Uncategorized

رواية وصية والد الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم علي اليوسفي

 رواية وصية والد الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم علي اليوسفي

ليلة أخرى تمرّ على أفئدة تلتهب شوقا ، حتى مجد لم ينم تلك الليلة ، فبعد رحيل آماليا عاد أدهم إليه بوجه مختلف ، لم يحادثه بحرف وليته فعل، فما قرأه داخل مقلتيه أفزعه بحق، كان أدهم يؤنبه ويلومه ، ربما لو سمحت له آماليا بضربه لما آلمه قلبه كما يحدث الآن.
حتى أنه لم يأبه لبقائه في المشفى، كذلك لم يبدِ اعتراضا عندما عرفته ريما على طبيبه النفسي الجديد، كان هادئاً للغاية، هادئ بشكل يبعث على الريبة.
أغمض عينيه عندما شعر بأحدهم يتحرك في الغرفة، كانت ريما التي حركت ستائر النافذة لتدخل أذرع الشمس الذهبية لتملأ غرفته، تطلعت إليه بأسى حاولت دفنه خلف ابتسامتها الهادئة ، صاحت باسمه ليستفيق لكنه لم يجبها وقد عرفت من اهتزاز جفنيه أنه يدّعي النوم ، تنهدت بتعب فيبدو أن القادم من الأيام لن يكون بالسهولة التي تتمناها.
فور خروجها من الغرفة جلست على أقرب كرسي صادفها، تشعر بالتعب والإرهاق يغزو جسدها وكل خلية به تصرخ تطلب الرحمة، فهي لم تنم منذ الأمس ، تنهدت بتعب وهي تسند رأسها إلى الحائط خلفها، عقلها توقف عن التفكير في أحداث أمس لأن أحدا لغاية اللحظة لم يفهم ماحدث وماسيحدث.
غادر أدهم بعد رحيل آماليا أمس إلى المنزل، متذرعاً بحاجته للنوم وأيضا لجلب بعض الأوراق ، مع علمها المسبق أنه لن يغمض له جفن ، أما نور فقد عادت أيضا إلى منزلها مساء وهي على يقين أن لا أحد من أولئك الستة إلا وقد أرهقه السُّهاد…
….. ……. …….
جلس كلاهما يستمعان إلى حديث الطبيب الشاب بعد أن سردا له القصة بإيجاز، ثم تساءل : وأين هي تلك التقارير؟؟
تطلع أدهم إلى ريما كأنه يسألها ، فرفعت كتفيها بعدم معرفة لتهمس له: اعتقد أنها لدى مجد.
تهدل كتفاه بإحباط وهو يعيد نظره إلى الطبيب الذي أضاف،: ارجو منك سيد أدهم أن تحضرها لي، يجب أن اطلع عليها للضرورة .
حرك رأسه بتفهم ، شبك الطبيب كفيه ببعضهما ليضعها على الطاولة، عندما سألته ريما بحزن: هل هناك امل في شفائه حضرة الطبيب؟؟
أخذ الطبيب الشاب نفساً عميقا ، ليستفيض شرحا للجالسيين أمامه: دعاني اخبركما الحقيقة ، مرض مجد في مراحل متطورة جداً ، لكنه مازال قابلاً للعلاج بالرغم من صعوبته.
قطب أدهم جبينه بشك متسائلا: لكن الطبيب الذي كان يتولى حالته في بريطانيا قال أنه قد شُفي تماما ؟؟
سدّد له لطبيب نظرة متفحصة ليسأل بدوره: هل قابلت الطبيب بنفسك واخبرك بهذا؟؟
رمشت عيناه باستغراب حتى حرك رأسه بنفي مجيبا: لا ، لكن التقارير….
قاطعه الآخر بإصرار: لا شك عندي بأن تلك التقارير غير صحيحة بالمرة.
تلاحم حاجباه بريبة ولم تكن ريبة ريما بأقل؛ فيما أضاف الطبيب: دعاني فقط اخبركما بأن مجد لم يشفى أبدا من مرضه، إنه متعلق بريما وبكل شيء يخصها بشكل أشبه ما يكون تعلق الطفل بوالدته، حيث اقترن عالمه بعالمها ،وكلما ابتعدت عنه بكى يطلبها ، وإن عادت كأنما أعادت له روحه.
تذكر كلاهما حديث الطبيب الإنكليزي الذي كان مشابهاً لحديث الطبيب هذا، عندما شرح لهما طبيعة مرض مجد في اول لقاء معه، لكن حينها ومع صغر سنهما لم يفهما طبيعة الأمر بشكل جيد ، فيما أضاف الآخر: مجد إذاً اعتبر ريما كوالدته، ومع شعوره بالذنب بعد وفاة والديه ، رسم في ذهنه لحياتكما صورة طبق الأصل عن حياة والديه.
حرك أدهم رأسه بتفهم ليردف كمن تذكر: يعتقد أننا زوجين متحابين كما كان والديّ بالضبط.
نظرت ريما إليه بذهول ، بينما ابتسم الطبيب مشيراً بسبابته : بالضبط، فكما اخبرتماني عن طبيعة علاقتكما قبلا أعتقد مجد بأنكما عاشقين حقا، فمجد ليس أنانياً بل هو مازال مريضا.
تنهدت ريما بحسرة قائلة بشبح ابتسامة باهتة : لكنه لا يرى مرضه ، بل يرى مايحب رؤيته.
_ تماما مدام ريما ، مجد يعتقد أنه يعيش حياة مثالية، ولن يقبل بأن تخرجا عن الدور الأساسي الذي رسمه لكما.
مسح أدهم على وجهه ، قائلا بقلة حيلة: نعم كنا نعرف هذا منذ زمن، لكن لم نعرف كيف نتصرف معه سوى الاذعان لكل مايطلبه.
أعاد الطبيب ظهره للخلف متبعاً بتوضيح: وهنا يكمن خطأكما الأول ، لقد منحتماه عصاً سحرية يتحكم بها بحياتكما ، حتى تطور الأمر ليصبح لديه هوس بتشكيل حياة جميع من حوله كما يتناسب مع رغباته هو.
أضافت ريما بتفهم وهي تنظر ناحية أدهم: تماما كما فعل مع هادي و آماليا .
نفخ أدهم بضيق، ليستمع إلى آخر كلمات الطبيب قبل أن يغادرا: التعلق المرضي ياسادة قد تم كشفه منذ أكثر من عشر سنوات ، لكن للأسف حينها لم تكن هناك طرق علاجية فعالة ، إنما الآن ولأن الطب النفسي وأساليبه قد تطورت تماما كالطب البشري ، فإن مجد لن يكون حالة مستعصية على العلاج والشفاء أبدا ، الأمر يتطلب فقط بعض المثابرة والصبر.
الصبر؟؟ وهل فعلا طيلة العشر سنوات الماضية غير الصبر؟؟؟
…………………………………
عاد أدهم من ذكراه البارحة قبل الكارثة الكبرى على برودة الماء المنهمر على جسده، بعد أن استنفذ كل المياه الساخنة في حمامه ، خرج بعد أن لفّ جسده بمنشفة قطنية ، خلّل شعره بيديه وهو حقا تائهٌ عَمِهْ، لم يعد يعرف إلى من يوجه غضبه وحنقه، ونيران الفراق تكوي فؤاده، الجميع مظلوم هنا لكن المصيبة، أن الجاني غير معروف.
خرج بعد وقت قليل وقد اعتزم البحث في غرفة شقيقه عن تقارير الطبيب الإنكليزي ، بحث طويلا بين كتب دراسته لكنه لم يجد شيئا حتى أصابه اليأس، هل تخلص منها مجد ؟؟
حرك رأسه للجانبين لا يعتقد أن أوراقا بهذه الأهمية قد يمزقها شقيقه، اتجه إلى خزانة الملابس الخاصة بمجد، فتحها لتقع عيناه على خزانة حديدية مخبأة بين الملابس، استغرب أدهم الأمر فلم يكن على علمٍ بهذه الخزانة، لربما يجد الأوراق فيها !!
كانت الخزانة مغلقة بأرقام سرية، تفكر أدهم للحظات، خطر له أن يضع تاريخ ميلاد مجد، لكنه غير رأيه وهو يسترجع حديث الطبيب في ذهنه ، ليضع تاريخ ميلاد ريما وياللمفاجأة !!!
لقد فُتحت الخزنة !!
وقف أدهم لثوان يتأمل في الرقم المدون على الشاشة، أيعقل أن مرض مجد قد وصل إلى هذه الدرجة من الهوس !!
يبدو أنه انشغل بخوفه عليه لدرجة لم ينتبه إلى تلك التفاصيل الرهيبة.
استفاق من ذهوله ليتفحص محتوياتها، وجد بعض الأموال وبعض الأوراق الرسمية الخاصة بمجد، لكن أكثر ما لفت نظره هو المغلف الاخضر المسنود في ركن الخزانة ، استغرب أمره ليسحبه ، توجه إلى السرير ليجلس عليه ثم فضّ محتويات المغلف، وياليته مافعل !!!
…………………………
(( لا تحني جبينكِ أبداً أمام الصعاب ، أنت قوية آماليا فلا تضعفي ))
إنها إحدى نصائح والدها، لم تكن تفهم مغزاها عندما كانت تسمعها منه ، أما اليوم تتمنى لو أنه بجوارها ، لتخفي رأسها في أحضانه فتبكي كما لم تبكي من قبل، رفعت يدها إلى وجنتها تتحسس آثار صفعته، هل يبدو الأمر غريباً لو أخبرتكم أنها لم تحقد عليه؟؟
نعم، تلك الصفعة افاقتها على واقع جديد، هي الآن وحيدة ، أختها مرهونة بحبها لمجد، وأدهم والده الروحي، وكلاهما ضعيف أمامه خاصة وهو مريض، اذا حقا هي وحيدة …
زفرت آماليا باختناق لتتفحص شكلها للمرة الأخيرة ، قبل أن تقف مبتعدةً عن مرآتها، ارتدت معطفها الثقيل كثقل قسماتها، حملت حقيبتها لتتأكد ، لتخرج من غرفتها متوجهة إلى غرفة والدتها ،وبعدما اطمئنت عليها أخبرتها بأنها ذاهبة لتجلب لها نتائج تحاليلها ، لم تكن عليا مُطمئنة مما يحدث مع ابنتيها، خاصة وأن آماليا لم تجلب لها الأوراق التي طلبتها يوم أمس ، بل ولم تجب على اتصالاتها الكثيرة بعدها، عادت للمنزل برفقة أمينة لكنها لم تجد أحدا ، عادت لتهاتف هدى التي أخبرتها بأن آماليا متواجدة في المشفى برفقة مجد ونور ، وإلى الآن لم تخبرها إحداهن بحقيقة ماحدث.
خرجت آماليا من غرفة عليا التي شيعتها بعينيها الحزينة ، ولم تخفى عليها بسمة ابنتها المزيفة، كيف لا وهي التي تعرفها أكثر حتى من نفسها ؟؟
نزلت آماليا الدرجات لتصطدم بنور في آخرها ، تجمدت نور مكانها وقد كانت في طريقها للصعود لأعلى ، ثبتت حدقتيها على وجه آماليا الواجم، حركت شفتيها لتهمس باسمها، لكن الكلمات تجمدت في حلقها فلم تعرف ماتقول حقا.
حاولت آماليا تخطيها فمشت بضع خطوات ، إلا إنها توقفت فجأة لتلتفت صوب نور من جديد ، لتخبرها بنبرة رسمية كأنها تكلم شخصا غريباً: سيتم حلّ أمر الوصية نور قريبا، فلا تقلقي.
تابعت مشيها بعد أن ألقت تلك الكلمات المقتضبة ، والتي أقلقت نور أكثر من حال أختها الغريب ، كيف ستحل الوصية ؟؟ هل خططت آماليا للزواج بهادي؟؟
لا تعلم حقا ، لكنها على يقين أن خطوات شقيقتها القادمة هي جنون خالص.
…………………………
وصلت إلى مكتب قاسم على موعدها تحديدا ، أدخلتها مساعدته فورا بعد أن نبهها مديرها للأمر ، وقف قاسم ليرحب بها و يحتضنها بحنان أبوي ، أخرجها من أحضانه ولم تخدعه تلك الابتسامة الحزينة التي تعتلي ثغرها.
هربت من نطاق نظراته المتفحصة لتجلس على كرسي خلفها، جلس قاسم على كرسي مقابلها ينتظرها لتبدأ الحديث، وهو غير مطمئن لزيارتها أبدا.
تنفست بعمق قبل أن تتحدث : عمي قاسم، أريد سماع نص الوصية من جديد.
تلاقى حاجباه باستغراب، اقترب منها بجسده واستند بمرفقيه فوق ركبتيه ، متسائلاً بشك: لماذا آماليا ؟؟ مالذي تريدينه من الوصية ؟؟
لم تتحرك ابتسامتها الباهتة وهي تتحدث بثقة: أريد الاطلاع عليها لو سمحت واخبرك بعدها .
لم يكن منه إلا أن استجاب لها، رغم عدم راحته لطلبها هذا، فامتدت يده إلى جهاز مربع صغير على المكتب ليطلب مساعدته، دخلت الشابة العشرينية إلى الغرفة وفي يدها تحمل طبقا فيه قدحين زجاجيين ، مملوءان بعصير البرتقال الذي طلبه قاسم قبل قدوم آماليا إليه ، وضعت الطبق امامهما مع ابتسامة بشوشة، ليحادثها قاسم: لو سمحتِ لينا، احضري لي الملف الخاص بوصية عمار والد آماليا.
أشارت لينا باحترام، لتتجه بخطواتها الهادئة إلى خزانة كبيرة ذات واجهة زجاجية كاملة، عبثت ببعض الملفات لتخرج الملف المقصود وعادت به إلى ربّ عملها، كل هذا تمّ تحت أنظار آماليا القلقة ، وفي داخلها تتضرع فقط أن تتوافق الوصية مع ما يدور في خلدها ، أخرجها صوت قاسم الذي بدأ في سرد الوصية على مسامعها من شرودها حتى انهاها.
رفع أنظاره إليها وهو يغلق الملف ليضعه على طاولة مكتبه، لكنه وجدها تبتسم بريبة مما استدعى قلقه ليسمعها تتحدث: إذاً فالأمر سهل وليس معقداً كما ظننت.
ملامحها لا تبشره بالخير أبدا ، وكمن فهم ما تفكر به هتف قاسم بشك: إن كنتِ تفكرين في كسر الوصية آماليا فأنا لا أنصحك بفعلها أبدا ، فالوصية مثبتة عند كاتب العدل وفي المحكمة، لذا ستتعرضين للمساءلة القانونية إن كسرتها.
لم تتزحزح ابتسامتها وهي تشير له بالنفي ، وبثقة تامة أجابت: لا عمي قاسم أطمئن ، لن اكسر الوصية، بل الحقيقة أنا سأنفذها.
زادت عقدة حاجبيه وهو يستمع لكلماتها المبهمة، إلامَ تريد الوصول ؟؟
حقا لم يفهم ، لكن ربما عليه ألا يستغرب من أي حلّ جهنمي قد يصدر عن آماليا، فهي ابنة عمار في النهاية !!
………………………………………..
آلمها ظهرها من الجلوس على وضعية واحدة لساعات، تأوهت ريما بألم وهي تمسد رقبتها من الخلف بيدها وعلى مايبدو فقد أخذت غفوة قصيرة وهي جالسة، نفخت بامتعاض من ألم ظهرها حتى سمعت صوت نور الرقيق هاتفة بالقرب منها: كيف حالك اليوم ريما؟
رفعت رأسها نحوها بابتسامة مرهقة تتمتم بإجابة: أهلا نور ، كيف حالك أنتِ؟
بادلتها الأخرى ببسمة صغيرة لم تصل عينيها ودون إجابة ، فشعرت ريما بأن نور ذاتها لا تعرف كيف حالها، خاصة بعد حقائق يوم أمس ، الشيء الوحيد الذي تخاف منه هو تبدل مشاعرها تجاه مجد، لكن بما أنها الآن هنا فهذا يعني أنها ماتزال تحبه، أليس كذلك ؟؟
تابعتها بعينيها حتى دلفت إلى الغرفة التي يقبع مجد داخلها ،كانت خطواتها مترددة لتعلم أن نور الآن في خضمّ معركة مستعرة بين عقلها وقلبها ،و هل هناك من يستطيع لومها؟؟
مازال المجتمع لا يتقبل المريض النفسي بل لا يعترف بهذا المصطلح أساسا ، فيطلق عليه لقب المجنون ، يتحاشاه الجميع كمن به برص، ويعايره به كأنه مصاب بوباء عضال لا شفاء منه ، نعم ربما ماتزال نور تحب مجد حتى بعد معرفتها بسره الذي اخفاه عن الجميع ، لكن مايشغلها هو ، مالقادم الآن ؟؟
…………………………………….
أشد أنواع الصفعات قسوة هي تلك التي تنتشلك من واقع ظالم لتستفيق على واقع أظلم.
التمعت مآقيه بدمع الخيبة والخداع ، لم يتصور أن يهدر عمره هباءً، أهكذا يجازيه مجد ؟؟
لا لقد بلغ السيل الزبى، وقد استنفذ كامل طاقته وصبره، حركت غضبه فحمل أدهم الأوراق كلها التي وجدها في الملف ، متجهاً نحو الأخرى والتي ستصدم مثله بلا ريب.
عشرون دقيقة هي كل مااخذه الطريق من وقته ليصل إلى مبتغاه ، كل ما فكر به أثناء قيادته كانت تلك الطعنة الغادرة، كانت كرمحٍ شقّ صدره وهو الآن ينزف، يئن ألما وبصمت.
سار في أروقة المستشفى حتى رآها، تجمدت قدماه واعتصر مغلف الخيانة بيده ، قلبه يشفق على فؤادها المسكين من الغدر ، لكن عقله يخبره بأنها تستحق أن تعرف الحقيقة حتى لو آلمتها فهذا هو الواقع ، مؤلم وغير عادل صحيح ؟؟
، عزم أمره وتابع مسيره ناحيتها ، كانت كفيها تحتضنان رأسها عندما شعرت بخطواته، تطلعت إليه بشبه ابتسامة، غابت تماما عندما رأت تقاسيمه التي لا تبشر بخير مطلقا ، شعرت بالقلق تجاهه حتى وقف أمامها ، ليرفع المغلف لتتعلق نظراتها به، ثم سمعته يقول بصوت خاوٍ من الإحساس: اقرأيه.
نبرته مقلقة أكثر من تجهمه ، تناولت المغلف منه وهي تطالع وجه أدهم بريبة، لماذا تشعر بأنها تقبض على حكم إعدامها ؟؟؟
…………………………
ناظرها قاسم بذهول مبرر وهو يستمع إلى الحل الذي سردته آماليا على مسامعه، رغم حنقه الظاهر على محياه، لكن داخله سعادة طفيفة ، إذ أن الفتاة كانت باختصار نسخة طبق الأصل عن والدها ، والذي سبق وأن اخبره بأن لا أحد سيستطيع تنفيذ الوصية سوى آماليا ، لكنها ستنفذها بطريقتها.
كانت الوصية تقضي بأن لا تتسلم نور إدارة الشركة حتى تتزوج شقيقتها، فإن مرّ الحول ولم تتزوج آماليا حينها سيتم بيع الشركة والقصر وماتبقى من أملاك في مزاد علني.
أعاد قاسم ظهره للخلف قائلا بتفحص بعدما شبك كفيه ببعضهما : إذاً ، فأنت تقترحين أن ننتظر مرور العام ، ثم يتم عقد مزاد علني لبيع الشركة وباقي الأملاك ؟
رفعت رأسها بثقة عز نظيرها لتكمل حديثه: بالضبط ، وقتها سيأتي دوري ياعم قاسم، حينها يجب أن أدعو أصدقاء أبي فقط لحضور المزاد، ومع تحذير مسبق منك للوفد المجتمع لن يدفع أحدهم أكثر من قدرتي حتى افوز في المزاد ، وهكذا لن تخسر عائلتي ممتلكاتها.
هدوؤها غريب، عقد قاسم حاجباه باستغراب ليسألها مباشرة: لكن يا ابنتي، من أين ستحصلين على الأموال اللازمة ؟؟؟
تنهدت بتعب بدى واضحا على محياها، لتقول بإرهاق: لن أكذب عليك يا عمي قاسم، سأبيع العيادة والممتلكات التي ورثتها عن والدتي.
لا شك أنها مقبلة على خطوة غبية ، سألها مجددا بريبة: وأنت ؟؟ أين ستعملين إذا بعتِ العيادة ؟؟
ساد الصمت لثوان حتى نطقت آماليا بما أطاح بتعقله: أنا سأهاجر !!!!
……………………
ما أصعب ابتسامة الخيبة، تلك الضحكة التي تخرج من قلب مكسور ، تخرج معها ألم وكبت سنين ، والمُقل تمطر دون استئذان.
ارتجفت كفي ريما وهي تمسك بتلك الأوراق التي جلبها أدهم ، ابتسمت بألم وهي تنظر إليه تسأله بعيون غائمة ، ونبرة من خانته أنفاسه : ما معنى المكتوب هنا أدهم ؟؟
تنهد بثقل يجيبها بهدوء: كما قرأت ريما….
قاطعته بانفعال طفيف وقد حررت دموعها: لم أفهم شيئا من المكتوب.
أصابها كما أصابه هو، تعطل عقلها عن التفكير نهائيا ، أشفق قلبه عليها فتطلع إليها بقلة حيلة ، ثم تناول الأوراق من يدها ووضعها في حجره، رفع ورقتين متشابهتين أمام عينيها قائلا بهدوء مصطنع: هذه التقارير التي قال مجد أن طبيبه من كتبها.
امتدت يده ليرفع بقية الأوراق والتي زادت عن السبع، ازدرد ريقه قبل أن يضيف بتمهل وهو يراقب ملامحها المصدومة: وهذه التقارير الأصلية ، وقد قال الطبيب فيها أن مجد لم تنفع معه أساليب العلاج العادية ، وأن مرضه في تطور سريع و مخيف .
حركت رأسها للجانبين كأن خلاياها قد بنت جدارا حول عقلها يمنعه من الاستيعاب ، فنطقت بصوت مبحوح: لم أفهم بعد ماذا تقصد؟؟
أشفق قلبه عليها ، فهي رقيقة لا تحتمل رغم القوة التي تدعيها، يعرف أنها هشة ضعيفة داخلها، أجابها باختصار: أي أن مجد كذب علينا ريما ، لقد زوّر التقارير وقطع علاجه قبل أن يكمله إلى النهاية.
هطلت ادمعها بصدمة حقيقية ، توقع أدهم أن تنفجر ، لكنها خيبت كل آماله عندما قهقت بألم ، حركت رأسها للجانبين بخيبة عظيمة ، فتيقن أدهم أن مابداخلها من وجع يصعب فهمه، عضت على شفتيها حتى كادت تدميها لتهمس ببسمتها المتألمة: تقصد اننا اضعنا عمرنا ، بسبب كذبة ؟؟؟
لم يكن سؤالا عاديا فلم تكن له إجابة واضحة ، كوّر أدهم قبضته قبل أن يسحب رأسها إلى أحضانه ، دفنت وجهها في صدره وتمسكت بسترته الجلدية بقوة كأنما تطلب الدعم منه، ثم اجهشت ببكاء مرير، بكاء سنوات من الألم والفراق والشوق ، ليكتشف كلاهما أنهما أهدرا حياتهما بسبب كذبة !!!
أغمض أدهم عيناه بألم ، وجزء داخله يرفض إدانة مجد، فهو مريض وهل على المريض حرج !!؟
… ………………………………
قفز مجد الشاب اليافع بشراسة ليرتدّ كرسيه للخلف فيقع على الأرض ، صائحا بطبيبه الإنكليزي بلغته الإنكليزية : ماذا تقول أيها الطبيب ، أجننتْ؟؟
كانت ملامح الشاب الأربعيني هادئة لدرجة يُحسد عليها، فنطق ببرود: كما سمعت مجد، ماذا لو قرر أدهم وريما أن يتطلقا ؟؟
رفع سبابته في وجه الطبيب بتحذير قائلا من بين أسنانه: سبق وسألتني هذا السؤال وأجبتك يومها عليه، مستحيل أن يفعلاها ، فهمت؟؟
ظلت تعابيره كما هي وهو يسأله: آخبرني مجد، مالذي يجعلك مصراً على أن ريما وأدهم يشكلان عائلة سعيدة وأنهما عاشقان؟؟
نطق بإصرار عجيب: لأنهما حقا هكذا، ريما وأدهم تزوجا لانهما يحبان بعضهما مذ كانا صغارا ، وليس بسبب أبي كما ادعيت أنت.
سبق للطبيب وأن تعامل مع مرضى كثر، لكن حالة مجد جديدة عليه ، إصراره على رؤية أشياء يصورها له عقله على أنها حقيقية مقلق للغاية، خاصة عندما يقترن عناده بأنانيته ، فتشكل مزيجا مرعباً لأي شخص ليعيش فيه ، تهيؤاته تلك تتحول مع الوقت إلى حقيقة يصعب إنكارها بالنسبة إليه بل ويدافع عنها باستماتة، تحدث الطبيب وهو يخلع نظارته الطبية: مجد بني، فكر فيما قلته لك، ولا تجعل أدهم وريما يدفعان حياتهما ثمناً لتخيلات أنت ذاتك في قرارة نفسك تعلم أنها ليست حقيقية.
نعم، جزء داخله يخبره بأن حياة شقيقه وزوجته بعد سنوات من الزواج ليست حقيقية، لكن انتصر عناده ليبصق جملته العربية بوجه الطبيب: أتعلم ماذا نسمي أمثالك في بلادنا أيها الطبيب؟؟ نسميهم خرابي بيوت ، هؤلاء الذين يعشقون تدمير كل بيت يرونه عامراً.
رحل بثورته بعد جملته تلك وقد اتخذ قراره، تحت نظرات الطبيب الذي لم يفهم من حديثه العربي حرفا ، في الجلسة التالية لم يحضر مجد، بل دفع مالا ادخره مصروفه الشخصي للساعي ليجلب له تقارير حالته الأصلية من مكتب الطبيب ، كذلك ليختم بختم الطبيب ورقتين كان هو قد كتبهما بيده، مستعيناً ببعض الافلام الاجنبية لتبدو صيغة التقارير مقنعة لأدهم ، ثم أخبر شقيقه بعد قراءته للتقارير المزورة بأنه يرغب في العودة إلى بلاده، ومن فرط سعادة أدهم بشفاء شقيقه وطلبه أن يعود إلى الوطن ، لم يتأكد من الطبيب بنفسه ، ولم يدقق جيدا في صيغة التقارير التي كان فيها أخطاء فادحة ، وهنا يكمن خطأه الكبير.
………
أغمض مجد عينيه يضغط عليهما ، بينما نفسه تجلده بقسوة على فعلته الحمقاء، لكنه يعود ويبرر بأنه خاف أن تبتعد عنه ريما ويفقدها كما فقد بقية عائلته، حقا هو ليس أنانياً ، بل هو يحبها ولم يكن يريدها أن تتركه ، ولو تزوج أدهم من سيدة أخرى لربما أبعدته عنه، فكل ماكان يفكر به مجد حينها هو ألا يبقى وحيدا.
لكن ضميره يؤنبه ويحرقه لوماً، وبما أن الأوراق كلها قد كشفت، فما الذي يجب أن يحدث الآن ؟؟؟
يتبع..
لقراءة الفصل الثلاثون : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
نرشح لك أيضاً رواية أنتِ لي للكاتبة سمية عامر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!