روايات

رواية نوسين الفصل الأول 1 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الفصل الأول 1 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الجزء الأول

رواية نوسين البارت الأول

رواية نوسين
رواية نوسين

رواية نوسين الحلقة الأولى

وقف أعلى حافة سور الكوبري، ينظر للمياه الجارية أسفله، هنا سيُغرق روحه المُعتمة لتتحرر ويتحرر هو من عذاب العيش مُنهيًا معاناته..

لم يكن يتخيل أنه سيطرق يومًا أبواب الإنتحار، الإنتحار الذي كان يندهش ممن يفكرون به!

انتبه على صوت احد الماره، والذي كان رجل كبير بالعمر نوعًا ما، باغته بنبرة مدهوشة:

-أنت بتعمل إيه يابني؟!

وحين لم يكلف “عمر” نفسه عناء الرد، كان يتابع:

عايز تموت كافر؟ ماهو الموت كدا كدا جايلك.

ثم استدار وغادر بهدوء كما أتى، مسببًا صدمة بزغت في عيني “عمر” الذي ابتسم بسخرية، فهو لم يتعب نفسه في محاولة إثناءه عن فعلته!

ولكنه فعليًا فقد القدرة على انتظار الموت، روحه تأن وجعًا مع كل ثانية تمر مُحملة بعبق الموت الذي سلب منه بريق الحياة وتركه شبح شريد يبغى الخلاص!

وقبل أن يقفز كان هاتفه يصدح برنين، يالسخرية القدر.. فحتى الانتحار لا يستطع إكماله..

أخرج هاتفه بنوع من أنواع الفضول، وقد كان احد الاصدقاء غير المقربين، فأجاب:

-عامل إيه يا عمر ؟

-كويس.

إندفع معلنًا غيته وراء الإتصال:

-عايزك في شغل، في واحد من اللي بيلعبوا مصارعة حرة، مش لاقيين له حد ينزل قصاده، إيه رأيك تجرب تنزل قصاده؟ وهيجيلك من ورا الموضوع دا خير كتير أوي.

تسرب حديثه لأذنيه ببطء مخلوط بفحيح شيطاني يُنبئ روحه الملكومة أن ما تبغاه قد أتاها.. هو لا يبغى سوى الموت، وقد أتاه بطريقة غير مباشرة بحيث لا يكن إيمانه عائق له..

فالمصارعة التي يتحدث عنها؛ تُلعب دون قوانين، يدخلها المُعدمين ومَن يحتاجون للأموال حد القرب من الموت، ويراهن على فوز احدهم في المباريات، رجال اعمال بمبالغ طائلة.. ولا تنتهي إلا بموت احد الطرفين!

-موافق، فين وامتى؟

خرج سؤاله بجفاء، فأجابه الاخر بلهفة:

– بكره بليل، وأنا هاجي أخدك.

-ماشي.

بنظرة تشبعت سخرية كان يرمق اثر الرجل الذي غادر:

-اهو الموت جه يا حاج.

                                   ****

اليوم التالي…

خرجت “نوسين” من ورشة الميكانيكة التي تعمل بها، ووصلت المكان الذي تنشده، بدأت تتحرك بخطى بطيئة، تحرك رأسها يمينًا ويسارًا في محاولة لاكتشاف المكان من حولها، ثم رفعت يدها تمسح حبيبات العرق التي تناثرت بفعل التوتر على بشرتها البيضاء التي تميل للون القمحي، وأنفاسها تخرج وتدخل صدرها بصوتٍ مسموع..

إلى أن وقعت عيناها على “عمر” الذي كان يرقد أرضًا بلا حراك، وجهه مغطى بالدماء، شهقت والفزع يجتاح خلاياها، وركضت نحوه ومدت يدها تحاول معرفة إذا كان حي او ميت، ولكن وجدته حي فالتقطت أنفاسها…

وبدأت تعض على أصابعها وهي تفكر، ترى مَن فعل به هذا، ولما ؟

الاسئلة تشتد محاصرتها لبقاع عقلها المُزلزل في تلك اللحظات، واصوات ضجيج تأتيها، ولكنها لا تعلم حتى ماهية هذا المكان..

أمسكت زجاجة المياه التي كانت بجواره وبدأت تزيل الدماء عن وجهه بحذر، فأوقفها أصوات أحستها تقترب، تساءلت بقلق… هل يأتون الان لينهوا أمره تمامًا؟

عاطفتها المندفعة اتخذت القرار نيابةً عن عقلها الذي تعطل قليلًا، فبدأت تحاول رفع عمر بصعوبة، وربما ساعدها قليلًا الصالة الرياضية التي كانت تذهب لها وجسدها الممتلئ نوعًا ما..

بدأت تضرب وجنتاه برفق هامسة بتوتر:

-أنت يا آآ… أنت سامعني؟

تفرق جفناه ببطء، وصوتها يأتيه بعيدًا، وصورتها مشوشة لا يستطع التمييز، عَلت أنفاسه بصوت مسموع وكأنه يصارع..

فأردفت هامسة برجاء:

-أنت لازم تقوم معايا، زمانهم جايين ويا عالم المرادي هيسيبوك فيك نفس ولا لا.

وعادت تحاول جعله ينهض، وبدأ يستجيب لها هو ببطء وألم، ربما بسبب المسكنات القوية التي يجبرون المشاركين على أخذها حتى لا ينهاروا سريعًا وتطول المتعة!

***

سحبته برفق حتى وجدت صندوق كبير للقمامة، وأعلاه عامود نور مكسور ومنطفئ، وكم كانت ممتنة لمَن كسره!

جلست خلف الصندوق تلتقط أنفاسها اللاهثة، وتفاجأت به يضع رأسه على قدميها مغمضًا عيناه في حالة من اللاوعي.. إنحسرت أنفاسها وشعور غريب يراودها مداعبًا دقاتها التي تبعثرت..

ابتلعت ريقها وهي تفكر ما الذي ستفعله، هل ستأخذه معها ؟

عندها فتح عينيه ببطء وكأنه سمع ما يجول بخاطرها، قابضًا على أصابعها الرفيعة بكف يده الخشن، مُرسلًا شرارة حسية مجهولة المصدر لجسدها..

وعيناه الزرقاء الناعسة حين تسلطت بغتةً على عينيها شعرت بقلبها يتضخم، وتفقد قدرتها على كبح ذلك الشعور الغريب بالانجذاب له كما لم تفعل يومًا لأي رجل!

لم تملك الكثير من الوقت لتتخذ قرارها، فقد سمعت صوت اقدام يقترب منهما، مدت رأسها قليلًا لترى القادم، فرأت عدة رجال بأجساد ضخمة، ويمتلكون أسلحة، وقد كانت هيئتهم قادرة على بث الهلع بقلبها وهي تتخبط لا تدري كيف سينجون منهم…؟!

أخرجت هاتفها واتصلت بأحد اصدقائها وعشرة عمرها لينجدها:

-حوده تعالى بسرعة على الشارع اللي فيه ****

فهي لن تترك “عمر” وحده، وفي نفس الوقت لا تضمن أن تذهب به لمنزلها بمفردها..

ثم بدأت تحاول التحرك سحب “عمر” الذي كان بين الوعي واللاوعي، نحو أبعد نقطة عنهم، وهي تناجي الله ألا ينتبهوا لهما.

                                 ****

وصلوا ثلاثتهم لمنزلها الصغير بصعوبة، وقد كان في منطقة عشوائية متهالك معظمها، حمدت الله أن الظلام سيطر على الاجواء، والشارع ليس به أناس حتى لا تصبح علكة في افواه الجميع..

بمساعدة “حوده” وضعت “عمر” الذي لم يكن قد استعاد وعيه كاملًا بعد، على الفراش الصغير..

وجلبت قطعة من القماش لتمسح بها وجهه الذي لازال ملطخًا، تلكأت يدها على وجهه وكأنها تتحالف مع تلك الرغبة الخفية داخلها لتفحص ملامح وجهه الرجولية السمراء بخشونة مميزة، لأول مرة تخونها عيناها مدققة النظر لملامح رجل، رغم تعاملها الشبه يومي مع الرجال بطبيعة عملها!

فتح عيناه الزرقاء للحظة، ثم أغلقها مرة اخرى، لتهمس نوسين في تيه تعجبته في نفسها:

-يخربيتك هو أنا ناقصة حلاوة!

ثم تنحنحت وكأنها استوعبت زلة لسانها، وبحركة مباغتة مد “عمر” يده ببطء ولمس وجنتها الناعمة بطرف أصابعه الخشنة وهو يغمغم بصوت مكتوم بإسم غير واضح، أغمضت عيناها وهي تستشعر دقاتها تنتفض كما انتفض جسدها وهي تنهض من جواره مرددة بذهول:

-يالهوي دا بيتحرش بيا وهو مغمى عليه امال لو صاحي!

***

خرجت من الغرفة، فنهض “حوده” يرمقها بنظرات ذات مغزى، ثم خرج سؤاله المكتوم:

-مين دا ؟

اجابته بثبات:

-ماعرفش.

ردد باستنكار جلي:

-يعني إيه ماتعرفيش دا أنا قولت إنه ابن خالتك اللي راجع من الحج ولا حاجة!

راحت تخبره بهدوء:

-دا واحد معرفهوش لاقيته زي ما أنت شوفت.

فرفع حاجبيه معًا وتابع بغير تصديق:

-وهو أي واحد تلاقيه تجبيه بيتك بسهولة كدا؟

حينها اعترضت بحرقة لم يتعجبها الاخر:

-امال كنت عايزني أسيبه مرمي في الشارع وسايح في دمه ويتكرر نفس اللي حصل فيا ؟

فأحس أنها تقدم له المساعدة، كما لم يُقدم لها حين كانت مكانه، وهنا كَّذب مقولة ” فاقد الشيء لا يُعطيه” لأن فاقد الشيء هو مَن استشعر مرارة فقدانه، فيُعطيه ببزخ..!

ثم أخبرها أنه سيذهب ويشتري بعض الأطعمة لهم، مطمئنًا إياها أنه لن يبتعد كثيرًا عن البيت..

***

بعد قليل..

بدأ “عمر” يفتح عيناه ببطء بعد فترة، فاقتربت منه متلهفة تسأله بنبرة متوجسة بعض الشيء:

-حاسس بإيه؟ حاسس بألم في عضمك؟

بعد ثوانٍ من الصمت، جاءت اجابته مقتضبة:

-مش حاسس بحاجة.

تابعت اسئلتها التي كانت تحتجزها في عقلها لحين استيقاظه:

-طب أنت مين؟ ومين دول؟ وعملوا فيك كدا ليه؟

ضيق عيناه وكأنه يحاول أن يتذكر، والاحداث السابقة تتوالى على عقله الذي لازال يترنح من غفوته، وفجأة استقام جالسًا متسع الحدقتين لتتوهج زرقة عيناه أكثر بلمعة مميزة ناغشت قلب الجالسة جواره، فتمتمت “نوسين” بصوت منخفض بتلقائية:

-ما خلاص ياعم عرفنا إن عنيك حلوه.

سألها بقليل من الارتياب:

-انتي مين وأنا فين؟

قالت بسخرية عفوية لطالما انتهجتها في حديثها:

-خدامتك سعدية يا باشا.

عقد ما بين حاجبيه والضيق يبزغ في زرقاوتاه الناعستين، فسألته “نوسين” من جديد:

-أنت اللي مين؟ أنت في بيتي، لاقيتك مغم عليك ووشك بينزف وجبتك هنا.

إتسعت عيناه من جديد، والدهشة تستبيحهما، متعجب من جرأتها وهدوئها، كيف لا تخشاه وهي لا تعلم عن أي شيء!!

ثم الكارثة التي حلَّت عليهما والتي لا تعلم توابعها !

أغمض عيناه وهو يتنهد بصوت مسموع قائلًا:

-أنتي متعرفيش أنتي ورطتي نفسك في إيه.

ردت مستنكرة:

-ورطت نفسي في إيه؟ أنا ساعدتك مش أكتر.

زمجر فيها بعصبية:

-ماطلبتش منك تساعديني، أنا عايز أموت وأروحلها.

حلقت الشراسة المتأصلة فيها، في عينيها التي تحمل لون البندق وهي تستطرد مغتاظة:

-هي مين دي؟! بقولك إيه يا ولا أنت ماتزعقليش، تصدق أنا غلطانة، خيرًا تعمل شرًا تلقى، قوم يلا ارجعك للي عمل وشك خريطة.

هز رأسه نافيًا بجدية وصوت خافت وكأنه يفكر بينما يخبرها:

-مابقاش ينفع، أنتي بوظتي شغلهم، ولو وصلولك هيأذوكي، أنتي مش قدهم.

لوت شفتاها ولم تسيطر على عفويتها من جديد:

-شغلهم إيه لامؤاخذه، أنت شغال كيس ملاكمة ولا إيه؟

استغفر بصوت مسموع، ثم نهض مرددًا بحزم:

-احنا لازم نمشي من هنا، مش هياخدوا وقت كبير وهيوصلولنا.

هزت كتفاه بهدوء ولامبالاة:

-امشي أنت، لكن دا بيتي أمشي أنا أروح فين أنت مجنون؟

حذرها بجدية لم تهز قرارها الثابت:

-لو مامشيتيش معايا دلوقتي صدقيني هتندمي.

فأردفت بسخرية عرف أنها تلازم لسانها الطويل، وجعلته يود لكمها بسببها:

-ليه كنت هتوديني جزر المالديف ولا إيه؟

هدر فيها بصوت أجش:

-بطلي تهريج أنا بتكلم بجد، دي مسألة حياة او موت.

هزت رأسها وكأنها تهاود طفل في الخامسة من عمره:

-امممم، طب روح بيتك نام أنت دلوقتي وبكره هنشوف المسألة دي أنا وأنت وناهد وكلنا.

***

في ذلك الحين، وفي نفس المكان الذي أخذت منه عمر..

كانت الاجواء مشتعلة، فقد كان احد الرجال، ذو ملابس منمقة نوعًا ما، وملامح تبدو لك رخيمة من النظرة الاولى، ولكن في قاعها تحمل قدرًا ملحوظًا من الدناءة!

يهب على رجاله كالاعصار متسائلًا بحدة:

-يعني إيه واحد مضروب واغمى عليه يقوم يمشي لوحده؟!

هز احدهم رأسه نافيًا بسرعة:

-لا طبعًا يا باشا أكيد مش لوحده.

أكد الاخر ساخرًا بحروف لم يغادرها الغضب:

-ما طبعًا مش لوحده يا غبي ماهو مش خارق!

برر محاولًا تلاشي غضبه الذي يمقتونه:

-أحنا بدأنا نشوف الكاميرات يا باشا، وخلال وقت بسيط هنعرف مين اللي عمل كدا.

ولكنه لم ينجح حين زمجر الاخر بجنون، وكأنه يُخرج فيهم ما تضج به نفسه:

-أنا لسه هستنى وقت بسيط؟ أنا عايز أعرف حالًا، اللي عمل كدا بوظلي شغل بالملايين غير سُمعتي اللي إتدمرت قدام الكبار.

ردد مسرعًا بخنوع:

-ما عاش ولا كان.

فهدر بوجهه آمرًا:

-غور هاتلي المشاهد اللي في الكاميرات.

***

بعد قليل..

-المشاهد اهي يا باشا.

وبعد أن شاهدها، عقد ما بين حاجبيه بدهشة حقيقية من تواجد فتاة لأول مرة، ثم سأل:

-مين البت دي؟

أجابه الاخر بنبرة باهتة:

-مانعرفش يا باشا، بس أكيد هنعرف.

فتواصلت اسئلته بغضب أهوج:

-وازاي خدته من غير ما تحسوا؟

تشدق بنزق:

-احنا كنا سايبينه يفوق زي ما حضرتك أمرت عشان يرجع يكمل الماتش، لكن هي آآ….

دفعه بعنف من أمامه مزمجرًا فيه بفظاظة:

-عشان مشغل معايا بهايم، غوروا وماترجعوش غير والبت دي وعمر معاكوا.

ولم يكن يملك سوى أن يهز رأسه بطاعة مؤكدًا:

-اوامرك يا باشا.

***

جز “عمر” على سنانه بغيظ حقيقي، وقبل أن ينطق عَلى رنين هاتفها، فتنهدت وهي تجيب ليأتيها صوت “حوده” على الطرف الاخر:

-بقولك إيه يا نونا.

-إيه في حاجة ولا إيه؟

-أنا وعند الكشك دلوقتي في ناس جم وسألوا عليكي.

-ناس مين؟

-مش عارف بس خدي بالك شكلهم مش تمام، أنا قولت أنبهك.

-تمام يا حوده تسلم، ماتجيش أنت دلوقتي خليك مراقب من برا لحد ما نشوف حوارهم إيه.

-تمام.

أغلقت الهاتف ثم نظرت نحو عمر الذي لم يكن من الصعب عليه تخمين عمَن تتحدث، فتحركت نحو الشرفة الصغيرة تنظر منها، لتجد عدد لا بأس به من الرجال، هيئتهم سببت رجفة خوف واضحة لجسدها، وبينهما وبين منزلها الصغير مسافة ليست كبيرة!

عادت للخلف خطوتان متلعثمتان، لتصطدم بصدر “عمر” الصلب الذي كان خلفها مباشرةً ولم تنتبه له، فشهقت بفزع وكادت تصيح بصوت عالٍ:

-يالهوي دول……

قاطعها “عمر” واضعًا كفه على فمها يكتم صوتها، فتعالى هدير خافقها بالخوف… وشعور آخر سببه ملمس يد ذلك القابع خلفها على شفتيها، وجسده الذي تستشعر هالة الدفء المنبعثة منه، وهو يحيط بها دون انتباه منه، بينما ينظر من الشرفة نحوهم..

وبدأت تدرك أنه على حق، وأنها ورطت نفسها بكارثة ليس لها مخرج!

                                    ****

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نوسين)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!