روايات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل السادس 6 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر الفصل السادس 6 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر البارت السادس

رواية مصطفى أبوحجر الجزء السادس

رواية مصطفى أبوحجر
رواية مصطفى أبوحجر

رواية مصطفى أبوحجر الحلقة السادسة

-٦- الحُب الأول

_ أهلًا بيك ياأسامة يابني ..

في تلك اللحظة أحست بارتجافه قلبها وارتفاع دقاته وكأنها كانت على وشك الهلاك، عادت أدراجها إلى غُرفتها راكضة، فوقفت بِمُنتصف الغرفة تفرك يديها بتوتر وهى من داخلها تتساءل باضطراب :

_ ياترى جاي ليه !

وجدت نفسها تقف أمام مرآتها من جديد تتأمل هيئتها بازدراء قبل أن تختار قطعها المُفضلة ذات الألوان المُبهجة من دولابها والتي ارتدتها دون تفكير في نفس الوقت الذى غَلبت فيه عليها حيرتها وترددت في الخروج لتحية الضيف، إلا إنها حسمت أمرها سريعًا وأخرجت أدوات زيتنها تصبغ وجهها ببعض الأصباغ الخفيفة لتُخفى بها إرهاقها قبل التوجه إلى غُرفة الصالون بخطوات مُرتعشة ..

تقدمت بخجل إلى وسط تلك الغرفة العتيقة المُكدسة بقطع الأثاث المُذهب الذى عفا عليه الزمن بمِنضدته الرُخامية وطاولتي الأركان الصغيرة ذات الزُجاج العسلي اللون واللاتي أرتكز أعلاهُن مفارش بيضاء يدوية الصُنع من الكروشيه، ظهر لونهم باهتًا تحت تلك الإضاءة الصفراء التي صدرت من وِحدة الإضاءة كبيرة الحجم “النجفة” والتي توسطت السقف، وتدلى منها بعض حبات الكريستال الزجاجي وتخللها عدة مصابيح بلحية الشكل، أما مصدر الإضاءة الحقيقي في تلك الغرفة كان تلك الوحدة الطويلة الأسطوانية الشكل والمُثبتة أعلى الحائط المُقابل لمقعد أسامة بشكل أفقي فأضاءت وجهه الوضّاء الهادئ كالمُعتاد مما ساهم في بروز قسماته الرجولية القوية التي طالما حفظتها عن ظهر غيب ..

تطلعت إليه على استحياء وهى تقترب منه بخجل وكأنها تتقدم لتحية عريسها المُنتظر فقالت بابتسامة :

_ مساء الخير ..

كان يعلم بتواجدها داخل المنزل من حقيبتها الجلدية المُعلقة بجوار الباب الرئيسي، ومن تلك الإضاءة التي انبعثت من أسفل باب حُجرتها، فتمنى لو تمكن من السؤال عنها إلا أن كبرياؤه منعه من ذلك، وبعد عدة دقائق استطاعت آذانه المُرهفة سماع ذَفّ نعلها وهى تقترب من الحجرة، فاعتدل في مجلسه وثبت عدستيه على باب الغُرفة فى انتظار ظهورها على أعتابه، وبالفعل ماهي إلا لحظات حتى أشرقت بِطَلتها البهية فانتفخت أوداجه بسعادة إلا إنه غض البصر عنها في الحال كي لا تفضحه نظراته المُعجبة، وعندما توقفت أمامه لإلقاء تحية المساء بصوتها الخفيض الرقيق، لم يستطع هو المُقاومة لأكثر من ذلك وارتفعت أنظاره المُشتاقة إليها قائلًا :

_ مساء النور .. إزيك ياشمس ..

اقتربت مِنه عدة خطوات ومدت يُمناها إليه قائلة بتأنيب مُشتاق :

_ عاش من شافك ..

ألتقط هو أصابعها برفق بعد أن تحرك من مكانه واقفًا وأحتفظ بيدها لبُرهة من الزمن قائلًا بنبرة تحمل الكثير من المعاني وهو يضُمها بعينيه :

_ الحمد لله كويس طول ماإنتى كويسة ..

أحرجتها نظراته فارتفعت الدماء لتستقر بكُل ما فيها من نار فوق وجنتيها المُرتعشتين واللتان ازدادا توردًا في نفس اللحظة، مما دفعه للضغط على أصابعها برقة وكأن قلبه يحويها بين أحضانه ..

في ذلك الوقت تنحنح محمود بقوة في مجلسه عندما شعر بتلك الشرارة بين كلتيهما فتيقن من حُب ابنته الواضح بل عشقها لابن عمتها، لذا رغب في هدم أي آمال نشأت بداخلها تجاهه وقال بصرامة وبنظرات قاسية عاتب بها ابن شقيقته مُذكرًا، بينما أصابعه تُشير على دعوة الزفاف الموضوعة أعلى الطاولة :

_ مش تباركي لابن عمتك حدد ميعاد فرحه خلاص ..

اتسعت عيني شمس بصدمة وهى تنظر إلى تلك الدعوة وكأنها قد تناست أمر خِطبته من الأساس، فسحبت أصابعها بارتباك من بين راحته بعد أن ملأت نظرات الحُزن محياها لكنها حاولت جاهدة إخفائها بابتسامة خرجت مُرتعشة مكسورة وهى تقول بصوت خفيض :

_ بجد مبروك ياأسامة ربنا يتمم بخير ..

وكأن قلبه قد انخلع لحُزنها فأجاب بلوم مُذكرًا إياها بعنادها، السبب الرئيسي لذلك الحال الذى آلا إليه :

_ عقبالك إنتى وماجد ..

رفعت رأسها إليه بقهر بينما أباها أجاب نيابة عنها قائلًا :

_ كُل حاجة قسمة ونصيب ..

جلس أسامة أعلى مَقعده من جديد بعد أن بدت عليه الحيرة وهو يتساءل بفضول :

_ خير إن شاء الله …

كاد محمود أن يُعلمه برغبة ابنته في فض خِطبتها تلك لكنها قاطعته بكبرياء قائلة بعد جلوسها على طرف الأريكة :

_ إن شاء الله خير .. فرحنا إحنا كمان قريب ..

عبس محمود ناظرًا إليها باستنكار لتغير حالها إلى النقيض بتلك السرعة، بينما الضيف أومأ برأسه مُعلقًا بآلية وبوجه خلا من أي مشاعر :

_ ربنا يتتمملكوا بخير إن شاء الله…

أغضبها ذلك الرد القصير المبتور الذى لم يحمل معنى يُرضيها فقالت بكبرياء :

_ وإنتوا كمان ..

ساد الصمت المكدود بين ثلاثتهم لعدة لحظات أرتفع بعدها رنين باب المنزل، فاستأذنهم محمود لاستقبال الطارق قائلًا :

_ بعد إذنك ياابنى ..

كانت تعلم جيدًا هوية القادم من قبل أن يرتفع صوت أبيها المُرحب قائلًا :

_ أهلا أهلا أتفضل شمس في الصالون ..

أغمضت شمس عينيها بقوة مُحاولة مقاومة تلك الرغبة العارمة داخلها في البكاء، وكأنها تلعن كبريائها وعِنادها ألف مرة، تنفست بعمق قبل أن تفتح عينيها مُحاولة رسم الابتسامة أعلى محياها مُحيية خطيبها باقتضاب بينما نظراتها مُسلطة على أسامة الذى أطرق برأسه إلى الأسفل بِحُزن ..

وماهي إلا لحظات حتى عاد الأب من جديد حاملًا بعض الفواكه وأكواب العصير التي أعدتها زوجته، إلا أن أسامة وقف في الحال طالبًا الإذن للمغادرة مُتحججًا بارتباطه بموعد مع عروسُه لشراء بعض مُستلزمات منزل الزوجية، مما دفع ماجد للقول مُشجعًا وهو يجلس بجوار خطيبته أعلى الأريكة :

_ طبعًا طبعًا لازم كل حاجة تشتروها مع بعض .. هو الواحد هيتجوز كام مرة ..

توجهت نظرات أسامة إلى تلك الجالسة بانكماش قائلًا بلهجه أقرب للعتاب :

_ معاك حق .. الواحد هيتجوز كام مرة ..

رمقته شمس بنظرة طويلة مليئة بالأسف وقد فهمت مقصده، قبل أن تومأ برأسها إلى الأسفل لتُخفى عَبراتها المتلألئة والتي ملأت عدستيها بقهر، فانهمرت فور رحيله دون أن يُلاحظها ذلك المتحذلق بجوارها والذى بدأ في احتساء مشروبه بعد انصراف الأب برفقة أسامة لإيصاله إلى باب المنزل، وتناول أصابع الموز الموضوعة أمامه بنهم مُتغاضيًا عن تلك البائسة والتي كاد أن ينخلع قلبها حسرة وكمدًا وراء من مَلك قلبها، فأضاف بخُبث مُقترن بابتسامته الصفراء دون أن ينظر إليها وأصابع الموز تملأ فمه :

_ على فكرة أنا دفعت الحساب بعد مامشيتى .. هههه ..كنتي عاوزة تدبسيني إنتى صح … بس مفيش بين الخيرين حِساب ..

أقرن جُملته بإخراج ورقة مُطواة بعناية من داخل جيب بنطاله مُعلقًا :

_ الفاتورة لو عاوزة تراجعيها …

نظرت إليه باشمئزاز واضح قبل أن تقع عيناها على تلك الدعوة أعلى الطاولة، فغادرت إلى غُرفتها دون مُقدمات لتختفي داخلها بعد أن أحكمت إغلاق بابها، وارتمت أعلى فِراشها بمشقة وضعف، حيثُ سيطرت عليها نوبة بُكاء استمرت لساعات وساعات ولم تنته سوى بمُغالبة النوم لجفونها المُنهكة ..

الآن وبعد مرور أكثر من عشر سنوات كاملة تقف هي أمامه من جديد بينما هو يعتلى نفس مِقعده في الصالون المُذهَب وسط الإضاءة المُختلَطة، بنفس ملامحه القوية وقسماته الرجولية وشعيراته السوداء الفحمية اللامعة ..

وكأن الزمان يعيد نفسه، هاهي تتقدم إليه على نفس خُطاها السابقة قائلة بابتسامة :

_ مساء الخير ….

أخفت عينيها وراء جفونها ليصلها صوته المُحبب إليها كما أعتادته في السابق وهو يقول :

_ مساء النور .. إزيك ياشمس …

كم تمنت في تلك اللحظة لو أن كل تلك السنوات التي مرت عليها والحياة التي عاشتها لم تكن سوى مُجرد حلم طويل قد حان وقت الاستيقاظ منه، والآن ستقوم بفتح عينيها وتجد نفسها لازالت في مُقتبل العشرين من عُمرها وهو في آخرها، دعت بداخلها وصَلت بخشوع وصِدق عالم دين أفنى حياته في التضرع إلى الله؛ كان ذلك في مدة لم تتجاوز الثوان مُناشدة ربها لتحقيق رجائها، وبعد بُرهة فتحت عينيها ببطيء ووقع نظرها على ابنتها تعتلي ساقيه فابتسمت بضعف بعدما تأكدت من مرور الزمن واستيقنت كونه واقعها الذى لا يقبل النقاش، لكن رغمًا عنها وكأن عقلها هو من يتحدث مُذكرًا إياها بنفس الموقف مُنذ عشر سنوات عندما مدت يُمناها إليه قائلة بنبرة تأنيب مُختلطة بالاشتياق :

_ عاش من شافك …

كذلك لفظتها من جديد بنفس عِتابها ونفس اشتياقها، لكن تلك المرة ارتجفت أصابعها بداخل كفه الكبير عندما تحرك واقفًا وهو لايزال حاملًا طفلتها بذراعه وكأنها ابنته التي لا يقو على فراقها قائلًا وهو يضمها بعينيه :

_ زي ماإنتى ياشمس ماتغيرتيش ..

في تلك اللحظة أفاقت من وهمها مُستوعبة واقعها بعدما تغيرت جملته السابقة والتي انتظرت أن يلفظها بنفس اشتياقه السابق عندما قال (( أنا كويس طول ماإنتى كويسة ))..

لكن رغمًا عن ذلك .. توردت وجنتاها من جديد بخجل إثر نظراته المُباشرة، ومن جديد ضغط هو على أصابعها برقة وكأن قلبه يحويها بين أحضانه ..

سحبت أصابعها المُرتعشة من بين خاصته مُعلقة بعدما لاحظت بعض الشعيرات البيضاء التي ظهرت بعشوائية وسط رأسه :

_ وأنت كمان زي ما أنت ياأسامة متغيرش فيك غير الشعرتين البيض ..

حاولت الهرب من نظراته المُسلطة عليها فأكملت مُردفة وهى تنظر إلى ابنتها التي تعلقت به :

_ الظاهر إنكوا اتعرفتوا على بعض كويس ..

أجابها دون أن يتوقف عن تأمل ملامح وجهها المُرتبك :

_ كُلها إنتى ..

رسمت الابتسامة أعلى محياها قائلة بنبرة حاولت إخراجها قوية متماسكة :

_ أتفضل أقعد واقف ليه ..

ثُم أضافت مادة ذراعيها إلى ابنتها :

_ هات عنك يارا …

واستطردت موجهة كلماتها إلى الصغيرة بعتاب :

_ كدة بردو .. مش إنتى بقيتي كبيره وقولنا متقعديش على رِجل حد ..

جلس أسامة من جديد وهو لا يزال حاملًا ابنتها التي تعلقت بعُنقه بدلال، فقال بنبرة ملأها اللوم :

_ وهو أنا بردو حد غريب ..ده أنا في مقام باباها مش كدة ولا إيه ..

في تلك اللحظة دلفت مجيدة إلى الغُرفة بوجه بشوش حاملة أكواب العصير التي وضعتها أعلى الطاولة الرُخامية قبل أن ترتمى بجسدها المُكتنز فوق إحدى المقاعد المُجاورة لزوجها الذى غلبُه الصمت للعديد من الدقائق راقب فيها أفعال ابنته، فقالت بعدما ترامى إلى أسماعها الجُملة الأخيرة للمُتحدث الأخير :

_ متجيبش سيرته والنبي ياأسامة … الحمد لله إن ربنا خلصها منه ..

أتسعت عيني شمس وهى تنظر إلى والدتها مُعاتبة بعدما أشارت إلى ابنتها بصمت مُنبهة فأشاحت مجيدة بيدها مُعترضة :

_ يختي بقى وهى هتفهم يعنى ..

إلا أن محمود لكز زوجته بقوة مُعلقًا :

_ شمس معاها حق يامجيدة .. بلاش البنت تسمع الكلام ده ..

ثم أكمل حديثه مُوجهًا كلماته إلى الصغيرة مُداعبًا :

_ مش تورى ماما اللعب اللي جابها عمو أسامة ..

هزت الطفلة رأسها بحماس واتجهت إلى غرفتها بخطوات سريعة أقرب للركض لتجلب هداياها والتي ما إن رأتها الأُم حتى تصنعت المُفاجأة وهنأتها بهم قبل أن تجذبها الجدة إلى غرفتها من جديد مُتعللة برغبتها في اللعب معها، وقبل أن تُغادر بصحبة الصغيرة أشارت إلى زوجها في الخفاء ليتبعها ..

تابعت شمس ابنتها بعينيها حتى اختفت بداخل غرفتها هي والجدة، ثُم أعادت النظر إلى الضيف الذى تفاجئت ببصره الذى لازال مُسلط عليها بجُرأة رغمًا عن تواجد والدها، لذا نظرت إلى الأسفل بتوتر مُحاولة استجماع قواها قبل أن تُقرر التماسك فرفعت رأسها إليه بجدية مُتسائلة رغم معرفتها السابقة :

_ إيه وصلت أمتى ؟

أجابها بود واضح وكأنه كان ينتظر حديثها :

_ من كام أسبوع ..

ابتسمت برسمية مُعلقة :

_ حمد الله على سلامتك ..

في تلك اللحظة خرج محمود عن صمته قائلًا :

_ طب أقوم أنا بقى ألحق العصر قبل ما وقته يفوت ..

قال أسامة بلهفة واضحة بعد أن تنهد بارتياح وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة مُنذُ قدومه :

_ أتفضل ياخالي أنا مش غريب ..

وقبل أن يختفى الأب عن الأنظار جاءها صوت الجالس الذى توجه بجسده كله نحوها قائلًا بصوت ملؤه الصبابة وكأنه قطرات الندى التي تتساقط على أرض أنهكها الجفاف طوال تلك السنوات العجاف :

_ وحشتيني …

******************************

كانت تستلقِ بشرود أمام التلفاز بصُحبة شقيقتها داخل غرفتيهما، كُلًا مِنهُن تعتلى فراشها المُبعثر وهُن مُرتديات ملابسهُن البيتية بارتياح، الصُغرى انشغلت بهاتفها تُحادث إحدى صديقاتها بينما الأُخرى استلفت على بطنها مُحتضنة وسادتها بضعف بعدما جذبها ذلك الفيلم الرومانسي الكلاسيكي، فتنهدت برقة قبل أن يشدها خيالها إلى عالمه فترى نفسها بصُحبة من ملك عقلها وقلبها طوال تلك السنون الماضية ..

دفعت خُصلات شُعيراتها البُنية الجانبية إلى ما وراء أُذنها قبل أن ترتكز بمُقدمة ذقنها على الوسادة من تحتها وتسرح بذكرياتها إلى الوراء مُنذ ثلاث سنوات مضت عندما قابلته لأول مرة ..

كانت في التاسعة عشر من عُمرها وقتئذ عندما حضرت إحدى اجتماعات الجالية المصرية بنيويورك، فلَفت أنظارها ذلك الجالس وحيدًا في رُكن من الأركان يقرأ إحدى الكُتب الفلسفية لكاتب أهتم بالفن والسياسة والفلسفة في القرن التاسع عشر، والذى درست نبذة عنه في بداية دراستها لمجال الفن والسينما مما دفعها للتقدم إليه مُحاولة بدئ حديث يُشبِع فضولها نحوه، فنظراته الحزينة الشاردة طوال الاجتماعات الماضية كانت تُشعرها بمسؤولية نحوه دون أن تعرفه فأحست أن الله أختارها لتُرفه عنه وتُعيد الابتسام إلى عينيه وأن عليها إخراجه من تلك الحالة أو على الأقل معرفة سببها، ولطالما فكرت في ذلك الحُزن العميق الذى يكسو وجهه ولطالما تساءلت بفضول هل خُلق هكذا أم أن هذا الحُزن هو طابع تميزه ..

وفوجئت ذات يوم بعلاقته الراسخة مع والدها فهذا هو (عمو أسامة) كما اعتادت أن تُطلق عليه هي وشقيقتها من كثرة تحدث أبيها عنه دون أن تراه إحداهُن يومًا ..

فتوطدت العلاقة بينهما وآنست منه ذلك الجانب المرح البشوش في شخصيته والذى كان يشوبه دائمًا نفس المسحة من الحُزن التي تُلازمه، ورغم ذلك أحبت رؤية تلك المسحة داخل عينيه وكأنها أصبحت سمة أساسية من سمات شخصيته الهادئة، فكان كُل شيء به يجذبها إليه، قلبه الطيب وروحة المرحة ونواياه البيضاء .. وحُزنه الدائم ..

أفاقت (جيداء) من شرودها على صوت شقيقتها تُناديها فالتفتت إليها مُتسائلة بعينيها، أجابتها (جنة) ذات الربيع الثامن عشر من عُمرها :

_ مش هتنزلي النهاردة ..

هزت جيداء رأسها نافية :

_ هروح فين !

غمزت لها شقيقتها بطرف عينها مُوضحة :

_ المكان اللي بتروحيه كل يوم وبترجعى منه كأنك كنتى في دُنيا تانية .

رمقتها جيداء بنظرة طويلة غاضبة قبل أن تُعلق :

_ أنا بنزل أشتغل على فكرة مش بلعب ..

تحركت الاُخت الصغرى من أعلى فراشها مُقتربة من شقيقتها وعلامات المرح والشغب تملأ وجهها بينما نبرة صوتها تغيرت لتزداد رقة وهى تتصنع أسلوب شقيقتها في الحديث قائلة بعد أن وضعت هاتفها أعلى اُذنها :

_ أيوة ياأسامة .. مش هشوفك النهاردة .. ليه خير ؟ عندك مشوار عائلي .. آه فهمت .. خلاص أشوفك بكرة في المكتب الصبح ..

ثُم أضافت بمكر :

_ ومن ساعتها وإنتى لبسالنا الوش الخشب ..

أحمر وجه جيداء بغضب من تصنع أُختها وسخريتها فما كان منها إلا أن قذفتها بوسادتها مؤنبة :

_ بقى أنا بتكلم كدة ..

تنهدت جنة بتصنع قائلة :

_ عذراكى .. ما هو الحب كده مبيخليش الواحد حاسس بتصرفاته ولا بكلامه ..

اعتدلت الاُخت الكبرى أعلى فراشها قائلة بتوتر بعدما تخضبت وجنتاها بالحَمار :

_ حُب إيه وهَبل إيه ..

أجابت جنة بدلال :

_ عليا أنا بردو يادودو، ده انا فقساكى من قبل مانيجى مصر .. بأمارة لما قولتيله ..(( أنا خلاص كملت ٢١ سنة وهقولك ياأسامة بس )) فاكرة ولا أفكرك ..

حاولت جيداء ازدراد لُعباها مُفكرة في حجة لنفى ذلك الاتهام الصحيح إلا إنها لم تمتلك سوى الهروب من الحديث قائلة قبل أن تُغادر الغرفة :

_ تصدقي انا غلطانة إني قاعدة بتكلم مع عيلة زيك ..

فرت هاربة على الفور من كلمات شقيقتها لكن ترامى إلى سمعها بوضوح جُملتها الساخرة التي أعادتها إلى واقعها البئيس :

_ مادام أنا بالنسبالك عيلة وإحنا الفرق بينا مش أكتر من أربع سنين .. يبقى هو شايفك أزاي وأنتوا الفرق مابينكوا يجي ١٧ سنة بحالهم ..

أغلقت الباب من ورائها بعُنف قبل أن تتجه إلى الشُرفة الهادئة مُفكرة فى حالها بعدما صدمتها كلمات شقيقتها الواضحة الصريحة فهو بالفعل لا يراها إلا ابنة أو شقيقة صُغرى وعلى أحسن تقدير مُجرد صديقة ونائبة لأعماله، بالرغم من مُحاولاتها المُستمرة للفت أنظاره إليها إلا إنه سُرعان ما يذكرها ويُذكر نفسه بوالدها المُتوفى وصداقته به على مدار خمس سنوات كاملة من قبل حتى أن يراها، مما جعله يشعر بالمسؤولية على عاتقه تجاه عائلتها لذا لن يُمكنه خيانة تلك الثقة والسماح لما تُفكر به في الحدوث مهما كانت درجة إعجابه بها، لم يمل هو من إلقاء تلك المُحاضرة عليها كُلما صرحت أو حاولت التلميح له بإعجابها، فيثور كبرياؤها عليها وتبتعد عنه لأيام ورُبما لأسابيع تُجاهد فيها نفسها الرافضة لاستجداء حُبه وعطفه عليها، إلا إنها فى النهاية لا يسعها سوى التواجد بجانبه، فهي أيضًا تشعر بالمسؤولية تجاهه، وكما أتت بصُحبة عائلتها معه إلى مصر، فلابُد لها أن تستكمل ذلك المشوار الذى بدأته معه علها تفوز بقلبه في النهاية ..

في تلك اللحظة ألح عليها شعور داخلي أرغمها على مُهاتفته والاطمئنان على أحواله، إلا أن جميع مساعيها بائت بالفشل فلم تُصِر عليه ووضعت هاتفها داخل جيب بنطالها قبل أن ترتكز بمرفقيها على السور الحديدي المُحيط بالشُرفة وتهيم بعينيها الناعستين إلى الفراغ حيثُ الشارع الهادئ من أسفل منزلهم والمُزين بالشُجيرات التي بدأت بالازدهار مع اقتراب موسم الربيع …..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى