسبيح بأعين متسعة ليأمرها بلطف :
” تمام يا توتا؟؟”
وهي رددت خلفه بكل طاعة :
” تمام ”
ضحك رائد يمنح خدها قبلة صغيرة رقيقة :
” تمام يا توتا، تعالي ”
سحبها خلفه بعدما امسك صينية الطعام التي كانت على وشك المغادرة بها قبل اقتحامه لمنزله بكل همجية :
” ألا فين الحاج وامي ؟؟ مش شايف حد هنا يعني ؟؟”
جلست تسبيح على أحد المقاعد جواره تقول بصوت خافت خجل ولم تخرج بعد من لحظة قبلته :
” بابا أخد ماما وراحوا يزوروا قرايب ليهم هنا ”
تجاهل رائد كل ما تحدثت به وعلق في رأسه جملة واحدة فقط هي ما جعلته يبتسم لها بحنان شديد ولطف :
” بابا وماما ؟! والله والحاج سليمان بقى يتقاله بابا ”
ابتسمت له تسبيح بخجل شديد وقد خرجت كلماتها عفوية تنفيذًا لمطلب سليمان لها :
” هو هو بابا اللي قالي اقولهم كده ”
امسك رائد يديها وهو يحدق في عيونها بجدية كبيرة يحاول أن يتواصل معها ويبثها ثقة :
” اسمعي يا تسبيح، ممكن نتفق على حاجة ؟؟”
نظرت له تسبيح بترقب تهز رأسها بطاعة، ليقترب هو بالجلوس منها ويقول بنبرة هادئة حنونة :
” ممكن تعتبري كل عيلتي عيلتك، بدون خجل أو كسوف، وكمان يا ريت بالمرة تعتبريني جوزك معاهم واكسبي فيا ثواب ؟؟”
ابتسمت تسبيح بسمة واسعة تعقيبًا على كلماته التي خرجت منه متحسرة :
” ما أنت جوزي والله ”
” والله؟؟ امال مين اللي اول ما شافتني جريت على المطبخ كأنها شافت عفريت، ده أنتِ شوية كنتِ هتغطسي راسك في طبق الفاصوليا اللي شيلاه ولا إني اشوفك، مش كده يا ماما، والله أنا اساسا شوفت وشك من قبل الجواز، متجيش بعد الجواز تعملي حصار ”
هزت تسبيح رأسها تشعر أنها تزيد من خجلها منه بشكل مبالغ فيه، لذا عليها أن تعتاد عليه أكثر من ذلك .
حكت راسها ثم أشارت على الطعام أمامها :
” تحب تاكل ؟!”
” هو أنا الحقيقة ما اكلتش من امبارح، بس هل عاملة حسابي في الاكل ده ولا لو اكلت معاكِ هكون متطفل ؟!”
نهضت تسبيح من فورها تردد ببسمة واسعة :
” لا ده فيه اكل كتير من باقية امبارح اروح اجبلك ؟!”
ضحك رائد بقوة على حماسها الشديد للأمر ونهض يمسك الصينية الخاصة بها يقول غامزًا لها :
” تعالي أنا وأنتِ نستكشف المطبخ، اكيد الحاجة مخبية لحمة بدل ما أنتِ جايبة اكل كده من غير اي بروتين ”
تحدثت تسبيح بخجل وهي تتبعه :
” هو كان فيه بس انا الحقيقة خوفت اكل تكون ماما عايزة تعمل بيهم حاجة أو بتوع حد ”
توقف رائد ونظر لها باستنكار وتشنج :
” هتعمل بيهم ايه يعني يا تسبيح ما اكيد مخبياهم عشان احنا ناكلهم يا ماما، تعالي يا امي ربنا يهديكِ يارب ويديني الصحة عشان اقدر اكمل الجوازة دي على خير ”
سارت خلفه تسبيح ولا تدري كيف تخبره أن الأمر محرج، أن تكون في منزل جديد عليها وتعبث بالاواني وتأكل طعامهم دون استئذان الأمر في غاية الاحراج، ولولا جوعها الشديد ما كانت تجرأت وخطت للمطبخ دون معرفة والدته .
أشار له رائد على المطبخ :
” بصي يا ست الكل، ده مطبخ البيت، وبالصدفة البحتة ده بيتي وسبحان الله عشان أنتِ مراتي بقى بيتك برضو، يعني أي شيء داخل حدود البيت ده تتصرفي فيه براحتك، حتى انا اشطا ؟!”
هزت رأسها ببسمة ليمنحها هو بسمة مشيرًا للمكان حولهم وهو يضع يديه على كتفه كما لو كانت رفيقًا قديمًا :
” بصي يا ست الكل عايزك تنتشري في المكان واي زفر تلاقيه ارميه في الطبق الكبير اللي هناك ده عشان نصادره، وأي حلويات هاتيها برضو ميضرش، اتفقنا ؟؟”
اندفعت الحماس لصدر تسبيح بقوة تهز رأسها له :
” اتفقنا ”
امسك رائد قبضتها يرفعها مقابل قبضته يضربها بخفة :
” انطلقي يا توتا …”
______________________
” أنا مش فاهمة أنت قصدك ايه يا محمود ؟! ثم مش احنا اتفقنا متجيش غير لما تقابل ياسين ؟!”
توقف محمود أمامها يقطع عليها الطريق للزبائن، يحاول أن يجد جملة مفيدة في رأسه، يود فقط الاطمئنان أنه سينالها كما يحب ويريد ..
” اسمعي بس يا هاجر شوية ”
صمت ثواني ثم قال :
” أنا روحت قابلت ياسين ”
اتسعت عين هاجر بقوة لا تستوعب سرعة تنفيذه لما يريد، ابتسمت بسمة غير مصدقة تقول :
” قابلت ياسين ازاي ؟! ده لسه مكملش كام ساعة في القاهرة، أنت روحت جبته من المطار ولا ايه ؟؟”
” لا مش كده انا قابلته في المكتب، وبلغته بطلبي واني حابب اتجوزك ”
خجلت منه هاجر وهي لا تدري ما تقول، فهو الآن يقف أمامها ويخبرها أنه ذهب ليطالب أخاها بها .
ابتسمت فجأة وهي تضع الصينية على الطاولة أمامها تعطي ظهرها لمحمود تحاول أن تتلاشى النظر له في تلك اللحظة، تفكر في الخطوة القادمة، هل تهرب أم تواجه
فركت كفيها ببعضها البعض في خجل تقول بصوت منخفض تشعر بجهل شديد يصيبها كلما وضعت في ذلك الموقف :
” محمود هو الموضوع ممكن يظهر ليك غريب او …”
كانت تتحدث بكلمات لا تصل لمحمود الذي كان في عالم آخر يحاول ايجاد أي كلمة تصف قلقه وريبته مما سيحدث، كيف يطلب منها الأمر ؟؟ وهل ستشك به إن طلب منها ما يريد طلبه ؟؟
كانت هاجر في تلك اللحظة تحاول أن تخبر محمود عما تريد منه، وأنها فقط لا تستطيع أن تتحدث معه ببساطة حينما يتعلق الأمر بطلبه :
” فممكن لو مش هزعجك تقلل من …”
قاطعها محمود بسرعة بطلب غريب :
” هاجر هو أنا هكون غريب لو طلبت منك متعرفيش اخوكِ وظيفتي ؟!”
فتحت هاجر عيونها بصدمة، أو على الأرجح غير متوقعة لذلك الطلب منه، لكن محمود ولرؤيته ملامح الدهشة على وجهها ابتسم فجأة يقول بتبرير غبي :
” اصل ..اصل أنا من زمان وأنا متعقد من شغلتي، تخيلي يا هاجر تبقي ماشية في المكان كده والناس تشاور عليكِ وتقول المشرحجي راح المشرحجي جه، تبقي ماشية وتلاقي ناس معندهمش ضمير يقولوا بتاع الميتين اهو ”
صمت يرسم على وجهه أكثر ملامح بائسة، ثم قال بجدية وحزن :
” هاجر أنا بس …محتاج بس فرصة اتعالج من كل ده واتقبله وبعدين انا بنفسي هقول لاخوكِ اني دكتور تشريح”
رفع عيونه لها يدعو في قلبه أن يكون تمثيلة المقرف قد اقنعها، لكن تفاجئ من ملامح هاجر الحزينة التي كانت ترمقه بشفقة كبيرة :
” ده بجد ؟؟ يعني ايه مكسوف من شغلتك، مش فاهمة، بس أنا كنت شايفة أنك سعيد يعني ”
امتص شفتيه بحسرة مصطنعة :
” مش بحب اني أبين حزني لحد، مش بحب اني أشيل حد همي، أما بالضبط زي ما قالت الفنانة اليسا وقالوا سعيد في حياته واصل لكل طموحاته، بس انا اساسا مش كده خالص ”
رمشت هاجر تحاول أن تستوعب ما قال :
” هي اليسا قالت كده ؟؟”
” معرفش والله مش متابع، بس المبدأ نفسه يعني ”
صمت ثم نظر لها يحاول أن يطمئن أن كل ما فعله منذ ثواني لم يذهب هباءً :
” اقتنعتني باللي قولته ولا اشوف طريقة تانية اصعب بيها عليكِ ؟؟”
رفعت هاجر حاجبها وقالت بجدية :
” عايز الحق ؟؟ أنا مش مقتنعة بحاجة أنت قولتها ”
” ولا بأغنية الفنانة اليسا ؟؟”
ابتسمت له ساخرة وهي ترى أنه يحاول إخفاء شيء خلف كل الكلمات الغريبة دي :
” خاصة الأغنية بتاعة الفنان اليسا ”
هز رأسه يفرك شعره يحاول أن يفكر في حل للأمر :
” امممم طلعت ذكية، شيء غير متوقع ”
تنهد بصوت مرتفع، ثم نظر لها وقال :
” طب بصي خلينا نتفق على حاجة، اخوكِ لو افتكر اني شغال في مشرحة، الجوازة دي مش هتتم، ومتسأليش ليه ؟؟”
وهاجر بالفعل كانت تريد معرفة السبب لكل ذلك :
” ليه ؟!”
” هقولك بس مش دلوقتي ”
تساءلت مجددًا بفضول :
” امتى طيب ؟!”
ابتسم محمود يقترب منها هامسًا بصوت حنون :
” لما تبقي مراتي يا جوجو، قصدي أو بقيتي مراتي يعني ”
ابتسمت هاجر بخجل شديد وقد سعد هو لانه أجبرها على الصمت، لكن هاجر لم تتوقف عن الحديث كما يريد وهي تقول ببسمة واسعة تطالبه بوعدًا :
” وعد يا محمود ؟؟”
ابتسم لها محمود بحب ورغم كل تلك التصرفات الهادئة الرقيقة بها، إلا أن رقتها تمثل لقلبه اعصارًا شرسًا قادر على اقتلاع كل جذور تعقله الواهية، ترك النباتات ونبذ الخدر، وسقط سكيرًا في بحار عيناها …
” وعد يا هاجر ”
ابتسمت له هاجر بسمة متسعة تحمل طبقًا عن الطاولة جوارها، ثم أعطته له وهي تقول برقة وحنان :
” طبقك بتاع انهاردة ”
__________________
كان يجلس في المقعد الخلفي وهو يتمتم بكلمات هادئة مغمض العين، وفي الامام يجلس صلاح يقود السيارة بهدوء شديد وميمو تجاوره وهي ما تزال تنظر صوب سعيد الذي كان لا يريد أن يتحدث مع أحد منهم أو يتفاعل مع أي شخص حي في تلك اللحظة .
لكن ميمو لم تصمت وهي تقول :
” خلاص يا سعيد خلصت بكى على الاطلال ؟؟”
تحدث سعيد دون أن يفتح عينيه وبهدوء شديد :
” لا لسه، لو خرستي شوية هخلص، أنا مش عارف ايه اللي خلاني اجي اركب معاكم مخلفات الحرب دي واسيب عربيتي ”
ضحك صلاح ساخرًا منه وقد غضب أن يسخر ذلك الحقير من سيارته العزيزة الجميلة والأنيقة :
” مخلفات الحرب دي هي اللي هتاخدك وش وقفا لو سمعت صوتك بيتردد ورايا، أنا اساسا مش طايقك ”
اعتدل سعيد في جلسته وقد وجد أخيرًا متعته في تلك السيارة الكئيبة يبتسم بسمة جانبية جعلت صلاح يبادله البسمة بأخرى ساخرة أكثر ..
وصوت سعيد صدح في السيارة ينظر يمينًا ويسارًا باستخفاف شديد :
” مش مكسوف من نفسك تبجح عشان عربية متر في متر ؟؟ ”
اجابه صلاح بنبرة متزنة هادئة :
” المتر في متر ده قبرك باذن الله هدفنك فيه بنفسي بعد ما ربك ياخد امانته، أما عربيتي زي الفل، هي بس النفوس السودة اللي طول الوقت بتحس بخنقة في أي حد حتى لو ليموزين”
نظر سعيد صوب ميمو التي كانت تتابع المجادلة ببسمة ساخرة :
” هو ده اللي اخترتيه؟؟ اكيد عشان نفس طولة لسانك، ده الواحد يتحبس ارحم ما يتعامل مع امثالكم ”
تحدثت ميمو بنبرة باردة تزينها بسمة واسعة تتجاهل سعيد وما يلقي من كلام سخيف من وجهة نظرها :
” سيبك منه يا لذوذ وقولي هتعمل كتب الكتاب بتاعنا في البلد زي رائد ؟!”
ابتسم صلاح بسمة واسعة وكاد يجيبها بجدية كبيرة حول مخططاته ليوم عقد قرآنه المنتظر :
” أنا كنت بقول لو نعملها في الـ ”
” أنا برفض الاقتراح ده ”
نظر الاثنان صوب سعيد الذي تدخل في حوارهما بكل سخافة، بينما سعيد كان يضم ذراعيه لصدره مبتسمًا بسمة سمحة مستفزة جعلت صلاح يود لو يقلب السيارة به ويتخلص منه :
” نعم ؟! وحضرتك مالك اساسا ؟! أنت راكب معانا العربية شفقة بس عشان صعبت على الست اللي قاعدة جنبي دي وأنت بتعيط، لكن تدخل في كلامنا ده مش هسمح بيه ”
اقترب سعيد برأسه يحشرها بين مقعديهما :
” ازاي بقى ؟؟ مش انا ابقى في مقام ابنها ؟؟ يعني حاليًا اعتبر عمك، تيجي تطلبها مني وتجبلنا جاتوه وورد وتتذلل ليا زي الكلب عشان اقبل اجوزها ليك، وفي الآخر البسك علبة الجاتوه واطردك زي الكلب برضو، مش اصول دي ؟!”
أجابه صلاح بمنتهى الهدوء والتعقل وهو ما يزال يقود السيارة :
” لا والله احنا لو هنتكلم في الأصول، فأنت اخرك تحت عجلات عربيتي زيك زي أي كلب متشرد دوسته بالغط، هننزل نعيط عليه ونمسكه ندفنه تحت اي شجرة، ونكمل طريقنا ”
ابتسم له سعيد ساخرًا على حديثه يعود لمقعده يستقر به هادئًا وهو يشير لصلاح أن يكمل طريقه :
” طب كمل سواقة وأنت ساكت مش عايز صداع ”
وفجأة توقفت السيارة بقوة ليرتد جسد سعيد للأمام بقوة شديدة حتى كاد يسقط أسفل اقدام صلاح الذي ابتسم يقول ببرود شديد :
” انزل يا حبيبي من العربية ”
اعتدل سعيد بغيظ وغضب شديد :
” أنت حيوان ؟؟ مش تاخد بالك وأنت بتقف ”
” لا مش باخد بالي، وانزل لاحسن والله أنا ماسك نفسي عنك بالعافية ومستحملك لأجل ميمو اللي قعدت ساعة تقنعني اساعدك وقال ايه مسكين والدنيا جات عليه وشيطانه غلبه ”
ابتسم سعيد يمتص شفتيه بقوة متأثرًا من حديث صلاح، أو على الأقل يدّعي تأثرًا، يميل برأسه على كتف ميمو جواره، التي حدقت به متشنجة وهي تراه يتمسك بيديها كما لو كان طفلها :
” ياااه يا ميمو، أنا كان قلبي حاسس أن جوا السواد اللي في قلبك و ورا الست الرخمة دي، فيه أم حنونة ”
أطلقت ميمو صوتًا ساخرًا :
” يا عيون أمك، أنا برضو اللي جوايا سواد ؟! والحلو جواه ايه؟! حشوة قشطة بالمكسرات ؟؟ ”
ولم يكن سعيد يفعل ذلك حبًا في ميمو بالطبع، بل فعل ما فعله لأجل استفزاز ذلك الرجل الذي يحدق بهما في شر قبل أن يترك عجلة القيادة ويلقي بجسده أعلى سعيد وقد استعر في رأسه غضب شديد وهو يصرخ :
” تمام، أنت امثالك لا يستحقون سوى الأحذية ”
وبتلك الكلمة اندفع بجسد سعيد الأريكة الخلفية ونشب شجار بين الاثنين، وسعيد يدفعه متحدثًا باستفزاز :
” بيهزقني بالفصحى، بيحاول يعجزني، بس على مين، تبًا لك ”
انهى جملته وهو ينغمس في قتال شديد مع صلاح الذي ازداد غضبه، وميمو تناظرها بحنق شديد :
” صلاح خلاص سيبه، أنت هتحط عقلك بعقل سعيد ؟؟”
أجابها صلاح وهو يلكم سعيد والغضب قد تمكن منه :
” شخص زيه من حثالة المجتمع المفروض يتكسف من نفسه ويدفن راسه في الأرض، ماشي يبجح ويتشرط، على ايه ؟؟ ده أنت من شوية كنت هتسلم نفسك وتتعدم يا معفن ”
ابتسم له سعيد مستفزًا، رغم أن الكلمات أصابته في مقتل، يحاول أن يندمج مع صلاح في حديث سخيف وشجار أسخف فقط ليتناسى ما حدث له، يتناسى ما سيحدث لاحقًا :
” وغيرت رأيي، فجأة كده حبيت الحياة ”
جذبه صلاح من ثيابه يقرب وجهه منه يهمس بشر وبصوت منخفض وصل كالفحيح لسعيد :
” ميمو لو قربت منها سنتي أنا هخليك ترجع تكره حياتك تاني يا سعيد، اياك ثم إياك تتجاوز حدودك معاك، خلينا حلوين مع بعض لغاية ما نلم الليلة دي ”
ابتسم له سعيد بسمة صغيرة مستفزة :
” دي مرات ابويا يا حبيبي يعني محارمي ”
” اسمها أرملة ابوك مش مراته، وبرضو متقربش منها أبدًا ”
” ولو قربت ؟؟”
حدق الاثنان في بعضها البعض بقوة قبل أن تقاطع ميمو كل ذلك وهي تشير لصلاح أن يعود مكانه تنظر له نظرة فهمها جيدًا:
” صلاح معلش ارجع مكانك ”
ترك صلاح جسد سعيد بقوة ليتداعى جسد الأخير على الأريكة ويبتسم بعدم اهتمام يضع يديه أسفل رأسه يتسطح بكامل جسده على الأريكة يصفر باستمتاع ظاهري، محاولة بائسة منه ليغطي على صوت صراخه الداخلي، وأصوات الرعب التي انطلقت في صدره منذ مصيبته الأخيرة في شقيقته، ونظرات زهرة أيضًا وهو يسير كالجثة أمامه تقتله، لم يستطع أن ينظر لها ليرى نظرتها، لكنه قبل أن يخرج نظر لها وقال دون أن يواجه عيونها :
” يا ريتني ما حبيتك يا زهرة، يمكن وقتها كانت حياتي تبقى اهون عندي من كده ”
وكان ردها قاتلًا وهي تقول بصوت متقطع :
” يا ريتني ما حبيتك يا سعيد، يمكن حياتي كانت تبقى أبسط من كده ”
نزلت دمعة من أعين سعيد وهو يستدير بعيدًا عن المرآة التي قد تنقل لهما ألمه، يتنفس بصوت مرتفع وهو يُذّكر نفسه بكلمات ميمو له:
” هساعدك يا سعيد وهنعدي من كل ده متقلقش، لكن عشان ده يحصل لازم تتربى الاول وتندم وتتوب، وكل ده انا بنفسي هتأكد أنه يحصل ”
أبعدت ميمو عيونها عن سعيد وهي تنظر أمامها بحزن ليشعر صلاح بالحزن عليها يقول بصوت منخفض :
” أنا آسف ”
نظرت له بتعجب شديد ليقول بهدوء :
” آسف لو زعلتك، بس أنا غصب عني اتعصبت، لو عايزة أنا ممكن اعتذر منه و…”
ابتسمت له ميمو بسمة عاشقة تقول له بامتنان شديد :
” مساعدتك ليا في اللي جاي يا صلاح تخليني مدينة ليك طول العمر، أنت مش محتاج تعتذر على شيء، هو سعيد اللي مترباش ”
قال سعيد بصوت مختنق وهو ما زال يوليهما ظهره :
” سمعتك ”
قالت ميمو بحنق وتوبيخ :
” ما تسمع، هو أنا كدبت ؟!”
زفرت ميمو ثم نظرت لصلاح الذي كان يقود السيارة بانتباه شديد للسيارة، وهي فقط تنظر له تشعر بالذنب أنها دائمًا ما تورطه بأمورها، لذلك وحين وصلوا للمشفى، ودخلوا للمكان المخصص لركن السيارات …
نبهت ميمو سعيد لينهض ويتحرك صوب غرفة شقيقته دون كلمة واحدة، يتمتم بحنق وكلمات ناقمة وصلت لصلاح الذي فتح باب السيارة يهبط، ثم تحرك صوب الباب الخاص بميمو التي كانت شاردة …
فتح لها الباب ثم صمت ينتظر أن تنتبه وتهبط وهي فقط كانت في عالم آخر هو محوره، ابتسم صلاح يراها تحدق في الزجاج الأمامي للسيارة بنظرات حزينة.
لذلك كل ما فعل هو أنه نهض ليقف جوار مقعدها ينظر حوله يتأكد أن لا أحد ينظر له، ثم أخرج من سترته ثلاث بالونات قام بملئهما بالهواء مستخدمًا فمه يلوح بهما في الهواء لتنبه له ميمو التي نظرت له بعدم فهم .
وصلاح كان يلوّح بالبالونات في الهواء، ثم فجأة وضعهم على في قدم ميمو يردد بهدوء وبسمة واسعة منحنيًا بنصفه العلوي :
” اتفضلي يا مودمازيل، اتمنى هديتي البسيطة تعجبك ”
حدقت ميمو بالبالونات على قدمها في تعجب تتحسسهم وهي لا تدرك ما يفعل ليقول صلاح بهدوء وهو ما يزال ينحني قليلًا حتى يصل لطولها وهي جالسة :
” بس للاسف المرة دي مش معايا خاتم نطيره فيهم ”
نظرت له ميمو ثواني قبل أن تنفجر بالضحك وقد استطاع صلاح أن يقتنص بكل خبرة ومهارة ضحكتها، لم يستلزمه الأمر مجهوًا سوى ثلاث بالونات وبعض الانفاس، وإن اعتمدت ضحكاتها في الأيام القادمة على ذلك فهو مستعد ليقدم لها كل البالونات وجميع أنفاسه دون أي نقم .
ابتسم وهو يراها تضم البالونات لصدرها بأعين ملتمعة بالسعادة وقد استطاع أن يخطف قلبها بمثل تلك اللفتة البسيطة :
” أنت… أنت جبت منين البالونات دي ؟؟”
ابتسم صلاح يجذب طرف جيب سترته يريها ما فيه لتمد هي جسدها قليلًا ترى العديد من البالونات بها، وصلاح أشار صوب السيارة يقول ببساطة وبسمة :
” وايه كيس في العربية كمان، هصادر كل البالونات اللي في السوق، طالما بتفرحك كده ”
تأوهت ميمو بتأثر شديد وشعرت برغبتها في البكاء، لكن خشيت أن تصبح أمامه طفلة حمقاء تبكي لأنه فقط أحضر لها بعض البالونات، لكن الأمر كله يتمثل في أنه فكر في الشيء الذي يسعدها وفعله، أمر لم تختبره سوى مرات قليلة قديمًا مع اخوتها قبل نكبتهم .
شعرت ميمو برغبة عارمة في ضم صلاح وشكره، لمن كل ما خرج منها هو صوتها تقول بتأثر :
” صلاح هو احنا ممكن نعمل كتب كتاب زي رائد ؟؟”
اتسعت أعين صلاح بصدمة وقد شعر أن أخطأ السمع، هل لكثرة حلمه بتلك الأمنية أضحى يسمعها في يقظته ؟؟
” أنتِ قولتي ايه ؟؟”
ضحكت ميمو تتجرأ لأول مرة في مثل تلك الأمور :
” عايزة ابقى مراتك يا صلاح، ينفع ؟؟ ”
تأوه صلاح بقوة يقول من بين امواج سعادته التي انطلقت تنتشر في المكان بأكمله :
” أنا اللي ارجوكِ يا مَقدس ”
ابتسمت ميمو بقوة تقول بجدية وهي تتحرك صوب المشفى :
” خلاص تعالى اطلبني من مختار دلوقتي ”
توقف صلاح فجأة ثم قال بتردد :
” بس نيرمينا و…”
توقفت ميمو تنظر له ببسمة واسعة واثقة :
” تفتكر اني كان ممكن اقترح اقتراح زي ده او افكر افرح ونيمو مش كويسة ؟؟ نيمو هتشاركني فرحتي وهنعمل كتب الكتاب هنا عشانها ”
نظر لها بعدم فهم لتقول بجدية كبيرة تشرح له ما حدث :
” الدكتور كلمني أنها فاقت شوية وبعدين رجعت نامت بسبب المخدر اللي اخدته، لكنها بقت كويسة الحمدلله وطمني عليها، وقال إنها استجابت للعلاج ”
هز صلاح رأسه ببسمة واسعة وقد ارتاح قلبه وهو يقترب منها يجاورها:
” تمام لغاية ما تقوم وتكون قادرة تتحرك وتستوعب اللي حواليها، اكون انا ظبطت كل شيء وكلمت الحاج ”
هزت رأسها له وما كادت تتحدث بكلمة حتى سمعت صوت هاتفها يرن برسالة، رفعته أمام عيونها لتجد رسالة مقتضبة من سعيد يقول بها ( تعالي عند نيرمينا .)
توقف قلب ميمو بقوة وقد ارتجف جسدها وهي تركض لداخل المشفى ولحق بها صلاح الذي لم يفهم ما الذي حدث فجأة كي يقلب كيانها بهذا الشكل …
_________________
توقف أمام باب غرفة التشريح وهو يحمل الهاتف يتحدث معها مشيرًا بعينه لمحمود أن يسبقه وهو يقول بضحكة صغيرة:
” طبعًا مش هتصدقيني اني الصبح كنت متصل ليكِ عشان اقول كلام حلو ”
” لا طبعا ومصدقكش ليه يا صالح، هو أنت بيطلع منك غير كل حلو يا راجل ؟؟”
ابتسم لها صالح يقول بتفاخر احمق :
” طول عمري وأنا أقول يا بختها اللي هتكون معايا وتصحى كل يوم على كلامي ”
تحركت رانيا داخل المكتبة الخاصة بجامعتها تتحدث ساخرة :
” أنت هتقولي يا راجل ده أنت احلى ما فيك لسانك، ده كفاية كلامك اللي يسم البدن على الصبح ”
ضحك صالح يرى طبيبة تقترب منه وتعطيه عظة اوراق ليهز رأسه بهدوء يتسلمها منها وهو يقول بجدية :
” تمام أنا بس كنت بكلمك عشان اقولك اني لقيت إجازة لبكرة باذن الله، مش عارف ازاي بس لقيت ”
ابتسمت رانيا بسمة واسعة، لا تدري أسعادة برؤيتها له بعد كل ذلك الغياب، أم رغبة في الشعور به جوارها .
اغلق معها صالح المكالمة مع وعد بلقاء آخر بينهما، لقاء سيكون بمثابة حرب، لكن لأجلها قد يقيم مائة حرب …
بعد دقائق ..
تحرك المشرط بشكل رأسي يشق الجزء الأوسط من جسد الرجل الذي يتوسط طاولتهم، كان الاثنان يعطون كامل تركيزهم لكل ما يفعلونه ..
صالح ينظر في كل شيء بدقة وجوارهما العديد من أدوات سحب العينات، يسحبون بعض سوائل الجسم، ويأخذون بعض الأنسجة لتحليلها وفحصها في المختبرات بشكل دقيق، الأمر معقد، فتلك الجثة لا آثار قتل أو خنق أو حتى تسسم على جسدها، مجرد جثة مجهولة وجدوها ملقاة على أحد الطرق الصحراوية .
” مفيش أي علامات تبين أي شيء، الأجهزة كلها طبيعية والجسم نفسه مش فيه أي علامات تدل على سم أو أي مادة كميائية ممكن تكون اتاخدت ”
كانت تلك كلمات صالح الذي كان يحاول جاهدًا الوصول لأي معلومة قد تخبرها سبب وفاة ذلك الرجل بعدما تسلموه الشرطة .
بدأ الاثنان يتحققان من وقت الوفاء عن طريق عدة أمور معروفة .
أشار صالح لمحمود بجدية :
” افحص العين وترسب الدم في الأجزاء السفلية ”
في ذلك الوقت بدأ صالح يختبر تيبس الجسد ومدى صلابته وأيضًا درجة حرارته ..
بينما محمود انتهى من أخذ مؤشرات ترسب الدم والعينين، وبدأ يفحص الجهاز الهضمي ليكتب وقتًا تقديريًا لموته حتى يتأكدوا من الأمر بطرق أخرى..
وأثناء ذلك أبصر محمود شيئًا جعله يتوقف عما يفعل وهو ينحنى بركبتيه قليلاً حتى أصبح أمام ذراع المريض يراقبه بأعين ثاقبة :
” صالح تعالى هنا بسرعة ”
ترك صالح ما يفعل وتحرك صوب محمود الذي أشار له على نقطة معينة في ذراع الرجل يقول بجدية :
” شايف ؟؟”
انحنى صالح يحمل مصباحًا يدويًا يوجهه على تلك النقطة التي أشار لها محمود، دقق النظر أكثر وأكثر فيها حتى نظر لمحمود بحاجب مرفوع وهو يهمس بصوت متعجب :
” يعني ايه ؟! تفتكر تكون دي سبب الموت ؟؟”
مد محمود شفتيه بجهل يقول :
” ممكن رغم أن مفيش علامات ظاهرة على الاعضاء أو الجسم تدل أنه مات بمخدر أو سم، بس أثر الحقنة اللي دراعه ده بيقول عكس كده، لأن مفيش في جسمه أي علامة تانية تدل على طريقة الموت غير دي ”
اعتدل صالح في وقته يقول بجدية :
” تمام احنا كده كده هنبعت عينات من سوائل الجسم للمعامل وكمان من الأنسجة ولو فيه أي مادة كميائية هنعرف ونعرف سبب وجودها وتأثيرها ”
نظر الاثنان للجثة المجهولة وبدئا في محاولة أخذ كل العينات التي قد تفيدهم في الأمر وحددوا وقت الوفاة حسب المؤشرات أمامهم، وانتهوا من الأمر وخرجا من غرفة التشريح…
تنهد صالح بتعب يحاول تحريك رقبته :
” الواحد يرجع يقول هيرتاح يلاقي الشغل بيدق بابه ”
نظر له محمود يدفع باب مكتبهم يلقي بجسده على الأريكة قبل أن يفعل صالح يقول بحنق :
” شوف أنا في ايه وأنت في ايه ؟؟ يا بني ادم بقولك مستقبلي العاطفي بيضيع، ساعدني أفلت من يوم التقدم الرسمي ده على خير، أنا خايف اروح يفتكرني ”
صمت ثم انتفض فجأة وقال وكأنه استوعب الأمر :
” أو لما يشوفك يفتكرك أنت، بقولك ايه انت مش جاي معايا ”
ترك صالح الملفات من يده وهو ينظر له بشر :
” ولا هنستهبل، ما أنت جيت واتفرجت عليا يوم ما روحت لرانيا، أنا جاي معاك يعني جاي معاك”
” يابني وهو انا رايح سينما ؟! ده مستقبلي اللي بيضيع ”
ابتسم له صالح يقول بجدية واستفزاز :
” هاجي اتفرج عليه وهو بيضيع ”
ولم يكد يعترض محمود على الأمر حتى ارتفع رنين هاتف صالح لينظر له متعجبًا، بينما محمود أخذ يتمتم بصوت حانق يلعن تلك الصداقة التي لا يأتيه منها سوى المصائب ..
اجاب صالح هاتفه من ذلك الرقم الذي ظهر له على برنامج الاتصالات باسم ( المهندس عبدالجواد ) ورغم ذلك حاول تكذيب حدسه، فهو يعلم أن هؤلاء الحمقى ما كان أحدهم ليتنازل ويتحدث معه، لكن عبدالجواد خيب ظنه وهو يقول بجدية عبر أسلاك الهاتف :
” صالح معايا ؟؟؟؟”
_____________________
تقدمت ميمو من غرفة نيرمينا وصلاح يلحق بها، وقد كان كل تفكيرها يدور حول أن حالة نيرمينا ساءت فجأة، وهذا ما جعل حلقها يجف وجسدها يرتجف .
اقتربت من الممر وهي تحاول أن ترى أي طبيب في المكان تسأله عما حدث لها، تسرع من لحظة الاطمئنان، لكن ما رأت منهم أحدًا وما رأت أي شخص في تلك الممرات عدا سعيد ونادر الذي كان يستند على النافذة الزجاجية التي كانت تطل على غرفة نيرمينا، يستند بجبهته غير عابئًا بسعيد أو بأحد آخر..
وسعيد فقط يحدق أمامه بشرود كبير، يفكر في صحة قراره الذي اتخذه في ثواني قليلة ودون تفكير وعقله يصور له أن هذا هو ما يجب أن يحدث .
ابتلع ريقه حينما وجد صوت يصدح في المكان حوله وهي تقول بصوت مرتعش من الخوف تقترب من نادر متسائلة :
” نيرمينا مالها ؟؟ حصل ايه ؟؟ هي كويسة صح ؟؟ الدكتور قالي أنها كويسة و…”
أوقفها نادر بعدة حركات بيده مخبرًا إياها في إيجاز تام أن تهدأ وتتنفس جيدًا فنيرمينا لم يصبها سوء .
نظرت ميمو صوب سعيد الذي كان يراقبهما بأعين غامضة ونظرات توحي بأنه يفكر في كارثة كعادته .
” امال ايه الرسالة اللي بعتها دي يا سعيد ؟؟ ”
نظر لها سعيد يقول بهدوء وبنبرة عادية :
” كنت محتاج اتكلم معاكِ في موضوع ”
نظرت له بفضول ليشير لها أن تجلس لكنها رفضت تصيح بغيظ واعصاب ما تزال مشدودة، وكل ذلك تحت أعين صلاح الذي يتابع بهدوء شديد يدرس كل ما حوله ..
اعتدل سعيد في جلسته يفرد ظهره وهو ينظر للجميع حولها يقول بجدية كبيرة :
” أنا موافق على كل اللي طلبتيه مني وهساعدك في كل اللي عايزة توصلي ليه يا ميمو، لكن ….”
صمت ينظر لها بقوة :
” لكن قبل ده كله محتاج أأمن الجزء الوحيد الكويس اللي باقيلي …نيرمينا ”
ابتلع ريقه يقول بنبرة مختنقة :
” محتاج اطمن عليها، مش هغامر اني اسيبها كده في الحياة لوحدها ”
قاطعته ميمو بثقة نابعة من مكانة نيرمينا لديها، فهي ليست ابنة زوجها اللعين فقط، بل هي ربيبة يدها و صغيرتها الحبيبة، ومصدر النقاء في حياة ملوثة .
” نيرمينا مش لوحدها يا سعيد وأنت عارف كده ”
هز سعيد رأسه يقول بنظرات غامضة :
” عارف، بس أنتِ هيجي يوم وتتجوزي، واعتقد اليوم ده مش بعيد، ووقتها هتنشغلي في حياتك حتى لو اخدتيها معاكِ، برضو مش هتكون رقم واحد في حياتك يا ميمو ”
فتحت ميمو فمها لتعترض، لكن سعيد قاطعها بسرعة يرفض أن يتوقف الآن وقد اقترب من غايته :
” سيبيني أكمل، بكرة هيكون ليكِ حياتك، وهي هتفضل في النهاية وحيدة، عاجلًا أو آجلًا هتبقى وحيدة ”
تنفس بصوت مرتفع وقد شعر بتفتت قلبه :
” أنا هعمل كل اللي عايزينه ومعاكم في اللعبة بتاعتكم، لكن في المقابل عايز تنفذوا شرطي ..”
نظر له الجميع بفضول ليقول هو ملقيًا قنبلته دون الإهتمام بأي أحد في المكان :
” نادر اخوكِ يتجوز نيرمينا …..”
__________________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى